الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة لقصيدة خلود برهان

محمد هالي

2022 / 1 / 11
الادب والفن


النص:

هناك
خلف حدود الحزن
على حافة الظلام
تهطل الكأبة لتغطي مكان ما
هناك
كوخ بعيد
في واد سحيق لاتضاريس تشبهه
ووجه تتراقص ملامحه
وتغيب خلف لهب شمعة
لا ينتظر أحد
لا يعرف الابتسامة
قلب فائق الصمت يشرب الكأبة
ولا أحد يؤنس وحدته
هناك
خلف براري الليل
ذئب يتمشى وصوت خطواته فوق الثلج الطازج
يثير اليأس في نفسه
غيمة تبتعد قليلا
يلوح القمر ثم يغط في أنطفاء عميق
يذوب شباك الكوخ الشاحب
ينخمد لهب الشمعة
لا أحد يدري به
ذلك القلب البعيد
خلف ظلال الحزن
ربما تؤنس لحظاته
ذكريات قديمة احلام لم تتحقق
أو لهفة في أنتظار الموت
خلود برهان

القراءة
عندما نتأمل نصا كئيبا كهذا، قد نتساءل عما سبب هذه الأحزان كلها؟ فنلتف حول الصور المستخدمة في النص الشعري، نراها بالفعل تحمل شحنات عميقة ، توجهنا الى ما هو سيميائي من أجل استقراء الحيثيات التي جعلت خلود سلطان تجسد كل تلك المعاني من أجل تحريك كل المشاعر، و الأحاسيس لدى المتلقي، تنطلق القصيدة باسم إشارة تحدد مكانا بعيدا شيئا ما، هذا المكان تلف به الكثير من المآسي التي تحملها اللغة المستعملة، من خلال دلالات الكلمات التي تغلف ذاك " الهناك" فتتوالى المعاني الكثيفة لتحرك ما ينتظر تبليغه:
"هناك
خلف حدود الحزن
على حافة الظلام
تهطل الكأبة لتغطي مكان ما"
بهذا المشهد القاتل تتوعد "هناك" لتظهر الكلمات تتشابه من حيث التبليغ(الحزن، الظلام، الكآبة) كلها تتحد في أقصى حدود الألم(حدود، حافة ، تهطل) ، نجد التماثل في تركيب الجمل، لتظهر قمة أو منتهى القلق الذي أصبح عليه الإنسان العربي، خصوصا في بؤر التوتر الذي تحدث فيها أبشع صور الغثيان، نتيجة الصراعات الدائمة، و المستمرة بأحداثها بلا انقطاع، قد تبدو هذه الصور عادية لأنها تتلاءم مع حجم الضرر التي تحدث يوميا في هذه البلدان، هذه الكثافة الأليمة هي ما جسده المقطع أعلاه بدون مواربة أو لف و دوران، إن هذا المدخل المثير للجدل الذي أمطرتنا به الشاعرة، هو بداية لمشاهد مرعبة تتولد عن الاستقبال التحديدي للوقائع التي تريد خلود برهان أن تضعنا ضمنها، زاوجت فيها بين الواقع و الخيال، يظهر هذا فيما يلي:
"هناك
كوخ بعيد
في واد سحيق لا تضاريس تشبهه
ووجه تتراقص ملامحه
وتغيب خلف لهب شمعة
لا ينتظر أحد
لا يعرف الابتسامة
قلب فائق الصمت يشرب الكأبة
ولا أحد يؤنس وحدته"
هذا هو الحزن بعينه تحبكه الشاعرة بمخيال يشبه كهف افلاطون أو ظلاله، من خلال الربط بين مقدمة القصيدة و عرضها، هذا الأخير يسع من خلال حادث يتمثل في الاشارة الى الكوخ البعيد، هو نفسه لا يخلو من تهديد الواد، بحيث لم يعد يوجد في وضع سليم كما كان، أصبحت تضاريسه لا تشبه بقية الأراضي نتيجة استعمال كافة أنواع الأسلحة، فتحطمت الحضارة كلها، من دور و مباني، وضع يشبه كوخا ظل قابعا في واد تغيرت ملامح تضاريسه كليا، قد يكون ذاك الواد دجلة، أو فراتا و لما لا يكون النيل نفسه؟ ما دام الوضع سيئ الى هذا الحد مما انطلقت منه القصيدة، لتدخل بنا الى الظلال الافلاطونية بشكل واضح ، وتنقلنا من الاشياء الى الانسان، من حزن الطبيعة الى كآبة الانسان نفسه:
" ووجه تتراقص ملامحه
وتغيب خلف لهب شمعة"
فالكوخ و الوجه و الشمعة في وضعية متشابهة تماما، فحين تحطمت الحضارة لن يتبقى منها الا الكوخ، و حين انطفأت الأضواء فلم يبق للوجه المتبقي لكي يحافظ على النور لابد أن يرجع الى لهب الشمعة، كل الأحوال هي آلام تتبدى من مشهد مرعب ترسله الشاعرة لتبين قتامة الأحوال التي أصبح يعيش ضمنها الوجه، فهو:
" لا ينتظر أحد
لا يعرف الابتسامة
قلب فائق الصمت يشرب الكأبة
ولا أحد يؤنس وحدته"
أصبح ذاك الوجه يحيى ضمن عزلة يائسة محبطة، و كأن خلود برهان تريد ان تخبرنا بوضع آخر أصبح عليه الوضع ما بعد الصراعات المريرة التي حدثت في ذلك المكان، في تلك التضاريس التي تغيرت ملامحها كليا، و ما علق بالإنسان من أوضاع لا تجلب الا الغثيان و الحزن و الكآبة، الوجه اليائس المحبط الذي فقد كل شيء في هذا الوجود، وجه يعيش عزله و انشطاره، لم تعد الابتسامة تآخيه، فقط يعيش تفرده و انعزاليته، في واقع قاحط، هو وحده يعي ظلاله يدرك حقيقته، لأن الدمار و الحرب أفقدته الأمل في الأنس إما نتيجة الموت المحقق، أو الهجر المحقق، و كلاهما تضع الوجه في تضاريس جديدة ترفض اللحمة و تترك الغير المقبول في تباعد دائم، و مستمر، هذه هي هناك البعيد ، هناك كان كل شيء، و لم يعد أي شيء، هذا الوضع الجديد لم يعد للإنسان سوى استئناس بما تبقى من الطبيعة، ليس في شكلها المتفائل، بل في أوجهها الحزينة و المتشائمة، و هذا ما جسدته الكلمات التي ركبت بعناية لتشكل مشاهد مرعبة حقا( الليل، البراري، ذئب، غيمة تبتعد...)
"هناك
خلف براري الليل
ذئب يتمشى وصوت خطواته فوق الثلج الطازج
يثير اليأس في نفسه"
ليس أمام وجه يكتنز كوخا يعيش تفرده في البراري، سوى أن يقنط من غمار طبيعة في وجهها القانط أيضا ، فلا وجود للحزن من منأى عن الحزن نفسه، فالذئب ليس هو القط مثلا، هو لب الافتراس في مشهد قاحط، فالعزلة في هذه الوضعية البئيسة حقا لا تنتج سوى اليأس نفسه، و هذا ما تفرزه الطبيعة نفسها
"غيمة تبتعد قليلا
يلوح القمر ثم يغط في انطفاء عميق"
فما على الكوخ/الانسان أن يذوبا في غمهما القاتل، و كأنهما يعيشان لحظاتهما المرعبة من خلال تداخل الطبيعة بأشكالها المختلفة و التي لا تخرج عن أشكال الخيبات التي رسمتها خلود برهان منذ انطلاق القصيرة، جعلت من الطبيعة تجسد الألم الذي يشعر به الوجه/الانسان ضمن كوخ تحف به مشاهد (علاقة الغيمة بالقمر، و تفرد الكوخ الشاحب، و النور الآتي من الشمعة الذي بدأ يتجه للأفول)، ليعيش ذاك الانسان عزلته الأكثر آلاما:
"يذوب شباك الكوخ الشاحب
ينخمد لهب الشمعة
لاأحد يدري به
ذلك القلب البعيد
خلف ظلال الحزن"
فلم يعد له من أنيس سوى ما خزنته قريحته اللاشعورية، التي تتجسد عبر أحلامه، التي تدخل ضمن مجال التأنيب بعض ضياع كل شيء، فلم يعد له من اختيار سوى الاستئناس بها:
"ربما تؤنس لحظاته
ذكريات قديمة احلام لم تتحقق
أو لهفة في انتظار الموت"
اصبح يعيش على ماضيه بعدما يئس من حاضره، و لم يبق له من أمل سوى انتظار الخلاص الأخير الذي وضعتنا ضمن احتمالاته كحل أخير الا هو الموت، القصيدة كلها في الحقيقة هي عصارة كتيفة لواقع مرير أصبحت تتخبط فيه بعض بلداننا العربية، لكن الشاعرة قدمته في وجهه الحزين، و القاتم، و المظلم، مادام الأفق لازال غير واضح الى حدود الآن، و رغم ذلك فالشاعرة قدمت لنا صرخة، صرخة لكل العالم أننا لازلناهنا نشبه الكوخ الشاحب، نشبه الظلال، نشبه الوجه الذي يعيش على أحلامه الماضية مادامت أحلامه المستقبلة غامضة، صرخة لها وجه البكاء، بعدما تلاشى الفرح نهائيا، نتيجة الموت و التشرد و الاقصاء لعل الشمعة تنأى عن الخفوت، و ترسل أضواء تشبه الشمس، تشبه الابتسامة التي غابت عن كل الوجوه المنكوبة في هذا العصر الذي لا يقدم لنا سوى اليأس الممزوج بالأحزان المؤلمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة


.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن




.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع


.. سكرين شوت | الترند الذي يسبب انقساماً في مصر: استخدام أصوات




.. الشاعر أحمد حسن راؤول:عمرو مصطفى هو سبب شهرتى.. منتظر أتعاو