الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-منزل الأقنان- دراسة نقدية

حيدر عباس جعيجع

2022 / 1 / 11
الادب والفن


المنهج النفسي في النقد الأدبي:
قصيدة منزل الأقنان للشاعر بدر شاكر السياب أنموذجًا.

"وتملأُ رُحبةَ الباحة
ذوائبُ سدرةٍ غبراءَ تزحمها العصافيرُ
تعد خطى الزمانِ بسقسقات، والمناقيرُ
كأفواهٍ من الديدانِ تأكلُ جثّةَ الصمتِ"
يقول غاستون باشلار في كتابه "جماليات المكان": البيت هو ركننا الأول... هو كوننا الأول.
ومن هذا الكون الأول انطلق السيابُ لِيدخلَنا في أكوانِه اللامتناهية، يَتَنَقلُ بنا عبرَ معالمَ المكانِ بفنتازيا متخيَلةٍ رائعة يمتزجُ فيها الحلمُ بالحقيقةِ، ويتداخلُ الواقعُ في الخيال، فتتوحدُ ذاتُ الشاعرِ بالمكان فتؤنسِنُهُ وتبثُ الروحَ فيه، فالشجرةُ الغبراءُ المنسيةُ في باحةِ البيتِ قد نثرت ذوائبَها، وزقزقةُ العصافير تلتهمُ صمتَ المكان وتشعلُ الروحَ في جسدِهِ الميت؛ بعد أن غادروه أهلُه..
بعقلِهِ اللاواعي، يستحضرُ لنا المكان وبكل ما يعنيه له، فجيكور عند السياب هي أحلامُ الطفولةِ، هي الأمُ، هي عالَمُهُ الخاصُ، عِراقُه، ذاتُهُ المتأمِلَةُ، خَلاصُه، جَدَلُهُ اللامنتهي..
"على العكازِ أسعى حينَ أسعى، عاثرَ الخطواتِ مُرتَجِفًا
غريبٌ غير نارِ الليلِ ما واساه من أحدٍ
بلا مالٍ، بلا أملٍ، يقطِّعُ قلبَه أسفًا.."
في القراءةِ الأولى للنص نجدُ أن الشاعرَ يصورُ لنا معاناتِه الجسديةَ بعد أن أضناه المرضُ وأنهكَهُ، وجَعَلَهُ خائرَ القوى، ساندًا خطواتِه المتعثرةَ على عكاز.
ولكن يبدو لي أن هذه الخطواتِ ما هي إلا إيحاءٌ عن حياةٍ متعثرةٍ، قلقةٍ، غيرِ مستقرةٍ، عاشها ومر بها الشاعر، فزرعت هذا التردد والقلق في نفسه.
"غريبٌ غير نارِ الليلِ ما واساه من أحدٍ..."
(غريب) بهذه المُفردة بدأ البيت، فهي تشكل بعدًا نفسيًا في وجدان المتلقي وإحساسِه، وتستحضرُ لنا غربةَ الشاعرِ لنعيشَها، فَلِلَّفظَّةِ قيمةٌ دلاليةٌ حسيةٌ، وكذلك قيمةٌ إيقاعية؛ لما يحملُهُ حرفُ المدِ (الياء) من يأسٍ وانكسارٍ وخضوع..
وباسترسالٍ مُتقنٍ، ينقل لنا إحساسَه وما يعيشُهُ من مرارةٍ وضياع، عن طريقِ معادلٍ موضوعي، يحرِكُ به الجماداتِ ويؤنسنُ المكانَ الذي حولَهُ، فلا روحَ تؤنسُ غربةَ روحِه، ولا حضنَ يدفئُ برودةَ جسدِه.
وربَّما هناك بعضٌ من التناص، وأيضًا التضاد في المعنى مع قول أبي فراس الحمداني:
إِذا اللَيلُ أَضواني بَسَطتُ يَدَ الهَوى
وَأَذلَلتُ دَمعًا مِن خَلائِقِهِ الكِبرُ
تَكادُ تُضيءُ النارُ بَينَ جَوانِحي
إِذا هِيَ أَذكَتها الصَبابَةُ وَالفِكرُ.
لكن ليلهُ مُختلِفٌ عن ليلِ أبي فراس، فما ليلُ أبي فراس إلا كنايةٌ عن حبيبةٍ تطفِئُ ظلمةَ روحِه، وتُشعِلُهُ حُبّّا وصَبابَةً، أما ليلُهُ فبالعكسِ تمامًا، طويلٌ باردٌ مُمتَدُ السكونِ، لا صوتَ يقطعُه، ولا نجمَ يواسيه.
"بلا مالٍ بلا أمل يقطع قلبه أسفا.."
ثم يعود النص للبوح لنا باغترابٍ مُوجِعٍ، يَغُصُ بشعورِ الانفصالِ عن الذاتِ وعن الآخرين، يعودُ للبوح بكل هذا الوجعِ الممتدِ عبرَ آلافِ الأميالِ وآلافٍ من السنين..
وكذلك يتناص ويتداخل مع نصٍ لشاعرٍ عراقي سبقه بما يزيد عن ألف عام، قاسى مرارةَ الاغترابِ نفسَها، يتداخل مع نص المتنبي:
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
المعنى والإحساسُ عند الشاعرين متداخلان، وَلِتكرارِ "اللاءات" دلالةٌ حسيةٌ على الرفض والضياع، تبينُ لنا ما عاناه الشاعرانِ من حالةٍ نفسيةٍ متأزمةٍ، فهي تعملُ على إشباعِ رغباتٍ وجدانيةٍ عميقةٍ، ممتدة مع امتدادِ حرفِ المد.
"أأمكثُ في ديارِ الثلجِ ثمَ أموتُ في كمدٍ
ومن جوعٍ ومن داءٍ وأرزاءِ؟
أأمكثُ أم أعودُ إلى بلادي؟ آه يا بلدي!"
يكررُ حرفَ الاستفهام في أكثرَ من موضعٍ، وهذا الأسلوبُ يدلُ على حيرةٍ وَتَوَهانٍ، وعلى ضياعٍ غيرِ متناهٍ يعيشه الشاعر، فهو كغريقٍ يستنجدُ بمن حوله، ليطلق آهتَهُ الأخيرة، المكبوتة في اللاوعي.
"ألا يا منزلَ الأقنانِ، سَقَّتكَ الحيا سُحُبُ
تُروّي قبريَ الظمآنَ،
تلثمُهُ وتنتحبُ"
تتبينُ له معالمُ الطريقِ، وتتلاشى ضبابيةُ الصورةِ، فها هو قد وصلَ إلى نهايةِ رحلتِهِ المُضنية، وآن لروحِهِ المُعَذَّبةِ أن تستريحَ، فَلا أملَ يُرجى سوى قبرٍ يحتضنُهُ بحنو، في منزلِ الأقنان، في جيكور، في خَلاصِه الأبدي...
تتداخل الذاتُ في المكان والمكان في الزمان، فينزل المطرُ، كالثورةِ كالولادة، ليروي ضمأهُ الأزلي...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة