الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة البطريركية / الأبوية السلطانية

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2022 / 1 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


L’Etat patriarcal
نقصد بالدولة البطريركية L’Etat patriarcal ، الدولة الابوية ، ودولة الرعايا التي ترعى ، وتسهر على رعاياها ، حتى يبقوا مجرد رعايا تابعين للراعي الكبير ، والأب الكبير ، الذي تخضع له جموع الرعايا ، الفاقدة لحق المواطنية ، فأحرى ان تكون شعبا ، لان الشعب في الدولة الديمقراطية ، هو اصل ومصدر السلطة ، والحكم .. يمارسها عن طريق صناديق الاقتراع ، والانتخابات ، التي تفرز من يمارس الحكم ، والسلطة باسم الشعب ، الذي صوت على البرنامج الانتخابي المقدم من قبل المتبارين ، بحيث بمجرد الإعلان عن فوز الأحزاب ، يصبح البرنامج الحزبي المصوت عليه ، برنامج الشعب الذي صوت على البرنامج الانتخابي للحزب ، او للأحزاب التي تبارت في العملية الانتخابية ...
الدولة البطريركية عبر التاريخ ، ومنذ القدم ، تتمثل في الإمبراطوريات التي حكمت العالم .. ففي الإمبراطورية الرومانية مثلا ، كان اصل الحكم هو الامبراطور وحده ، والباقي من الشعوب المستعبدة ، كانت تصلي للإمبراطور ، وتنظر اليه كآلهة بعد الله ، المُصْطَفات منه .. لذا فعندما كان يظهر الامبراطور ، وهو يمشي في رواق القصر ، او وهو يتلذذ بمشاهد المبارزة بالسيوف بين الاسرى العبيد ، في ميدان وساحة الاقتتال ، وليس القتال .. كانت الجموع تهلل وتردد فقط اسم الامبراطور ، وهي تتماهى في سلوكات غريبة اكتشفناها في العصر الحديث ، بين الحاكم الوحيد الأوحد في كوريا الشمالية ، وبين العبيد التي تهتف باسمه ، وترفعه الى مرتبة القديسين المنزلين في صورة ملائكة .. فالدولة البطريركية ، هي الدولة الإمبراطورية التي بها الامبراطور وحده ، والباقي من شعوب ، وارض ، وسماء ، ومياه ، ووو .. هو في ملك ، او يتملكه الامبراطور .
بالرجوع الى تاريخ الدولة السياسية في المغرب ، سنجد انه تاريخ امبراطوريات عائلية ، حكمت المغرب كعائلات او قبائل .. والباقي من سكان المساحة الجغرافية ، التي كانت تمتد عليها الإمبراطورية ، هم في ملك الامبراطور يخدمونه ، بدل ان يخدمهم ، يؤدون له الضرائب المجحفة بقوة السيف من خلال الاغارات ، التي كان ينظمها السلطان على القبائل التي رفضت الخضوع ، ورفضت دفع الضريبة .. ينجبون الأطفال ، ويتكلفون بكل مصاريف نشأتهم ، وعند بلوغهم سن الرشد ، يُقدّمون كهدية للسلطان ، ليصبحوا في جيشه .. حيت يتحولون من اجل السلطان ، الى قتال قبائلهم ، او اسرهم ، باسم الدفاع عن السلطنة والسلطان ، مع العلم انهم هم من يؤدي أجور أبنائهم ، المجندين في جيش الامبراطور .. في حين انّ مقابل هذه العطاء القبائلي السخي / بحد السيف ، يسهر الامبراطور / السلطان ، على تامين امنهم من الوحوش ، ومن ( الأعداء ) ، ومن الجايْحات ، والصواعق التي كانت تهب على الإمبراطورية ، وتفتك بالرعايا عبيد الامبراطور ، الذي يمارس عليهم الابوية السياسية .. ولا تفتك بالإمبراطور ، ولا بعائلته ، وبالمقربين منه ، ومن عائلته . أي حاشيته من قواد الجيش ، والمدنيين المكلفين بجلب الضريبة ، ومصادرة المحاصيل الزراعية رغم هزالتها .. والاستمتاع ببنات ، ونساء البرابرة الحسناوات ، والجميلات ..
لكن منذ مجيئ العلويين فارّين من الشرق الى المغرب ، واسسوا الدولة العلوية ، درجوا على تفادي عنوان الإمبراطورية ، وعنوان الامبراطور ، ولتتحول الدولة من الإمبراطورية ، الى الدولة السلطانية المخزنية ..
ومن خلال تقريب قوة حكم الامبراطور ، وايّ امبراطور ، وقوة حكم السلطان في الدولة السلطانية المخزنية ، سنكتشف ان اسم الامبراطور ، هو المرادف لاسم السلطان في النسق السياسي الذي أضحت عليه السلطنة .. فاذا كان الامبراطور ، هو الكل في الكل في تاريخ الامبراطوريات ، فان السلطان في الدولة السلطانية ، هو الدولة ، والدولة هي السلطان .. وفي نظام كهذا ، يركز اصل الحكم السياسي ، وقوة الحكم في الغيب ، وادعاء الانتساب الى النبي .. تصبح قوة السلطان ، اكبر قوة ضاربة ، تتعدى قوة الامبراطور .. لان التكبيل ، والتلجيم ، والبطش ، والقمع هنا ، يضحى باسم التعارض مع الله ، ومع الإسلام الذي يخدم كإيديولوجية ، كل النسق السياسي للدولة السلطانية ، وتمكينها من السيطرة المطلقة ، وبسط يدها على أي شيء يعجبها ، في ملك الرعايا الخاضعين للراعي الكبير ..
فحين يسمى الحاكم بالأمير ، وبالإمام ، وبالراعي ، ويلوح بسيف البيعة في فرض نظامه اكثر ، لجلب المزيد من الضرائب ، ومصادرة الغلة والمحصول ، واهانة واذلال سكان الأرض الأصليين .. هنا يجسد هذا النوع من الحكم ، قمة النظام البطريركي الذي يُحوّل الساكنة ، الى مجرد رعايا تعيش في كنف الراعي الكبير ، السلطان حاكم السلطنة التي غيرت العنوان ، من امبراطورية الى سلطنة ، ومن امبراطور الى سلطان .. ونظام السلطنة هذا لا يزال ساريا ، وهو عنوان الدولة الرئيسي ، الذي يجسد النظام السلطاني الأقوى من حيث السلطة ، من نظام الامبراطور .. فما قام به محمد الخامس ، وبتدخل اكبر من الحسن الثاني ، عندما تحولت السلطنة الى عنوان الملكية ، لم يكن الغرض منه تغيير العنوان سلطنة / ملكية . بل كان تجسيدا لاستمرار النظام السلطاني ، بمكانزمات وآليات ، تحفظ وتحافظ على الجوهر المضمون ، مع تغيير في الشكل .. لان شخص الحاكم ظَلّ من خلال الاختصاصات ، والسلطات التي يعطيها له عقد البيعة الغير موقع ، والغير منشور كالدستور .. يجعل من السلطنة الحديثة باسم الملكية ، تجسد الاستمرار الحقيقي للسلطنة التقليدية ، التي سادت النظام السياسي السلطاني قبل استقلال " ايكس ليبان " ، الذي منح الحكم للسلطان ، ولم يمنحه للمقاومة ، ولا لجيش التحرير ، ولا الشعب الذي ظل في فهم السلطان العصري ، عبارة عن رعايا تعيش في كنف ، وبرضا السلطان ، لان رضاه ، هو رضاء اهل البيت ، اصل نسب السلطان ..
فاذا كان السلطان وحده من يحكم السلطنة في النظام السلطاني التقليدي . واذا كان السلطان هو من يحكم لوحده في نظام السلطنة العصري .. فما الفرق بين السلطنة التقليدية التي يرتدي فيها السلطان دائما الجلباب ، والسلهام ، وبين نظام السلطنة العصري الذي يرتدي فيه السلطان اللباس الأوربي ، الى جانب اللباس التقليدي ، السلهام والجلباب في المناسبات .. وما الفائدة من دولة سلطانية تقليدية من دون أحزاب ، ولا برلمان ، ولا نقابات ، ولا جامعات ومدارس عليا .. لخ ، ونظام السلطنة العصري الذي به كل هذه ( المؤسسات ) ، لكنها ليست مستقلة ، تشتغل بأمر السلطان الذي يحكم باسم عقد البيعة ، وليس فقط بالدستور الممنوح .. أي يعطيه سلطات استثنائية ، تفوق السلطات المنصوص عليها في الدستور ، الذي شرع فيه السلطان مصدر قوة حكمه ، التي هي مشروعية الحكم ، ومشروعية النظام السلطاني ..
فعندما يفتتح الحاكم الفعلي ، دورة الخريف التشريعية باللباس السلطاني المخزني ، وحضور افتتاح الدورة اجباري بهذا اللباس ، ويخاطب الحاكم برلمانييه كسلطان امير ، وامام ، وليس كملك من حيث الشكل .. ويوجه لهم الامر اليومي الذي يرسم لهم خارطة طريق الاشتغال ، ليصبح البرلمان مجرد آلية لتنزيل برنامج السلطان ، الذي لم يتقدم للانتخابات ، ولم يصوت عليه احد ... وتتسارع جميع الأحزاب التي شاركت في الانتخابات ، والتي فازت ، لتظفر بشرف خدمة مشروع ، وبرنامج السلطان ، لا خدمة من صوت على برنامجهم الانتخابي ، ليصبحوا ، ك ( وزراء ) مجرد موظفين سامين ملحقين ، بإدارات السلطان ... فهنا نتساءل . ما الفرق بين نظام السلطنة التقليدية ، ونظام السلطنة العصري الذي به أحزاب ونقابات ... لكن الجميع في خدمة السلطان ، وفي خدمة الدولة السلطانية ... يعني ومن خلال التحليل ، نخرج بالخلاصة : لا شيء تحقق ، وتغير ، منذ السلطنة التقليدية ، والى السلطنة العصرية ، بعنوان الملكية شكلا ، لكن السلطنة مضمونا وجوهرا ، هي المستمرة والحاكمة .. فالمسألة إذن ليست في العنوان ملكية ام سلطنة . بل في السلطات ، وفي الاختصاصات ، وفي الطقوس المرعية ، وفي من يحكم فعليا المغرب .
ان اكبر تعبير دال على طبيعة النظام السياسي السلطاني ، هو الطريقة التي تتم بها تقديم البيعة للسلطان ، وهو راكب فرسا ابيضا ، والعبد يحفظ راسه من الشمس ، او الشتاء بمظلة واقية ، او راكب سيارة Limousine بيضاء ، والموظفون السامون من وزراء ، وولاة ، وعمال ، ومنتخبون .... يؤدون البيعة بالركوع حتى الركبة ، وترديد شعارات تحيل على زمن السلطنة التقليدية ...
كان هذا التحليل يعكس الجانب السياسي للنظام البطريركي ، الذي يتجسد في الأنظمة الإمبراطورية عبر التاريخ ، ويتجسد في النظام السلطاني منذ اكثر من 350 سنة مضت .. فالنظام البطريركي هو شخص الحاكم ، والسكان فيه ، مجرد رعايا ينتابها الخوف من كل ما يزعجها ، ويهدد حياتها ، كالجايْحات ، والصواعق ، والامراض ، والوحوش المفترسة ....
لكن ، وحتى نلم اكثر بالموضوع ، أي بتفكيك النظام السياسي الابوي ، سنلجأ كالمعتاد الى معالجة البطريركية كنظام سياسي ، من زاوية علم الاجتماع السياسي ، وعلم السياسة ، وهما العلمين المعروفين بتفكيك الظواهر ، والأنظمة السياسية المختلفة .. وقد كان لنا بالغ التأثر من خلال محاضرات الأستاذ محمد البوزيدي المختص الكبير في علم السياسة ، والعلوم السياسية ، والأنظمة السياسية .. وهي المحاضرات التي كان يحضرها كل يوم ثلاثاء ما يقارب ثلاثة الاف طالب في بداية السبعينات .. وقبل البدء في القاء محاضراته ، كان يعطي للطلاب تلخيصا موجزا عن كل ما نشرته الصحف الأجنبية عن المغرب ، من Le Monde الفرنسية ، الى الصحافة الامريكية ، والهولندية ، بحكم ان زوجته كانت هولندية . إضافة الى موجز عن الصحافة الاسبانية .. وللتذكير فالأستاذ محمد البوزيدي ، حاصل على دكتوراه دولة PHD في علم السياسة من الجامعة الامريكية ، وكان الأستاذ الذي اشرف على تأطيره عند اعداد أطروحة الدكتوراه ، وزير الخارجية الأمريكي هنري كسنجر .. وهو اول أستاذ مغربي حاضر على الطلاب الأمريكيين في مادة الأنظمة السياسية والقانون الدستوري ، في باخرة أمريكية والطلاب ، كانوا طلاب مدارس عسكرية ..
كما ان من الأساتذة الذين اثروا في ، وفي العديد من الشباب ، الأستاذ حسن صعب صاحب المجلد الضخم " ترويض القدرة السياسية " .. فرغم ان الكتاب مكتوب باللغة العربية ، الاّ انه من المستحيل فهمه ، اذا لم يكن لك رصيدا قويا في علم الاجتماع السياسي ، وعلم السياسة .. مثل كتاب الأستاذ عبدالله العروي " الأيديولوجية العربية المعاصرة " المستعصي عن الفهم ، اذا لم يكن لك رصيدا في علم الاجتماع السياسي ، وفي الفكر السياسي .. كان زمنا جميلا ، لان سنوات السبعينات كانت اجملا .. ولن تتكرر لان مايو 1968 حصل مرة واحدة ، ولم يتكرر ..
اذن ما المقصود بالأبوية / البطريركية السياسية ؟
يقصد بالبطريركية / الابوية السياسية Patriarcat ، النظام الاجتماعي القائم على سلطة الاب ، والجد الذكر ، الذي يهيمن على ممتلكات العائلة / تشكي هشام بن عبدالله العلوي من الحسن الثاني / الموسعة ( زوجة ، او زوجات ، أولاد ، احفاد ، العائلة ، ويتحكم بالزوجات ، والطلاقات ، وكل الأنشطة الأخرى ) .
ان نظام كهذا مثل ( الكامورة الإيطالية / المافيا ) ، مرتبط بالعائلة التقليدية كنظام أساسي ( قاعدي ) للمجتمع برمته / الحسن الثاني كان موغلا في التقليدانية وفي المحافظة / . وهذه النواة العائلية ، هي مركز النشاط الاقتصادي ، والاجتماعي ، وغيره من الأنشطة الموازية المدرة للربح .. فيما تتمركز السلطة / البطش ، والقهر في الاب ، او الجد الذكر ، الذي يفرض هيبته واحترامه على الجميع من دون استثناء .. وهذه الخلية الاجتماعية التنظيمية الأساسية ، تشكل القاعدة في كل مجتمع ، لدرجة ان المؤسسات الأخرى ، هي إعادة نسخ للعلاقات الأساسية القائمة داخل العائلة . فالأب هو مركز القرار ، وهو المشرع ، وهو السيد الحاكم المطاع ، ولا راد لأمره ، ولا من يستطيع حتى ان يرفع عينيه امامه ، او ينبس ببنت شفة .. فعندما ترجل هشام بن عبد الله العلوي ، وحاول الخروج عن البطريركية ، سواء بالنسبة لسلطة الامر والنهي ، او بالنسبة لأمواله من ارث والده .. تمت محاربته ، واعتبروه استثناء شاردا ، ووصفوه بالأمير الأحمر Le prince rouge ، في حين انه لم يكن لا احمرا ، ولا ابيضا .. بل كان يعرب عن شخصيته التي تأثرت بفلسفة الغرب ، وبكتابه التنويريين ، والليبراليين ...
وتبين العلوم الإنسانية ، انّ النظام السياسي البطريركي الابوي ، هو اقرب التنظيمات الى البنية العائلية . فكان المجتمع كله عبارة عن اسرة رعايا ، وكأن الحاكم السلطان ، هو اب الجميع .. وسلطة الحاكم مستمدة الى حد كبير من سلطة الاب ، بالإضافة الى انها تناظرها وتحاكيها ..
ومثلما يتعلق افراد العائلة بالأب ، ويتقمصون شخصيته ، ويتماهون معه ، نجد نظير ذلك في السياسة ، حيث يعيش المواطنون علاقة مماثلة مع السلطان ، قوامها التوحد ، والتقمص ، والتماهي .. مثلا سيطرة الثقافة السلطانية المخزنولوجية على الرعايا ، الذين يجسدونها حتى في الاعراس ، والحفلات العائلية .. " الله يبارك في عمر مولاي السلطان " .. بااايَعْ اسيدي مولاي السلطان ... تردد مثل هذه التخاريف السلطانية في حفلات الزواج .. عندما يصفون العريس " بمولاي السلطان " وهم يدورون به في " العمّارية " ..
ان هذا الجذر السيكولوجي للسلطة ، هو جوهر اللاّشعور السياسي ، الذي يحكم علاقة الرعية / المواطن / الابن ، بالسلطان الاب ، ويشكل اللحمة السيكولوجية لكل سلطة ابوية / بطريركية ..
تشمل هذه العلاقة البطريركية ، مؤسسات سياسية أخرى ، هي الحزب السياسي ، يعيش فيها افراد الحزب ، علاقة وجدانية إيجابية ، او سلبية ، مع الرئيس زعيم الحزب ، حيث تختلط في لا وعيهم ، او في متخيلهم اللاّواعي ، صورة الرئيس ، بصورة الاب الفزيولوجي ..
لا بد اذن من إيلاء هذا البعد السيكولوجي ، أهميته الخاصة ، عند تحليل علاقة الرعية / العبد / المواطن ، او العضو الحزبي بالرئيس ، او الزعيم ، ويدغم بهذه العلاقة ، مظهر آخر ميتافيزيقي .. هذه المرة عندما يتعلق الامر بنهاية ، او استقالة ، إذ يحضر الموت ( الطبيعي والسياسي ) ب، كل دلالته الميتافيزيقية .
عندما يعلن الزعيم انه سينسحب من الحياة السياسية ، فانّ الجموع تعيش هذا الخبر بنظرة حِدادية ، لأنها تعني في النهاية " موت الاب / الراعي / البطريرك " ، او " نهاية الاب / البطريرك " ، ومن خلالها تنتشر مشاعر سوداء حول نهاية الحياة ، والرعاية الابوية ، والحنان الابوي ..
تتعلق الجموع بأهداب الزعيم ، عندما يعلن عزمه على الاستقالة ، ويعتبرون ذلك فاجعة ، لا تعادلها الاّ نهاية العالم ، او قيام القيامة .
واذا كان من مقتضيات الديمقراطية ، التجديد في البنيان الفكري ، وفي الأفكار ، وتداول السلط داخل الحزب نفسه .. فان الحزب يجد نفسه ممزقا بين متطلبات الديمقراطية ، وهي متطلبات عقلانية ، وبين البنية السيكولوجية للعلاقة المزدوجة القائمة بين الرئيس الزعيم ، والأعضاء .
وهذه الاحروجة ، لا يمكن ان يحلها الاّ الموت كرحمة ، لأنه ينزل على الجميع كقدر لا مرد له . وهكذا يبدو ان الموت وحده ، هو الكائن الديمقراطي الوحيد في الدولة السلطانية العصرية ، وذلك بمعنيين . أولهما انه اعدل الأشياء قسمة بين الناس ، وثانيهما هو الحل الديمقراطي الوحيد ، لإمكان تجدد الديمقراطية الحزبية .
1 ) تغلب ( المشروعية التاريخية ) على المشروعية العقلانية ، والزمن على العقل ، والماضي على الحاضر .
( المشروعية التاريخية ) ، وهي مشروعية طغيانية ، واستبدادية ، تستند الى اسطورة سياسية ، تشكل العمود الفقري للأيديولوجية الحزب : المقاومة ضد الاستعمار ، وراثة السر السياسي ، والأيديولوجي ، والتنظيمي للحزب من الجيل السابق ، وعلى وجه الخصوص من الرئيس السابق ، مما يجعله رمزا للاستمرارية . فالماضي والتاريخ ( السلف ) ، حاضر هنا بقوة على حساب الحاضر المتجدد . انه انعكاس بدرجة او أخرى ، لحكم الماضي ، وسلطة الاسلاف ، والاجداد ، وسيطرة الأموات على الاحياء .
2 ) هيمنة النظام الابوي / البطريركي في المجال السياسي . فهذا النظام يعيد انتاج نفسه عبر العائلة ، وقيمها ، وتراتباتها ، وسلطاتها ( مافيا الكامورا ) .. وعبر التنظيمات السياسية ، وهي أيضا بتراتباتها ، وسلطاتها ، وقيمها .. فالحزب مثل السلطان الذي يحكم السلطنة ، هو عائلة كبيرة ، ورئيسه هو الاب السياسي للحزب ، ومناضلوه هم ابناءه البررة ، له عليهم حق الطاعة ، والامتثال ، والولاء ، والاصغاء ، والاحتذاء ..
3 ) هيمنة الشخصية النموذج ، والمثال ، والكاريزما ، والشيخ الملهِم والملهَم ، الذي تستمد منه البركات ، وتلتقط من أقواله الحكمة ، ومن توجيهاته النعمة ، لا مثيل له ، ولا راد لرأيه ، ولا مجادل لقوله ، له السلطة ، وله الحمد ، والشكر ، والأمتان ببقائه على رأس الحزب .
أليست هذه الحالة السيكولوجية ، تعبيرا عن انّ ( المناضل ) لم يُفطم ثقافيا ، ولم تنضج لنفسه شخصية مستقلة ، ذات حس نقدي ؟
أليس كل ذلك تعبيرا عن ضمور الحس النقدي ، وفضيلة الاستقلال الشخصي ، وعنوانا على انخفاض درجة العقلانية السياسية ، على الرغم من الشعارات واللاّفتات ؟
وبالنظر الى قوة الوشائج النفسية ، السلطوية العميقة ، التي تشد كل عضو الى الرئيس الزعيم ، فانه من العسير على المناضل ان يكسر هذه الاغلال السيكولوجية ، ويتمرد على السلطة الحزبية ، ممارسا عملية القتل السياسي للأب / البطريركي Le parricide politique .. وإذا ما وُفّق الى امتلاك مثل هذه القدرة ، فيكون عليه ان يعي قانون التكرار التاريخي ، المتمثل في الطابع القدري لاستبدال أب بأب / بطريرك ببطريرك .. ومع ذلك يظل من مظاهر الحداثة السياسية ، الانتقال من سلطة الشخص ، الى سلطة المؤسسة ، ومن الإلهامات الفردية ، الى القرار العقلاني الجماعي ، الى نحو ثقافة سياسية ديمقراطية .. يغدو معها القتل السياسي للأب البطريرك امرا مشروعا ، إن لم يكن واجبا ، وفرض عين ...
لقد انقرض الأب البطريرك الحزبي ، وانقرضت الأحزاب والنقابات البطريركية .. و لا يزال البطريرك السلطاني ، والدولة السلطانية ، وحده اصل ومصدر الحكم .. وهو حكم شمولي يجعل من السلطان البطريركي ، سلطة خاصة ، تكتسب مشروعيتها من الغيب ، ومن الانتساب الى النبي .. وهذا مصدر قوتها ، ومشروعية نظامها في مجتمع تقليدي ، ومحافظ ، وجاهل ، الذي يجعل منها سلطة استثنائية خارقة ، تُرتب في مرتبة اعلى من الدستور الممنوح ، الذي شرّع فيه السلطان العصري ، وليس الحداثي ، السلطات التي تجعل منه القوة الضاربة ، والباقي وبخلاف السلطنة التقليدانية القديمة ، هي مجرد مستملحات يتعامل معها الأب البطريركي ، السلطان ، الأمير ، الإمام ، والراعي الكبير .. بحسب الحاجة ، والمنفعة ، والضرورة التي تبيح المحضورة .. ربط مغربية الصحراء ، بتوقيع اتفاقيات بوليسية ، وعسكرية مع الدولة الصهيونية التي ابتلعت كل الأراضي العربية المحتلة ، وهوّدت القدس التي أصبحت عاصمتها الموحدة ، والابدية ...
سيستمر النظام البطريركي ، الابوي ، السلطاني ، استمرار بقاء المغرب ، موحدا ارضا وشعبا .. واي خلل يصيب هذه الوحدة ، سيصيب قوة البطريركية السلطانية .. يعني نهاية السلطنة ، ليس لصالح الملكية ، ولا لصالح الجمهورية .. بل ستكون النهاية بالدخول الى الاناركية ، وفي احسن الأحوال ، وفي غياب جنرال من وزن Francisco Franco ، ستكون الخاتمة بنظام فاشي اسلاموي ، سيجسد للبطريركية الاسلاموية في ابشع صورها ، باسم اسلام حركي ، يركز الحكم في يد بطريرك جديد على منوال المرشد الروحي ، او الفقيه المكبوت المتزمت ، او اقلية جماعة اهل الحل والعقد ... وسكان المغرب لن يتحولوا يوما الى مواطنين او الى شعب . بل ان وضعهم سيستمر كرعايا في خدمة فقهاء الإسلام السياسي ، بتأدية الضرائب ، لإغناء اقلية تجار الدين ، أعداء الديمقراطية ، باسم نظام الشورى بين تجار الدين ، وليس مع الرعايا الذين لن يحلموا ان يصبحوا يوما مواطنين ، فأحرى ان يصبحوا شعبا ..
القادم يخيف ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأرمن في لبنان يحافظون على تراثهم وتاريخهم ولغتهم


.. انزعاج أميركي من -مقابر جماعية- في غزة..




.. أوكرانيا تستقبل أول دفعة من المساعدات العسكرية الأميركية


.. انتقادات واسعة ضد رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق لاستدعائها




.. -أحارب بريشتي-.. جدارية على ركام مبنى مدمر في غزة