الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عمنا نجيب.. نحبك كثيراً

منهل السراج

2006 / 9 / 3
الادب والفن


كنت في الثانية عشرة حين دخلت إلى البيت ورميت أمي بورقة علاماتي الكاملة، فتحتها ثم غنت فرحة: الأولى، الأولى، الأولى.. ياناس صفقولا. ابتسم أبي راضياً. وفي المساء أحضر هديته، شوالاً من القنب.
نظرت في الكتلة السمينة والمربوطة، محاولة توقع مافي قلبها. لم يكن في ذلك الوقت ألعاب ضخمة تهدى إلينا، ومن غير الممكن أن يكافئني بشوال من الفاكهة مثلاً أو عرانيس الدرة. فكرت وفكرت دون فائدة، لم أحزر ولم يسعفني حدسي.
صعد أخي إلى الكنبة فك الربطة ورفع الكيس ثم قلبه، وأفرغه دفعة واحدة.
هبط قلبي مع سقوط الكتب. روايات وكتب فلسفة وقصص أطفال وكتب الألغاز بمغامريها الأربعة وكتب الألغاز بمغامريها الخمسة، وطبعا كلها كتب مقروءة وليست جديدة. كان أول ماشدني من تلك الكومة، غلاف "قصر الشوق". تناولت الرواية وهربت إلى غرفتي غير عابئة بنداء أمي كي أساعدها في نتف الملوخية. قرأت وقرأت وكم كنت متباهية بنفسي أني أقرأ قصص زنوبة المحرمة، وبعد أن قطعت الكثير منها، جاءت أختي وبيدها "بين القصرين"، قالت بسخرية: عاملة حالك فهمانة؟ ماتقرأينه جزءاً ثانياً لهذا. وأشارت لما بيدها.
تضايقت لأني لم أكتشف فوراً أني في الجزء الثاني، وتضايقت لأن قلبي انخلع أنها سبقتني إلى تناول الجزء الأول من الثلاثية.
أجبت بلااكتراث مفتعل: لم تعجبني روايات نجيب محفوظ لن أكمل القراءة.
قهقهت أختي، ثم ناولتني "بين القصرين" ومضت. شربت الثلاثية قبل أن ينتهي موسم الملوخية الخضراء. وكانت صيفية هائلة، كأنني نهضت بعمري سنين عديدة.
ظل أهل الثلاثية يعيشون معي، وظلت القاهرة المدينة التي في الثلاثية.
بعد أكثر من عشرين سنة، حان وقت زيارة القاهرة. حين صعدت إلى الطائرة، كنت بحال من اللهفة شديد لرؤية الحارات، التي عرفتها من الثلاثية.
استدرت إلى صديقتي الجالسة بجانبي، أوشكت أن أقول: أخيراً سأرى قامة سيد أحمد عبد الجواد ووجه أمينة المطيعة ذا الشفاه الرقيقة... ثم تذكرت أن هؤلاء الأشخاص مجرد أبطال من خيال الكاتب. أمسكت لساني واستدرت لمراقبة السماء تحت الطائرة. ومن جديد قفزت قهقهات زنوبة الفاجرة فاستدرت لصديقتي لأخبرها أن أول مشوار سيكون إلى حارة قصر الشوق. ثم أمسكت نفسي، من جديد، ورحت أحدق في البياض السميك قلقة من هذه الهجمة العنيفة من عوالم أدب نجيب محفوظ... داهتمني ابتسامة كمال الساخرة، وحب فهمي على سطح البيت لمريم بنت الجيران، وأرستقراطية عايدة وفيلا عايدة والشبان الأربعة..
سرحت تماماً ورحت أبتسم. تساءلت صديقتي:
ـ هل تخفين أمراً ما؟
كنت أخفي كل الحكايات التي حكاها في رواياته، وأنتظر أن ترى عيني وتلمس أصابعي كل مارواه وحدثنا عنه.
لكن حين وصلت إلى القاهرة، وبعد قضاء أول أسبوع في المتاحف والأهرامات، وتأمل المراكب.. لاأنكر أني من شدة عشقي للنيل راودني شعور وسواسي لحظي أن أرمي نفسي فيه. لكن لم أعثر على أي من أبطال الثلاثية ولم أر أي حارة من حاراتها ولانافذة من نوافذها ولا عربات خيولها ولاعوامات غوانيها.. ولأني فتشت طويلاً عن القاهرة التي أخبرنا عنها نجيب محفوظ. ولم أجد، بت عصبية. وكدت أتهم الكاتب بالكذب علينا.

أمعن نجيب محفوظ في تشكيل دنيا أخرى غير الدنيا. وجمح في الخيال حتى توهنا ودوخنا. ولم يعد يرضينا الواقع الحالي إن لم يهيئه لنا خيال الكاتب، ويقدمه معجوناً بألم وصدق من طراز شعور هذا الرجل.
بعد أن احتارت ذاكرتي بأمرها، قررت ولوحدها أن ترجع إلى دنيا نجيب محفوظ وأرجعت كل حي إلى مكانه، وأرجعت القاهرة خاصة نجيب محفوظ، فهدأت.
عمنا نجيب محفوظ.
دنياك أجمل بمالايقاس.
اقبل بعض الياسمينات واغف.
نحبك كثيراً








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-