الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب .. غربة في مهب الريح

مصطفى العمري
(Mustafa Alaumari)

2022 / 1 / 30
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


قبل بضعة أيام وصلني كتاب غربة في مهب الريح للمؤرخ العراقي المهندس محمد علي الشبيبي, لم تمض على وصول الكتاب الا دقائق حتى شرعت بقراءته و تدوين ملاحظتي الشفوية و المكتوبة.
تنويه.. قبل سبعة أعوام ارسل لي الأستاذ الشبيبي كتابه ذكريات الزمن القاسي وفيه استعرض سيرة حياته حتى رحيله شبه القسري الى بولونيا عام 1969
الان أجده يدون حياته ونجاحاته و مآسيه و كبوة الزمن به بتروي و تؤدة.
لقد حقق لي هذا الكتاب أجوبة كنت أتساءل عنها, أجوبة كنت مقتنعاً بها أجوبة لأسئلة ربما لم يحن الوصول اليها, وهكذا هي التجارب تصنع الاحداث الباهضة و الرجال الاشداء.
وما ان يطأ محمد الشاب أرض بولونيا بالاسبوع الأول حتى يتعرف و بالصدفة على عائلة بولونية محترمة وقد شكلت تلك المعرفة رابطة قوية بينهما.
وبينما كنت جالساً بالمقهى .. " توجه اليّ شاب وقدم لي نفسه كينك وسالني ان كنت اسمح له بمشاركته الجلوس معي. أجبته بالموافقة لكنه أشار لي بأصبعه بعد ان عرف اني لا أتكلم البولونية بان برفقته صديقين فأكدت له الموافقة "ص22
من هنا تشكلت علاقة وطيدة بين الأستاذ محمد و عائلة يانينا و يوسف و كووجيجاك. يقول عن الشعب البولوني " شعب منفتح على الشعوب الأخرى وشديد الفضول للتعرف على عادات و تقاليد الاخرين ويتميز الشعب البولوني بالطيبة وحبه وتقديره للضيوف" ص21
يشرح الكاتب طبيعة الدراسة وكيفية تعلم اللغة و المعاناة التي تنهك الطلبة غير الميسورين مادياً, يتعرض لحياته الخاصة و القساوة التي لاحقته لفترة طويلة وكيف كان يعيش بشيء زهيد من الأموال و الغذاء البسيط ليسد به رمقه, كان يحاول ان يدخر القليل من الأموال لكي يرسلها لأهله الذين تركهم تحت سياط السلطة والمطاردة و السجن.
تحتل المكابدة و العسر القسم الأكبر في حياة الشبيبي محمد, وخاصة في سنواته الأولى لعدم تمكنه من اللغة و طبيعة العيش, وبعد مرور مايقارب الأربعة أعوام.
"تفاجأت وأنا خارج من غرفتي بالقسم الداخلي في كوبينسكا في وراشو لأجد أخي همام وهو يحمل حقيبة سفر كبيرة. كان هذا أول لقاء لي مع أحد افراد عائلتي منذ مغادرتي العراق"ص37
يكتب الأستاذ الشبيبي بألم و توجع عن شقيقه همام,الذي كان يعاني من مرض الرئة و ضغط الدم, والشحوب البائن على تقاسيم أخيه الكبير.
يسترسل في السفرات التي انجزها بمعية شقيقه همام بالمدن و المتاحف و الأماكن المهمة في بولونيا, ويبدو جلياً البهجة التي حققها له شقيقه بهذه الزيارة المفاجئة حتى يوم مغادرته الى ارض الوطن.

بعد أقل من شهر يقدم أحد الطلبة سائلاً عن محمد الشبيبي وما ان اهتدى اليه حتى قدم له التعزية بوفاة شقيقه همام..
يمتلك المهندس محمد الشبيبي قلباً يضوع بالحنان و المحبة و العاطفة, ويبدو ذلك أبلجاً عندما تقرأ كيف كتب عن رحيل شقيقه, كتابة تقطع أنياط القلب و تهدر به حيث النزوع و الخلاص, كتابة أعادتني الى زمن بعيد جداً, في ليلة مشكانية باردة جداً وفي ساعة متأخرة, كنت اقرأ كتاب الأيام لطه حسين, روى كيفية رحيل شقيقه الذي يعمل بالتمريض أيام وباء الكوليرا رواية ما ان تذكرتها حتى اشعر بوخز قلبي مميت, أعادني محمد الشبيبي الى طه حسين ومأساة الرحيل..
" لقد فقدت أخاً وصديقاً ورفيقاً فريداً و عزيزاً لا يعوض, كانت دموعي تنهمر و نحيبي يمزق سكون الشقة الفارغة, وخرجت هائماً اتنقل في الطرقات وبين المقاهي التي إرتدناها سوية و دموعي تنهمر دون توقف, كنت أتخيله في تلك الأماكن و استعيد احاديثه الحلوة التي تفيض حناناً عن عائلته و ابنه البكر عمار ذي الأربع سنوات, كان وجهه يتراءى لي بنظراته الحزينة وكأنه تعنى هذا السفر الطويل و المرهق و المكلف كي يودع أخاه الأصغر و يضمه الى صدره ويقبله قبلات الوداع الأخير" ص42
ويستمر الأستاذ الشبيبي في مشروع الحياة و الدراسة برغم الضغوطات و المحن التي كابدها وفي عام 1976 نال شهادة الهندسة المدنية.

عندما قرأت كتاب ذكريات الزمن القاسي, كتبتُ عنه برؤية و توجه خالٍ من الانحياز او المجاملة, واتذكر حينها نقدي للحزب الشيوعي وكيفية توظيف بعض الأشخاص, لا أنكر حجم الامتعاض و الانزعاج الذي سببته تلك الكتابة, حتى من قبل الكاتب الشبيبي نفسه, وقد آليت في هذا الموضوع ان لا أحاول التعرض للحزب الشيوعي كأسس و بناء, لأن ذلك سيكون من وظيفة الكاتب نفسه لما سيورده من أحداث و تجارب مرت به. وكما قال لي أحد الأصدقاء: الشيوعيون لم يسرقوا ولم يعبثوا بالوطن كما فعل غيرهم, ولذلك ركزت على ذات الكاتب و تحركه و نشاطه الحزبي.
من يقرأ حياة الأستاذ محمد الشبيبي سيجد فيه المخلص و المتفاني من أجل الحزب و الوطن, فالرجل قدم نفسه و مستقبله و حياة عائلته أضحية قرباناً من أجل المبدأ الذي آمن به وسلكه وغرزه في أعماقه.
اكمل دراسة الهندسة حينها كان الوضع بالعراق أكثر من ملتهب, لذلك عرض عليه رفيقه عادل حبة, السفر الى الامارات ففيها وظيفة جيدة و امان واسع, لكن الشبيبي المؤمن الحزبي رفض العرض وابى الا ان يعود لخدمة بلده, غير مكترثاً للوضع الامني بالعراق وما لحق بالشيوعيين من اعدامات و سجون و تشريد.
اعتقد ان عودة الشبيبي لوطنه كانت بروح العاطفة و المثالية العالية التي زرعها الحزب الشيوعي في عقله ولم تكن ذات طابع ومنهج عقلي مدروس ولذلك فأن الشاب المستميت لخدمة وطنه و شعبه ضاقت به المدن و الازقة و أختنق من كثرة المضايقات و نزيف الدم المهدور على عتبات ذلك الوطن, لبث عام ونيف حتى غادر العراق الى غير رجعة عام 1979, غادر وهو يمرح بعنفوانه وشبابه و حيويته وعاد له بعد ثلاثة عقود, بعدما تلاشت أيامه وذهب بريق شبابه.
من شدة إلتصاق الأستاذ الشبيبي بأوامر الحزب و إنضباطه معه, استوقفتني قصة عجيبة,من خلالها أدركت كيف يغدو الحزبي مطيعاً و ممتثلاً أمام مسؤوليته حتى انه لا يعبأ بقضاياه الشخصية والعائلية المهمة, واستطيع ان أؤكد ان الانتماء الحزبي ماهو الا إنتكاسة لحرية الانسان و البطش بإرادته و تكوينه الفردي وقتل لنزوعه العقلي المستقل.
يغادر الشبيبي البلاد وبعد معاناة مستمرة يصل الى الجزائر البلد الذي يعيش فيه اجمل أيامه كمهندس مدني حاذق لما يتمتع به من حرية عمل و أمان. يصف كرم الجزائريين و اخلاقهم وصدق تعاملهم و طيبة نفوسهم, يسكن في مدينة صغيرة اسمها سعيدة, ومنها خطب قريبته أميرة "ام نورس" يقول بيوم وصول خطيبته و خاله و شقيقته الى الجزائر قادمين من العراق.
" في يوم وصول عائلتي كنت مرتبطاً بموعد اجتماع حزبي في مدينة وهران و كان عليّ العودة الى وهران دون تأخير لحضور الاجتماع لذلك خططت لحجز سفرتنا الى وهران بالطائرة ربحاً للوقت لحضور اجتماع لجنتنا الحزبية لجنة الغرب الجزائري. كانت سفرة الاهل متعبة حيث امضوا ليلة سفرهم بالسهر و الاستعداد فغادروا كربلاء في الثانية صباحاً متوجهين الى مطار بغداد وهاهم في العاصمة الجزائرية وعليهم الانتقال معي الى وهران بالطائرة مجدداً وكان الضجر و الاعياء ظاهراً على تصرفات الاهل وخاصة الراحل خالي وكنت اسمعه من حين لاخر يحدث شقيقتي بصوت خجول و خافت و بدهشة متسائلاً. هاي وين محمد ساكن ماخذنه بالطائرة لغير مدينة ومنها بالحافلة الى مدينته" ص123
أعرف أيها القارئ ماذا يدور بخلدك الان وكم انت حانق على هذا التصرف و الفعل البطولي الذي يعتقده المهندس محمد, لكن اتركك مع الفقرة اللاحقة وهي تعقيبه وربما ندمه على هذه القصة فيقول:
" لا يمكنني ان اتخيل نفسي او اسامحها كيف استسلمت حينها لهذا الوضع هل يعقل ان اترك زوجتي و بقية عائلتي بعد سفر و انتظار استغرق اكثر من أربعة عشرة ساعة متنقلين فيها بين كربلاء بغداد الجزائر وهران ومن ثم الى سعيدة لأشارك في اجتماع حزبي.. وكأننا في هذا الاجتماع سنقرر مصير النظام العراقي وان ذلك لا يتم الا بمساهمتي وهل يصدق ان لا يبادر احداً من رفاقي لمنحي إجازة و إعفائي من المشاركة في الاجتماع لإصطحاب ضيوفي لمدينتي كي يرتاحوا من عناء سفرة طويلة و مضنية" ص 124

بهذا الإقرار يكون الشبيبي قد اعترف بهذا التصرف الفادح, وتبقى الملامة الكبرى على رفاقه الذين لم يمهلوه ان يرتاح مع عائلته التي فارقها منذ زمن بعيد و اعتقدوا انهم سيحرروا العراق و سيمسكوا زمام العالم, بينما هم رهط منفي من بلاده و يسكنون على مضض في بلاد الغربة.
هكذا تستنزف اغلب الأحزاب الدينية الان في بلدي طاقات الشباب و تحيلهم الى مشاريع موت و تجهيل وتحيل طاقاتهم و الوهج الذي يعتريهم الى وهْم مقلدين به تراثاُ باد منذ عقود, كل هذا لاجل غايات انانية شخصية دنيئة.

ومضة ذات دلالة :
بالتفصيل يشرح المهندس محمد الشبيبي حياته بالجزائر, فبعد عمله كمهندس برهن بالادلة الفعلية ذكاءه و مهارته بالعمل, ومن خلال العمل امكنه التعرف على حياة و طبيعة الجزائريين و سلوكهم العام. وهنا نجده يورد قصصاً مهمة لما لها من أهمية بالتحضر المبكر و العادات السمحة التي يمارسها الجزائريون. فمثلاً هو ينفي كلمة فراش في الثقافة الجزائرية وليس هناك من يجلس على باب المدير لكي يلبي طلباته, فكل شخص مسؤول عن خدمة نفسه بما فيهم المدير.
ينتقل الى ومضة أخرى مهمة جداً.. عندما يتم إنجاز أي مشروع سكني يتم توزيع شققه على دوائر الدولة كالصحة و التعليم وغيرها, يقول بهذا الشأن:
"ولاحظت ان العدالة سائدة في داخل الدائرة بالتوزيع وهذا مالم اشهده في بلدي ولا حتى في بولونية البلد الاشتراكي الذي درست فيه وربما حتى في بقية الدول الاشتراكية السابقة توزيع الشقق بين العاملين في أي مؤسسة دائماً يجري بصورة عادلة ولا يتم التوزيع على أسس طبقية او اجتماعية او حزبية او مراتبية بالعمل ونادراً ما يتم تجاوز المستحقين.
فمدير مكتبنا الهندسي مصطفى جلول وهو مهندس مدني حصل على شقة بجوار سائق الشركة. ص128

استمر الشبيبي المهندس في الجزائر نيف من الأعوام وقد غادرها مجبراً بقصة طويله كان ثمنها صدقه و تفانية و اخلاصه في عمله, غادر الجزائر متوجهاً الى سوريا التي لم يبق بها الى بضع اشهر ومنها عاد الى بولونيا البلد الذي درس فيه الهندسة وعاد له بزمالة لدراسة الماجستير, وبعد ان باشر في دراسة الماجستير وهو الطالب المتفوق انهالت عليه سهام رفاقه حسداً و إجحافاً و تلفيقاً حتى استكثروا عليه تلك الزمالة التي مكنته من إكمال مشروعه الدراسي. فقد ضيق عليه بعضهم ومنهم رفيقه ومسؤوله الحزبي كوركيس, تضييقاً غير متوقعاً, يشرحه الكاتب بتفصل فيه عناء و تأوه ومكابدة.

لم تكن عودته الى بولونيا سهلة و مريحة كما كان يعتقد فقد ضيق عليه بسبب إقامة زوجته و غيرة الرفاق و حسدهم و طبيعة المعيشة الاجتماعية البولونية التي تغيرت بشكل كبير, كل هذه العوامل أرهقت الأستاذ الشبيبي وعرقلت مسيرته الدراسية لكنها لم توقفه فقد نال شهادة الماجستير بجدارة بعد عسر غير عادي وخصومة غير عادية مع عميد الجامعة و بعض الأساتذة الذين رفض إعطاءهم رشوة.
يحمل الكتاب عناوين و قصص كثيرة وغزيرة وذات معنى مهم لايمكن حصرها في هذا المقال لكني أُهيب بالقارئ ان يجد الوسيلة لكي يقرأ الكتاب بروية و تمعن.
تكمن فائدة كتاب غربة في مهب الريح بجوانب عديدة فيمكن ان نعتبره درس حياتي مهم للناشئين من هذا الجيل و الأجيال اللاحقه, فالرجل الذي أفنى عمره و جهده و عائلته من أجل الحزب غدا معزولاً بعيداً قصياً عن الوطن و الحزب و الاهل, ولم يجمع شتاته و غربته و ترحلاته الا بلد اسكندنافي بارد هو السويد.

محمد الشبيبي إنموذج للعراقي المخلص و المضحي لقضاياه و مبادئه فقد عانى وكافح وسجن و عُذب ومع ذلك هو لم يتوج ولم يكافأ وربما لم تحمله الذاكرة العراقية كنجم عاش لكي يضيء سماء بلاده.
الى صديقي ابي نورس ان كان المخيال السياسي العراقي المثقوب قد اهمل كفاحك و نضالك ولم يلتفت لسيرتك و حجم بذلك و معاناتك, فقد دونت بهذا الكتاب الف معنى ومعنى عن الإخلاص و الوفاء و الصبر و التضحية و العطاء و الشهامة و الاخلاق و الوعي و الذكاء.
فلك مني ومن جميع الذين يتعاملون مع الانسان كإنسان بمعزل عن الانتماء و التوجه الف الف تحية و شكر لما قدمته و انهكت حياتك فيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موسكو تنفي اتهامات واشنطن باستخدام الجيش الروسي للكيماوي في 


.. واشنطن تقول إن إسرائيل قدمت تنازلات بشأن صفقة التبادل ونتنيا




.. مطالبات بسحب الثقة من رئيسة جامعة كولومبيا الأمريكية نعمت شف


.. فيضانات عارمة اجتاحت جنوب البرازيل تسببت بمقتل 30 شخصاً وفقد




.. بايدن أمام خيارات صعبة في التعامل مع احتجاجات الجامعات