الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عاصفة الصحراء تهب على فرقة المشاة 47

ملهم الملائكة
(Mulham Al Malaika)

2022 / 1 / 27
الارهاب, الحرب والسلام


منذ دخل جلال طالباني ومعه 3 آلاف مقاتل قاطع فرقة المشاة 47 المستقرة قيادتها جنوب مدينة عربت في مصيف سراو، صار الجميع يترقبون زلزالاً مدوياً يعصف بكل ترتيبات المنطقة، ويغير قواعد التاريخ والجغرافية، بل وربما العلاقة الأبدية بين الكرد وبين السلطة في العراق.
صبيحة السادس من آذار 1991، كانت غرفة حركات الفرقة 47 مشاة مضطربة، تتواتر اليها الأخبار من المراصد، بوجود رمي كثيف في مناطق عربت، وقد انسحبت نقاط تفتيش وسيطرة الاستخبارات والأمن والانضباط التابعة للفرقة بسرعة كبيرة إلى مقر الفرقة، وبقيت المراصد المحلية فوق مقر الفرقة تتابع التقدم السريع لأعداد غفيرة من الكرد باتجاه مقر الفرقة سيراً على الاقدام، ومعهم عدد من التراكتورات والسيارات المدنية قادمة من اتجاه عربت تسير على الطريق الدولي - العسكري المؤدي إلى حلبجة، نال باريز، سيد صادق حوض بنجوين ومناطق بيارة وطويلة باتجاه مصيف سراو الذي استقرت فيه القيادة.
وما برحت أن وصلت سيارات تقل عناصر في تنظيمات حزب البعث في عربت والسليمانية، وبينهم الرفيق ج "ولقبه أبو عبير" أمين سر شعبة عربت وقد وصل بسيارته الكورولا الحمراء التي وزعت على أعضاء الفرق والشعب بعد غزو الكويت عام 1990، كما وصل عناصر استخبارات وأمن وشرطة عربت، مسرعين بسياراتهم وأسلحتهم الخفيفة إلى مقر الفرقة، وتدفق الجميع على غرفة الحركات والشحوب يعلو وجوههم، والقلق يسم حركاتهم، والرعب يرين على تصرفاتهم.
بعد أقل من نصف ساعة، بدأ جميع مقر الفرقة ومن لاذ به، بالهروب أمام مئات الكرد نساء ورجالا واطفالاً الذين دخلوا مقر الفرقة سيراً على الأقدام وبسياراتهم، دون أن يطلقوا رصاصة واحدة، بل إن أغلبهم كانوا دون سلاح. خرج قائد الفرقة العميد الركن ح.ج.د إلى الباحة الصغيرة المسقفة خارج غرفة الحركات وقاطع القائد، وقد أحاط بهم حمايته، فأوعز لهم بصوت عال، "افتحوا النار عليهم!"
تمدد أحد أفراد الحماية فوق سطح غرفة الحركات وصار يطلق رشقات متقطعة من رشاشة آر بي كي صغيرة باتجاه الكرد الذين دخلوا الفرقة، فيما تسلق عنصر حماية آخر سطح بهو هيئة ركن الفرقة، وأطلق رمانة آر بي جي 7 باتجاه الوافدين، ما أدى الى توقفهم واستتارهم تفادياً للرمي القادم باتجاههم. وما إن توقف الوافدون عن الحركة، حتى بدأ الجند يغادرون الربايا المحيطة بمقر الفرقة، وهي مسلحة برشاشات رباعية ثقيلة عيار 14.5 ملم، ومدافع مقاومة طائرات من عيار 37 ملم، تاركين كل شيء، ومنسحبين إلى داخل مقر الفرقة راجلين هرباً من حشود المدنيين. لم تكن معركة، ولم يكن هجوماً لمسلحين كرد على قطعة عسكرية، بل كان زحفاً مدنياً عفوياً استطاع منذ اللحظة الأولى تحييد القوة المقاتلة، وهي هنا مقر قيادة فرقة مشاة والوحدات المحلقة بها.
سارع الرفاق وعناصر الأمن والاستخبارات بالانسحاب من مقر الفرقة بسياراتهم مسرعين، وتبعهم عدد كبير من ضباط ومنتسبي وحدات الفرقة، وتشكل رتل سريع من السيارات، كانت تقوده سيارات قائد الفرقة وسيارات الحماية المرافقة له، والتي فتح أحد أعداد رشاشات الدوشكا المنصوبة فوقها النار على الكرد بهدف اعاقتهم. للفرقة باب خروج جنوبي يبتعد نحو كيلومتر عن باب القائد الذي تدفق من خلاله ومن حوله المدنيون الكرد. هذه المسافة اتاحت للركب المنسحب ان يغادر مقر الفرقة ليغذ السير باتجاه الشرق حيث سيد صادق وحلبجة وحوض بنجوين وبيارة وطويلة وصولا إلى الحدود الإيرانية.
الطريق من مدينة عربت المتجه نحو الشرق، يضع مصيف سراو على يسار المسافر وصولاً إلى تقاطع طريق مدينة سيد صادق الى جهة اليمين، ويسافر الطريق باتجاه الجنوب ليصل مدن خورمال، حلبجة، بياره، طويلة. أما الطريق المتجه الى جهة اليسار باتجاه الشمال فيقود الطريق الى مدينة بنجوين وحوض بنجوين.
مع بدأ الحرب العراقية الايرانية فتح الجهد المدني طريقاً جديداُ من مدينة عربت بين السلاسل الجبلية حتى مجمع نال باريز السكني لغرض تأمين ستر حركة الأرتال العسكرية من رصد ونيران المدفعية الإيرانية. في نقطة التقاء الطريق القديم بالطريق الجديد يوجد جسر فوق نهر صغير يجري من أتجاه الشمال الشرقي باتجاه الجنوب الغربي يسمى "روبار".
يشكل مجرى روبار وادياً ضيقاً يمر بين سلسلتين جبليتين، من جهة اليمين سلسلة جبلية قمتها معروفة باسم "قايه" ومن جهة اليسار سلسلة جبلية تعرف قمتها باسم "هرزله". فوق هاتين القمتين كانت توجد فصائل مشاة معززة بمراصد استخبارات انفتحت بعد عمليات عاصفة الصحراء عام 1991 بغرض تأمين، هذه الفصائل من لواء 507 التابع للفرقة 47.
بعد نحو 10 دقائق من السير السريع، وقرب أول مفرق طرق، توقف موكب القائد، ومعه توقف الرتل الطويل الهارب من معركة غير متكافئة ضد نساء وأطفال هجموا بنية الاستيلاء على ما تملكه القطعات. ودار حديث بين القائد وبين القيادات الحزبية والأمنية والاستخبارية ومعهم آمرو وحدات مقر الفرقة حول إمكانية التخندق هناك واتخاذ مواقع دفاعية للتصدي للرتل المدني الكردي الزاحف! لكن الآراء تباينت حول الموضع، واختار الجمع الانضمام إلى الفوج الأول لواء 507 المفتوح على القمم المحيطة بسيد صادق، وحال أن عبر الرتل مضيق سيد صادق، توقف عند سيطرة الفوج الأول لواء مشاة 507، الذي كان يقوده رائد المشاة أ.
صعد القائد وسط عدد كبير من الضباط، وعناصر الأمن والاستخبارات والقيادات الحزبية، يحيط به عناصر الحماية إلى مقر الفوج الواقع فوق قمة حصينة ويحيط به رعيل هاون 120 ملم، وفصيل هاونات من عيار 82 ملم من سرية إسناد الفوج، علاوة على فصيل رشاشات رباعية ثقيلة.
بدأ القائد كلامه بالقول إن انسحاب القيادة بهذه الطريقة مشين، لكنه لم يجد قوة يتصدى لها بل جمعاً من المدنيين المهاجمين يتدفقون على مقر الفرقة دون سلاح، وهذا ما صعّب عليه اتخاذ قرار الاشتباك. ثم سأل القائد آمر الفوج الرائد أ. عن إمكانية صمود فوجه امام أي هجوم يقوم به الكرد.
أجاب الرائد أ. "إن الفوج وباقي وحدات اللواء، بل وكل تشكيلات ووحدات الفرقة مفتوحة باتجاه الشرق للتصدي لتهديد إيراني محتمل في حال تعرض جنوب العراق لهجوم قوات التحالف الدولي، وها نحن نفاجأ بزحف مدني كردي كما وصفه السيد القائد يتجه علينا من خلف ظهورنا، وهو جمع غير مقاتل. بالطبع نحن كفوج مشاة بوسعنا الصمود لأيام بما عندنا من سلاح وعتاد في حال تعرضنا لهجوم، لكن يجب أن نشرع منذ الآن في تغيير أقواس النار التي نستهدفها، وننقل محاور دفاعنا من الشرق إلى الغرب، للتصدي للتدفق الكردي المدني. وهنا اسال الجميع، كم عندنا من الوقت قبل أن تصلنا الجموع الكردية؟"
سارع القائد وضابط ركن الحركات الثاني الرائد ك. بعرض توقعاتهم، التي دعمها الرفيق جمال والطواقم الامينة والاستخبارية مؤكدين أنّ المهاجمين سيصلون الفوج خلال الساعات المقبلة، وإذا اريد الدفاع عن هذا الموضع، فلابد من البدء فوراً برميات دخان تسجل أهدافاً على الطريق الصاعد من الغرب إلى مقر الفوج، لمنع الحشود من عبور المضيق. وقال القائد إنّ المضيق الذي يسيطر عليه الفوج حصين جداً ويصعب اختراقه، كما لا يمكن تخطيه لو تولت القطعات المسيطرة عليه الدفاع عنه، وأكد قائلاً: "عيب يا أخوان ننسحب ونترك مواضعنا وسلاحنا، وأين سنذهب، هل نسلم أنفسنا إلى إيران؟ أليس هذا مشيناً، فرقة مشاة كاملة تسلم نفسها إلى إيران دون قتال! ماذا نقول لهم، نحن لاجئون هاربون من المخربين؟" ونظر إلى من حوله وقال: "ليس أمامنا سوى القتال والصمود، وأنا متأكد أننا لو تمكنا من صد المجموعة الأولى وقتل بعض من عناصرها، فسيتوقف الآخرون عن الزحف، لأنّ الموت ينتظرهم". ادار نظره في وجوه جميع الجالسين في المكان وعددهم يفوق خمسين ضابطاً من مختلف الرتب والصنوف، وصار يسألهم واحداً واحداً أن يعاهدونه على الصمود، وكانت إجابة الجميع بالإيجاب، مشفوعةً بابتسامة خجولة. ثم التفت الى آمر الفوج الرائد أ. وأوعز له: "تفضل رائد أ. فلتشرع الهاونات بتسجيل أهدافها على الطريق فوراً". وذهب الرائد أ. ليشرف بنفسه على تسجيل الأهداف، وصار القائد يتكلم مع الجميع كما لو أنّه آمر فوج يوزع مهام قتالية على آمري سرايا وحدته، مبلغاً أمري وحدات مقر الفرقة (التموين والنقل، والمدفعية، والمخابرة، والأمن والاستخبارات، والاعاشة، والسرية الكيماوية وطبابة الفرقة) بأن يتولى كل منهم تجميع المقاتلين من وحدته وقيادتهم للدفاع عن أنفسهم من خلال دفاعهم عن الفوج الممسك بالمضيق.
الجميع يهزون رؤوسهم علامة الايجاب، لكنّ النفوس كانت تضمر شيئاً آخر، فالانهيار الذي أصاب الفرقة دون قتال، هو ليس هزيمة تشكيل معزول في أقصى شرق العراق لوحده، بل هو جزء من هزيمة مليون جندي وآلاف الدبابات والمدافع والمدرعات وملايين الأسلحة، سحقها طيران وصواريخ التحالف الدولي منذ بدأ القصف. الجميع يعتبرون الانهيار العسكري مقدمة للانهيار السياسي، وأخبار الانتفاضة في جنوب العراق وشماله على كل لسان، ولا أحد يريد أن يموت في الدقائق الأخيرة للمشهد قبل أن يسدل الستار.
بات الجميع مقتنعين أنّ القائد الضرورة مستعد للتضحية بكل رجال العراق وخيراته مقابل بقائه في السلطة، وهذه الهزيمة إذا لم تطاله، فسيبقى في السلطة، ليجر البلد قريباً إلى حرب أخرى لا طائل منها. في نفوس الجميع تدور فكرة الخروج من عنق الزجاجة قبل إحكام اغلاقها، ومادامت الحدود تتساقط، والقطعات تستسلم بالألوف لقوات التحالف الدولي في الجنوب كما تنقل الاخبار الموثقة، فما المانع أن يلجأ الجميع إلى "الدولة الجارة إيران" التي زارها عزت الدوري شخصيا قبل أيام، ولجأت اليها الطائرات المقاتلة العراقية وعشرات من طياريها، علاوة على طائرات نقل الركاب المدنية باهظة التكاليف مع طياريها؟ لماذا يقاتلون فيَقتلون أو يُقتلون، ونهاية المعركة غير المتكافئة بانت للعيان لا لبس فيها؟
القائد يواصل توزيع التعليمات، والهواجس نفسها تدور في رؤوس الجميع، لكنهم ما برحوا يقولون: "عد عيناك سيدي، نحن لها" والتي لا تعني شيئا قط ما لم يتقدم القائل الى خندق القتال ويشرع في الرمي!
أطلقت هاونات الفوج، بضع قنابر دخان لتعيين أهداف على الطريق وعلى أطرافه، ثم ابلغ مرصد الفوج المعلق في أعلى الجبل أنّ عشرات الآليات المدنية والعسكرية والجرارات الزراعية التي تسحب مقطورات تحمل مقاتلين أكراد، بدأت تتقدم على الطريق نفسه باتجاه مقر الفوج الذي بات مقدمة الفوج بسبب انقلاب الأهداف وتغير خارطة التعرض المحتمل بمعدل 180 درجة!
وفيما كان القائد يحاول حشد المعنويات وتوزيع الواجبات وتحريك القوات بسرعة للتصدي للقادمين، تواصل انسحاب الجنود بسياراتهم وسيراً على الأقدام باتجاه الحدود. وأبلغ عناصر الأمن والاستخبارات القائد ومن معه بتسرب قوات الفوج وقوات كثيرة أخرى نحو الحدود، فأخذ يتكلم بسرعة محاولاً إيقاف هذا التسرب، وكأنه كان يتكلم في واقع آخر يختلف عن الواقع الذي يعيشه الجيش المهزوم.
الأحداث تتسارع، والشمس مالت للمغيب، وبدأ الظلام يدخل شعاب الجبال، وفي نفوس الجميع يتردد نفس الهاجس، "فلنذهب من هنا نحو الحدود قبل أن يدركنا الوقت!"، وفيما كان كل هذا يجري، بدأ الضباط يغادرون القائد ليركبوا سياراتهم منطلقين باتجاه الحدود بلا تردد. تعالى صوت القائد فجأة مخاطباً حمايته، "حماية التفوا حولي، هناك من يريد اغتيالي!" وتعالت أصوات سحب اقسام البنادق والمسدسات، وتسرب بين الجميع، أن عناصر استخبارات وأمن عربت والشعبة الحزبية، قد تحركوا لقتل القائد وفتح النار على العسكريين الزاحفين باتجاه الحدود، وكاد المشهد يتحول إلى معركة بين القوات وبين عناصر الأمن والحزب والاستخبارات، لكن قنبرة هاون سقطت على مقربة من مقر الفوج، وكان مصدرها هاون محمول بعجلة رمى به الكرد مقر الفوج، وبالرمية الأولى سقطت القنبرة قريباً جداً من هدفها! صاح صوت مجهول، "إنّهم يقصفون الفوج بالهاونات، ادخل موضع فوراً!" وكان هذا الصوت عذراً أعتصم به الجميع للتحرك بعيداً عن القائد "بحثا عن خندق يحتمي به من القصف"، وبسرعة التقى الجمع على الطريق الممتد أسفل مقر الفوج باتجاه الحدود حيث اصطفت سيارات الجميع، وعاد الرتل يتحرك مبتعداً عن مقر الفوج باتجاه الحدود الإيرانية!! وبعد نحو ربع ساعة، ساد الظلام، ودخلنا حوض بنجوين وهو سهل منبسط نسبياً وتحيط به عوارض جبلية، كما ترقد في مخرجه الشرقي المؤدي للحدود الإيرانية كتيبة مدفعية ميدان من عيار 130 ملم، متروكة بالكامل من معارك الحرب العراقية الإيرانية، وقد علاها الصدأ ويقال إن حقول من الألغام تحيط بها، وهذا غير مؤكد. توقف الرتل في مساحة المدافع، وصارت سيارات القائد وحمايته تجتاز السيارات الواقفة لتكون في مقدمة الرتل.
جغرافية المكان بعد حوض بنجوين وصولاً إلى الجانب الإيراني من الحدود وعرة جداً، وربما تكون مدينة كرمك المهجورة آخر ما يصادفه المسافر على هذا الطريق، لكن عليه أن يتخطى لسان ميشاف المتدلي في داخل الأراضي الإيرانية، والذي تمتد شماله وجنوبه مرتفعات جبلية شاهقة ومنيعة خاصة الكتف الأيسر حيث الجبال قطوع حادة يصعب اختراقها أو تعبيد طريق فيها. بينما يخرج طريق من مدينة بنجوين باتجاه الشرق ليربطها بمدينة مريوان الإيرانية، وسلك الرتل هذا الطريق وهو يسير في ظلام دامس تنيره أنوار العجلات التي شكلت رتلاً غريب المنظر، يرى راكبو السيارات أطرافه بوضوح بسبب تموج الطريق الجبلي الوعر.
*هذا فصل من رواية "رهائن عاصفة الصحراء"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي