الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجليات الالوان والرموز في مقامات السجاد

سعد محمد موسى

2022 / 2 / 1
الادب والفن


بعد أن نزح البدو الرحل والبعض يعتقد انهم من أصول الغجر الرحالة ممن يحترفون مهنة الحياكة من البوادي الى تخوم (مدينة الناصرية) وتوقفوا في العراء، ناخت أبلهم وتعالى رغاؤها مع رطينهم فانزلوا أمتعتهم مع شلفان الصوف وأدوات الغزل والمعاول، ثم نصبوا خيامهم وشيدوا من عدة آلاتهم البدائية والخشبية مقاماً للحياكة هناك فوق حفر في الارض تدعى (الجومة).
ثمة فضول كان يدفعني وانا أقصد مرابعهم، وكنت أراقبهم لا سيما ذلك الشيخ الحائك ذو المحيا الباسم والغاطس وسط الاصواف بينما ساقاه النحيفتان والعاريتان تتدليان وسط جومة آلة الحياكة وهو منهمك بنسج البسط، وكنت أتامل أيضاً الاصواف التي تبرمها وتغزلها زوجته بالمنوال اليدوي وبخشبة المغزل طيلة النهار دون كلل أو ملل، فتستوقفني طريقة عملهم وما ينجزاه بحرفية مدهشة وما تحيكه أناملهم الساحرة من النقوش والرموز والوحدات البصرية المنسوجة على سطح البسط والسجاد.
لقد أدركت فيما بعد أن منسوجات الحائك هي أولى القصص الملونة التي اِستفزت مخيلتي وموهبتي للرسم في
سنوات الطفولة، وأنا أعود للبيت متاثراً بما نسجه الحائك من تكوينات خيوط الصوف فاحاكي على أوراق كراسة الرسم بصريات البدوي وما أنجزه فوق البسط والسجاد من رسوم كانت تمثل طيور وحيوانات وأشكال هندسية لا سيما اِيحاءات لشكل المثلث وتكراره بتناظرات لونية مختلفة، والذي يمثل قدسية دينية وشعبية ورمز مستوحى من الحضارات القديمة إضافة الى قيمته الجمالية في التصميم، وكذلك التكوينات التي ترمز للنجوم والأهِلّة والنخيل والخطوط المستقيمة بتناسق لوني وتشكيلات المنحنيات والاقواس أيضاً.
يبقى الحائكون والنساجون في أطراف المدينة يعملون طيلة النهار مثل خلايا النحل أثناء إقامتهم لمدة ثلاثة أشهر.
وفي الايام الاخيرة لفصل الربيع تجيء قافلة الابل مرة أخرى لتنقلهم الى البادية أو ربما الى أطراف مدينة أخرى أو التوجه بمضاربهم جنوباً نحو تخوم الاهوار، بعد أن يجتمع بهم أهالي المدينة وسكان القرى القريبة لتوديعهم ومنحهم الطعام لرحلتهم أو لتسديد ما تبقى عليهم من ديون من شراء المنسوجات.
في بواكير الصيف من بدايات السبعينات غادر الحائكين ولم يعودوا الى المدينة مرةً أخرى، بعد أن تركوا أرثاً كبيراً من السجاد والبسط والوسائد المزركشة في أغلب بيوت ودواوين المدينة ومضايف القرى المتاخمة للناصرية وتركوا ذكرياتهم وحكاياتهم وقصصهم أيضاً عن الترحال والبوادي ولم يرجعوا اليها مرة أخرى!!
وبعد أن اِرتحلت قوافل النساجين وأخذوا معهم أسرارهم الجمالية والحرفية.
أرتايت أن أراقب الجارة العجوز الزاهدة ( كاغودة) عاشقة غزل الاصواف في محلتنا، الملتحفة (الهدم البدوي) الاسود ذو الملمس الخشن المنسوج من وبر الابل، وهي عباءة كانت تختلف عن عباءات نساء أهل المدينة المنسوجة من خيوط البريسم والحرير. كانت تبدو بجسدها النحيل وظهرها المحنيّ والمنزوية بخجل وكأنها (المهاتما غاندي) وهو يمارس هوايته على منواله الخشبي في غزل الاصواف والقطن في صومعته في بلاد الهند.
كانت كاغودة ترتل صلواتها في الغرفة الطينية وتردد الادعية وتسبح بمسبحتها ذات الخرز السوداء الصغيرة مع التَميمة المثبتة في منتصف الشاهد والتي لم تبرح كفيها الموشومتين بنقوش مشابهة لنقوش منسوجاتها وهي تغزل الصوف وتبرمه بمغزلها العتيق.
ثم تلقي بالخيوط الصوفية المبرومة بدقة في قدور نحاسية كبيرة يغلي بها الماء، بعدها تضيف مساحيق الاصباغ لكل قدر لون معين، وتحرك خيوط الصوف مع الصبغة بواسطة عصا خشبية كي تكتسب لون السائل الملون، كانت الابخرة الملونة تتصاعد من حوش الدار المفتوح الى السماء في كرنفال لوني، يعلن عن بدء كاغودة لموسم التحضيرات لحياكة البسط.
ثم تخرج أكوام الخيوط بعد ذلك من الاواني وتجففها فوق سطح الدار وتنشرها تحت أشعة الشمس ثم تلفها على شكل كرات حسب الوانها وتصنيفاتها من الوان باردة وحارة ومحايدة!!
كانت العجوز تمنح أسماء الى الوان الخيوط الصوفية لم أسمع بها من قبل مثل (العكَروكَي) وتعني به اللون الاخضر (البهاري) الذي يرمز للون الاصفر...( دم الغزال) تشير به الى الاحمر الصارخ، (الادعم) يعني اللون البني، أما (البناوّش) فهو اللون الازرق!!
في داخل دارها البسيط والقديم عادة ما يستوقفني تكوينات (النضيدة) من اللحف والفرشات والوسائد والأزر المصفطة بشكل أنيق فوق البوفية الخشبية العتيقة بطرازها الانكليزي الفكتوري والمزينة على إحدى بواباتها صورة تمثل الموناليزا العراقية (بنت المعيدي)، وكذلك جماليات البسط والسجاد التي تتجلى بها العفوية الشعبية والتلقائية الجمالية التعبيرية لمهن حرفية أصيلة ما زالت تتوارثها الاجيال منذ العصور السومرية القديمة، وقد اِستوحى الكثير من الفنانيين القدامى والمعاصرين من الشرقيين والاروربيين اِبداعاتهم البصرية التي كانت تحاكي الموروث الرمزي والتاريخي للمنسوجات والبسط، المتمثل بالاختزال والتجريد والاستنباط الرمزي والمعنى الدلالي من تكوينات الواقع الوجودي والمفردات الحياتية.
وكان الرسام والمزخرف العراقي (يحيى بن محمود الواسطي) الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي في أواخر العصر العباسي، من أبرز أساطين الفن العربي والاسلامي الذي اِستوحى مواضيعه من تكوينات السجاد والمنمنمات الاسلامية وزخرف التوريق ومن توظيف الوحدات البصرية والزخرفية والتكوينات النباتية والحيوانية والهندسية واستلهام شكل النجمة الثمانية السومرية الاصل لتزيين المخطوطات والمساجد وواجهات الابنية.
منذ بدايات فن الحياكة والنسيج التي ظهرت في بلاد الرافدين منذ العصور القديمة التي تفنن وأبدع بها الحائك السومري والتي أكدت أن الانسان الرافديني كان من أوائل النساجين في تاريخ الحضارات الانسانية القديمة وقد كشفت التنقيبات على وجود مغازل فخارية وثقالات حجرية بدائية استخدمت للحياكة
هناك في مدن: "أور، ولگش، والوركاء، وأوما" حيث تتجمع تلال الاصواف أمام (بيت أوشباري) معامل النسيج
حينها نسج الرافديني أول سجادة (البازاريك) في القرن الخامس قبل الميلاد والمحفوظة بنسختها الاصلية حتى يومنا هذا في متحف (هيرميتاج) في مدينة (سان بطرس بيرك) الروسية وما زال النساج العراقي المعاصر يبدع بذات المواصفات والوحدات والرموز عن سجاد اليوم وهو يحاكي الابداع المستوحى من سجادة البازاريك الاولى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم


.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع




.. هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية