الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ميكافيلي .. الرجل المجني عليه

جعفر المظفر

2022 / 1 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


ميكافيلي .. الرجل المجني عليه
القول إنّ السياسة هي ميكافيلية بطبعها هو قولٌ لتبرير إرتكاب الخطايا أكثر مما هو وسيلة لتفسير واقعية السياسة. وحتى مع ذلك القول الشائع الذي يحاول النيل من السياسة من خلال جعلها تمر من بوابة الميكافيلية فإن علينا أن نحترس ولا نمشي إلى الفخ بأرجلنا لأن رواد هذا الربط يبتغون الإتكاء على أحد أشهر المفكرين في عالم السياسة وهو ميكافيلي لتبرير دناءة أفعالهم كونها تأتي من باب أن الدخول إلى عالم السياسة يعني حتمية إرتكاب الأخطاء وحتى الخطايا.
إن ميكافيلي، السياسي والدبلوماسي الإيطالي ومؤسس التنظير السياسي الواقعي, والذي ولد في فلورنسا عام 1469, كان من أشهر كتاب فترة النهضة وكان مؤرخأ وفيلسوفاً وإشتهر بكونه أب العلوم السياسية الحديثة, وليس من العدالة أن يُبخس حقه وقدره إلى حد اعتباره أنه هو الذي أعطى تفسيراً للسياسة كونها ميدانا لإرتكاب الآثام والمعاضي, فهو, مع الإعتراف بأن نظريته قد أدت إلى شرعنة دموية الإسلوب من خلال نبل الغاية, إلا أنه لم يشأ بذلك أن يقول إن السياسة هي ميدان لتخريب القيم والإخلاق وإنما أكد على جواز أن يلجأ الحاكم إلى استعمال القوة المفرطة في سبيل تحقيق الهدف السامي.
وأجد أن عالم اليوم ليس كعالم عصر النهضة, على الأقل على صعيد السياسات الداخلية للبلدان الغربية, وهنا فقد ضاقت جداً فرص أن يكون الحاكم ميكافيلياً لأنه بات محكوماً في الداخل بنظم وملتزماً بآليات ومناهج تجعله منسجماً على الصعيدين : الغاية واسلوبها.
واقع الحال أن أمير ميكافيلي الغربي لم يعد موجوداً في الزمن الذي أطلت فيه قيم الحداثة والديمقراطية, كما أن ميكافيلي لم يعد موجودأً بعد غياب أميره, فالرجل كان قد وضع نظريته يوم كانت إيطاليا مقسمةً إلى إقطاعيات صغيرة محكومة من قبل أمراء صغار, وقد وجد أن بإمكان الأمير الأقوى أن يبني دولة إيطالية موحدة حتى ولو إقتضى ذلك إستعمال اقسى الأساليب دموية لتحقيق ذلك الهدف السامي
لكن وعلى صعيد العلاقات الخارجية لتلك الأنظمة الغربية مع غيرها من شعوب العالم فما زالت السياسة هنا محكومة بالمصالح والمطامح إلى الحد الذي يدفعها لإعتبار المراوغة والتحايل وحتى القمع والإحتلالات العسكرية لازمة من لوازم أمنها القومي. وهكذا نجد أنفسنا أمام أنظمة تحاول تطويع مفهوم السياسة بإدعاء أنها لا تخلو بالمطلق من روحها الميكافيلية, ومستخدمة ذلك في زمن ومكان مختلفين. لقد أبطل التطور الإنساني في البلدان الغربية العمل "داخلياً" بمبدأ الميكافيلة وذلك بحكم التشريعات الإنسانية المتطورة على صعيد حقوق الإنسان والتي تحرس إنسان تلك الدولة من إحتمالات جور الحاكم وطغيانه, وأيضاً فإن علاقات تلك الأنظمة والحكام مع الشعوب الأخرى, وخاصة شعوب العالم الثالث, هي في حقيتها لا تتأسس أبداً على القاعدة الميكافيلية لأنها في واقع الحال غير ملتزمة بمفهوم الغاية تبرر الوسيلة وذلك لغياب الغاية النبيلة في الأصل, ولترابط وساختها مع وساخة الإسلوب الذي يحققها, أي أن الغاية هنا وسخة وليس أسلوبها فقط.
فإذا جاز لنا القول أن ميكافيلي هو مخلوق من نصفين: النصف الذي تشكله الغاية هو النصف السَوي بينما النصف الذي يشكله الإسلوب وهو غير السَوي, فإن هذه الأنظمة الإستعمارية, على صعيد علاقتها, وبخاصة مع شعوب العالم الثالث, هي مخلوقٌ غير سوي بنصفيه الغاية والوسيلة.
وسيدلنا ذلك على عمق التدليس الذي يتكأ على الميكافيلية كذبا ً لتفسير علاقة تلك الأنظمة الاستعمارية مع غيرها من الشعوب. إن الإستعمار بشتى أشكاله العسكرية أو السياسية لا يبتغي خير الشعوب حتى يقال إنه إضطر لإسلوب القمع والقتل وسرقة الثورات والإستيلاء على الأرض سعياً لخدمتها. وفي كل تجارب الشعوب المضطهدة مع الانظمة الإستعمارية فإن هذه الأخيرة كانت وسخة في غاياتها ووسخة في اساليبها, ويقينا فإنه لا توجد رابطة فعلية بين سياسة تلك الأنظمة ومفهوم الميكافيلية, وإن أي محاولة لإختلاق العلاقة هنا هي محاولة تدليسية مخادعة. ومن جانبنا فإننا لن نجد أفضل من الإحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 مثالاً لتطبيق آرائنا هنا, فالقول أن (غاية) الإحتلال العسكري كانت تخليص الشعب العراقي من حاكمه الدكتاتور هو محاولة لأنسنة الاسلوب الظالم بإختلاق غاية نبيلة له, كما أن القول أن الإحتلال قد فشل في إتمام مهمته النبيلة, أي إعادة بناء العراق المتحضر, لا لعجزً في غايته النبيلة وإنما لأن الشعب العراقي هو الذي لم يتعاون معه, هو قول فيه الكثير من التجني, لأن ما فعلته الإدارة الأمريكية كان وسخاً سواء قبل العمل العسكري أو بعده. فإذ كانت الغاية هي تفليش العراق وليس إعادة بنائه فقد حرصت إدارتي كلينتون وبوش على تجميع القوى السياسية المعارضة تحت عنوان معلن هو تحرير العراق وتحت عنوان غير معلن هو إقامة نظام طائفي وقومي محاصاتي ومعادي لكل قيم الوطنية من الألف إلى الياء, ولم يأتِ ذلك الهدف بمعزلٍ عن نوايا صهيونية مصممة بهذا الإتجاه, وعلينا أن نتذكر حقيقة أن الإدارة الأمريكية كانت حينها واقعة تحت هيمنة قوى الصهيونية المسيحية إضافة إلى اليهود الصهاينة أنفسهم من أمثال بول وولفوويتز نائب وزير الدفاع. وأما إتهام الشعب العراقي كونه كان أعاق بغبائه وتخلفه وصول الإحتلال الأمريكي إلى تحقيق هدفه النبيل فهو إتهام جائر ولا يتأسس إلا على سطحية في الرؤى والإستنتاجات.
أما قوى الإسلام السياسي (الإسلاسي) فهي تحاول من جانبها أيضاً الإتكاء على وساخة السياسة و(ميكافيليتها) لتبرير تجاربها الكارثية في الحكم, فهي تدعي أنها صارت وسخة, لا بذاتها أو لذاتها, وإنما لأن السياسة (أجبرتها) على أن تكون كذلك, في حين أنها هنا, كما في حالة الإستعمار وعلاقته مع شعوب العالم الثالث, وسخة في الحالتين. بل نراها هي التي وسخّت السياسة, وقبل السياسة هي التي وسخّت الدين, اي أنها أتت إلى السياسة وهي وسخة تماما كما في حالة الإستعمار, فالسياسة ليست وسخة إلا حينما يمارسها الوسخون وستكون قوى (الإسلاسي) نظيفة ضمن معادلة كهذه إذا جاز لنا أن نقول أن الاستعمار لم يتوسخ إلا بعد أن مارس السياسة, لأن واقع الحال أن الإستعمار جاء إلى السياسة وسخاً وكذلك فعلت قوى الإسلاسي*.
وسنقول: إن السياسة والدين إذا اجتمعا معاً خَرِبا معاً, والأفضل لكليهما أن يبقيا بعيدين عن بعضهما.
وسأقول إن أفضل وسيلة لتخريب الدين هي إدخال السياسة عليه.
وأفضل وسيلة لتخريب السياسة هي إدخال الدين عليها.
وإن قوى الإسلاسي لم توسخ السياسة إلا بعد أن وسخت الدين وأرغمته على وضع قدميه في مضمار السياسة.
إ ذ ليس من العقل أو المنطق أو الحق أو العدالة أن نزج بالدين, الذي يتأسس على مفهوم الالتزام, في دنيا السياسة التي تقوم على مبدأ الحرية والاختيار.
من ناحيته يقوم الدين على ثقافة المقدس ومنهج التقديس وعلى فلسفة المطلق وفكرة الثابت وعلى التسليم بالغيب. أما السياسة فهي معكوس كل ذلك, فلا مقدس فيها ولا تقديس لأنها إنسانية التصنيع ولا ألوهية فيها, وهي أيضا علم المتغيرات وليست علم الثوابت, وهي تتعامل مع المنظور لا مع المُتَخَيل, وحتى الأخلاق فهي حالة متحركة وخاضعة للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومتأسِّسة عليها في وقتها.
إن الفصل بين الدين والسياسة، فيه احترام للدين وما يرتكز عليه من قيم وأخلاقيات، وفيه أيضاً احترام للسياسة التي تستند إلى مبادئ المواطنة والحق في الاختيار والحرية في القول واحترام القانون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الإسلاسي : الإسلام السياسي, وهو هنا تعبير مستنبط من قبل الكاتب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات القاهرة بين الموقف الاسرائيلي وضغط الشارع؟


.. محادثات القاهرة .. حديث عن ضمانات أميركية وتفاصيل عن مقترح ا




.. استمرار التصعيد على حدود لبنان رغم الحديث عن تقدم في المبادر


.. الحوثيون يوسعون رقعة أهدافهم لتطال سفنا متوجهة لموانئ إسرائي




.. تقرير: ارتفاع عوائد النفط الإيرانية يغذي الفوضى في الشرق الأ