الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


واثق الجلبي في رواية - منطق الطير والشيخ يوسف - استدراك الامل بجرعة سرد

واثق الجلبي

2022 / 1 / 24
الادب والفن


قراءة / باسمة العوام
إنك.. عندما تقرأ "واثق الجلبي " ، عليك ان تدرك انك في رحلة إلى عوالم قديمة حديثة مع شخص يغوص في عمق الأعماق ليُخرج جوهرة نادرة فيجعلك تطيل النظر إليها والتمعّن في أصلها وفصلها وكيف كانت ، أين، لماذا ، من القادر على تقييمها ، وهل لها سوق في حاضرنا ، وكل التساؤلات التي تخطر لك على بال . تماماً كما يحدث وأنت تقرأ هذه الرواية " منطق الطير والشيخ يوسف " ( بل هما روايتان في رواية ) ، حيث يحملك الكاتب في قطارين على سكتين متوازيتين ؛ قطار قادم من الماضي البعيد البعيد يحمل " منطق الطير " وعلى متنه ( السيمرغ ، و الطاووس الراحل إلى مملكته ) ، والآخر راحل من الحاضر نحو الغد يحمل منطق البشر وتأثّره بما هو موروث أو بين ماكان ومايكون وسيكون ، وعلى متنه ( الشيخ يوسف وتلميذه حسن الذي يتابع على خطاه ) . فمن هو" السيمرغ" ؟ ومن هو" الشيخ يوسف " ؟ إلى أين يأخذانا ؟ في أيّة محطة يتقابلان؟ وكيف يختلفان وعند ايّ منعطف يفترقان؟ وماذا في جعبتهما؟ في أي زمان واي مكان يعيشان ؟ وماذا أراد الكاتب من هذا التجوال وأيّة أفكار وصور وأحداث نقلها ؟ وفي أية محطة انتهى ؟!
قطاران يتقابلان في تسع محطات كانت على التوالي بداية من "منطق الطير" ثم" الشيخ يوسف" ( ١ عروج// يقابلها ١ جديد قديم _٢ شق الصدر // ٢ مجاز _ ٣ آدم // ٣ بابل و بغداد _ ٤ الشكر واليقين // ٤ موسى و الخضر _ ٥ إدريس// ٥ لماذا لم يكتب الإمام كتاباً ؟ _ ٦ نوح// ٦ الحجاب _ ٧ سومماتو// ٧ الماء هو النقطة _ ٨ نوافذ// ٨ الحب يطرق باب التلميذ _ ٩ طير إبراهيم // ٩ أصبر بنيّ ) ... أما المحطة العاشرة ( البداية من جديد ) فكانت للعودة من جديد ؛ وكأن الكاتب أراد من خلالها أن يقول : هي الحياة ، دائرة تدور بنا ، لا نقطة للنهاية فيها .. من حيث ننتهي نبدأ ....
أما البداية فكانت مع الكاتب واثق الجلبي ضمّنها الإهداء لولديه " أرغد " و "يوسف" وفيها يقول : " لم أتصور يوما أنني سألتقي بكائن ألبسه قناعاتي، ولم أتخيل أن رحلتي التي لم تبدأ بعد ستمر باكثر من منعطف جذري، رغم اني لا احب الزراعة في أرض لا أعرف نوع تربتها، لكنني أعيش نزيفا دائم الصراع، منذ الطفولة و أنا أشعر بأن الله قربي، حتى طردت كل صوت يحرمني من العروج......."
" قِيل أن ( أوروك ) كلمة تعني المستوطن فهذا يعني أن العراقي الأول ( آدم ) هبط من السماء إلى المدينة الأولى وهي السماوة واستوطنها ،بعدها فتّشتُ في محبوبتي العربية الوليدة ،فوجدت أن الورقاء هي الحمامة، والعراق حمامة السلام التي طارت من سفينة نوح العراقية الصنع، وجاءت بغصن يانع، العراق الذي خذله الجميع، كان الله معه كما انا، ها قد ألقيت العصا في الظلام، وبما وجدته في الكتب، إلى ابنيّ أرغد ويوسف وهما عيناي......".
ثم تنويه أن النصوص الشعرية الواردة هي للكاتب نفسه وقبل الإبحار بين سطور الرواية لابد من التعرف على ماهية( السيمرغ) ، وهنا نستذكر" منطق الطير " المنظومة الشعرية الرمزية التي نظمها فريد الدين العطار النيسابوري ( المتوفي عام 627 هجري ) والتي زادت عن 4500 بيتاً ، وموضوعها هو البحث عن الطائر الوهمي المعروف ب " السيمرغ "
والسيمرغ : أسطورة فارسية قديمة ويذكرها أيضا الترك والكرد لكن أصلها موجود في التراث الأدبي والأسطوري الفارسي القديم ،لأن ترجمتها بالفارسية( سي مرغ ) وتعني رقم ( ثلاثين ) بالعربية، يقال أن هذه الأسطورة يقصد بها طائر يقطن على الشجرة التي تقي كل البذور وهو في المحيط الواسع على مقربة من شجرة الخلد، ويقال إن المقصود بهذه الأسطورة هو الطيور الثلاثون ورحلتهم قصد الوصول للطائر الإله . يتزعم الرحلة طائر الهدهد الحكيم . وكان العطار قد اقتبس معاني تلك الأسطورة من التراث الإيراني ومن القرآن الكريم " منطق الطير " و " رمزية الهدهد الحكيم " ، وأراد أن يحكي تجربته الخاصة ورحلته إلى جبل قاف من خلال هذه القصة .

فهل أراد كاتبنا أ. واثق الجلبي ، أيضا أن يروي لنا تجربته في البحث في تلك الأساطير وإسقاطها على واقع نحياه وافكار مازالت متوغلة فينا ، وعن حقيقة تلك الأديان والمفاهيم والقوانين التي مازالت تحكمنا ؟ و أن يروي حكاية شعب وحضارة وتاريخ ... والمأساة التي وصل إليها ؟! ، ففعل كما فعل "جورج أورويل " عندما كتب مزرعة الحيوان بأسلوب ساخر خيالي ليعكس نظرته النقدية في فضح فساد ودكتاتورية الأنظمة السائدة في عصره والأفكار البالية والمبادئ المغلوطة التي حولت الواقع إلى جحيم ؟ .
__ أسئلة كثيرة أجاب عليها الكاتب من خلال رحلة بحث طويلة بين الكتب التاريخية والدينية والإجتماعية والمراجع الفكرية القديمة والحديثة ليقدم كتابا لايضم فقط روايتين بل كل فكرة فيه تروي رواية ؛ ومن ثقافات قديمة وموروثات طبعت المجتمع العراقي وأثرت فيه ، إلى عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي وما آل إليه الواقع وكيف مزقته السياسة والتعصب الديني الأعمى والزيف والخداع الذي أعمى البصر والبصيرة . الواقع الذي عكسه من خلال الشيخ يوسف وتلميذه .
ومن عنوان الرواية إلى عناوين فصولها التي تحمل رمزية عميقة ومجازية رائدة تفتح أبوابها للقارئ ليرحل بخياله وافكاره وثقافته ومعتقداته، متنقلا بين ماض وحاضر ، بين واقع وخيال ، بين أسطورة وحقيقة ، بين شك ويقين، بين جهل وعلم وبين قبول ورفض لما كان وما هو كائن . وبين فصل وآخر وقفة مع الكاتب و فاصل شعري يلخص ما سبق . فنقرأ مثلا :
ص8 ..." أطبق الظلم على عاصمة العالم، أورث المآسي وجرّ ذلك القهر الناس إلى ماهم عليه من الفقر والجوع والخوف من الإقطاعيات الحاكمة والأحزاب المرتشية من الكرخ إلى الرصافة، اختلطت العمائم البيض والسود وكانت بعض أحكامها ومواقفها مرتبطة بما فعله هولاكو أو أشد من ذلك ".
ص9 .." الشيخ يوسف كان إماما في أحد جوامع بغداد رأى أن يترك عالمه بعد أن زيّفه البعض حيث أصبح الدين لعقا على ألسنتهم ولهثوا خلف المال و النساء.....".
ص13..." أيها السيمرغ، ليس لقولك من معنى ولا لكلماتك من جذور وأصول يُبتنى عليها فعندما يقول البشر : الأسد ملك الغابة، ماذا جنى الأسد ؟ وعندما يقولون: أن الحمار غبي ، ماذا جنى الحمار؟".
ص38 .." أيها السائل ، هناك الكثير من الأحاديث والمرويات التي دخلت إلى الإسلام لا تثبت عقلا ولامنطقا وسأبين لك الأوجه المتهافتة فيما ذكرت .".
ص57.. نص شعري ..
" قل للسفينة أينه الربان هل تاه أم في أمره حيرانُ
لا القلب في أضلاعه متيقنٌ أن الذي يعنيه ذا إنسانُ
وتحيرت كل القلوب فإذ رأت موجة تحار بمده الشطآنُ
ياراكبا ظهر المياه تكبرا في فتنة زلت بك القدمان..."
ص62 ..." النور بيّن ، والظلام واضح يشتركان في الجسد ، يصرعانه، ينهكانه، فمن الطارد ومن المطرود؟ هل هناك فرصة للاتحاد؟ العين تبصر بالنور والقلب بيت الله يرى بالبصيرة فإذا انطفأت مشكاة العين شعلة القلب تبقيك حيا ، فإذا انطفأت شعلة القلب فمن يريك الطريق ؟".
ص83 .." بنيّ حسن : اعلم أن ظلم اللسان ومرارة الكلمات مرتهن بالنفس، فإما أنك مستخف بالآخرين ولا تقيم لهم أي اعتبار وإما أنك لاتعرف كيف تقود نفسك فتقودك وهي التي تستخف بك ."
ص84 .." ففي التراب المعجون بالماء، سر الحياة ، وفيه الروح ،به تخضر الأشجار تنبت البذور، فالإنسان يابنيّ ، أرض متحركة، بل كون فسيح، فيه المعادن الثمينة ، ولا يتأتى ذلك لبقية المخلوقات، لذا فالإنسان محسود٣من إبليس وأتباعه ومغبوط من الملائكة المقربين ، ولم يّطوى هذا العالم إلا بالإنسان، وهي كرامة ومنّة وفضل ورحمة من الخالق الجليل. "
ص85 .." وهنا بدأت سومماتو بالكتابة من وصايا الطاووس في رسالته التي دونتها الحمامة الحكيمة.
سقف البيت لن يعيش الأبد والوجوه المتغيرة يخالها الناظر ثباتا وهي قمة إثارة التغيير ، الطين تلك المادة التي تظهر الحقائق، لم يعد الطريق نفسه، تزاحمت الصور وتناثرت الأوراق فضاع العدد الأكبر من الخلق ولم يدركوا أهمية الصباح الحقيقي ،فالمصابيح الألف لن تجلب النهار .".
إلى النهاية ، حيث يتسبب الطاووس باندحار السيمرغ وتمرد الطيور عليه والعودة لحياة جديدة . فينهي الكاتب بهذه الأبيات:
ص89 ..
" سيأتي الموت حتماً فانتظره وقل ياموت مالك قد مللت
فلي في رسم وجهك عين شمس تناهى ضوؤها لما كملتُ ".
خاتمة ...
إذاً .. لم تكن هذه الرواية نبشاً في ذاكرة التاريخ ، أو مجرد سرد لأحداث تاريخية وآنيّة ، وتحولات طرأت على أرض العراق وحضاراتها المتعاقبة ، وليست قصصا عن الأنبياء ونشأة الأديان وانقسامات طوائفها وتطاحن شعوبها، أو خيالية تروي الأساطير والأوهام . هي موسوعة ثقافية و رواية اجتماعية تعكس الدعائم الأساسية التي يقوم عليها المجتمع والروابط التي تربط أفراده ، ومنظومة القيم والمبادئ الدينية والأخلاقية والفكرية والسياسية التي حكمته منذ بدء التكوين و تحكمه اليوم في عصر التكنولوجيا والتطور والانفتاح وما يتأثر ويؤثر به البشر ؛ قدمها كاتب مبدع وباحث متميز مستخدما ثقافته وابحاثه ومواهبه واساليبه الخاصة في السرد كالشعر والنثر وقصص الأنبياء مستشهدا بآيات من القرآن الكريم ؛ وأساليب تقليدية كالحوار والوصف والتقرير والشرح . ومن خلال أسطورة السيمرغ و شخصية الشيخ يوسف ، استطاع وبكل مهارة الإدهاش والتشويق حَبكَ الأحداث ودمجها بزمكانية حقيقية نقلتنا من ماض بعيد ، من بابل العراق مهد الحضارات إلى أهرامات مصر، والهند والصين وغيرها ، إلى حاضر الوطن العربي وواقعه المؤلم وتلك الموروثات التي أثرت عليه وماتأثر به من تطور وحداثة رفضها البعض كما فعل حسن تلميذ الشيخ يوسف عندما رفض عام التواصل الاجتماعي والفيس بوك .
وكما قال ابن رشد :" الله لايمكن أن يعطينا عقولاً ، ولايعطينا شرائع مختلفة " .
وقول لميخائيل نعيمة :" إنما الدين هدف وطريق " و " محبة لا تعيش باسم مستعار " .
هكذا قدم الكاتب عمله بإسقاطات فكرية ضمن موروث تاريخي وديني بحث عنه في كتب التاريخ والأساطير والأديان وعلى إيقاع مؤثراتها قدم نفسه من خلال شخصية الشيخ يوسف الذي اعتزل محيطه وعكف على عبادته مقدماً أفكاره وقناعاته ومبادئه لكل سائل وطالب معرفة كتلميذه حسن .
وبالنهاية وكما يقول فيكتور هوجو:" بعض الأفكار صلوات .... هناك لحظات تكون فيها النفس جاثيةً على ركبتيها مهما كان وضع الجسد ". والنهاية التي أرادها الكاتب " البداية من جديد " من حيث بدأ بقوله :" إن الله مع العراق كما أنا " .
الرواية صدرت عن دار و مطبعة العصامي للطباعة والنشر عام 2022 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة