الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في عشق امرأة لعوب

أحمد دلول
كاتب وباحث فلسطيني مُقيم في الدنمارك.

(Ahmad Dalul)

2022 / 1 / 18
الادب والفن


قليلا بعد منتصف الليل راودني نَهَمٌ، وكان يتوجَّب عليَّ كالعادة، أن أبوح به على صفحة ما، قبل أن يغادرني أو يبهت فحواه، ولكن شمعتي كانت قد خَبَتْ وانطفأتْ. كان الوقت قد تأخر، ولكني خمَّنتُ بأن جارتي القريبة ستكون مُستيقظة كعادتها، فدلفتُ نحو بابها وطرقته بلطف، ولما فَتَحَتْ الباب، سألتها بترجّي، إن كان ما يزال لديها شمعة موقدة حتى آخذ منها قبسا، لأن ثمة أفكارا مُجرَّدة تحوم حول رأسي، ولا بُدَّ لي من بعض الضياء، لكي أجعلها تتعيَّن بصيغة ما. ابتسمتْ الجارة بِوِد، كمن شعر بهواجس المُبدعين ومعاناتهم في وحدتهم، فدعتني للدخول، ثم أستدارت بِخفَّة لتُحضر شمعتها.

كان قد مرَّ بعض الوقت وأنا جالس أنتظر في بهو الاستقبال، إلى أن رأيتها آتية تتثنى كشابة في مطلع العُمر، وهي ترتدي ثياب إغواء شفافة تستنهض الغرائز إلى حدّ التوثب، وبيدها زجاجة من النبيذ الفاخر. قلتُ لها: ما هذا؟ فأجابت بغنج: ألستَ أنت القائل: "لا يُشعل النار إلا الخمرة والنساء" أليس هذا ما كتبته في كتابك الذي أهديتني إياه؟ وتحت وطأة الذهول، الذي كان يحمل دائما طابع الدهشة المُتجددة، على الرغم من كثرة التكرار، قلتُ: بلى… ثم أخذتُ القبس ومضيتُ بصمت.

في اليوم التالي استيقظتُ على صوت طَرْق قوي ومُتكرّر على بابي، فنهضتُ وفتحتُ الباب، وإذ بشرطي يقف مُنتصبا أمامي، برفقة كلب بوليسي. سألته: ما الخطب؟ أجاب بأن الجارة قد قدَّمت شكوى، بأنني قد اقتبستُ من شمعتها نارا، من دون موافقتها. أقسمتُ له بأن الجارة هي التي قرَّبت شمعتها من شمعتي، ومنحتني القبس برضاها وموافقتها. أجاب الشرطي: نعم، أدري، أدري، لقد فعَلتْ معي أنا أيضا نفس الشيء مرارا، ولكن لا بُدَّ من تطبيق القانون. قلتُ له بدهشة: ماذا يعني هذا؟ فأومى بيده للكلب لكي يدخل إلى الشقة، وقال لي: أبقيه عندك، ثم غمز لي باسما وانصرف.

بينما كنتُ أنا والكلب جالسين نتعارف، لكي يتفهَّم كل منا طباع وحاجيات الآخر، بغية محاولة إيجاد وسيلة للتعايش فيما بيننا، وللتدرِّب على تبادل أدوار النباح، سمعتُ طرقا خفيفا على بابي، ولمَّا فتحته، رأيتُ كيسا مُعلَّقا على مقبض الباب، وكأن هناك من تركه وانسلَّ خلسة. فتحتُ الكيس، وإذ به شموع مُلوَّنة مُزخرفة القالب، وقصاصة ورق زهرية يفوح منها عطر نسائي يتغلغل إلى قاع الحواس، ومكتوب عليها عبارات غرامية تلامس شغاف القلب. لقد كان عطرها الذي لا يُمكن أن يُخطئه أنفي، وكانت العبارات مكتوبة بخطّ يدها. ولكن أكثر ما أثار سخطي، هو أنها قد تركت لي حلما، عثرتُ عليه في زاوية الكيس. يا لوقاحتها، ماذا أفعل بحلم جديد، وقد تكدست الأحلام فوق هامتي، حتى بتُّ أترنح تحت عبئها كالمخمور؟ وماذا أفعل بكل تلك الشموع المُطفأة، إذا كان اقتباس النار قد أصبح جنحة يُعاقب عليها القانون؟ ثمَّ ما هذه الألاعيب الصبيانية؟ وما الذي تُريده مني تلك الغاوية؟

من جديد؛ بينما كنت مُختليا بنفسي في آخر الليل، غافلتني شمعتي وانطفأتْ، فعاودني الظلام، في وقت كان لدي فيه نَهَم مُلِحّ للبوح، لا يحتمل التأجيل. فكّرتُ في البداية أن أكرّر حماقاتي وأطرق باب جارتي القريبة، ولكني سرعان ما خرجتُ للتجوال وحيدا في الظلام، ومعي شمعة مُطفأة عَلَّقتُ عليها حلما مُؤجَّلا، لعلّي أعثر على مُتنفَّس لنهمي بطريقة ما. كان ثمَّة ساكن في شقَّة مجاورة قد سقط من طابق علوي ومات على الفور. سألتُ الشرطي الذي كان يستعدّ لدفنه، عن ملابسات الحادث. فأجاب: كالعادة؛ لا بُدَّ بانها هي التي قذفت به من النافذة. ثم سألني عن الكلب، فأخبرته بأنه نائم، فتعجب الشرطي مني، كيف أسير بشمعة مُطفأة. قلتُ له: ألا ترى ما حدث لجارنا؟ أجاب: نحن جميعا نسير على نفس الطريق، والمسألة مسألة وقت فحسب، ولا أحد يدري متى يأتي دوره. ثم أردف بابتسامة خبيثة: ولكن مع ذلك فالجميع يُحبُّها، مثلك تماما. أجبته بارتباك: نعم، أنا أحبُّها مثل غيري من عشَّاقها، ولكن لستُ أدري إلى متى، فلم تُسعدني حينا إلا وأشقتني أحيانا. ولكن في الحقيقة ليس لديَّ بدائل أخرى؛ فكلما ظننتُ بأني قد تحرَّرتُ منها، استيقظتُ لأجد نفسي في أحضانها. أجابني ضاحكا: وستبقى تُحبُّها إلى أن يبلى فتيلك. قلتُ له وأنا أتفحص تقاسيم وجهه: ألا تعتقد بأن ما نعايشه معها، هو أشبه بمسرحية عبثية، أو أنه ليس سوى مُجرَّد فخّ؟ فمنذ أن كنتُ صغيرا، كنتُ أسمعهم ينعتونها بالمومس، ولم أفهم حينها، لماذا كانوا مع ذلك، يُقبلون عليها كالبُلَهاء، ثم يجتهدون لإيجاد التسويغات لسلوكها وألاعيبها، داعين لتقبّلها كما هي. مع أنها في الحقيقة مُجرَّد غاوية خائنة وستخذل الجميع في النهاية. قال: هي حقا أستاذة في الإغواء، ولكن من غير المُمكن أن تُبقي أحدا في أحضانها للأبد، فكلما خذلت إنسانا وأسلمته للفناء، استبدلته بمولود، لتتفنن في إغوائه من جديد، ولكن مع ذلك سوف نبقى نحبها حتى الرمق الأخير.

قبل أن يمضي، التفت الشرطي إليَّ قائلا: يبدو أن كلانا سيسير في نفس الطرق العبثية من جديد؛ فها أنا ذاهب لدفن جثَّة أخرى. أما أنت، فاسلك الطريق ثانية نحو الحياة، واطرق بابها بلُطف، لكي تُشعل لك شمعتك، قبل أن يستيقظ الكلب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض