الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملكة القصب (مدينة الجبايش)

صلاح جبار ابوسهير

2022 / 1 / 6
الادب والفن


مملكة القصب
بين غابات القصب والبردي، تقع في أقاصي الجنوب العراقي مدينة عراقية تسمى بـ(الجبايش) وسميت بهذا الاسم نسبة إلى وجود العديد من (الجباشات) وهي عبارة عن جزر صغيرة وكبيرة طافحة, تكونت بمرور الزمن من القصب والبردي, وأحيانا يقوم أبناء الأهوار بصناعتها وبنائها، وتصلح أن يشيدوا فوقها مساكن لهم، فسميت الجبايش نسبة إلى وجود هذه الجزر.
لقد كانت هذه المدينة في الخمسينات والستينات بل حتى السبعينات من القرن الماضي من أروع مدن العراق جمالا وسحرا ، وذلك لوجود الهور الجميل ونباتاته الخضراء وطيوره المختلفة والملونة، حتى أصبحت وأمست مكانا ملائما للسياحة والنزهة للسواح الأجانب القادمين من قارتي أوربا وأمريكا ودول الشرق الآسوي ، فالزائر لهذه المدينة يعيش عالما بدائيا بطبائعه، لكنه يستمد عاداته وتقاليده من الحضارة السومرية.
لقد سكنت هذه المدينة أقوام متعددة ، فكانت في القدم موطنا ملائما للسومريين الذين كانوا يحتمون بنباتات القصب والبردي من الغزاة؛ لوجود الهور الذي يعيق تقدم الجيوش فيها من الغزاة وغيرهم فهي منطقة وعرة ومن الصعوبة اختراقها، وبقيت عصية على الحكام والطغاة الذين حاولوا تجفيف أهوارها كالحجاج بن يوسف الثقفي الذي فشل في مهمته.
لقد كانت مدينة الجبايش مدينة أديان متعددة, ففي عام 1950 كان يسكن في هذا القضاء 120 أسرة صابئية مندائية, وهذه الأسر سكنت هذه المنطقة لوجود المياه الوفيرة التي كانت جزءاً من عباداتهم وأعيادهم ، وتآلف الصابئة مع أبناء هذه المدينة حتى أن البعض منهم رفض الرحيل والهجرة بسبب حبه وعشقه لهذه البيئة، فكانت الجبايش موطنا مهما للديانات السماوية، ولعل الصابئة هم الأقوام الأكثر تعلقا بهذه المدينة التي تقع وسط الأهوار.
لقد عرفتُ وتعرّفتُ على أهل الجبايش عن قرب, ورأيت فيهم طيبة الجنوب العراقي فكانوا عاشقين لبيئتهم وأهوارهم, حتى أن الصبي عندما يولد في بيوت القصب يتعلم السباحة وهو لايتجاوز الخمس سنوات من عمره، أما صيد الطيور والأسماك فإنها مهنة تلاصق ابن الجبايش منذ نعومة أظفاره, وفي هذه الدراسة نحاول أن نسلط الضوء على جوانب مهمة من حياة أبناء هذه المدينة.
إن مدينة الجبايش غنية بثرواتها الاقتصادية والطبيعية, فبالإضافة إلى الثروات الاقتصادية والبيئية الطبيعية هناك ثروات بشرية وإبداعية، وفي هذا القضاء ولد الأديب والقاص الروائي فهد الأسدي, وفيه أيضا ولد الشاعر الشعبي مجيد جاسم الخيون, والكاتب المعروف رشيد الخيون، أما في مجال السياسة فكان زعيم قبيلة بني أسد الشيخ سالم الخيون أول شخصية دعا إلى انتقال العراق من الملكية إلى الجمهورية, وقد قام بزيارة إلى النجف الأشرف لطرح هذا المشروع, ولكنه قوبل بعدم التفاعل مع هكذا أطروحة، فباءت المحاولة بالفشل، إلا إن مشروع الجمهورية بقي يراود الشيخ سالم الخيون، علما بأن الشيخ ينتمي إلى طبقة أرستقراطية لكنه رفض العبودية للإقطاع آنذاك.
وعلى الرغم من أن الجبايش تمتلك البيئة الساحرة والجمال الخلاب ذا الطبيعة الخضراء المليئة بنباتات القصب والبردي والكولان، إلا إن هذه المنطقة عرفت منذ الأزل مأوى للثوار الرافضين للحكام الطغاة الذين حكموا البلاد بالحديد والنار منذ عام 1968م _ 2003م وأصبحت أهوار الجبايش معقلا للثوار؛ لوجود مقومات العيش في تلك المنطقة من مياه غزيرة ووجود نباتات القصب والبردي التي تستخدم في بناء الأكواخ التي تخفي معاقل الثوار وكذلك وجود الأسماك والطيور التي يتغذى عليها هولاء أثناء اختبائهم بين أعواد القصب, إن مملكة القصب (الجبايش) كانت وما زالت تمثل بيئة سياحية وثروة اقتصادية هائلة.
تاريخ مدينة الجبايش
تعد أهوار مدينة الجبايش منذ القدم بيئة ملائمة للعيش في هذا المكان، فأغلب بيوت هذه المدينة بنيت من القصب والبردي، (وتشير التقارير والآثار الموجودة في التلول الأثرية الكثيرة في الأهوار بأن هذه المنطقة كانت مأهولة بالسكان), (إن مدينة الجبايش ذات حضارة قديمة يعود تاريخها إلى العهد السومري والبابلي الذين سكنوا جنوب العراق)، كما إن الزراعة بنوعيها الصيفي والشتوي كانت منتشرة في المنطقة كأشجار النخيل والكروم والسدر وغيرها من النباتات التي يكثر زراعتها في هذه المنطقة، وما زالت بعض البيوت تحتفظ بهذه النباتات لحد الآن.
أما بيوتها فهي مبنية من نبات القصب وهذه البيوت عبارة عن أكواخ وصرائف والبعض منها بني من الطين وهذه تكون عادة في اليابسة فقط .
المواقع الأثرية في أهوار الجبايش
تعد أهوار قضاء الجبايش من الأماكن المهمة التي تحتوي على العديد من المواقع الأثرية، وهذه المواقع هي عبارة عن تلول مرتفعة وقد أطلق عليها تسمية (الإيشانات) ويعتقد بأن هذه التسمية هي سومرية ، وبعد تجفيف الأهوار في عقد التسعينات من القرن الماضي لأسباب سياسية، اضطر كثير من أبناء الجبايش إلى حفر الآبار في مناطق الأهوار بحثا عن الماء، وما إن بدأوا الحفر في هذه الأماكن حتى اصطدمت أدوات حفرهم بالعديد من الأواني الفخارية السومرية, وكذلك عثر على بعض الأختام والصحون الملونة, وأغلب هذه اللقى الأثرية تنتمي إلى العهود السومرية القديمة وهذا الشيء هو دلالة واضحة على أن هذه المنطقة كانت موطنا مهما للسومريين والبابليين, ومن أهم المواقع الأثرية في أهوار مدينة الجبايش هي (الكبة) وموقع (أبو سنبلة) وموقع (أبو جواريب) وموقع (أبو مفرش) وكذلك موقع (البزيز).
وهناك مواقع أثرية في الأهوار كموقع (تل احفيظ) الذي يقع بين مدينة الجبايش وأهوار محافظة ميسان، وكانت الحكايات والأساطير تراود أبناء الأهوار حول هذه المواقع الأثرية, ومن هذه القصص الغريبة أن هذه المواقع تحتوي على الأشياء الغريبة كالجن والطناطل ولا يمكن الاقتراب منها من قبل أطفال المدينة؛ لأنها تلول مخيفة ولايمكن الذهاب إليها! وهذا التصور الخاطئ رسمته الحكايات والقصص التي كان يرويها كبار السن من النساء والرجال أثناء جلسات السَّمَر الليلية.
إن هذه القصص الخرافية التي كانت تتداول في مجالس أبناء الجبايش لم تمنع البعض من صيادي الأسماك من الذهاب إلى هذه الأمكنة والجلوس قربها والتمتع برؤيتها, وغالبا ما يقوم هولاء الصيادون بأخذ قسطٍ من الراحة لِشواء السمك في هذه المواقع، أما السفرات السياحية لأبناء المدن الأخرى فيأتون إلى هذه الأماكن لرؤية هذه المواقع الأثرية والصعود فوقها للتمتع برؤية الأهوار الجميلة وطبيعتها الجذابة.
إن تاريخ مدينة الجبايش ضاربٌ في القدم ، فهذه المدينة سكنها السومريون وتركوا آثارا مهمة فيها، منها وجود المواقع الأثرية المنتشرة في عموم المستنقعات المائية التي تحيط بالمدينة, والتي تسمى بالإيشانات، وهذه المواقع تحتوي على رقم طينية وأختام خرطومية صغيرة ، وأواني فخارية رسمت عليها صور لحيوانات أليفة ومتوحشة، كما إن أهوار هذه المدينة كانت مأوى للأقوام القديمة التي لجأت إليها هربا من جور الحكّام والسلاطين.

الحياة في مدينة الجبايش
الجبايش مملكة القصب منذ العهود السومرية ولهذه اللحظة, إذ يعد القصب المادة الرئيسة لبناء البيوت ويستخدم للكتابة والرسم وأحيانا للطبخ، إذن للقصب دور أساسي ومهم لاستمرارية الحياة في مناطق الأهوار، ولعل تسميتها بالجبايش ومفردها (جباشة)؛ لأن هذه المدينة عبارة عن جزر طافحة وهذه الجزر تسمى بالعامية العراقية (جباشة), وأصل تسمية الجبايش بالفصحى هي كبائس مأخوذة من كبيسة، وقد أطلق عليها فينيسيا الشرق تشبيها بمدينة البندقية الإيطالية، وهذه الأسماء التي أطلقت على هذه المدينة منها تسمية (جنة عدن، فينيسيا الشرق، الجزائر) وغيرها لأن الجبايش مدينة ساحرة بخضرتها وبموروثها الحضاري، والجبايش مفردها جباشة أو كبيسة, يكون نبات القصب المادة الرئيسة لصناعة هذه الجزر بالإضافة إلى نباتات البردي والكولان وغيرها، ويستطيع الإنسان في هذه الأمكنة أن يبني فوق هذه الجزر مسكنه القصبي البسيط، وهو عبارة عن كوخ أو صريفة، وعادة ما تكون بيوت الأهواريين في هذه المدينة بيوت بسيطة ولا يكلّف البيت أي مبلغ مادي باهض.
أنواع مساكن الجبايش
تنقسم المساكن في مناطق أهوار الجبايش إلى عدة أقسام أو أصناف، وهذه المساكن تختلف عن بعضها وهي كالآتي:
1_ السلف:
منذ نشوء الأهوار ولهذه اللحظة، ما زالت بعض التسميات القديمة باقية حتى يومنا هذا، ومن هذه التسميات ما تطلق على أنواع المساكن، فيطلق على مجموعة البيوت التي يتراوح عددها (100_ 300) بيت أو كوخ قصبي بــ(السلف)، ويوجد في هذا التجمع السكاني مضيف واحد أو أكثر يجتمعون فيه لتداول أمور حياتهم اليومية.
2_ الإيشان:
أما النوع الثاني من المساكن فيسمى بـ(الإيشان) وهذه التسمية يعود تاريخها إلى العهود السومرية, والإيشان هو بقايا لموقع سومري، وغالبا ما يسكن في هذا المكان جمَّاعو القصب ورعاة الجاموس, وهذا النوع من المساكن غالبا ما تكثر في هور الحمار والكسارة والحويزة, وتتراوح بيوت الإيشان ما بين (10_ 30) منزلا وتفتقر مساكن الإيشان إلى المضيف وذلك لضيق السكن في هذه الامكنة.
3_ الدبون:
أما النوع الثالث من المساكن فيسمى بــ(الدبون) وهذه المساكن يقوم بتشييدها رعاة الجاموس, وعادة ما تكون عائمة, وهي مصنوعة من القصب والبردي المكدّس والمضغوط ، ويمكن التحكم بهذه المساكن ونقلها من مكان إلى آخر ، وتسكن فوق الدبون أُسرةٌ أو أُسرتانِ فقط.
4_ جباشة:
برزت في منطقة الجبايش مساكن فريدة من نوعها في البلاد والعالم تسمى بــ(جباشة) وهذه الجبايش هي عبارة عن جزر اصطناعية مكونة أو مصنوعة من القصب والبردي المكبوس أو المضغوط بالإضافة إلى الطين وتكثر في المناطق التي يتواجد فيها نباتا القصب والبردي, وتبنى فوق هذه الجبايش (مفردها جباشة) بيوت صغيرة من القصب تسمى بــ(الصرائف، الأكواخ)، وتطلق تسمية الجبايش على هذه المنطقة نسبة إلى هذه المساكن المبنية من القصب والبردي، ولعل منطقة الجبايش هي المنطقة الوحيدة في أهوار جنوب العراق تكون بيوتها طافحة فوق سطح المياه، وتشكل هذه المساكن جمالية أخرى من جمالية المكان حيث الطراز الفلكوري لهذه البيوت, وهي عبارة عن جزء لا يتجزأ من طبيعة المكان.
إن مساكن أبناء الجبايش بسيطة وغير مكلفة الثمن، وأحيانا يستطيع أي انسان أن يبني بيتا من هذه البيوت ولا يخسر عليه دينارا واحدا, وذلك لأن أغلب مواد البناء لهذه البيوت موجودة _بالفعل_ في الأهوار وهي عبارة عن نباتات القصب والبردي وغيرها، وهذه المساكن تحمي ساكنيها من حرّ الصيف وبرد الشتاء وغير مجهزة بالكهرباء, وتكون الحياة فيها بدائية, وأحيانا يتسلى أبناء الأهوار ليلاً بصيد الأسماك والطيور, وهم يجلسون في أكواخهم, وغالبا ما يطلقون مواهبهم الفنية كالغناء وسرد القصص الغرائبية وهم يمارسون مهنة الصيد في هذه المنطقة.
الطرق والمواصلات المائية
منذ نشوء الأهوار قبل حوالي 7000 سنة قبل الميلاد, وحتى يومنا كانت المياه هي طرق الموصلات الرئيسة بين الجبايش والمدن الأخرى وفي عقد الأربعينات من القرن الماضي تم إنشاء طريق ترابيّ بين هذه المدينة ومدن الجنوب الأخرى (البصرة، ميسان، ذي قار)، وعلى الرغم من إنشاء هذه الطريق الترابي إلا أن أبناء الأهوار في هذه المنطقة يتخذون من مسالك الأهوار طرقا سهلة لنقل منتجاتهم من حليب الجاموس والقيمر والألبان, والتي يحصلون عليها عن طريق حيواناتهم من الجاموس والبقر, أما الأشياء الأخرى التي تنتجها هذه المدينة فهي الطيور والأسماك المختلفة, وتُنقل هذه البضائع بزوارق كبيرة متجهةً إما إلى محافظة البصرة أو الناصرية, وأحيانا يرسلونها بسيارات خاصة إلى العاصمة بغداد، ولعل طرق المواصلات في مدينة الجبايش تختلف تماما عن باقي المدن العراقية الأخرى, فأبناء المدن الأخرى يتنقلون بالسيارات الصغيرة والكبيرة عبر طرق برية خاصة، أما أبناء الجبايش فطرق مواصلاتهم هي مسالك الأهوار وهذه عبارة عن طرق ملتوية, إذن حياة أبناء هذه المنطقة تختلف تماما عن حياة المدن والبلدان الأخرى فهي حياة جميلة من جميع جوانبها المتعددة.
وسائط النقل في أهوار الجبايش
تعد الزوارق وسائط النقل الوحيدة في قرى الأهوار، ويستخدمها الأهالي في هذه الاماكن لنقل بضائعهم إلى الأماكن الأخرى, ويطلق على هذه الزوارق تسمية (إبلام) مفردها (بلم) وتسمى أحيانا بــ(المشاحيف) مفردها (مشحوف) وتسير هذه القوارب بالمجاذيف أو ما تسمى بـ(الغراريف) أو أحيانا تدفع بأعمدة قوية من القصب القوي وتسمى بــ(المرادي) وغالبا ما تستخدم المرادي الضخمة والطويلة للقوارب الكبيرة والتي تسمى(الكعود) وهذا الصنف من القوارب يستخدم لنقل البضائع إلى المسافات البعيدة, وغالبا ما تكون البضاعة من السمك الحُرّ بأنواعه كـ(البنّي ذو الصدف الذهبي, والكطّان والشبّوط وغيرها)، وهذا الكلام يقودني إلى سنوات السبعينات من القرن الماضي وقتها كنت أعشق الجلوس قرب نهر الفرات, وخصوصاً في ذلك اليوم الشتائي الممطر الذي تتقطع فيه طرق المواصلات البرية بين الجبايش وسوق الشيوخ لأن الطريق تصبح غير صالحة لسير المركبات, فيضطر الصيادون في قرى الأهوار إلى تأجير القوارب الكبيرة لنقل صيدهم عبر نهر الفرات إلى المدن الأخرى، وقتها كنت جالسا قرب نهر الفرات الجميل, وإذا بأربعة قوارب كبيرة (كعود) وكل قارب يقوده دفعا شخصان, وهذه القوارب كانت مكشوفة ومحملة بسمك البني, وكانت أصداف ذلك السمك تلمع ببريقها, في ذلك الوقت كنت صغيرا, فوقفت لأشاهد ذلك المنظر المدهش متسائلا هل أنا أمام صورة واقعية لذلك الزمن الجميل أم هي لحظة مرّت سريعا وانتهت بجفاف الأهوار عام 1995م.
كانت القوارب تلك تحمل ذهبا ولؤلؤا يعكس لمعانا لناظريه, إنه سمك البنّي الأخضر اللون يهدى من مملكة القصب إلى المدن العراقية الأخرى ليباع بأسعار رخيصة، هكذا كانت الحياة في الأهوار في الأربعينات والخمسينات وحتى الستينات والسبعينات. مشاحيف تحمل السمك البني وإبلام تحمل الحليب والقيمر, وأخرى تحمل علف الحيوانات من القصب والبردي, حياة متكاملة من جميع جوانبها لا ينقصها سوى الأمان والاهتمام من قبل الحكام, وهذا ما افتقرَتْه هذه المنطقة منذ نشوئها وانتهت بجفافها على يد حكّام لا يحترمون البيئة ولا الطبيعة, ولا يعيرون أي اهتمام يذكر للحضارة وللتراث في هذه المنطقة.
طرق المواصلات المائية
تطلق على طرق الموصلات في الأهوار تسمية (الكواهين) مفردها(كاهن) وهذه الكواهين هي عبارة عن طرق مائية ملتوية خالية من نباتات القصب والبردي وتكون عادة عميقة، ويبلغ عرضها ما بين خمسة أو سبعة أمتار, وهذه المسالك يطلق عليها أيضا تسمية أخرى بــ(السبل) والشخص القادم للأهوار لا يعرف مسالك هذه السبل وأحيانا يتيه فيها، وذات يوم جاء مجموعة من الطلبة من العاصمة بغداد في سفرة سياحية إلى الأهوار، واستأجر اثنان منهم قارباً للذهاب إلى أعماق الهور, وعندما ذهبا إلى بعض المواقع الأثرية والتي تسمى بــ(الإيشانات) وتقع هذه وسط الأهوار، لم يتمكن هذان الشخصان من العودة بسهولة إلى أصدقائهم, فاضطر أبناء المنطقة للبحث عنهما قبل حلول المساء المخيف, واستمر البحث عنهما عشر ساعات متتالية, بعدها عثر عليهما وهما عالقان بإحدى الجزر الطافحة وهذه القصة الجميلة يتداولها أبناء الأهوار في أحاديثهم اليومية حول غرابة مناطق الأهوار عند أبناء المدن الأخرى وأحيانا يخيفون بها أطفالهم ويحذروهم بعدم الذهاب إلى أعماق الهور خوفا من الضياع والتيه.
إن كثيراً من المسالك والطرق سميت بأسماء جميلة فنهر (أبو صوباط) هو المنفذ الرئيس لغابات القصب, إذ ينتهي بمنطقة عايرة بغداد وهذه التسمية تثير عادة سخرية أبناء هذه المنطقة، ويرتبط هذا المسلك بالتلال والمرتفعات الأثرية السومرية, ويتمع السواح القادمين للجبايش بجمالية هذا المسلك المائي حيث نباتات القصب والبردي تحيط بجانبي النهر فضلاً عن كثرة الطيور التي تحلّق حينما تمر زوارق نقل هولاء السياح القادمين لزيارة المواقع الأثرية والتمتع بجمال الطبيعة في هذه الامكنة.
الأديان في الجبايش
منذ نشوء الأهوار وحتى يومنا هذا كانت وما زالت مملكة القصب (الجبايش) مدينة الأديان والمعتقدات السماوية، فقد سكن هذه المنطقة أقوام وأتباع ديانات سماوية متعددة، وما الإيشانات القديمة إلا بقايا لمواقع أثرية سومرية تقع وسط الأهوار، وهذا الشيء خير دليل واضح على أن هذه المنطقة كانت مأوى للسومريين، ولجوؤهم _أقصد السومريين_ إلى مملكة القصب؛ لأن الأهوار كانت مأوى الهاربين, وتوفر لهم الغذاء الكافي لإدامة الحياة, وهي تحمي ساكنيها من غزوات الأعداء لأنها منطقة وعرة, ومن الصعوبة اختراقها من قبل الغزاة أو الجيوش, لاحتوائها على غابات القصب والبردي الكثيفة، وتشير الوثائق والبحوث التاريخية القديمة إن الإيشانات وسط الأهوار هي بقايا لبيوت ومدن سومرية، وخير دليل على هذه المعلومة أنه بعد تجفيف الأهوار في مرحلة التسعينات من القرن الماضي قام عدد من أبناء هذه المناطق بحفر مجموعة من الآبار بحثا عن المياه, وعندما باشروا بحفر هذه الآبار اصطدمت معاولهم وأدوات حفرهم ببقايا رقم طينية سومرية قديمة ومجموعة من الأواني الفخارية الأثرية منقوش عليها عبارات وكتابات سومرية قديمة، فاضطروا إلى التوقف عن حفر هذه الآبار للحفاظ على هذه الحضارة والاثار القديمة، إذن فمملكة القصب كانت مملكة الأديان القديمة والمعتقدات السماوية.
إن الأهوار تتمتع بحياة متكاملة؛ لأنها توفر لساكنيها الغذاء الكافي من السمك والطيور ويستطيع الإنسان فيها أن يقوم بتربية الجاموس والأبقار، وكذلك أن يبني بيتا صغيرا وغير مكلف؛ لأن بيوت الأهواريين بيوت بسيطة وهي من طبيعة المكان, أي أنها تبنى من نباتات الأهوار كالقصب والبردي، مما يجعلها منطقة تستقطب القادمين إليها وهذا الشيء أكّده العديد من الباحثين الأجانب الذين زاروا المنطقة وكتبوا عنها كالرحالة البريطاني (ويلفرد ثسيجر) والمستشرقة الألمانية (ليدي دارور) و(كافن يونك) وعضوة مجلس العموم البريطاني السابقة البانورما (إيما نكلسون).
إن هولاء الباحثين المولعين بحب الأهوار زاروا المنطقة وكتبوا عنها دراسات وبحوثا موسعة استطاعت أن تكون مصادرَ ومراجعَ مهمةً لجميع الدارسين والباحثين عن طبيعة هذه البيئة, وجميع كتب هولاء تؤكد على أن مملكة القصب منطقة غرائبية المنشأ, لكنها منطقة حياة للإنسان والحيوان والنبات لوجود المياه العذبة من نهري دجلة والفرات.
لقد سكن الجبايشَ الصابئة المندائيون, ففي عام 1940م كان في مدينة الجبايش 120 أسرة صابئية, وهولاء أتباع الديانة المندائية تعايشوا مع أبناء مملكة القصب المسلمين, وتجاوروا معهم, وكانوا يشاركون أبناء المنطقة في أحزانهم وأفراحهم، أما عباداتهم وأعيادهم فكانوا يؤدونها عند حافات الأهوار, ولديهم أماكن خاصة يقيمون فيها التعميد, وأداء طقوسهم العبادية بحرية مطلقة، كما امتهنوا صناعة المناجل والمعاول وكذلك أدوات صيد الأسماك، والصابئة ديانة تعتمد في طقوسها على وفرة المياه بل وحتى عقود الزواج يتم عقد قران الزوجين في الماء الجاري, وهذه الديانة نبيها يحيى بن زكريا وكتابهم هو (كنز ربا) وقد تم ترجمة كتابهم من اللغة الآرامية إلى اللغة العربية من قبل لجنة مختصة وذلك في مرحلة التسعينات من القرن الماضي.
إن الحديث عن الصابئة وعلاقتهم بالأهوار تمتد إلى عقود وأزمان طويلة، وقد عرفهم أبناء مملكة القصب عن قرب فهم يتعاملون بصدق مع أبناء المنطقة ويعتمدون في عيشهم على مهن وحرف يدوية كصناعة المناجل والمعاول ولم يمارس الصابئة صيد الأسماك والطيور إلا ما ندر، ويحبذون في أكلاتهم طائر الخضيري، وذات يوم سألت رجل دين لطائفة الصابئة في مدينة الناصرية, واسمه (رحيم خيري فرحان) عن سر علاقتهم بأكلة طائر الخضري, ولماذا يحبون هذا الطائر دون غيره في أكلاتهم الشعبية, فقال لي: ((عندما نقوم نحن بشراء طائر الخضيري فإن لنا طريقتنا الخاصة بطبخ هذا الطائر, فنساؤنا تتفنن بطبخه وتهيئته بشكل مميز ومذاق طيب, ونضيف له بعض المواد كالبهارات الغالية الثمن، مما ينتج أكلة طيبة نقدمها للضيوف القادمين من المدن الأخرى وهي أكلتنا المفضلة)).
وخير دليل على علاقة الصابئة بالأهوار وعشقهم لها, أذكر لكم هذه الحادثة ففي عام 1980م جاء رجل صابئي إلى مدينتي (ناحية كرمة بني سعيد الواقعة جنوب مدينة الناصرية) ليشتري طائر الخضيري الأليف بأعداد كبيرة من أبناء المدينة, فاشترى هذا الصابئي العراقي صاحب الكوفية الحمراء ما يقارب 150 طائرا من طيور الخضيري الجميل وعندما دنوتُ منه لأسأله عن سر شرائه لهذه الكمية الكبيرة من هذا الطائر, أجابني إن هذا الطائر يذكرنا بموطننا الأصلي في الأهوار, ونحن نعشقه لأنه جزء من طبيعة تلك المنطقة, وبعد شرائه من أبناء هذه القرى نقوم بتربيته ونهيئ له بيوتاً وأماكنَ خاصة وسط المدن الكبيرة كمدينة الناصرية أو مدينة ميسان, وأحيانا نبني أحواضا صغيرة لها؛ لأنها تعيش وسط المياه، لنستفيد من بيضها ولحمها.
إذن للصابئة علاقة تأريخية وقديمة مع موطنهم القديم مدينة الجبايش، ففي هذه المدينة امتهنوا حرفهم ومهنهم البدائية, منها صناعة المناجل والمعاول وكذلك أصبحوا جزءاً أساسياً من المكونات الاجتماعية والدينية في هذه البقعة, ولهم تقديرهم الاجتماعي الخاص في عموم المنطقة، وكانوا يمارسون حياتهم ومعتقداتهم الدينية بكل حرية، ولعل كتاب (الكنزا ربا) هو الكتاب الديني المقدس لهذه الديانة الرافدينية، والجدير ذكره إن أغلب نصوص هذا الكتاب تدعو لفعل الخير واحترام الآخر، والعيش بسلام مع باقي البشر، وقد ذكر لي ذات يوم رجل الدين حسن فرج الله بأن أحد أبناء قضاء الجبايش أراد أن يهين صابئياً في دوواين هذه المدينة، لكن جميع الحضور رفضوا هذا الفعل وقدموا اعتذارهم لذلك الصابئي, وأجبروا ذلك الشاب بالاعتذار, وقالوا له: هذه ليست من أخلاقنا وهولاء الصابئة جزء لا يتجزأ منا, واعتذر ذلك الشاب من الصابئي. هكذا كان أبناء الأهوار _بشتى دياناتهم_ متآلفين متحابين، ولعل وجود الصابئة المندائيين في تلك المنطقة خير دليل على أن منطقة الأهوار هي موطن للتعايش السلمي لمختلف الديانات، والاقوام الساكنون في تلك المستنقعات المائية كانت تسودهم الألفة والمحبة وحسن الجوار.
لقد كان يجتمع في مضيف القصب أتباع مختلف الديانات السماوية, يتداولون في هذا المضيف مختلف الحكايات والأوضاع المعيشية في منطقة الأهوار، وأحيانا يقصّ أحدهم قصة أو حكاية طويلة, والآخرون يستمعون إليه, وغالبا ما تكون هذه القصص إما خيالية أو واقعية كمغامرات الصيادين في أعماق الأهوار وما تدور حولهم من أحداث مأساوية كمطاردة الحيونات الوحشية وغيرها، وأحيانا يقصون قصصا تاريخية أو اجتماعية، أما قصص الصابئة فتدور حول طقوس أعيادهم وديانتهم الغرائبية وعلاقتهم بالماء، إذن سكنت الجبايش ديانات متعددة وأقوام مختلفة لها ثقافات متنوعة، وهي عاصمة الأهوار ومملكة القصب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع