الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البؤس والشقاء في الرغيف الأسود

روز اليوسف شعبان

2022 / 1 / 27
الادب والفن


د. روز اليوسف شعبان
البؤس والشقاء في الرغيف الأسود،
قصص الطفولة المنسيّة
للكاتب حسن المصلوحي،طبع الكتاب الذي تقارب صفحاته 117 صفحة من الحجم المتوسّط، عام 2020 في مؤسسة مقاربات للنشر، المغرب.
يهدي الكاتب كتابه:" إلى دوّار بوغابات حيث تعلّمت الكفاح، إلى البرّاكة التي آوت أوجاع الكادحين، إلى سقفنا القصديري الذي قاوم الصقيع والحرّ وحيدًا، إلى شجرة التين التي كنت أسرق ثمارها..".
لا شكّ أنّ عنوان الكتاب وإهداء الكاتب، يكشف عن مضمون الكتاب، والذي هو مذكّرات الكاتب في فترة طفولته، حيث كان يعيش مع أسرته في برّاكة في دوّار بوغابات في الدار البيضاء في المغرب. ولنا أن نتخيّل قبل البدء في قراءة المذكّرات، معاناة أطفال يعيشون في برّاكة لا تقيهم برد ومطر الشتاء، ولا قيظ الصيف.

محاور أساسيّة ساقها الكاتب في مذكّراته:
⁃ الفقر المدقع والبؤس الشديد الذي كانت تعيشه أسرته والكثير من الأُسَر التي تقطن في البراريك في دوّار بوغابات وغيرها، حيث بالكاد يجدون ما يسدّ رمق جوعهم، كسرة خبز جافّة مبلولة بالماء أو الشاي، ومعاناة شديدة من قرّ الشتاء وحرّ الصيف:"درجة الحرارة التي ترتفع شيئًا فشيئًا مع توغّل الصيف، الزنك المستخدم في صناعة البراريك يضاعف درجة الحرارة، حتى الذباب يُغمى عليه من شدّة الحرّ".ص12. وقد وجد الكاتب أنّ الخروج مع أصدقائه إلى الطبيعية واصطياد العقارب والأفاعي، واصطياد العصافير، مُتنفّسٌ له، يُشعره بالسعادة والفرح. " وفي تفاصيل طفولتنا ما يدفعنا لحبّ الطبيعة، منذ تلك الفترة جعلت من الطبيعة خليلتي، وكأنّ بيننا زواجًا مسيحيًّا للأبد".ص13." لقد كنّا نتجرّع في كثير من الأحيان مرارةً وألمًا كبيرين، ألم يمتزج بحبّ الحياة، معاناة لم تكن تمنعنا من عشق الحياة بكلّ تفاصيلها" ص56. لقد وجد الكاتب نفسه يبحث عن مواطن الفرح حتى داخل جحيم البراكة:" البرّاكة كانت معشوقتي التي افتقدتها اليوم، كانت حنونة ودافئة رغم قطرات المطر التي كانت تقضّ مضجعنا في الليل، لكي يبدأ يبدأ مهرجان السمفونيّات المطريّة، كنت أرقص في فراشي من روعة الموسيقى، التي أنصت لها مجّانًا، المطر ظاهريًّا كان يعلن عن موسم المعاناة. لكنّه باطنيًّا كان حفل زفاف سرمديّ نحو النشوة والبساطة..".ص32.
⁃ التربية والتعليم: يصف لنا الكاتب بدقّة متناهية مشاعره قبل دخوله المدرسة، ويومه الأوّل في الصف، ومعلّمته التي أحبّها وأحبّ تعاملها مع الطلّاب، وحبّه الأوّل لزميلته التي رآها أجمل مخلوق على وجه الأرض، كما يصف تعامل بعض المعلّمين القاسي مع الطلاب واستخدامهم الضرب كوسيلة للتأديب ، مقابل بعض المعلّمين الذين لم يستخدموا الضرب أبدًا، وكانوا يتعاملون مع الطلّاب باحترام ومحبّة. وقد جاء الكاتب على ذكر حادثةٍ حدثت له مع أحد الأساتذة حين كان في الصف الثاني ابتدائي، بعد أن وصل المدرسة مبلّلًا بالمطر، وحين سأله سؤالًا أجاب الطالب حسن بأن المعلم لم يتطرّق إلى هذا الموضوع، فضربه المعلم ضربًا مبرحًا:" فانهال عليّ المعلّم ضربًا مبرحًا كما لو كان يجلد مجرمًا خطيرًا،ظللت مُصرًّا على أنّه لم يدرّسنا ذلك، فما كان منه إلّا أن طلب إحدى آلات التعذيب وكان اسمها" الفلقة"، ثبّتني جيّدًا على آلة التعذيب، وظلّ يجلدني حتى انتفخت رجلاي ويداي، وبعد انتهاء جلسة التعذيب لم أستطع المشي على قدميّ״ص57-58. كما يأتي الكاتب بوصف مؤثّر لفترة تعلّمه في الكُتّاب، في غرفة مظلمة وضيّقة داخل المسجد، وذلك قبل انتقاله للمدرسة:" كانت غرفة مظلمة وضيّقة لكنّها كانت مشعّة بنور القرآن، رغم رائحة البول الذي كام يسيل من سراويلنا جراء ضربات الفقيه المنهالة على رؤوسنا، كان همّ الفقيه"قفّة الخميس" أما نحن فكنّا نرى فيه جلّادنا، إنّه العصا التي تقصم ظهورنا".ص35. وقد كانت التربيّة صارمة جدًّا فيصوّر لنا الكاتب في ألم شديد، تعامل من نصّبوا أنفسهم قضاة على كل من يرتكب حماقات أو مخالفات من سكّان الدوّار، وبضمنهم الأطفال أيضًا، الذين كانوا يرتكبون بعض الحماقات نتيجة طيشهم وتمرّدهم ونقمتهم على كبار الدوّار الذين كانوا يتلذّذون بلعب دور القاضي الشريف فيصف الكاتب قسوة وساديّة هؤلاء القضاة فيقول:" يحاكموننا بجهل منقطع النظير، يتحيّنون الفرص للإيقاع بيننا وبين آبائنا، يعجبهم أن يروا شوكتنا منكسرة، سادّيون يستمتعون بنظرات الهزيمة في أعيننا الناعسة، كانوا يتنمّرون علينا، يجلدون شخصيّاتنا التي يُفترض أنّها في طور التكوّن بألسنتهم السليطة التي تكشف عن عوراتهم الفكريّة والثقافيّة، تكاد لا تسمع منهم كلمة تحفيز واحدة، أغلبهم كانوا من الفاشلين".ص44. كما يذكر الكاتب كيف حرم وهو وسائر الأطفال من حقوقهم ولعلّ أبسط هذه الحقوق هو حق الطفل في التدفئة والعيش في مكان آمن:" حُرمنا الكثير من حقوقنا كأطفال، كان البرد يوجعنا ليلًا حتى كانت اسناننا تصطكّ من شدّته" ص56.
⁃ علاقات التكافل الاجتماعيّ: تميّزت العلاقات بين سكّان الدوّار، بالتكافل الاجتماعي، ومساعدتهم لبعضهم البعض.:"فكم مرّة كانت الوالدة الحبيبة تحتاج لمكوّن من مكوّنات الغداء أو العشاء، وكانت ترسلني إلى إحدى جاراتنا لكي تمدّني به دونما حرج، فالتضامن شريعة وقانون لا يجب أن يخرقه أحد، إنّه تضامن الفقراء فيما بينهم"ص60.
⁃ التقسيم الطبقيّ: في أسفل السلّم الطبقيّ الفقراء والمساكين والمعدمين والنساء العاملات اللاتي يتمّ استغلالهنّ وتشغيلهنّ طيلة النهار في الحقول مقابل أجر زهيد جدّا، إضافةً إلى استغلال أرباب العمل لبعض النساء جنسيًّا.:"كثير من نساء الدوّار كنّ يشتغلن بالضيعات الفلّاحيّة"الموقف"، كنت أشفق لحالهنّ كثيرًا وهنّ يلبسن تلك الثياب الرثّة القديمة، ويتوجّهن للموقف قبل الفجر، أيّ حياة هاته؛ يشتغلن من الساعة الخامسة صباحًا إلى الساعة الخامسة مساءً"ص56-67. وقد اشتغل الكاتب في طفولته خلال العطل، ورأى بأم عينه قساوة أرباب العمل والإقطاعيين أو كبار الفلّاحين، على العمّال، والتحرّش الجنسيّ بإحدى النساء، فكانت تخضع لصاحب العمل وترافقه الى العُشّة، تلبّي شهوته الحيوانيّة، تحت الابتزاز ومقابل الامتيازات، حتى حملت منه ولم يعترف بفعلته، وكانت النتيجة، رمي الجنين في حقل الذرة بين السيقان العالية.وقد أثّرت هذه الحادثة على حسن الذي كان عمره آنذاك أربعة عشر عامًا:" تظاهرت بالذهاب إلى هناك للخلاء، بحثت كثيرًا إلى أن رأيت السطل مقذوفًا بين الشجيرات، عمّقت البحث فإذا بي أرى الجنين المسكين مضرّجًا بدمائه ملفوفًا في وشاح تستخدمه لاقطات البطاطس، سالت دموعي كان المشهد مرعبًا"ص83. تذكّرني عذه الحادثة بقصة زينب لمحمد حسنين هيكل والحرام ليوسف إدريس. حيث كانت النتيجة رمي الجنين وتنكّر المغتصِب لضحيّته.
⁃ الطبقة الوسطى وتتكوّن من التجار وأصحاب المحال التجاريّة ، ثم طبقة أسماك القرش، الذين وصفهم بأنّهم أبناء أبناء فرنسا، نفخوا ثرواتهم بالقوادة للمستعمر والاستيلاء على أراضي اليتامى والأرامل، لصوص أبناء لصوص، وفي أعلى السلّم هناك الحيتان الضخمة التي تجوب المحيطات وتلهط حصّة الأسد، ويرى الكاتب أنّ هذه التراتبيّة نُسجت بهذا الشكل لتدوس بلا شفقة الفقير المعدم.
لا يغفل الكاتب في مذكراته هذه، وصف علاقته الحميمة بجدّته التي لقّبها حنّة لشدّة حنانها وحبّها له ولأخوته ورعايتها لهم، خاصّةً عندما كانت تأتي لزيارتهم أو يذهبون لزيارتها في القرية، فيقضي حسن في بيتها أجمل أيّام حياته.
ينهي الكاتب كتابه بفصل وجدانيّ، يحاور نفسه، ويسترجع ذكرياته، ويحاور الزمن فيقول له:" لماذا كنت تقتلنا وأنت تعلم أننا أموات؟ أليس الجوع موتًا؟ ماذا فعلت طفولة الكاريان حتى تُغتال بين حقول القمح؟ لماذا يتسوّل المتسوّلون ويتكرّش المسؤولون؟ لماذا تصمت حين يتعلّق الأمر بالبؤساء؟ ماذا فعل كلّ المحرومين والجائعين حتى يكون كلّ نصيبهم من الحياة رغيفًا أسود؟
ثم يخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها أنّ السماء عادلة لكنّ الجناة هم البشر، الذين يقتلون، يغتصبون، يسرقون ويظلِمون.
يمكن القول إنّ مذكّرات الكاتب حسن المصلوحي، تصوّر فترة قاسيّة
في حياة فقراء المغرب، وخاصّةً سكّان البراريك، الذين رغم فقرهم المدقع، يتمسّكون بالحياة، ويجاهدون من أجل لقمة العيش. وقد تؤدي هذه الأوضاع الصعبة إلى تدهور بعض النساء والشباب إلى عالم البغاء والمخدّرات، هذا الأمر ظهر جليًّا في هذا الكتاب، كما ظهر في كتاب الخبز الحافي للكاتب المغربي محمد شكري. وقد يحدث أيضًا أن ينبت رجالٌ صالحون من عمق المأساة، ولعلّ كاتبنا واحدٌ منهم، إذ نجح في جعل تجربة حياته القاسيّة، درسًا له، ساهمت تجربته هذه في بناء قوّة شخصيّته، وجعله أكثر إصرارًا على تحقيق أهدافه.
ويبقى السؤال الكبير الذي جال في خاطر الكاتب ويجول في خاطر العديد من الناس: لماذا نظلم أبناء شعبنا؟ ألا يكفي ما ذاقوه من استغلال وظلم على أيدي الغزاة والمستعمرين والمحتلّين؟
كيف لا نشفق على بعضنا البعض؟ ولِماذا يرضى الحيتان منّا وأسماك القرش، قهر وظلم واستغلال الناس، فيجمعون الثروات على حساب الفقراء والمساكين؟
فأين ذهبت الضمائر؟
وكيف نسمح بأن يتعذّب أطفالنا ويُحرمون من أبسط حقوقهم؟
أليس الأطفال شبابَ الغد وبناةَ المستقبل؟
فأيّ مستقبل ينتظر شعوبًا تُغتصبُ نساؤها، يُظلمُ عمّالها، ويُقهرُ أطفالها ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة


.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات




.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي