الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المفاعيل الكونية لاتفاقيات تحرير التجارة العالمية

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2022 / 1 / 25
الادارة و الاقتصاد


حوار أجراه فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن مع مصعب قاسم عزاوي.

فريق دار الأكاديمية: ما هو رأيك بمنظمة التجارة العالمية ومفاعيلها على الدول النامية؟

مصعب قاسم عزاوي: منظمة التجارة العالمية World Trade Organization هي الوريث المباشر للاتفاقية العامة بصدد التعرفة الجمركية والتجارة، والتي تعرف عموماً باتفاقية الجات General Agreement on Tariffs and Trade (GATT)، والتي ولدت أساساً في العام 1947 كجزء من الخطة الغربية لإعادة نَظْم الاقتصاد العالمي عقب خمود أوار الحرب العالمية الثانية.
وهي النموذج الذي تم البناء عليه في عدة اتفاقيات مشابهة لها على المستوى الكوني من قبيل اتفاقية التجارة الحرة في أمريكا الشمالية North American Free Trade Agreement (NAFTA) ، واتفاقية الشراكة عبر الأطلسي للتجارة والاستثمار Transatlantic Trade and Investment Partnership (TTIP) والتي لا زالت في طور المفاوضات التي لم تكتمل بعد.
والعنصر الجامع المانع الأساسي لكل هذه الاتفاقيات هو إصرارها المتعصب على إعلاء شعارات تحرير التجارة وإلغاء القيود على التبادل التجاري على المستوى العالمي. وهي أهداف تحققها من الناحية النظرية قد يجلب منافع جمة على المجتمعات المتشاركة في مشروعها. ولكن الواقع يشي بعدم تحقق أي من تلك المنافع بسبب الآلية الداخلية التي يتم تعريف وتفسير مدلول تحرير التجارة العالمية بناء عليها في منظور تلك الاتفاقيات. وهو منظور يستند أساساً إلى حق «مقدس» للأقوياء في اختراق وتحوير واستغلال اقتصادات الفقراء دون قيد أو شرط، بالتوازي مع حق لا يقل في «قدسيته» عن ذلك الأخير يتمثل في حصر حق حماية الإنتاج والصناعات المحلية بدول الأقوياء التي تقوم أساساً بتفصيل الشروط والتعريفات لمصطلحات ومفاهيم وآليات تحرير التجارة وتمطيطها بحيث تصبح مفرغة من معناها الأصلي، ومحورة لتخدم بشكل شبه حصري مصالح الأقوياء الذين لا لجام يمنعهم من تطبيق أي إجراءات استثنائية لحماية نتاجهم المحلي إن اقتضت الضرورة ذلك، بالشكل الذي تفعله الدول القوية بشكل يومي حينما تهدد بإغلاق أسواقها في وجه نتاج دولة أخرى ما لم تقم تلك الأخرى بالاستجابة إلى متطلبات تلك الأولى في مخالفة صريحة لجوهر ومبدأ حرية التجارة العالمية. وذلك كله بالتوازي مع دأب الأقوياء على تخليق ثغرات قانونية وتعريفية دائماً في تلك الاتفاقات يتمكن الأقوياء من خلالها إفراغ الاتفاقية من كل مضمونها فعلياً، وإبقائها سارية فعلياً فقط على دول الفقراء المستضعفين. وأحد أهم الأمثلة على ذلك هو عدم اعتبار دعم الإنتاج العسكري من قِبل الدولة تدخلاً في حرية التجارة، حيث أن دعم الدول لأي نتاج محلي سوف يؤدي بشكل طبيعي لتخفيف كلفة إنتاج ذاك المنتج نظراً لتحمل دافعي الضرائب جزءاً صغيراً أو كبيراً من كلفة إنتاجه، وبالتالي يمكن لمنتجيه تسويقه بسعر غالباً ما يكون أقل من كلفة إنتاج أي منتج مماثل أو مضاه له يقوم بإنتاجه منتجون آخرون في دول أخرى، وهو ما سوف يعني اندثار أولئك المنتجين من السوق العالمية، واستفراد المنتجين المدعوم إنتاجهم من قِبل دولهم بحصة الأسد شبه المطلقة من ذلك المنتج على الصعيد الكوني. وهو واقع الحال الذي أصبح عليه نتاج المجمعات الصناعية العسكرية في الولايات المتحدة أساساً التي تسيطر على أكثر من 60% من سوق صناعة أدوات الحرب على المستوى العالمي، يردفها دول أوربا الغربية وخاصة بريطانيا بنسبة تصل إلى 31% من ذلك النتاج العالمي. وتلك السيطرة شبه المطلقة ناجمة ليس عن تفوق تصنيعي ذي معنى حقيقي، وإنما فقط لاستثناء دعم الصناعات العسكرية المحلية بأموال دافعي الضرائب في اتفاقية منظمة التجارة العالمية وغيرها من اتفاقات تحرير التجارة الكونية من اشتراطات الالتزام بعدم دعم الصناعات المحلية وتركها للعمل بحرية وفق قوانين العرض والطلب على المستوى العالمي لتتحكم بتكلفة إنتاجها وأسعارها في السوق العالمية.
والمثال الآخر الصارخ على انزياح ميزان العدالة في اتفاقيات تحرير التجارة العالمية المجحفة تلك بحق مجتمعات ودول المفقرين المستضعفين، يتمثل في الإصرار المتزمت من قِبل دول الأقوياء على تحرير القطاع المصرفي في دول الجنوب وفتح إمكانية الاستثمار بها للمصارف ومؤسسات الإقراض الغربية، والتي دون شك تتمتع برؤوس أموال أسطورية تفوق قدرات كل القطاعات المصرفية في أي من الدول النامية مجتمعة، وهو ما يعني عند تحققه تمكن تلك المؤسسات المصرفية الغربية من توجيه دفة الإقراض في تلك الدول النامية بشكل يتسق مع أهدافها الثابتة التي لا تتغاير في السعي للربح السريع، والذي أسهل الطرق إليه تعزيز الإقراض في قطاع الاستثمارات العقارية غير الإنتاجية، والذي أدى ويؤدي إلى فقاعات مهولة من ارتفاع أسعار العقارات الجنوني في غير موضع من خارطة عالم المفقرين المنهوبين، بالتوازي مع تصحر في الاستثمارات الإنتاجية ذات العائد المتأخر، والتي تحتاج سنوات عدة لتبدأ في إدرار دخل مادي يسمح بسداد ما تم اقتراضه لتأسيسها، وخاصة في حقل الاستثمارات الزراعية الاستراتيجية التي كان تراجعها وتآكلها خاتمة الواقع المزري لكثير من الدول النامية التي فقدت قدرتها على تحقيق اكتفائها الذاتي زراعياً وغذائياً، مفضياً لاضطرارها للاستيراد من دول الأغنياء لإطعام شعبها، والتي قد يكون المثال المصري التراجيدي أحد أمثلتها التي تفقأ العين و تفطر الفؤاد. وذلك كله بالإضافة إلى تآكل في الإنتاج الصناعي المحلي في غير موضع من جغرافيا الدول النامية، و هو الذي لم يعد يستطيع المنافسة بعد تطبيق وصفات اقتصاد السوق الحر الوحشي المنفلت من كل عقال، وإلغاء كل ضوابط الحماية الجمركية لحماية المنتجات المحلية من تدفق المنتجات المماثلة لها من نتاج المجتمعات الأخرى التي يمكن لها إنتاج نفس المنتجات بتكلفة أقل نظراً لتقدمها الصناعي، أو انخفاض أجور العاملين فيها، وعملهم فعلياً بشكل أقرب للعبودية الصرفة كما هو الحال في الصين والهند راهناً في معامل واستثمارات مملوكة من قبل الشركات العابرة للقارات أو تعمل بشكل شبه حصري لخدمتها، وهو ما يمكنها من بيع تلك المنتجات لاحقاً في السوق العالمية بأسعار أقل من تكلفة إنتاج ذلك المنتج في الدول النامية الأخرى، وهو ما يقود جراء عدم وجود أي ضوابط جمركية لحماية الصناعات الوطنية في تلك الدول النامية إلى وأد إمكانية تشكيل أي قدرات تصنيعية محلية تتراكم بعد سنوات بشكل يسمح لتلك الدول النامية بالانتقال من حالة المراوحة في واقع الاقتصادات الزراعية المتخلفة إلى مرحلة المجتمعات الصناعية القادرة على الإمساك بتلابيب مصدر الثروة الأساسي في العالم المعاصر وهو القدرة على التصنيع والإنتاج الصناعي المتقدم، وهو ما يعني بقاءها وبقاء شعوبها في حيز المفقرين المعدمين بقوة مفاعيل اتفاقيات تحرير التجارة العالمية التي قد يكون من أسمى أهدافها الموضوعية تأبيد ذلك الواقع المزري سرمدياً.
ولا بد أيضاً من الإشارة إلى الإصرار والتركيز في اتفاقيات تحرير التجارة العالمية كلها على ما يدعى «حماية حقوق الملكية الفكرية»، والتي تهدف في جوهرها إلى تأبيد سيطرة وهيمنة الشركات العابرة للقارات واقتصادات الأقوياء على مستقبل وحيوات واقتصادات مجتمعات الفقراء. وذلك يتبدى أساساً في حقلين أساسيين هما أولهما صناعات التقانات الحيوية والهندسة الوراثية، وثانيهما الصناعات الدوائية وخاصة تلك المتعلق منها بالعلاجات الموجهة وراثياً. وعلى الصعيد الأول يتمحور مبدأ حماية الملكية الفكرية في حقل صناعات التقانات الحيوية والهندسة الوراثية حول تمكين الشركات العابرة للقارات من تسجيل حقوق ملكيتها الفكرية لأي مورثة قامت بتعديل أي من المتواليات فيها، وهو الواقع الذي يجرى بشكل شبه يومي في الصناعات الزراعية لأجل إنتاج محاصيل أكثر مقاومة للظروف البيئية وأكثر غنى في كمية المحاصيل الإجمالية. وهو ما يعني أن شيفرة المورثات المعدلة يمكن أن يبقيها من قام بتعديلها سرية إلى ما لا نهاية، وفق قوانين حماية الملكية الفكرية، بتناسٍ عامد متعمد لحقيقة أن الإنتاج الزراعي الناجم عن تلك المورثات المعدلة لا يمكن أن يبقى محصوراً في بقعة جغرافية واحدة، نظراً لأن الحشرات التي تقوم بنقل الأبواغ بين النباتات وإلقاحها لا تعرف الحدود والسياجات التي اخترعها بنو البشر على سطح البسيطة، وهو ما يعني انتقال المورثات المعدلة من أي موقع يتم زراعتها فيه إلى نفس المزروعات التي لم يتم تعديل تلك المورثات فيها بقوة الطبيعة، وهو ما سوف يؤدي إلى تسيد تلك المورثات المعدلة وحلولها محل المورثات الطبيعية غير المعدلة وراثياً بعد أمد ليس بطويل، خاصة إن كان من قام بتعديل تلك المورثات، يهدف إلى تعزيز هيمنته المطلقة على مقادير وحيوات وأرزاق المفقرين، وهي سمة شبه جامعة لكل سلوكات الشركات العابرة للقارات، وهو ما يتم بشكل مخاتل خبيث عبر تحوير تلك المورثة المعدلة لتكون مورثة ذات صفة قاهرة وفق التوصيف الوراثي الكلاسيكي، وهو ما يمكن توطيده مفاعيله أكثر عبر تحوير تلك المورثة القاهرة بشكل إضافي آخر لضمان تأثرها الحصري بنوع محدد من المخصبات والمبيدات الحشرية، أو في حالات شيطانية مهولة عدم التأثر إلا بكميات مضاعفة من مبيدات حشرية بعينها تنتجها نفس الشركة التي قامت بالتعديل المورثي المحمي بقوة قوانين حماية الملكية الفكرية المستبطنة في كل اتفاقيات تحرير التجارة العالمية تحت يافطة تعزيز الإنتاجية، وبإخفاء أهدافها المضمرة في تحويل مورثاتها المعدلة إلى مورثات قاهرة في كل محصول ينتجه البشر توجد فيه تلك المورثة، مما يجعلهم عملياً ملزمين أيضاً بشراء كميات مهولة من المبيدات الحشرية التي ليس سواها من دواء فعال للحفاظ على عيوشية تلك المحاصيل، بغض النظر عن الأثر المثبت لتلك المبيدات الحشرية في زيادة وقوعات السرطان على المستوى الكوني، وتلك قصة أخرى تحتاج لوقت آخر للتفكر في تراجيديتها المأساوية. وذلك التوصيف النظري لمفاعيل قوانين حماية الملكية الفكرية في اتفاقيات تحرير التجارة العالمية تمخض عن واقع عياني مشخص ملموس يتمثل في أن جل إنتاج فول الصويا على المستوى الكوني راهناً هو معدل وراثياً، وكذلك نسبة شبه مطلقة من القمح الذي يزرع في أمريكا الشمالية، بحسب الشيفرة الوراثية التي تمتلكها شركة مونتسانتو العابرة للقارات، والتي أصبحت جزءاً من شركة باير مؤخراً. وهو ما يشي بأن ناتج قوانين حماية الملكية الفكرية السارية راهناً يعني في المستقبل إمكانية التحكم بكل إرادات المجتمعات على المستوى الكوني من خلال التحكم المبرمج بقوتها وكيفية حصولها عليه.
وفي نفس سياق تحقيق الهيمنة على مقدرات ومستقبل وحيوات الشعوب على المستوى الكوني عبر التحكم بمصادر قوتها، يبرز موضوع حماية حقوق الملكية الفكرية لتصنيع الأدوية التي تنتجها الشركات العابرة للقارات بشكل شبه سرمدي، والتي تبدأ بمدة حماية مطلقة لا تقل عن عشر سنوات يمكن تمديدها في حال قيام الشركة بأي تطوير في الدواء الذي تحتكر حق تصنيعه عبر إدراج زمرة طرفية كيميائية إضافية فيه لا قيمة دوائية لها، من قبيل إدراج زمرة طرفية عطرية أو سكرية. وهي الحماية التي تتم عبر حماية المنتج الدوائي نفسه، وليس العملية التي تقود إلى صناعة المنتج، وهو ما يعني عدم السماح للعلماء في مجتمعات الفقراء بالبحث العلمي لإيجاد طريقة أخرى لتصنيع نفس الدواء بكلفة أقل وتقديمه في مجتمعاتها، إذ أن المنتج النهائي الذي لا بد من الوصول إليه محمي بقوة قوانين حماية الملكية الفكرية وقوانين منظمة التجارة العالمية وما كان على شاكلتها. وهو ما يعني في الواقع أن جزءاً كبيراً من الموارد المحدودة في مجتمعات الفقراء سوف ينزح بقوة تلك القوانين الجائرة إلى اقتصادات الأغنياء. و المثال الصارخ على تلك الحدثية الخبيثة الأسعار المهولة لأدوية مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) التي لا بد للدول النامية وخاصة الدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى من شرائها، وهي الدول التي يفتك ذاك المرض العضال بأكثر من نصف عدد البالغين فيها، وهي الأدوية المحمية بقوة حماية الملكية الفكرية، والتي تمنع الشركات الدوائية في الدول النامية سواء في الهند أو الصين أو البرازيل، والتي تمتلك كل منها قاعدة إنتاجية لا تقل في قدرتها الإنتاجية الكمية كحد أدنى عن شركات صناعة الدواء القائمة في دول الشمال الغني، والتي تقوم في الغالبية شبه المطلقة من الأحايين بتصنيع تلك الأدوية المحمية التي تحتكرها بقوانين حماية الملكية الفكرية في مصانع دول الجنوب لتقليل كلفة إنتاجها لتلك الأدوية، وبالتالي زيادة أرباحها المنفلتة من كل عقال، وذلك عبر الاستفادة من انخفاض أجور العمال المظلومين في تلك الدول الذين يعملون بشروط مزرية لا تختلف عن العبودية سوى بعدم ربط العمال فيها بأصفاد حديدية، بالإضافة إلى انعدام أي قوانين لحماية البيئة من التلوث التصنيعي، وجميع تلك الصناعات الدوائية ملوثة للبيئة بامتياز. وهو واقع مؤوف يئد كل محاولات الإبداع والابتكار في الدول النامية، والطموح للبحث العلمي نظراً لتحول كل تلك الجهود إلى جهود لا شرعية في الدول النامية بقوة قوانين حماية الملكية الفكرية التي تمنع الفقراء من الاجتهاد لاكتشاف طرائق أخرى لتصنيع نفس تلك الأدوية، وهو ما يعني استدامة إبقاء القدرات التصنيعية والبحثية في الدول النامية محدودة ومؤطرة دائماً بشكل لا يتجاوز دورها الوظيفي في خدمة اقتصادات الأقوياء الأغنياء وتعزيز هيمنتهم وأرباحهم على حساب حيوات ومستقبل المفقرين المستضعفين في تلك الدول النامية التي لا بد لها من البقاء نامية وفق منظار اتفاقيات تحرير التجارة العالمية إلى أبد الأبدين.
وقد يكون العنصر الذي يتم التعتيم عليه بشكل شبه دائم في وسائل الإعلام المتسيد عند مقاربة حقيقة ومثالب وما قد ينظر إليه من منافع نظرية لاتفاقيات تحرير التجارة العالمية تلك، هو سريتها شبه المطلقة، سواء على مستوى المفاوضات التي تجري بين الدول، والتي يحضرها ممثلون عن دول الأقوياء معظمهم مندوبون عن الشركات العابرة للقارات الحاكم الفعلي في مجتمعات الأقوياء، والذين يناط بهم تحديد مسار تلك المفاوضات، ورسم نتاجها القانوني في اتفاقيات سرية، لا يحق حتى لأعضاء البرلمان المنتخبين في دول الديموقراطيات الشكلية في الغرب الاطلاع عليها بحجة حساسية المفاوضات، والتي لا بد من اطلاع ممثلي الشركات العابرة للقارات عليها وليس ممثلي الشعب المنتخبين في كوميديا سوداء للحال المزري الذي آلت إليه دول الديموقراطيات الشكلية في العالم الغربي. وهو الواقع المخزي الصريح الذي أفصح عن نفسه في مفاوضات اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهاديTrans-Pacific Partnership (TPP) والتي تم إجهاضها فقط بعد تسريب جزء من محتواها السري عبر شبكة ويكيليكس في العام 2016، وهو ما أدى إلى انتفاضة شعبية عارمة في معظم دول الديمقراطيات الشكلية في العالم المتقدم، مما اضطر الفئات المهيمنة للتراجع عنها إلى حين تمكنها من استنباط اتفاقية سرية أخرى تحل محلها في قابل الأيام.
والجانب المخفي من اتفاقيات تحرير التجارة العالمية يتعلق بدورها العضوي كروافع وظيفية للتنسيق المستمر بين الشركات العابرة للقارات لتفادي الاحتكاك فيما بينها والحفاظ على أعلى مستوى من الربحية لكل منها، من خلال تنظيم تقاسمها للأدوار والمحاصصة فيما بينها على الأنشطة الإنتاجية، ومصادر المواد الأولية، وأسواق التصريف، وحتى تقاسم أطوار ما تنتجه فيما بينها، وهو ما يظهر جلياً في واقع صناعة السيارات العالمية راهناً الذي تأتي القطع الأولية فيه من كل حدب وصوب في أرجاء العالم، دون أن تقوم الشركة المصنعة التي تضع شعارها على مقدمة أي من تلك السيارات بتصنيع تلك السيارة من ألفها إلى يائها. وهو ما أفضى إلى شكل من أشكال الحكومة الكونية التي يتربع على عرشها مدراء ومندوبو الشركات العابرة للقارات التي تمتلك مفاتيح الاستثمار، والتمويل، والإنتاج والتصريف على المستوى الكوني، على حساب تآكل سلطات وقدرات الحكومات المحلية على التدخل في ذلك لتضاربه بنيوياً ووظيفياً مع اشتراطات وقوانين تحرير التجارة العالمية التي وقعت عليها تلك الحكومات، وهو ما يؤدي في المآل الأخير إلى حت وتعرية كل طموحات تحقيق الإصلاح وتأصيل أي ديموقراطية حقيقية عبر صندوق الاقتراع الذي يمثل الحصن الأخير للديموقراطية الشكلية على نهج دول الأقوياء، إذ أن المشرعين والحكومات التي يمكن أن تنتج عن ذلك الصندوق مفرغة من إمكانيات الفعل الحقيقية على الصعد التي تمثل عصب حياة المجتمع وعيوشيته، والمتمثلة في قوننة وتنظيم وتوجيه الإنتاج وتوزيعه في تلك المجتمعات، بعد أن تم التخلي عن تلك السلطات لتصبح في يد الشركات العابرة للقارات وأذنابها على المستوى الكوني بقوة الاتفاقات الدولية لتحرير التجارة العالمية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من القوانين المحلية في كل الدول الموقعة عليها، والتي أصبحت بنتيجة ذلك دولاً مفرغة من دورها الأساسي المناط بها اجتماعياً و اقتصادياً لترقية حياة مواطنيها وضمان أمنهم وصحتهم ومستقبلهم وقت المبدأ النفعي (Utilitarianism) الذي يمثل النهج الفكري الذي تتغنى به كل حكومات دول الديموقراطيات الشكلية، بعد أن تخلت عن مفاتيح الحل والعقد في مجتمعاتها إلى مندوبي وممثلي الشركات العابرة للقارات عبر توقيعها على اتفاقيات تحرير التجارة العالمية تلك، وهو ما سوف يفضي بشكل طبيعي لتعزيز هيمنة الشركات العابرة للقارات على الاقتصاد العالمي، إذ أن سيطرتها بقوة اتفاقيات تحرير التجارة العالمية على مفاتيح الحل والعقد والإنتاج والتخطيط والتوزيع والاستثمار في جل اقتصادات المعمورة، معزول عن أي قوة تأثيرية من قبل المتأثرين بقرارتها في تلك الأحياز، حيث أن أياً من تلك الشركات لا يخضع لتأثير القوة النظرية لصناديق الاقتراع، ولا يمكن للفئات الشعبية التهديد بحجب الثقة عن أي من تلك الشركات أو ممثليها، كما يمكن أن تفعل ذلك نظرياً مع ممثليها المنتخبين بقوة صناديق الاقتراع إلى برلماناتها وحكوماتها التي أصبحت شبه مفرغة من قوة الفعل والتأثير، وأصبح تأثيرها العياني المشخص محصوراً في تسهيل عمل الشركات العابرة للقارات وضمان تدفق أرباحها، وإلا تم اتهامها ومقاضاتها بقوة اتفاقيات تحرير التجارة العالمية، بجرم مخالفة وإعاقة التجارة الحرة، وفي محاكم خاصة عابرة للقارات أيضاً، و لا تخضع للقوانين المحلية في أي من الدول، وأحكامها نهائية غير قابلة للاستئناف والنقض كما هو الحال في نهج التقاضي في المحاكم المحلية؛ وهو ما تجلى تراجيدياً في مقاضاة شركات التبغ الأمريكية لغير حكومة دولة نامية كما كان الحال في جنوب أفريقيا وتايلند وترينيداد لمنعها من الترويج للتدخين والسجائر في دولها ووسائل إعلامها باعتباره مخالفة صريحة لقوانين حرية التجارة العالمية التي يبدو أن خلاصتها المثفلة هو موات بطيء لكل المستضعفين المقهورين في أرجاء الأرضين، وأرباح أسطورية لا تتوقف عن التدفق إلى خزائن الشركات العابرة للقارات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الجمعة 26-4-2024 بالصاغة


.. أمين عام -الناتو- يتهم الصين بـ”دعم اقتصاد الحرب الروسي”




.. محافظات القناة وتطويرها شاهد المنطقة الاقتصادية لقناة السو


.. الملاريا تواصل الفتك بالمواطنين في كينيا رغم التقدم في إنتاج




.. أصوات من غزة| شح السيولة النقدية يفاقم معاناة سكان قطاع غزة