الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم من ليلة / قصة قصيرة

ابراهيم سبتي

2006 / 9 / 1
الادب والفن


(1)
دفعوني إلى حتفي.. لم أفكر يوماً بأني سأتابع قاتلاً مشكوكاً في تهمة، وأرغم على لعب دور المنقذ من وغد مزعوم مرغ أنوفنا في الوحل، وعدوني بعطايا تفوق الوصف حالما أعود بخبر ذلك الرجل الذي شتت شملنا. مددت جسدي المنهك على فراش قذر بال وسمرت عينيّ على سقف الغرفة المصنوع من جذوع النخل.. عبر الجدار الطيني الرقيق اخترقت كلماتهما ذلك الحاجز الواهي ووصلت إلى سمعي، أحاديث لم أسمع لها مثيلاً من قبل، رغم أنها كانت متقطعة ومبتورة لا تقدم أية إجابات لأسئلتي التي تدور في رأسي المفجوع منذ وطئت هذا النزل منذ يومين وأصبحت واحداً من نزلائه.. كان معظم حديث الرجلين يدور حول الرجل الأحدب صاحب النزل الذي رأيته مرة واحدة حتى الآن.. أحاديث غامضة أتوهم أحياناً بأني أمسكت خيطاً سيقودني إلى حل اللغز، لكني اكتشف بعد حين بأني أتجه إلى سراب ما ألبث أن أعود إلى نفس نقطة الانطلاق، تستغرقني الدوامة تماماً وأجبر على تجاوز التفاصيل وأضيع في متاهة البحث عن وسيلة أستطيع فيها إثبات رجولتي كما قال لي أعمامي:
-الآن تستطيع أن تأخذ بثأر أبيك وتأتينا بخبر الأحدب الذي مرغ أنوفنا بالتراب..
كلمات تتصارع في مخيلتي لا تغادرها أبداً، لكني أفوت التفكير بها للحظات حتى لا يتبدد الهدوء الذي أنعم به وأنا مستلق أبحث عن إجابات واضحة لكل ما يدور حولي.. في هدأة الليل يتسلل صوتهما خافتاً شبيهاً بالهمس ممزوجاً بخوف وقلق، قال أحدهما:
-الليلة يجب أن ينتهي كل شيء!
رد الآخر:
-كل ليلة نقرر ولا نفعل شيئاً..
-الليلة ستكون حاسمة! يجب أن ينتهي الأحدب النتن ولو كلفنا ذلك حياتنا!
-لكن صبيه يتأخر في الخروج من حجرته مما يعيق تنفيذ المهمة..
انطلقت من أعماقي زفرة حبيسة وتأهبت لجميع الاحتمالات، نهضت من مكاني متثاقلاً كأني أتمرغ في وحل لزج، تعثرت بأذيال ثوبي وأحسست بأني مصاب بأنهاك يدب في عظامي كما لو أن خنجراً حاد النصل قد نفذ بين طيات لحمي، فغصت في بحر من الأنين مرعوباً وتدحرجت نظراتي على أرض البيت الجرداء.. البيت الوحيد الذي يؤجر للغرباء ذهبت إلى حيث أجده في هذا المكان النائي، أبحث عن النزيل القابع في الحجرة المقابلة للذي يدير نزلاً للغرباء والمارين في تلك الأرض القصية، لعلي أجده خرجت مسرعاً واعترتني نشوة غريبة لم أعرف سببها، ولكني شعرت بإحساس مفاده أن ذلك النزيل قد يتفهم ما سأقوله، رجل في الأربعين يسكن هنا منذ سنين يعمل معلماً في القرية لا يعرف لـه أهل مطلقاً ولم يترك النزل ليوم واحد طوال فترة مكوثه حسب قول الأحدب صاحب البيت.. طرقت باب حجرته وانشق عن ضوء خافت ينبثق من شمعة راجفة في أقصى الزاوية البعيدة فوق منضدة خشبية عتيقة، وتراقصت ظلالنا على الجدار المغلف بالنايلون الأزرق المورد، قلت له:
-يبدو أن لا أمل في فض الغموض الذي يلف كل شيء؟
-لا أعتقد أن هناك غموضاً بل أوهاماً تسيطر على عقلك المتهرئ اذهب ونم إنك تبدو متعباً..
-ولكني أقول الحقيقة!
-أية حقيقة؟ وهل تعتبر هذيانك حقيقة؟
لا أحد يصدقك! ما تقوله سخف وهراء وأقاويل كشفت عري وهمك الكبير..
-لكني سمعت أشياء تنبئ بكارثة قد تحل بين لحظة وأخرى..
-حين تعجز عن إقناع الآخرين بما يدور في رأسك فاذهب وارم نفسك في الجحيم.. صمت قليلاً، نظر إلي وجهه الذي ينطق بالذهول والحيرة..
قال:
-كنت أود أن أجد حجة أنقض بها ما تقوله الآن!

(2)
-أنا أتعس خلق الله!
قالها الأحدب وصبي في الرابعة عشرة يجلس بجواره. كان الرجل الأحدب قصير القامة يرتدي ثياباً سمراً رثة تلتصق حدبة كبيرة على ظهره المقوس، يحمل كيساً تحت ثيابه فوق حزامه وكأنه حدبة أخرى ملتصقة بصدره..
اعترته نوبة ضحك وجنون ورقص وهو يزعق بلوعة وتردد:
-أنا أتعس خلق الله..
انحدرت دمعتان كبيرتان على خديه الغائرين تحت لحية كثة تنتشر بعشوائية على وجهه المظلم، دعك جبينه، شد على عينيه يعتصرهما وكأنه يستخرج شيئاً منهما.. ظل الأحدب يتلمس خطواته المتعبة ينازع بيأس للحيلولة دون الوقوع أمامنا، جلس في مكانه وعاد إلى مزاولة الرقابة من جديد.. لكنه التفت إلي فجأة وانتفض من مكانه مذعوراً قال:
-أبدو مضحكاً أستحق السخرية والهزء! عرفت من نظرته بأنه غير راغب في الجلوس في حجرته أكثر من ذلك.. كنا نعتقد أن جلوسنا قد يمنع الكارثة التي ربما نحول دون وقوعها بالرغم من أن الأحدب لا يعلم شيئاً عن كل ما يجري..
لكني استحضرت في هذه اللحظة كل كلمات أعمامي الذين راحوا يشحذون همتي بأخذ الثأر من هذا الرجل الجالس أمامي، الآن لكني لم أقتنع يوماً بأن أبي مات مقتولاً على يد هذا الرجل.. قالوا لي إن الأحدب قتله عندما تشاجرا في حانة خرج أبي بعدها من الحياة خالياً.. لا يملك شيئاً... وبعد عشرة سنوات اكتشفوا مكانه وطلبوا مني النيل منه..

(3)
قال الأحدب دفنت معظم حياتي في هذا البيت الذي أواني كل تلك السنين وأصبح جزءاً مني ومن هذه القرية الصغيرة.. أعتاش منه ومما يجود به علي بعض زبائنه الطيبين.. لقد حولته إلى نزل من أجل ذلك..
شبك يديه على ركبتيه وأحنى رأسه وكمن وجد شيئاً مهماً قال:
-لقد سئمت حياتي وآن لي وداعها! كنت أرى في عينيه سخرية مرة وهو ينطق بذلك.. غير أن معلم القرية حاول كسر جمود الموقف بقوله:
-احترس من الرجلين المقيمين في تلك الحجرة المجاورة..
ضحك الأحدب وقال:
-لا أملك ما أخسره، كل ما أملكه هو هذا النفس اللاهث الذي يسمع شخيره عن بعد، ثم وضع يده على كتب الصبي وقال:
-وهذا أخسره أيضاً!
وانطلقت ضحكة قوية أزاحت جدار الهم الرابض فوق صدورنا، لكنه كان يحرص على التغلب على توتره الذي كاد يهز كل جسده، بعد لحظات دخل في هذيان واستدار على الجدار كأنه كومة عظام متحركة وتمدد على فراشه، طلب من الصبي إطفاء الفانوس وإغلاق الباب.. غادرنا الغرفة مكبلين بالصمت والقلق.

(4)
الدماء انتشرت على فراشه وسقط بعضها على الأرض، يبدو أن الطعنات قد انهالت عليه من كل الجهات لتمزق صدره المقوس، ثيابه تمزقت هي الأخرى وظهر صدره عارياً لتنتشر فيه خطوط الدم المتجمد حول الثقوب الكثيرة لطعنات عشوائية مرتبكة، كان وقع الصدمة كبيراً علينا رغم حدسي المسبق ولا فائدة من الخوض في أروقة الندم والحزن..
- لم يقتلوه فحسب وإنما سرقوه أيضاً! لقد دمروا وعبثوا بكل شيء لقد اختفى الكيس المخبأ في صدره، لم أصدقك البارحة يبدو أنهما نفذا ما خططا له.. قلت له.. لا أعتقد أنهما الفاعلان!
اكفهر وجه المعلم ووثب خطوتين للأمام وزعق بخوف..
إنك مجنون.. تتهمهما بتدبير العملية واليوم تبرئهما يالك من معتوه.. معتوه.. دنا المعلم من الجثة وأطلق دمعة حبيسة وراح يجهش بالبكاء، تجمع النزلاء وسط همهمات وثرثرة، استجمعت قواي الخائرة وشددت تفكيري المنهك وأعدت ترتيب خارطة اللعبة أو هكذا أسميتها، لم يخطر على بال أحد بأني سأدعي إن الصبي هو قاتل الأحدب.. ولكن من يصدق أن مبدد وحشة الرجل ومؤنس وحدته قد يفعل ذلك.. آثرت الصمت عند عودتي إلى أعماقي ولم أخبرهم بأن الذي ثأر لهم صبي لا ينتمي إلى صنف الرجال مطلقاً، ولم أفوت فرصة تنصيبي بطلاً موعوداً بعطايا مجزية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو