الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن الكورونا .. الخوف والعنف

هوازن خداج
صحفية وباحثة

(Hawazen Khadaj)

2022 / 2 / 1
الطب , والعلوم


سيكون لفيروس كورونا المستجد «كوفيد- 19» تأثير عميق ودائم على العالم الذي نعيش فيه. سوف ينقسم عالمنا بوضوح إلى عصرين: ما قبل «كوفيد- 19» وما بعد «كوفيد-19».

تمهيد لم يشهد عالم ما بعد الحداثة اضطراداً متسارعاً لإزهاق الروح البشرية منذ الحرب العالمية الثانية مثلما فعل الوباء الذي أدخل كافة مجالات الحياة المعاصرة في تيه خوض معركة مع عدو مجهول، فالوتيرة المتسارعة لانتشار فيروس كورونا (Covid-19) بما يشكّله من تهديد مباشر للحياة البشرية، ومن تداعيات على كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أدخل العالم ككل في مرحلة اضطراب وجودي لا مثيل له من قبل، في تغييره (لأنماط) سياسات الاجتماع البشري "الإنسان كائن اجتماعي" وفي (هزّ أركان التسليم بتفوّق النوع البشري ) وخلخلة "اليقين" بأن "كل شيء تحت السيطرة"، التي غيّبت العقلانية وعزّزت التناقضات والتوترات لتطال كل شيء من الأفكار إلى التصوّرات الغيبية إلى العنف البشري ليترك بصمته على كل نواحي الحياة.
يعالج البحث
مقدمة:
اللايقين وعودة المخاوف الأولى.
غياب الخبرات والاجتهادات الفردية والاجتماعية.
اليمين المتطرف وأزمة الكورونا.
ديناميكية الوباء الخوف والعنف.
فقدان التوازن، العنف المنزلي الصفحة المطوية.
خاتمة.

مقدمة:
كان لعنصر المفاجأة الناجم عن إخفاء المعلومات والتعتيم عن بداية انتشار فايروس ( COVID-19) أثراً كبيراً في ضعف استشراف التطوّرات المحتملة لانتشاره وأعداد الإصابات والتداعيات المترتّبة عليه. وتصاعدت الإرباكات حول إدارة الجائحة والسيطرة عليها مع انكشاف ضحالة الاستعداد المسبق من جانب الدول والحكومات لتحمّل هزّة وبائيّة طبيعية وغير مُتحكّم بها وكيفية تداركها؛ فخلال فترة قصيرة تجاوزت حالات الإصابة بالكوفيد 19 في أوروبا عدد الإصابات في الصين ووصلت نسبتها في 21 مارس 2020 حوالي 44.6% من إجمالي الإصابات في العالم، مقارنة بـ 30% في الصين، وحوالي 25.4% في مناطق العالم الأخرى. وكذلك أعداد الوفيات، حيث بلغ عدد الوفيات في أوروبا 52.7 %، تلتها الصين 29% وباقي مناطق العالم 18.4 % . ( )
وكان أن أُعلن النفير الكوني للبحث وحصر الآثار والنتائج المرافقة لانتشار الفيروس ضمن المحددات والأولويات الرئيسة اقتصادياً وسياسياً، فكانت الأولوية لاستيعاب الصدمة الحاليّة، ومراجعة السياسات النقدية اللاحقة. واتّجه الهمّ نحو إدارة الأزمة بين “الاحتواء الناعم على المدى الطويل”، من خلال العزل الصحي وتعطيل حركة الحياة لتخفيف الضغط الكبير على النظام الصحي، وتفاقم أزمة تفشي الفيروس، أو ”التفجير السريع” ما يسمى “مناعة القطيع” وترك الأمور تأخذ مجراها في حدود الإصابات كي تتكوّن المناعة الجماعيّة، وكلاهما استندتا إلى الخبرات التاريخية التي اعتمدتها الدول في بعض الأمراض كالأنفلونزا الإسبانية في عام 1918، واحتوائها بولاية سانت لويس، وآلية مقاومتها في ألمانيا.
ومع ملاحظة أن وباء الأنفلونزا الإسبانية جاء عقب الحرب العالمية الأولى حيث كانت مشهدية الموت مألوفة، فإن المخاوف العالمية بشأن انتشار الكوفيد 19 وتسببه بوفاة الآلاف يومياً أخذت تتصاعد، في مجتمعات تزداد فيها نسبة "كبار السن" الذين شكلوا الحلقة الأضعف في مقاومة الإصابة وإمكانية النجاة، لدى ذوي الأمراض المزمنة، التي وضعت العالم كله أمام مواجهات مختلفة فرضتها أزمة الوباء. انطلاقاً من:
اللايقين وعودة المخاوف الأولى
الأشواط الواسعة التي قطعها العالم في تطوره جعلت مسألة الخوف من الأوبئة والفيروسات شيء من الماضي، لا يمكن تصور حدوثه قبل انتشار الكوفيد 19 الذي أعاد فتح "دائرة الخوف الأولى" من "المرض، الموت، المجهول" المواكبة لميلاد البشرية بعد أن جرى إغلاقها لفترة طويلة بالاعتماد على التطور العلمي والمهارات الطبية ووسائل الحماية، التي جعلت كافة المخاوف القديمة مجرد وهم؛ فالطبيعة جرى ترويضها، و"هشاشة الجسد البشري" الضعف والمرض محكومين بالسيطرة، التي تحولت إلى جزء من "الوضع البشري" الحديث. واختلالها مع التكاثر الأسي للفايروس شكل اصطداماً مع "اليقين" فالأوبئة على مرّ التاريخ يرافقها سلوكيات مختلفة. فهي كما يقول المؤرخ "فرانك إم سنودن" (مرآة لأنفسنا، والجوانب المظلمة والشجاعة، كونها تتعلق بعلاقتنا بنهاياتنا، بالموت، بحياتنا وتعكس علاقاتنا مع البيئة، البيئة المشيّدة التي ننشئها والبيئة الطبيعية التي تلبّي متطلباتنا، وتظهر علاقاتنا الأخلاقية تجاه بعضنا البعض كأشخاص). ( )
وهذا ما يمكن ملاحظته مع انتشار الكوفيد 19 وآلية الاستجابة لوجوده كأمر "طارئ" وغير مألوف؛ فعلى مرّ التاريخ واجهت المجتمعات الإنسانية بعض الأوبئة التي انتشرت على نطاق واسع وأودت بحياة الملايين في فترة زمنية قصيرة، وشكلت استجابات وسلوكيات مختلفة تركت آثارها النفسية والاجتماعية على تركيبة الأجيال التي استطاعت البقاء، مثلاً: الطاعون أو "الموت الأسود" كان له أرشيفه الحافل في الأعمال الأدبية وفي الذاكرة للمجتمع الأوروبي، إنها إحدى "الخبرات" التي تفرض تغيرات جذرية في نمط حياتها اليومية، وتتبدل ملامح الحياة، يرافقها اللايقين (Uncertainty) والخوف الجماعي من المجهول (The Unknown). فالأمور المستحدثة وغير المعتادة، تعيد صناعة الخوف ومواجهته بما هو مألوف حتى وإن غابت عنها "العقلانية".
والغريب أن المخيال الاجتماعي المرافق لرهاب الوباء لم يتغير منذ الطاعون على الرغم من التطور الهائل وهو ما تؤكده التداعيات والسلوكيات المختلفة التي رافقت انتشار الكوفيد 19.
غياب الخبرات والاجتهادات الفردية والاجتماعية
تُعدّ الأوبئة بطبيعتها أمراضاً جديدة لم تُصنع خبرات لمواجهتها. ولا تتوفر بشأنها معلومات أو توقعات بكيفية انتشارها ومكافحتها، أو يقين بظهور دواء للعلاج في الوقت المناسب. وبالتالي تترك الأمور للاجتهادات الفردية والاجتماعية، التي جرى اختبارها في الماضي، فسلوكيات الأفراد والمجتمعات في الأوبئة واستجابتهم لها تكون خاضعة للخوف والارتياب، التي ظهرت في العديد من الأمور مثل:
أولاً: العودة إلى الطب الشعبي في الأزمات عموماً وغياب الحلول العلمية الفعالة والسريعة، تكون مسألة التكيّف مستندة على معطيات التراث، ويصبح ما قبل ميلاد العلم والعلاج أساس لتغطية العجز، كما حدث في العديد من الأماكن كالصين حيث أشارت تقارير إعلامية صينية إلى أن 80% من مرضى كورونا في الصين تلقوا علاجاً تقليدياً. وإن لم تؤدي إلى حلول فعلية لكنها تعطي الفرد شعوراً بقدرته على المقاومة.( )

ثانياً: منظومة القيم وأنماط التديُّن: منذ بداية الخليقة كان استشعار الخوف يردّ بالتضرع، والدعاء للإرشاد إلى سلوكيات بعينها، وكانت الطقوس أساساً للتشبث في وسائل النجاة، وكان أثر الكوفيد 19 واضحاً على ارتباك القيم بين "الثقة" بالدين أم العلم. فظل الله كملجأ للحماية؛ لقي صدى لدى من كانوا بعيدين عنه خلال الفترات العادية، وكذلك لقي رفضاً واضحاً من خلال الاحتجاج على دور العبادة، وضرورة الالتزام بمسألة التباعد. فإغلاق دور العبادة لم يلقَ استجابة لدى العديد من رجال الدين والكهنة، وكان ردهم على الإغلاق إشكالياً، ففي اليونان مثلاً رفضت الكنيسة الأرثوذكسية الإغلاق، وقُدّم العلاج بالماء المقدّس وخسرت جزءاً من كهنتها، وخلقت عقبات أمام الدولة. ( )
وكذلك كانت استجابات الحكومات للمطالب بفتح دور العبادة عواقبها على المصلين، كما حدث في ألمانيا عقب قداس 10 أيار / مايو في كنيسة فرانكفورت المعمدانية، وتأكيد إصابة 40 حالة بين المصلين. وتم نقل ستة أشخاص منهم إلى المستشفى، وفقاً لرئيس الرعية فلاديمير بريتزكاو.( )
ويضاف إليها نشاط "إيمانيات نهاية العالم"، التي بدأت بالصعود في دول عدة أبرزها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والسويد وفنلندا. فهي تعتبر أي حادثة أو أزمة جزءاً من تأكيد توقعاتها حول النهاية الحتمية والقريبة للعالم. فهذه النهاية "المُبشّر بها" رسّخت تصوراتها الغيبية حول انتشار الأوبئة والعنف.
ثالثاً: انعدام الثقة بالحكومات: لقد كانت ردود الأفعال الجماعية على الكوفيد 19 تتجه نحو الحكومات والشك بقدرتها على إدارة أمور المواطنين أو تجاوز الأزمة، فكانت أولى ردود الأفعال هلع الشراء، الذي حدث في أوروبا، الذي أخذ طابعاً من عدم الثقة بتأمين المتطلبات الأساسية للمواطنين من قبل الحكومات، أو عدم قدرتها على إيجاد حلول لليوم الآخر، رغم أن التوجه نحو تدبر الأمور بعيداً عن حسابات الدول والحكومات، قد يؤدي إلى التسبب في الأزمة التي يتحسّب لها الأفراد. ( )
كما تعرضت العديد من الحكومات لانتقادات بسبب ممارستها إما الاتهام بالتقصير وعدم اتخاذ إجراءات مبكرة لوقف انتقال المرض إلى داخل الدولة كما في بريطانيا وعدم إغلاق الحدود مع إيطاليا. أو بالاستهتار بالمرض و"اعتباره نزلة برد وإنه تحت السيطرة" ووضع الناس في دائرة عدم الثقة بالعلم أو بسيطرة الحكومات على المرض كما في أمريكا، وهذا عزز الشك بهذه الحكومات لدى المواطنين، إضافة لعدم ثقة الحكومات ببعضها وعدم اتخاذها جانباً واضحاً في تقييم المرض وإمكانية حدوثه بعيداً عن التدخل، كالاتهامات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وهذا عزز فكرة المؤامرة.
رابعاً: نظرية المؤامرة: في عصر يبدو كالخرافات مع قفزات علمية تتجه نحو تحسين الجينات لإنتاج كائنات رفيعة المستوى وتنقيح ما يشوبها من هشاشة الجسد البشري، وتمديد الحياة إلى ما يفوق المئة عام بكثير، وصولاً نحو "تصنيع البشر" وعوالمهم المحتملة والمتخيّلة للعيش، التي تحولت إلى جزء من الوضع البشري الحديث وشرط مكتسب للوجود فيه.( ) وأخذت أبعاد انكسار هذا الشرط تتراوح بين الشك في “القدرة الإنسانية” على السيطرة، وزيادة الشعور بأن هذا الفيروس مُصنّع وعودة مِخيال "نظرية المؤامرة"، ومبادئها الثلاث وفقاً للعالم السياسي "مايكل باركون"، لا شيء يحدث بالصدفة، ولا شيء يكون كما يبدو عليه، وكل شيء مرتبط ببعضه.( )
وهو ما حدث في فرنسا حينما انتشر وباء الكوليرا إذ ظهرت نظرية أن الوباء معدّ من صنع الإنسان، ومع موت حوالي 19 ألف فرنسي اندلعت موجة عنف ضد الحكومة من قبل الشعب، وبالكاد استطاعت الشرطة التصدي لها. ( )
فقد شكلت "الأسباب الخفية والمؤامرة" ترجمة لأي حدث تاريخي، فهناك عمل حاسم تقوم به السلطات وتريد إخفائه عن البشر، هذه النظرية التي لقيت صداها في كافة الدول غرباً وشرقاً، وجرى تحميل الحكومة الصينية مسؤولية الوباء ليس فقط على استجابتها المتأخرة وغير المناسبة للوباء، إنما أيضا بإثارة فكرة أن الفيروس هرب بطريق الخطأ من مختبر علم الفيروسات في ووهان، التي استخدمتها أطراف أو شخصيات حكومية أوروبية، وهو يتماشى مع الانتقادات التي وجهها اليمين الأمريكي المحافظ، والرئيس ترامب نفسه، للصين كخصم أيديولوجي وليس مجرد منافس تجاري. كما لقيت النظريات التآمرية ومن بينها تلك التي تنسب إلى الملياردير الأمريكي "بيل جيتس" ورغبته في الاستفادة من لقاح ضد كوفيد 19 ، "لتتبع" سكان العالم، صداها لدى العديد من البشر. ( )
لم يكن ممكناً لجميع البشر عقب كافة التطورات والمهارات الطبية أن يصدقوا، بأن مرضاً ما يقتل لمجرد كونه مرضاً قاتلاً لا أكثر.
اليمين المتطرف وأزمة الكورونا
منذ بداية تشكيل المجتمعات الغربية "الصناعية" وما رافقها من متغيرات على صعيد البُنى الاجتماعية "التقليدية"، وتدفق مواطني الدول الفقيرة بحثاً عن حياة أفضل، أغضبت هذه المتغيرات العديد من الناس وخلقت أرضيةً خصبة لظهور تيارات كاليمينيين القوميين والحركات الفاشية، تعتقد أنها تمتلك الحل لحماية المواطنين من ضرر الأسواق والأجانب، الذين ازداد توافدهم عقب الحرب العالمية الثانية وانهيار امبراطوريات ودول، واختلاط شعوب لا تهتم للعيش مع بعضها البعض، لتؤسس لمشاكل اجتماعية واقتصادية مختلفة، تفاقمت مع فترة الكساد.( )
ورغم اختلاف السياسات والاستقرار والمسار الديمقراطي بقيت الأفكار الشعبوية تجد قبولاً لدى البعض، بسبب جملة من المؤشرات والحلقات الضعيفة التي يعتمد عليها اليمين المتطرف في نشاطه، وشكلت جائحة كورونا عاملاً في اتساعها ودق ناقوس الخطر تجاهها. منها:

أولاً: الحالة الديمغرافية وشيخوخة المجتمعات: منذ بداية انتشار الكورونا اتجهت مخاطر الوفاة نحو كبار السن والمصابين بالأمراض المزمنة، وكلاهما سمتان من سمات المجتمعات الأوروبية. حيث يبلغ عدد السكان 747.6 مليون نسمة، بينهم 191.8 مليون نسمة فوق سن 60 عاما، أي ما يعادل 25.7% من مجموع السكان. ويشير وسيط العمر إلى أن المجتمعات في أوروبا تعاني من الشيخوخة بشكل مقلق للغاية، حيث يزيد وسيط العمر في معظم المجتمعات الأوروبية عن 40 سنة. ففي إيطاليا يصل وسيط العمر إلى 47 سنة، وفي ألمانيا يقرب من 46 سنة، ويبلغ في إسبانيا حوالي 45 سنة. بينما نجد في المجتمعات النامية مثل مصر يصل هذا الوسيط إلى 25 سنة، ويبلغ 19 سنة في دول أفريقيا جنوب الصحراء. ( )
أدى هذا إلى تفاقم أزمة كورونا في القارة الأوروبية، فاحتمالات الوفاة بسبب فيروس كورونا ترتفع بين كبار السن وتصل إلى 19.7% بين الأفراد في الفئة العمرية 80-89 سنة، وتصل أقصاها بين الفئة العمرية 90 سنة، بينما لا تتجاوز 0.3% بين الأفراد في الفئة العمرية 30-39 سنة. وزيادة عدد من هم بحاجة لرعاية في المستشفيات، وزيادة الضغط بحيث لم يكن النظام الصحي قادراً على استيعاب العدد الكبير من الإصابات ومن هم بحاجة إلى رعاية مركزة.( )
كما أن الأسر الصغيرة، و شيخوخة المجتمعات، كان يقابلها لدى المهاجرين أسر كبيرة وفتية، عززت نظرية "الاستبدال العظيم" التي تعتبر أن الشعوب الأوروبية البيضاء يجري استبدالها بشكل منتظم بوافدين من خارج القارة وهي تعتبر جزء من إيمانهم الذي يستخدمونه للتعبئة والامتداد، بحسب ما أشارت له الدراسة التي أعدّتها منظمة "مشروع مكافحة التطرف" وشملت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة والسويد وفنلندا، وصعود حركة جديدة لليمين المتطرف اعتباراً من العام 2014 "بلا قيادة، عابرة للحدود، تنبئ بنهاية العالم وتنحو إلى العنف" وتعمل على بناء شبكات عابرة للحدود مع نشطاء آخرين لا سيما من الروس ومتطرفي دول أوروبا الشرقية.( )
ثانياً: العوامل الاقتصادية والمهاجرين: شكلت الأزمات الاقتصادية التي عاشتها الدول الأوروبية في فترات مختلفة جزءاً من الأزمات التي يستغلها اليمين، فالدول الأوروبية التي تختلف في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتشترك جميعاً في تحدي الركود الاقتصادي، ومع اختلاف السياسات التي اتخذتها هذه الدول، تشهد جميع الدول الغربية هبوطاً في النمو منذ السبعينات، التي يحددها “ريشر شارما” في كتابه ازدهار وسقوط الأمم بسبب وحيد هو الديمغرافيا.( ) إذ تعاني معظم دول الغرب من تدنّي معدلات الخصوبة، وارتفاع معدلات التقاعد، ويجري تعويض قدرة العمل باستقدام الوافدين من أماكن مختلفة وثقافات غريبة. وقد استمر هذا التخوّف بل وازداد في السنوات الأخيرة بسبب استقبال عدد كبير من المهاجرين واللاجئين نتيجة الأزمات في دول كثيرة. حيث بلغ عددهم في العام 2015 أكثر من 1,006,000 حسب منظمة الهجرة الدولية. ( )
وقد كانت الهجرات أكثر الأمور إزعاجاً، لأنه وبسببها لا يتعامل الناس فقط مع أشياء وأمور تجريدية بل يتعاملون وجهاً لوجه مع الآخر المختلف في المظهر واللغة بغض النظر عن مقدار اندماجه العام في المجتمع، ويولّد هذا الأمر الخوف والعنصرية والكره للأجانب. وجرى استغلال هذه الحالة من قبل البعض في الترويج لمصطلح "الكورونوفوبيا" لتجسيد حالة الخوف من كل ذوي الملامح الآسيوية وليس الصينيين فقط،( ) الذي يدفع للاعتقاد بأن إهمال وإخفاء حقيقة الفيروس الصيني لن تمرّ مرور الكرام، بحسب التاريخ الحديث للأزمات، حيث مهّدت أحداث 11 ايلول لعدو ما بعد الاتحاد السوفييتي، فإن الفيروس الصيني قد يكون نهاية الحرب على الإرهاب وإعلانها على الصين.
وبهذا تبرز كارثية الربط بين الفئات " ثقافات، أديان، أعراق" والأزمات العالمية، خصوصاً مع وجود أمثلة في التاريخ حول الربط بين العرق وانتشار الأوبئة، فخلال مرحلة وباء الطاعون الذي غزا أوروبا في العصور الوسطى بين عامي 1347 و1351، بات السكان اليهود هدفاً لهجمات وأحياناً مجازر كما حصل عام 1349 في ستراسبورغ، حين حرق نحو ألف يهودي.
ولم تخلُ جائحة الكورونا من إعادة استنبات هذه النظرية المعادية للسامية في ألمانيا مثلاً وتوجيه الاتهام في بعض المظاهرات نحو النخب اليهودية بتكوين الفيروس بشكل مصطنع، والادعاء بأن الحكومة الفيدرالية كانت تستغل الأزمة لتثبيت آليات لمراقبة الفيروس "السكان". فمشهد التطرف بحسب تصريح هورست سيهوفر تحوَّل إلى التهديد الأمني الأول في ألمانيا تميّز خلال العامين الماضيين بالعديد من الهجمات العنصرية والمعادية للسامية. ويُقدّر عدد ناشطي اليمين المتطرف بحوالي 33000 ، من بينهم 13300 يُحتمل أن يكونوا عنيفين، وازدادت الأعمال العنيفة ، وحتى الإجرامية ، واليمينية المتطرفة بنحو 5٪ في عام 2020 ، وهو عام شهد في فبراير / شباط مذبحة هاناو (هيس) ، والتي قتل فيها تسعة أشخاص من أصل أجنبي على يد متطرف.( )
ديناميكية الوباء الخوف والعنف.
لقد كان للأوبئة عبر التاريخ آثارها في الحروب، مثل: الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918 في فترة الحرب العالمية الأولى، والحمى الصفراء عام 1791 والثورة الهايتية. وارتباط التجارب السابقة بالعديد من الأحداث انعكست في فترة الكوفيد 19 بالخوف والارتياب من تصاعد المشكلات والأزمات القديمة والمستحدثة. فمن مخاطر الوباء أن وضعت العولمة والحدود المفتوحة الحكومات بمواجهات مختلفة مع اليمين المتطرف خلال مرحلة انتشار الوباء، فتنوع أصول السكان بالدول الأوروبية نتيجة الهجرات كان له أثره على ديناميكية الوباء؛ الذي يختلف وفقاً للأقاليم وتنظيم نظام الرعاية الصحية، فالأُسر الكبيرة، ووجود العمال عبر الحدود، ووجود علاقات ارتباط وثيقة بين نسبة من السكان والدول من خارج أوروبا يزيد من حركة التنقلات والتفاعل مع الدول المصابة من خارج أوروبا. ( ) ورغم الإغلاق النسبي أو الكامل الذي اتخذته الدول الأوروبية بتاريخ 16/03/2020 واعتماده كإجراء وقائي والتشديد الأمني المُكثّف على الحدود ومنع دخول الأجانب إليها. ( )
فإنه لم يمنع متطرفي اليمين الشعبويين من اعتبار المناطق التي فيها نسبة كبيرة من المهاجرين سبباً لتفشي الفيروس وانتشاره بشكل متسارع في المجتمعات الأوروبية، أو اعتبار المهاجرين القادمين إلى اليونان من الشرق الأوسط وأفريقيا سيسرع من انتشار Covid-19. الفكرة العامة استندت إلى أن الوباء نتج عن العولمة نفسها ، لأن هذا يولد تدفقات مستمرة من الهجرة والسفر. وهكذا كان كل من Marine Le Pen و FPÖ النمساوي أول من طلب الفحوصات الصحية في المطارات ، بما في ذلك المسافرين داخل أوروبا. ( )
وقد سمح وباء Covid-19 والقيود المفروضة ومسألة الحزام الصحي "التطويق والعزل"، في ترسيخ حالة الشك في الحكومات، التي استغلها المتطرفون من أجل توسيع نطاق تعبئتهم ضد الحكومات حيث نظّموا تظاهرات في عدة مدن ألمانية للاحتجاج على قيود الجائحة، أو مناهضة اللقاحات، ونشر الخطابات التي تحثّ على الكراهية والتحريض على العنف عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة. وشهدت العديد من المدن مظاهرات ضد إجراءات "الحبس" بعضها لم يخلُ من استخدام العنف كما في ألمانيا حيث أصيب عدد من عناصر الشرطة وحُررت مئات البلاغات ضد متظاهرين، في مظاهرات دريسدن. ( )
وكذلك الاحتجاجات في المدن النمساوية التي تدعو للقلق لسببين:
أولاً: ماضي البلاد في الفترة النازية، حيث أشار تقرير "أو آر إف"، التلفزيون النمساوي إلى ارتفاع حاد في نشاط المتطرفين والجرائم التي يحظرها قانون منع نشاط "الحركة الاشتراكية الوطنية" النازية، وأن أرقام "أرشيف جرائم اليمين المتطرف"، تشير إلى وجود أقل من 10 % من السكان في النمسا هم من العنصريين اليمينيين المتطرفين، وحصة النازيين بينهم تتراوح بين 1.5 و3 %. وبحسب تصريح العاملين في مؤسسة خدمة النمساويين للإبلاغ عن الكراهية غير الحكومية، المعروفة باسم "بان هايت" حيث سجلت نمواً في حجم خطاب الكراهية بنسبة 76 % خلال العام 2020، مقارنة بعام 2019، وخلال الربع الأول من العام الجاري 2021، تضاعف ذلك الخطاب أربعة أضعاف. ويربط الباحثون فيها بين الإغلاقات والإجراءات الصارمة للجائحة ونسبة 82 % من زيادة التطرف في معاداة الأجانب. ( )
ثانياً: تكرر الصدامات بين المحتجين وقوات الشرطة في نهاية كلّ أسبوع منذ إبريل/ نيسان 2020 ، فاليمين الذي استغل الاستياء الشعبي المشروع ضد سياسات الحكومة في تقييد حرية المواطنين لتعزيز أجنداته السياسية، انتقل في خطابه نحو مستويات مختلفة وجديدة في علنية التصريح حول الإيمان بنظرية المؤامرة وبثّ كراهية الأجانب ومعاداة اليهود ومناهضة الحياة البرلمانية، وفي انتقال الخطاب إلى جماعات أكثر تصلباً وأصغر حجماً في تشكيل نواتها الجاذبة للشباب. فاليمين المتطرف يسوّق نفسه في الشارع على أنّه "ضحية السلطات الفاشية الأوروبية المتعاونة مع اليهود المتنفذين".
وقد شكلت الجائحة تربة خصبة لنشر رسائل المتطرفين، ومهدت الطريق للتواصل والاندماج بين المتطرفين والناس العاديين الذين دفعهم الإحباط من إجراءات الكورونا وعواقب هذه الاجراءات الاقتصادية والخوف، إلى تبنّي نظريات اليمين المتطرف إن كان حول "الحكومة العالمية" وحكم العالم، أو عودة الحكومات الشمولية "بحجة الصحة العامة الخادعة" التي ستسمح للدولة "بإدامة عدد كبير من تدابير قتل الحريات"، أو بإدانة الحكومة على عدم كفاءتها في إدارة الجائحة التي شملت تقريباً كافة مدن أوروبا، هذا يعيد للأذهان مجريات التاريخ والتبعات السياسية التي نجمت عن جائحة إنفلونزا عام 1918 وساعدت في إيصال النازيين إلى الحكم في ألمانيا، ما يُعدُّ تحذيراً بشأن النتائج المحتملة لأزمة فيروس كورونا الراهنة، والآثار البعيدة المدى للجائحات".
إذا كانت الحرب العالمية الأولى أدت لانقسام الكوكب إلى معسكرين وأدت الحرب العالمية الثانية لتبلور الإمبريالية، فالكوفيد أظهر نوع جديد من إمبريالية الأفراد وانتشار مفهوم الاستشفاء الانتقائي –الطب السياسي.
ولكن الخوف والعنف لا يقتصر على هذا الجانب الاجتماعي السياسي غير المستقر، بل يمتد نحو البُنى الأولية في المجتمعات ليظهر في:
فقدان التوازن، العنف المنزلي الصفحة المطوية
شكلت آلية انتشار وباء Covid-19 عاملاً حاسماً في ازدياد المخاوف والشك في الآخرين من أن يكونوا مصدراً للوباء، وجعل الشخص حذراً من أهله، ليعيش هاجس خطر الهلاك والعجز عن رد المرض، وما تولده من توتر نفسي يجري عكسه على الآخرين بصور مختلفة، وأضافت إليها حالة "الحبس الإلزامي" وفقدان الوظائف لمنع انتشار الوباء العديد من العواقب، حيث فقد الأفراد حالة الانتظام والاندماج في سياق اجتماعي يمثلهم كمنجز للتطور خلال خمسة قرون، وعلى الرغم من الدور الذي لعبه الأنترنيت كبديل تواصلي أو تيسير بعض الأعمال من خلاله، لكن الأمر لم يخلُ من المخاطر والصدامات على صعيد ركائز الانتظام البشري الأساسي في الأسرة، لتظهر بشكل أكثر سطوعاً في:
"جائحة الظل" العنف ضد النساء
شكلت إعادة الأزواج إلى المنزل بشكل "طارئ وإجباري"، عودة للمواجهات داخل الأسر نتيجة الاحتكاك اليومي وتصاعد الخلافات، ففقدان توازن الأدوار والمسؤوليات التي يفرضها إطار النشاط والعمل خارج المنزل لكلا الزوجين أو أحدهما، يمثل عودة نحو أساليب السيطرة لرب الأسرة والانتظام الأولي تحت قيادته لها، والسعي لفرض التحكم والسيطرة من طرفه، التي صارت شأناً غير مألوف بل محفّز للتنافر بين الزوجين، وتصاعد هذا التنافر وصولاً للإعتداء على الآخر، نتيجة انعدام الأمن المالي وعدم اليقين ومستويات التوتر في حياة الأفراد " الأزواج" وصعوبة التكيف مع المعطيات الجديدة في بداية انتشار الفيروس والتباعد الاجتماعي استراتيجيات المسافة (social distancing ) والبقاء بالمنزل والعزل الذاتي والإغلاق، وفقدان الأعمال بسبب وجود شريحة كبيرة من النساء العاملات في قطاع الخدمات مثل صناعة السياحة والمقاهي والمطاعم، أو المجال التي ترتفع فيها نسبة توظيف النساء؛ التي أبقت النساء في نطاق الأسرة وجعلتهن أكثر مسؤولية عن الأعمال المنزلية غير المدفوعة الأجر وزيادة أعباء الرعاية والتربية وإدارة المنزل في ظل غلق المدارس والعمل من المنزل، وكذلك أكثر عرضة للعنف والعدوان فالأزمة الصحية الحالية وفرت أرضاً خصبة لزيادة العنف المنزلي بمعناه "الواسع" داخل الأسرة. ( )
لقد اخترق الكوفيد 19 كافة الحلقات الضعيفة في المجتمع على الصعيد العالمي، فقبل ظهور جائحة COVID-19، كان العنف المنزلي ولم يزل هو الوجه الخفي للإرهاب داخل المنازل والمساحات الخاصة التي يمارس فيها العنف دون ضوابط ولأسباب مختلفة، إذ عانت واحدة من كل ثلاث نساء من العنف الجسدي أو الجنسي بشكل أساسي من الشريك الحميم. وهناك 243 مليون من الفتيات والنساء اللائي تتراوح أعمارهن بين 15 و 49 عاما اللائي تعرضن للعنف الجنسي (و – أو) الجسدي من شريك حميم في العام 2019. ( )
ومنذ بداية جائحة كوفيد 19 بينما يتركز اهتمام العالم على احتوائها، فإن هذه الآفة الأخرى الإرهاب ضد النساء أخذت في الازدياد، وتفاقمت بسبب الإجراءات التي تم وضعها والقيود المفروضة على الحركة وغياب الشبكات الحماية الاجتماعية، ونقص خدمات الدعم الاجتماعي والقانوني والأمني والصحي للنساء. ورصدت الأمم المتحدة تسجيل عديد من الدول – مثل كندا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا والمملكة المتحدة وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية معدلات مرتفعة لاستغاثات النجدة من ضحايا العنف المنزلي وطلبهم لتوفير خدمات الملاجئ. وقد ارتفعت حالات العنف أثناء الحبس الأول في فرنسا بنسبة 30٪ ، حسب هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، وازداد عدد الاستغاثات على الخط الساخن الخاص بحماية النساء والأطفال في إسبانيا بنحو 18 بالمئة. ( )
وفي بداية أبريل 2020 أطلقت الأمم المتحدة تحذيراً بشأن زيادة حالات العنف ضد المرأة الذي عرفته منظمة الأمم المتحدة بـ “وباء الظل” أو الـ ( Shadow pandemic ) في مختلف دول العالم. وأصدر البرلمان الأوروبي بياناً صحفياً يتناول معالجة القضية "لن نترك نساء أوروبا بمفردهم" وطلب من الدول الأعضاء زيادة الدعم لضحايا العنف المنزلي أثناء الوباء.( ) فالالتفات إلى مسألة عزل الضحايا- النساء والأطفال- عن أطر الحماية والأمان، وإيجاد بدائل للإبلاغ كان قضية هامة بالنسبة للحدّ من العنف، وقد حفّزت هذه الملاحظة تقدم الاستراتيجية الأوروبية للمساواة بين الجنسين (2020-2025) بشكل غير مسبوق، وتماشياً مع الالتزامات الواردة في هذه الاستراتيجية ، ستطلق المفوضية "شبكة أوروبية لمنع العنف الجنساني والعنف المنزلي"، لتيسير التعاون بين الدول الأعضاء وأصحاب المصلحة، فضلاً عن تمويل التدريب والتطوير والتعزيز "بناء القدرات وخدمات الدعم" من خلال وضع الرجال والفتيان والذكورة في مركز مناهج الوقاية من العنف. ( )
هذه الإجراءات المتأخرة على أهميتها لا تعني إلغاء العنف المنزلي، لكنها ترفع الغطاء عن المُعنّفين، كما فعلت جائحة كورونا بكشفها الغطاء عن الخلل المترسخ في أعماق المجتمعات، فالأوبئة كالحروب تُهدد الروابط الاجتماعية وتُبرز المشكلات الموجودة في المجتمعات بشكل أكثر وضوحاً.
خاتمة
لم يشهد العالم عدّاد الموت المتسارع والناجم عن كوفيد 19 منذ الحرب العالمية الثانية، التي كان الموت فيها حصيلة صراع عنفي، واليوم وأمام عودة عدّاد الموت للعمل بدون مبررات مفهومة، أدّى لانتشار سلوكيات مختلفة جعلت العنف متاحاً ولا يحتاج لمبرر لممارسته، ما اضطر الحكومات إلى تخفيض الحجر مع نتائج كارثية أدّت لموجات متعاقبة من الوباء وقد يمضي وقت ليس بالقليل ليتم استيعاب هول الكارثة وإنتاج تقييمات وأدبيات لها، ولكن يمكن القول أن العالم لن يكون مثل قبل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سابقة في مجال الطب: جلد اصطناعي يعيد حاسة اللمس التالفة! • ف


.. مجمع هاير الصناعي الصديق للبيئة




.. برنامج جديد ابتداءً 5 مايو | صعود وسقوط المايا | ناشونال جيو


.. وداعاً للمكملات الغذائية.. استبدلهم بهذه البدائل الطبيعية ال




.. -جونسون آند جونسون- ستدفع 6 مليارات دولار لحل دعاوى سرطان ال