الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدي وحركة التحرر الوطني

منير العبيدي

2006 / 9 / 3
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


كتبت هذا المقال قبل ما يقرب من السنتين ، وجدته الآن مختفيا في ( أدراج ) الحاسوب ، و حين قرأته وجدت أن هذا التقادم في هذا الزمن العراقي العاصف المليء بالدم و الضحايا و الظلم لم يقلل من قيمة تحليلاته كما رأيت ، فقررت نشره .
صفحات من سيرة ليست ذاتية :
مات جدي و أنا صغير السن , لا أتذكر الآن إلا القليل من ملامحه , لكني أتذكر بوضوح ما ظلت أمي تكرره على مسامعنا , نادبة حظها وحظ خالاتي الاثنتين , وربما حظوظنا نحن الأحفاد أبناءها أيضا , ذلك لأن جدي كان , قبل أن يموت , قد ترك العمل كمحصل للضرائب في الدولة العثمانية ( عند العصملي كما تسميهم ) بعد دخول الإنكليز الى العراق إثناء الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية وتأسيس الدولة العراقية فيما بعد .
و على خلاف ما فعل جدي الذي رفض الاستمرار بالعمل مع الإنكليز بعد سقوط الدولة العثمانية بدعوى : (عدم جواز العمل مع كافر) , كان ( زملاء مهنة ) مثل خطاب علي و حمد المحمد الذين كانا يشغلان نفس الوظيفة , أكثر براغماتية من جدي , لذا استمرا بالعمل مع الدولة الناشئة في أعقاب الحرب , وبهذا فان عائلتيهما بقيتا تنعمان بالراتب التقاعدي فيما بعد . وكما هو حال الحظ السئ لدى النساء دائما , فإنهن يندبن الحظوظ مقارنة بحظوظ امرأة أخرى , وليس استنادا الى المقارنة بين حالة قائمة , وأخرى من الممكن أن تقوم .
فجدي ـ رحمه الله ـ لم يكن ليلقي بالا , على ما يبدو , لكل المآسي التي تسببت بها الدولة العثمانية ( المسلمة ) لنا وللشعوب العربية وكل الشعوب التي كانت تحت حكمها لأكثر من خمسة قرون , من قتل وعسف وإفقار وركود طال كل مناحي الحياة تحت راية الإسلام , وكيف أن حالنا قد آل , من طليعة العالم في كل حقول المعرفة , الى مهاوي الفقر والجهل والتخلف . بل ما كان , رحمه الله , ليأخذ إلا شكل الأشياء فقط دون جوهرها مريحا ضميره راقدا في قبره , وكأنما يحق لدولة مسلمة ان لا تخاف الله في رعاياها.
كما لم يكن جدي ليلقي بالا أيضا الى أن السلطة الحديثة التي تأسست في أعقاب الحرب قامت , وعلى خلاف المحتل السابق , بتأسيس دولة كاملة مع كافة متطلباتها من جيش وشرطة وجهاز دولة ضخم وجامعات ومدارس , ومدارس للنساء , ومستشفيات وسكك حديد وطرق مواصلات . كما تأسست في عهدها أحزاب لها الحق بشتم الحكومة , وبرلمان يشوبه الفساد ولكنه أحسن من لا برلمان , وانتخابات مزورة أحيانا ولكنها أحسن من لا انتخابات , ووزارة تتبدل باستمرار وخصوصا اذا ما واجهتها مظاهرات واحتجاجات أحسن من وزارات سرمدية ووزراء أزليين لا تقصيهم سوى الحروب والانقلابات , ورؤساء وزارات و مسؤولين يفوزون بالكاد في الانتخابات بدلا من الفوز المزمن لمرشح واحد بنسبة 100% ...الخ


* * * *

ولكن ما اعتبرته أمي واعتبرناه نحن مأساة شخصية أو عائلية متفرعة عن ذهنية جدي , لم تكن كذلك على الإطلاق , إنما كانت أوسع حدودا و أعمق دلالات . فقد لزمني ما يقارب نصف قرنٍ لكي أدرك , بأن على أمي أن لا تندب حظها وحظنا فقط , بل أن تندب حظ شعب كامل في مأساته بعد أن ضلله الساسة استنادا الى ظاهر الأشياء وليس جوهرها , و تحت لمعان الشعارت البراقة التي جعلت من الشعار شيئا أهم من الإنسان , وان أولئك الساسة لم يكونوا سوى الورثة الشرعيين لذهنية جدي وقد ألبسوها لباسا علمانيا زائفا ، و الذين لم يقوموا من حيث الجوهر بشيء سوى تقسيم العالم ، على غرار جدي الى مسلم و كافر ، تحت يافطة " حركة التحرر ".
وبين استقالة جدي و اكتشافاتي المتأخرة , كانت ثمة محطات انتقالية يربطها خيط واحد : ففي نهاية الأربعينيات فُصل والدي من كلية الملك فيصل بعد أغلقت الكلية أبوابها بسبب التظاهرات المعادية للحكومة باعتبارها عميلة للإنكليز, بعد أن كانت كلية نموذجية بكل المقاييس , خصوصا المستوى الدراسي , وأدى هذا النضال ( المبارك) الى إغلاق الكلية و إلغاءها ، وكأنما لم يبق أي مجال آخر للنضال ضد الملكية غير الحرم الجامعي و إيقاف الدراسة. و أسقطت الملكية بالدم فيما بعد , وازدادت الشعارات حجما وبريقا , ثم اسقط النظام البديل , مرة أخرى من قبل نظام آخر ذي شعارات أخرى أكثر طنينا وأكثر دما , وأسقط النظام الذي اسقط النظام السابق من قبل نظام آخر سيسقط هو الآخر بدوره لاحقا من قبل نظام جديد رابع أو خامس أو سادس , وفي كل مرة تزداد الشعارات بريقا ودويا وتمجيدا للــشعار, ولكن فــي كل مرة أيضا يــزداد احتقار الإنسان ويقتل ويعتقل ويطارد أكثر مما سبق , حتى بات قتل الإنسان واعتقاله أمرا عاديا مسكوتاً عنه بسبب الملل والتكرار . وأوقف أبي وأخي الكبير , وحين كبرنا ,أخواني و أنا , بات الاعتقال والمطاردة و التغرب عن الوطن جزءا من تراث العائلة , ودفعنا الثمن مرات وفي كل مرة بسبب الشعارات والتي يفترض انها لخدمة الإنسان , والتي قد غربت عــن ذاتها وتحولت الى أضــــدادها وبات على الإنسان أن يموت في كل مرة , في سبيل الشعار الذي يفترض انه وُضع من اجله.
ها أن الشعارات موجودة في كل مكان : على صفحات الجرائد وفي الكتب المدرسية , في قصص الأطفال وفي الصحف السرية , على لسان المسؤلين ، على جدران وواجهات الدوائر الرسمية , على جدران المرافق العامة , في جيوبنا , معشعشة في أذهاننا ...إلا أني لم اقرأ أبدا شعارا يقول : "عاش الإنسان".

* * * *

في "استعراض الدمى" وهو برنامج شيق أعد للصغار , يشاهده الكبار كالعادة بسرور , تروى لنا حكاية مأخوذة من الأساطير الصينية القديمة : أن امبراطورا صينيا قد تعهد بان يتنازل عن العرش للشخص الذي يجلب له شيئا ما , لا يستطيع هو , الإمبراطور , أن يجلب له شبيها أو مثيلا. وبما أن العرض مغرٍ وان ثمة الكثيرين ممن يرغبون في أن يكونوا أباطرة , فقد تقاطر على بابه الاف من الناس من كل حدب وصوب من أرجاء إمبراطوريته الواسعة , كلٌ حاملاً شيئا فريدا : زهرة برية من اعالي الجبال قصية الوصول , صندوقا من الذهب والاحجار الكريمة صنعه صانع ماهر , مخطوطة قديمة , سيفا مرصعا من الدهور الغابرة ...الخ , ولكنه كان احتاط لكل شئ , فالمملكة عزيزة , لذا كان لديه دائما شئ يشبه ما يُعرض علــية مــما يقطع الطريق على الراغبين في ان يحلوا محله , حتى يأس الجميع . عندها دخلت عليه صبية شابة قائلة : " انا لدي شئ فريد ليس بمستطاعك أن تأتي بشئ مثله " . ما هو ؟ سألها الامبراطور مستخفا . قالت : " أنا " , وأشارت الى نفسها , ليس بمستطاعك ان تجد شيئا مثلي . فأنا , كأى انسان لا شبيه لي اطلاقا" فأسقط في يده وتنازل لها عن الامبراطورية كما روت الاسطورة .
الانسان الذي استبعدناه عن شعاراتنا , كانت الاسطورة الصينية , وهي على حق , ترى أنه لا شبيه له ولا بديل وخسارته لا يمكن ان تعوض بأي حال من الاحوال . دعونا نغني اذن " نموت ويحيا الوطن " . كما غنينا مرارا في الخمسينات :

يا شــــعب العراقٍ عـــهدي بيك باقي
متجوز من مطلبك لو دمــــك سواقي

وللذين تلتبس عليهم اللهجة العراقية فان كلمة ( متجوز) تعني : لن تتخلى . و هذا يعني ان الشعب
العراقي لن يتخلى عن مطاليبه , حسب الأغنية , حتى سالت لو دمائه ما يكفي لملئ السواقي !! فأي مطلب هذا ، بحق الله , ذاك الذي يستحق أن تجري الدماء سواقيا من اجله ؟! , وما هو المطلب الذي يريده الشعب العراقي والمستعد ان تجري دماؤه سواقيا في سبيله ؟ ؟ ... أنا شخصيا غنيت هذه الأغنية في الخمسينات مع الجموع في المدرسة عشرات المرات ولكنني لم اعرف حينها ما هو مطلب الشعب العراقي الذي نستعد من اجله لان نسيل دماءنا سواقيا ولا زلت حتى الآن لا اعرف . ثم أية قيمة تبقى للوطن اذا متنا لكي يعيش هو ؟ وهل يوجد وطن على وجه البسيطة مات أبناؤه لكي يعيش هو؟.
فما صورة الوطن اذن , ذلك الذي نموت لكي يبقى ... تأمل ما يلي :

وطن تشيده الجماجم والدم تتهدم الدنيا و لا يتــــهدم

هذه صورة الوطن الذي نموت في سبيله , وطن مشيد من الجماجم والدم , هذه هي الأناشيد التي أنشدناها في طفولتنا , و الأشعار التي تغنينا بها . ها هي الصورة المعتمدة للوطن و التي اشترك في تصويرها معظم الساسة العراقيين إن لم اقل كلهم . هذا الوطن الذي لم يُصوّر على انه وطن سلام ومحبة وحدائق وعصافير وحب وتسامح , ولم يعترض على الصورة القبيحة التي صُوّرَ بها الوطن احد!! كانت صورة الوطن الجمجمي الدموي مقبولة ضمنا للجميع لم يعترض احد من العقلاء رافضا تعليم الأطفال صورة الوطن المُدمّى و المُجمجم ... وبعد ذلك نتسائل لماذا يميل العراقي الى العنف والدم !؟
أما عجز البيت : " تتهدم الدنيا و لا يتهدم " فهو صحيح تماما , فوطنٌ مثل هذا لا يمكن ان يتهدم لأنه متهدم أصلا ، فالوطن المشيد من الجماجم والدم لا وجود له لأنه , ببساطة , لا وطن. ..
و إلى من يتسائل اليوم عمن نسف و حطم تمثال أبي جعفر المنصور واصفا هذا العمل بالعمل الغوغائي أقول : أليس هؤلاء هم ورثة الذين حطموا تمثال الملك فيصل في الصالحية و تمثال الجنرال مود في أعقاب سقوط النظام الملكي ؟ و أقول هل ارتفع صوت لعاقل واحد أو لحركة سياسية حصيفة تدعو الجماهير الى عدم المساس بالقطع الفينة و التاريخية سواء اتفقنا أو اختلفنا على مدلولاتها . ألم يكن ذلك تدشينا لشرعة تكرر نفسها : أن يقوم كل نظام جديد بمسح معالم النظام القديم حتى الايجابي منها ؟
لقد كرست الحركات السياسية المفاهيم والشعارات المُحلّقة فوق الواقع وفوق الإنسان صافةً الناس طوابيرَ منتظرين دورَهم في ماكنة الموت الجهنمية التي لم ولن تشبع أبدا ....... لقد غضوا
النظر , هكذا وبسبب سهو غير مقصود , عن حقيقة بسيطة : إن أي إنسان أهم من كل الأوطان .
مكدسين أرقام الشهداء كمفخرة . فما الشئ الذي حققته دماء الشهداء حتى الآن ســوى المزيد من
الدماء والمزيد من التداعي , و أين نحن الباقين على قيد الحياة من تحقيق الأهداف التي ناضلوا وماتوا في سبيلها , أليس بوسع المرء أن يرى بوضوح إننا نسير من هاوية الى هاوية ؟
لماذا خسرنا العديد من الأصدقاء والمعارف الجميلين ؟.. صحيح تماما ان الدكتاتورية هي المسؤول الاول عن موتهم , ولكن أليست الثقافة السياسية , ثقافة القتل والاستشهاد باعتباره هدفا و التي روجــت لــها الاحــزاب هــي الاخرى مسؤولة عــن هذا الفــقدان المريع ؟ لماذا يتمكن غاندي من أن يحرر ثاني اكبر امة في العالم تضم من الاديان والقوميات ما لا يحتويه العالم كله , دون عنف ودم واستشهاد وجماجم وسواقي من الدم , في حين ندفع أبناءنا و أعزاءنا الى أحضان الموت معزين الباقين من امهات ثكالى وزوجات ارامل و ابناء يتامى بالابن أو الزوج أو الاب باعتباره شهيدا , معممين ثقافة الموت ؟.
السنا بحاجة الى ثقافة سياسية جديدة تغلّب خطابا جديدا بعيدا عن خطابات الدم؟ السنا بحاجة الى مثال غاندي ونيلسون مانديلا , بدلا من مثال جيفارا ؟









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خطوة جديدة نحو إكسير الحياة؟ باحثون صينيون يكشفون عن علاج يط


.. ماذا تعني سيطرة الجيش الإسرائيلي على الجانب الفلسطيني من معب




.. حفل ميت غالا 2024.. إليكم أغرب الإطلالات على السجادة الحمراء


.. بعد إعلان حماس.. هل تنجح الضغوط في جعل حكومة نتنياهو توافق ع




.. حزب الله – إسرائيل.. جبهة مشتعلة وتطورات تصعيدية| #الظهيرة