الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هذيان النّقد المنفلت من عقاله

الطايع الهراغي

2022 / 1 / 2
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


"وإذا ما خلا الجبان بأرض// طلب الطّعن وحده والنّزالا"
(أبو الطّيّب المتنبّي)
"أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر".
(الشّهيـد ناجــي العلـــيّ).
" الخيانة في حدّ ذاتها ميتة حقيرة"
( الشّهيـد غسّــان كنفانـي).

1/ عصاب الهذيان
كتب شهيد "أرض البرتقال الحزين" غسّان كنفاني منذ مطلع سبعينات القرن الماضي- والصّفاقة لم تكشّر بعد عن أنيابها والخيانة كوصمة عار مازالت تحبو، تتلمّس طريقها إلى الإعلان عن ميلادها، وأصحابها يخجلون من الإصداع بها إلاّ مواربة. كتب بتوجّس وتنبّؤ "سيأتي يوم على هذه الأمّة وتصبح الخيانة وجهة نظر". لم يسفّه "يساريوّنا" مخاوفه.الخيانة، وضرّتها التّوبة، وخاصّيّتها التّعرّي باتت قيمة-لا مجرّد وجهة نظر-، رأي يُراد له أن يسود ويصبح هو الـرّأي. يتفنّن عشّاقه والمتيّمون به في تزويقه وتجميله ومراكمة أسس تثبيته بكثير من الجلافة بالعبور من ضفّة الوقاحة السّمجة إلى زريبة الاستمناء وقلّة الحياء.
أيسر السّبل والمداخل وأكثرها إغراء الكفر بأيّة قناعة واعتبار الخلفيّات (فكريّة /أدبيّة/ قيميّة/سياسيّة/ فلسفيّة/حقوقيّة دليل تكلّس وارتهان لإرث غير مزامن للعصر، إن لم يكن عنه غريبا.
الهجمة على المرجعيّة اليساريّة والإرث التّقدّميّ الذي راكمته الإنسانيّة في نضالها -إنتاجا فكريّا وتجارب ومعارك- على امتداد قرون هي جواز العبور إلى الضّفّة الأخرى، مرسوم الحجّ إليها برفع يافطة الطّهوريّة بما هي رديف النّفخ في الأنا وتغييب الآخر. الأنويّة كخاصّيّة، كعلامة تميّز، كتعبير عن ذاتيّة وتحرّر من آفة الاستنساخ والتّناسخ تتحوّل إلى نقيصة، عاهة وعقدة.
ليست القسوة على الآخر وتجريمه غير ترجمة وفيّة لعذابات ذات تفتقر إلى مناعة التّحصّن من رياح اليمين العاتيّة. النّقد الشّارد حالة مرضيّة لذوات يلفظها اليمين لأنّها غريبة، مغتربة، لقيطة، وافدة على مملكته من ضيعة أخرى .توبتها مغشوشة، متردّدة، متأخّرة، مشكوك في نقاوة سريرتها وأهليّتها لنيل شرف التّدثّر بعباءة اليمين. ويلفظها اليسار ويراها إبنا غير شرعيّ لأنّها تدّعي به الاتّصال وتكدح لتسييج كلّ ضروب الانفصال. لا غربيّة ولا شرقيّة، حالها كحال شهريار. لا السماء تحضنه ولا الأرض تسعه. رحم الله شاعر تونس أبا القاسم الشّابّي "فلا الأفق يحضن ميت الطّيور// ولا النّحل يلثم ميت الزّهر". ذوات طلّقت الأبعاد فباتت نسخا، وتاهت وتمرّغت في روث زريبة أقصى يمين اليمين ووحل أقصى يمين يمين اليسار.فباتت مسخا.

2/ مرض تضخّم الأنا
الهجمة المسعورة على الإرث اليساريّ عندما تُدفع إلى أقصاها تصبح تنكّرا لقيم وسلخا لها وتملّصا من التزامات وكفرا بقناعات، مدخلا لتبرير القفز من موقع مضن، رصيده تعرية الموجود والتّوق إلى العالم المنشود إلى موقع يبدو مريحا، رصيده التّصالح مع الواقع البائس على إنّه واقعيّ.
تجميل فظائع الواقع وترصيفها وعرضها في بورصة القيم المنقولة فضيحة. وأكثر منها صفاقة إعمال معول الهدم في كلّ منجز لا يلاقي هوى في نفوس المتطيّرين من كلّ فكر نقديّ. وبما أنّهم لا يملكون نباهة كاوتسكي ولا شجاعة برنشتاين ولا تاريخ بلينخانوف ولا حتّى وقاحة خالد البكداش (زعيم الحزب الشّيوعيّ السّوريّ أو محمّد حرمل (أمين عامّ الحزب الشّيوعيّ التّونسيّ) لنخر المدوّنة اليساريّة من داخلها وتطويعها لتمرير التّراجعات على أنّها مراجعات. فلا مناص من التّدثّر بعباءة العدميّة، الرّفض للرّفض. ينزاح النّقد عن وظيفته في تعريّة بؤس الواقع وبؤس الفكر بالاتّكاء على خلفيّة وقناعة وجهتها المستقبل، لها مدوّنتها ومقدّماتها واستنتاجاتها، ويتدحرج إلى مستنقع التّهجين، ينحرف من نقد وظيفيّ مهمّته نضاليّة إلى مسار مهنيّ يحكمه الموقع وإكراهات المهنة.
أكبر جريمة وأرذلها في المشهد السّياسيّ التّونسيّ تترجمها الحملة المسعورة -المنفلتة من كلّ عقال والمتنصّلة من كلّ اعتبار- على كلّ ما له علاقة بالفكر اليساريّ،بموجبها يُدان سلفا وبشكل احتفاليّ كرنفاليّ استعراضيّ كلّ فعل (موقف/ تصريح /سلوك) /متباين مع السّائد ويُرجَم ما قبليّا .
أحد أعراض آفة الهذيان العضال النّقد المنفلت من دبره، تحويل اليسار إلى جثّة لا ينقصها إلاّ الصّلب، على عادة الحكّام العرب في التّمثيل بجثث معارضيهم.الأدهى أن المتطوّعين المزهوّين بتزعّمهم حملة الأبلسة والتّنكيل يتدثّرون بعباءة اليسار الذي في مدرسته ومن إرثه تدرّبوا على فنون النّقد فحوّلوه إلى سهام تنهش يسارهم لا خصومه و"خصومهم"، فانحدروا موضوعيّا إلى الدّرك الأسفل من السّفالة وتخندقوا في كنيسة اليمين. مغرومون بالاستمناء في رحلة البحث عن طهوريّة كاذبة. النّقد ما لم يفرّق وبوعي بين تقويم اليسار وتصليب عوده وتمثّل مقاصده وغاياته كمهمّة نضاليّة وواجب أدبيّ فكريّ، بما يقتضيه ذلك من قسوة هادفة مشبعة بالمسؤوليّة متباينة مع نقيضها التّسيّب، وبين التّورّط بالمجان في نهشه والتّشنيع يه وترذيل فعله وتبخيس فعاليّاته يصبح خادما لسياسات اليمين ومعبّرا رسميّا عنها.
جريمةٌ هو الخلط ( فما بالك إذا كان متعمّدا) بين النّقد كمدرسة، كمشروع، كآلية تثوير وتصويب يتّكئ وجوبا على خلفيّة لا مكان فيها للعواطف حتى النّبيل منها، والنّقد الهمجيّ الأرعن المقاد بعقليّة ثأريّة هدفها الأول والأساسيّ تبخيس مدوّنة الفكر اليساريّ وإخراج اليسار من دائرة الفعل السّياسيّ وتعبيد الطّريق لليمين بأساليب عجزت مكوّنات اليمين ذاتها عن الإتيان بمثلها.
النّقد الجادّ كمهمّة نضاليّة يتجنّب وجوبا التّعميم وتكديس شنائع المنظومات الحاكمة وتلبيسها بتعنّت لمن ليسوا مسؤولين عنها. نحن ندرك جريمة الدّفاع عن الأطروحات اليساريّة بعنجهيّة وتزمّت وعبادة القوالب الجاهزة، ونتمثّل وبال حجب الأخطاء في التّقدير والتّنكّر للإرث والتّورّط في سياسات مشبوهة وتحالفات غريبة وتنازلات في مسائل جوهرية مقادة بأوهام يستميت البعض في اعتناقها والتّشريع لها وتسويقها .ويظلّ الأبشع منها فظاعة خطيئة الكفر بنضالات اليسار والموقع الذي يجب أن يحتلّه بإمعان يقود- وقد قاد- إلى تبرير كوارث المنظومات الحاكمة وتبييضها والتّباري في تهويل "مآسي" مكوّنات اليسار وتهافت مرجعيّاته وتفاهة فعله وسلوكه من موقع فرجويّ، أصحابه مرضى بطهوريّة مرضيّة، مسكونون بعقدة تدبّر براءة ذمّة إرضاء لكبرياء ذات يعوزها التّوازن (أضاعته في عراكها مع نفسها)، عطشى للامتلاء وتضخيم الأنا والنّفخ فيها بتجريم ما سواها. الهذيان،كاضطراب في الوظيفة الذّهنيّة،كمرض عقليّ يفاقمه التّعالي الذي يقود إلى فقدان التّواصل مع الواقع،ونتيجته المنطقيّة استصدار أحكام تجنح إلى التّعميم بديلا عن الدّراسة والتّمحيص والاستدلال. يُراد من التّعميم والرّجم بالأحكام الإطلاقيّة تعويض التّحليل الذي يرصد الظّاهرة، يدلّل على تفشّيها واستفحالها ويمسك بمختلف تمظهراتها. الأحكام تصبح هي المقدّمات،غايتها المصادرة على المطلوب التي تجعل النّتيجة مقدّمة والمشكلة حلاّ والادّعاء دليلا، و تتيح بحيلة شكلانيّة التّملـص من الاستدلال- سمة كلّ تحليل يروم ضمان الحدّ الأدنى من التّماسك المنطقيّ لكي لا نتحدّث عن الموضوعيّة والتّنسيب-.

3/ كمن فسّر الماء بعد الجهد بالماء
دونكم هذه العيّنات من تدوينات،أصحابها مواضبون على/ومسكونون بالتّعليق على كلّ شاردة وواردة . القاسم المشترك بينها الوضع السّياسيّ الحاليّ في تونس.
التّدوينة الأولى- صاحبها أستاذ وقصّاص- "التّونسيّ أغرب كائن على هذا الكوكب، من شدّة خبثه صارغبيّا". جملتان وثلاث تهم،ثلاث معايب، ثلاث نقائص،ثلاث سمات سلبيّة تلازم التّونسيّ وتميّزه
عن غيره من الكائنات على الكوكب وليس في تونس. وإذا حصرنا الكائنات في ما هو آدميّ لتخفيف فداحة الحكم وشناعته يكون التّونسيّون (في حدود 12 مليون نسمة) أخبث وأغبى وأغرب الكائنات البشريّة من جملة ما يقارب 08 مليارات (عدد سكّان العالم). صيغة التّفضيل، في السّياق بمعنى التّشنيع، تحيل إلى مقارنة في قالب حكم من عقل درّاك يدرك الكلّيّات ولا يُحاسب على أحكامه بحكم كلّيّة إدراكه ولا يتحمّل مسؤوليّة ما عليه "الأمّة" من هوان. وتُحاسب الأمّة على اللّعنة التي وسمها بها. لعنة لا علاج لها لأنّها جوهر ثابت وليس عرضيّا.رحم الله التّوحيديّ ترجم غربة هؤلاء ونطق بلسانهم منذ زمان (القرن الرّابع هجري) "غريب من هو في غربته غريب"، ورحم معاصره المتنبّي "كم قتيل كما قتلت شهيد.... / أنا في أمّة تداركها اللــــ//ـه غريب كصالح في ثمود".
التّدوينة الثّانية - صاحبها شاعر- في وصف للطّبقة السّياسيّة حكما ومعارضة يقول عنها "شارون لا يمكنه أن يبدع مثلكم". وترجمتها بالمباشر شارون أهون منكم،أقلّ منكم عجرفة وإجراما .ميزة التّدوينة أنّها تختزل حالة من السّاديّة المعكوسة. انفلات منفلت مقلوب على رأسه، مزهوّ بتفرّده،منتش بحكمه لا بتحليله.لا تعنيه الاعتبارات وليس محكوما بأيّة حدود. يخلط بين السّخط والنّقد.
التّدوينة الثّالثة-صاحبها صحفيّ محكوم عليه أن يمارس الايديولوجيا لكي لا تُمارَس عليه- قد يتبرّم
بها لمّا لا يلاقي هواها هوى في نفسه.ولكنّه مثل كلّ من يتورّط في عالم الكتابة اختيارا أو كرها، كمهنة أو كمهمّة تورّطه الإيديولوجيا فيسبح رغما عنه في حقلها. عنها يقول "الإيديولوجيا تفجّر البصر والبصيرة" /"أكثر فضاء ملوّث السّياسة". قد تفجّر الايديولوجيا البصيرة(قــد). ليكن.أمّا كيف تفجّر البصر؟؟ فأغلب الظّنّ أنّه من مقتضيات تداعي المفردات، إن لم يكن من باب الانسياب الكلاميّ والإسهال اللّغويّ.
لو تقمّصنا دور"محامي الشّيطان"(المجادل الشّكليّ في الكنيسة الكاثوليكيّة)لأمكننا إعادة صياغة التّدوينات الثّلاثة على الشّاكلة التّالية: النّقد المنفلت صاحبه أغرب كائن على هذه الأرض(تونس)، من شدّة اغترابه صار غبيّا / اللّهمّ إنّا لا نسألك ردّ القضاء ولكن نسألك اللطّف فيه، النّقد المطلّق للضوابط يتعامل مع محيطه وفضائه كما يتعامل مع الأعداء./ الإيديولوجيا،الكلّ بها يتبرّمون وأليها الجميع يحنّون وفي الهيام بها يذوبون ، داء وعلاجها "داوني بالتي كانت هي الدّاء".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -قد تكون فيتنام بايدن-.. بيرني ساندرز يعلق على احتجاجات جام


.. الشرطة الفرنسية تعتدي على متظاهرين متضامنين مع الفلسطينيين ف




.. شاهد لحظة مقاطعة متظاهرين مؤيدون للفلسطينيين حفل تخرج في جام


.. كلمات أحمد الزفزافي و محمد الساسي وسميرة بوحية في المهرجان ا




.. محمد القوليجة عضو المكتب المحلي لحزب النهج الديمقراطي العمال