الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السرير

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 1 / 30
الادب والفن


هواجس السيد نون
٢٦ - السرير

لقد فتحت عيني هذا اليوم ووجدت نفسي في هذا المكان، مستلقيا على هذا السرير. بقيت ممددا لفترة لا أستطيع تحديدها، ربما أسابيع أو شهور أو سنوات، وربما أكثر من ذلك، وربما أقل. في البداية كان هناك شخصين أو ثلاثة أشخاص، وربما لمزيد من الدقة من الأحسن القول بانه هناك العديد من الأشخاص كانوا يترددون علي بالتناوب، منهم من يأتيني بوجبات الطعام ومنهم من ينظف الحجرة ويرتب السرير ومنهم من يأتي لمجرد الكلام وطرح الأسئلة. إمرأة كانت تتولى عملية تنظيف الحجرة بالتناوب مع رجل آخر يعرج قليلا، إمرأة أخرى كانت تأتي كل يوم بعد وجبة الغذاء وكانت لا تفعل شيئا سوى الجلوس على كرسي بجانب السرير، عادة ما يكون في يدها كتاب أو مجلة. وأحيانا مجموعة من الرجال والنساء يأتون دفعة واحدة يتحدثون بصوت خافت لدرجة لا يكاد يسمع ويتلمسونني من كل جانب ثم يغادرون الحجرة. ذلك أنه في البداية كنت أعيش في عالم من الصمت المطبق، كنت أرى الناس يتحركون من حولي في صمت ويحركون شفاههم دون أن تصدر عنهم أية أصوات، وتدريجيا بدأت الأصوات تعود، بعيدة في البداية وكأنها وراء الحائط. وبعد وقت تمكنت من الجلوس على السرير مما سهل عملية المرأة التي كانت تتولى عملية التنظيف وسهل في نفس الوقت عملية تناول الوجبات وبالذات عملية الشراب. ويبدو إنني لم أكن أتكلم لسبب ما، كنت صامتا طوال الوقت أحدق في الفراغ أو في وجوه الناس الذين يرتادون هذه الحجرة. لقد أدركت ذلك عندما أسترجعت نوعا ما بعض العادات القديمة في الإتصال ببقية البشر وطلبت كأسا من الماء، فرأيت المرأة الجالسة على الكرسي تنتفض وسمعت المرأة الأخرى التي كانت منهمكة في التنظيف تصدر صرخة مكتومة، ثم أتتني عدة جمل مختلطة : إنه يتكلم إنه يتكلم .. لقد استعاد صوته. لقد استعدت السمع والكلام غير أن الأمر ظل متوقفا عند هذا الإنجاز. فلم أستطع في البداية إيجاد العلاقات التي تربط بين الأشياء وبين الأصوات والكلمات، وكنت كمن سقط في فراغ مظلم بلا نهاية. لا أتذكر الوجوه ولا الأسماء ولا أعرف حتى أسماء الأشياء. وعندما نجحت في طلب كأس الماء كان هذا النجاح نسبيا، لأن المرأة الجالسة على الكرسي أمامي طلبت من المرأة الأخرى كأسا من الماء، ولم أفعل في حقيقة الأمر سوى ترديد نفس الجملة، مما أثبت لي قدرتي على سماع الأصوات والكلمات وترديدها، وهي الخطوة الأولى في إستعادة بقية الأشياء. وأدركت أيضا أن وضعي الحالي ليس بالوضع الطبيعي، ففي الماضي لم أكن مستلقيا على السرير كما هو الأمر اليوم، إنني مريض، نتيجة حادث ما فقدت على أثره السمع والنطق والذاكرة والحركة، وأن الأمور بدأت تتحسن في " السنوات " الأخيرة وبدأت في إستعادة قواي الفكرية تدريجيا بواسطة فريق من الأطباء والممرضين وأفراد من عائلتي وأصدقائي، حسب ما يدعون. غير أن هذه المعلومات ظلت مجردة ولم أستطع تجسيدها في الواقع. في البداية أخبرتني الممرضة التي أحضرت لي القهوة بأن اليوم هو يوم ألإربعاء. غير أن ذلك لا معنى له بالنسبة لي، فواصلت: غدا إذا سيكون يوم الخميس ثم الجمعة ثم السبت ثم الأحد ثم الإثنين ثم الثلاثاء. وعندما سألتها وبعد ذلك ما هو إسم اليوم الذي يأتي بعد الثلاثاء، أجابت بأنه الإربعاء بطبيعة الحال. نفس اليوم سيعود ثانية كل سبعة أيام. لقد واجهتني هذه المشكلة وأرقتني لفترة طويلة، كيف يمكن قياس الزمن بطريقة دقيقة وليس لدينا سوى أسماء سبعة أيام لا أكثر ولا أقل، فكيف يمكن قياس الزمن بهذه الطريقة؟ وكيف يمكن التمييز مثلا بين عشرات أيام الإربعاء التي مرت؟ وواصلت الممرضة دروسها كل يوم وأدركت بأنه هناك أرقام نعطيها للأيام في نظام آخر يسمى الشهور، بمعنى أن يوم الإربعاء المعني نعطيه رقم ١٥ داخل شهر فبراير الذي له بدوره رقم آخر، رقم ٢ في نظام السنوات المرقمة بدورها، وزيادة في التدقيق أخبرتني بأنه هناك نظام آخر لمعرفة تفاصيل أكثر أهمية وأجزاء كل يوم، الفجر والصباح والضحى والعصر والمغرب والليل ومنتصف الليل، وبأن كل يوم مقسم بدوره إلى وحدات زمنية تسمى الثواني والدقائق والساعات نقيسها بواسطة أجهزة دقيقة ومعقدة. بطبيعة الحال كنت أعرف هذه التفاصيل بطريقة غامضة ومجردة، لا شك أنني تعلمتها ذات يوم في مكان ما وربما هي معلومات طبيعية مثل ضرورة الشهيق والزفير أو مد اليد إذا أردت أن أمسك فنجان القهوة أو أي شيء آخر أو تحريك قدم بعد الآخر أثناء السير. على العموم لم أقتنع بأهمية هذه الأشياء وتوقفت عند هذا الحد مقتنعا بأنني لن أستطيع التفرقة بين كل هذه الوحدات الوهمية والتي لا أحتاج إليها وأكتفيت بإنني أعرف أن الظلمة تجتاح هذا المكان في لحظة معينة من النهار مما يجعلني أضغط على زر بجانب السرير ليعم ضوء أبيض باهر ينبعث من سقف الحجرة. وأنه بعد مرور وقت طويل تظهر الشمس تدريجيا ويبدأ النور من جديد يدخل من النافذة. رغم إنني لم أفهم بالضبط متى يتوقف اليوم ويبدأ اليوم التالي، هل يوم الخميس مثلا سيأتي مع حلول الظلام أم عند ظهور الشمس وإنقشاع الظلمة وبداية النهار. لم يحيرني السؤال كثيرا في البداية لأن عملية تعداد الأيام لم تكن تستهوبني مطلقا ولم أر فائدة من هذه الرياضة في وضعي الحالي على الأقل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر


.. فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية




.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال