الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجاذبات اللغة و المعنى في قصيدة الشاعر حسن الحاج عگله ثجيل -صبرُ الفتى-

احسان العسكري

2022 / 2 / 1
الادب والفن


يُحسب للشعر العمودي انه قارىء ذاته وطارحها بقوة فهو موروث الهوية العربية الاصيلة ونبرة صوتها المستمَدة من عمق اثره وتأثيره الا ان الشعر الحديث له رأي آخر في الطرح و التبيين فغالباً ما تكون القصيدة في ايامنا هذه قريبة جداً من الروح لكنها بعيدة عن الادراك المعنوي لما بين سطورها ، ان المتابع لأحداث الثقافة و وما تجود به خلجات الشعراء والشواعر يدرك تماماً ان الحقيقيين منهم لازالوا يبحثون عن شيء يبعد شبهة التقليد عن واجهة نظمهم و يبدعون في ادراك تطور الحياة السريع ، وامامنا في هذا المقال تجربة اعتبرها مهمة وهي تجربة الشاعر حسن الحاج عگله اذ انه بالاضافة لكونه يكتب بلغة رصينة واضحة غير مبهمة نجده يبدع في التورية ويجيد في التصوير فقصيدته " صبر الفتى" ذات الوسم الواضح و التقليدي والتي جاءت على البحر الطويل المقبوض الذي مكن بدوره الشاعر في ان يكون متحرراً اكثر من قيود البحور التي طالما كانت ولازالت تؤثر على ايصال الفكرة سيما وان هكذا قصائد لا تُنظم و لا تكتب بقدر ما تكتب شاعرها .
" تَقَاذَفُني الأَرزاءُ مِنْ كُلِّ جانبِ
كَأَنِّي كُراتٌ سانِحاتٌ لِلَاعِبِ "
وبعيداً عن الخوض في غمار البحر و ما فيه ارى ان الشعر اجاد استخدامه اذا لا يوجد ما يؤثر عى مسيرها باتجاه الفكرة ، فمنذ الدخول الاول في البيت الاول بيّن الشاعر ما يريد قوله ببساطة ووضوح رغم كمية الالم الذي لم يعلن شدته الا انه اخفى بين سطور ابياته الاولى هماً عظيماً اثقله و اوجعه حتى قرر اعادة دوزنة الصبر بما يتلائم وشدة ما هو فيه و قوة تحمله له :
" تَحَلَّيْتُ بالصبرِ الذي ساغَ عَلْقَماً
وواسَيْتُ يَأسي في أَمانٍ كَواذبِ "
وهنا يبرز ما اشرت اليه هو ان الشاعر لديه القدرة على اعادة تنظيم ذاته و يبدو ذلك جلياّ في عجز البيت وقد اجاد في ضبط ايقاع المفردة واضاف للحزن الجلي في النص شيئاً مكنه من عبور حدود التقليد التي غالباً ما تُقفل النص على ذاته .
(فبلا التأملُ لا أمل .. وبلا الاماني لاعمل ) لينقلنا الى فضاء من الابداع في ترتيب اوراق الذات و محاولة لسبر اغوار التقدم نحو التداوي بترك التراجع باتجاه الموجع .
"ومِنْ فَرْطِ توزيعِ اصْطِباري تَقَلَّلَتْ
مقاديرُ صبري في عيونِ مصائبي "
وهنا اجاب الشاعر على ( كيف) التي تطرح نفسها كتساؤل مشروع عن آلية اعادة تنظيم الذات و وضع الخطوة الأولى في طريق السلامة .
" أَنامُ على وَخْزِ الهمومِ مُوَطِّناً
وما غَيرُ دمعي للجفونِ بصاحبِ "
بما إنه وخز اذن فهو ماضٍ بمضي ما سببه و حسب رأيي لو قال الشاعر بعد (موطنا) مقادير دمعي للجفون كصاحبٍ * لكان المعنى مختلف الا انه اطلق العنان للتوطين و لم يقل موطَّنا كي تعود على وخز الهموم وهي في الحالتين حال الا ان للشاعر وجهة نظره الخاصة في سيما و ان العجز فيه من الايضاح ما يكفي لاشباع الفكرة بالمجمل و تمكين التفكّر بالمعنى المراد ايصاله .
" أُعاتبُ نفسي ثُمَّ أَقسو بِعَتْبِها
وحَسْبي أَذَاةً أَنْ أَكونَ مُعاتِبِي"
لايمكن ان يكون العتب موجعا الا اذا اغرق الذات وليس من العتب على النفس اوجع ، نعم اجاد شاعرنا هنا جداً في تبيان معاناته و لعله يريد ان غامر بنفسه فيؤذيها مترفعاً في ذلك عن اذية من سواها او ان مقاصده في الاذية عبارة عن وفاء خصب وحب عظيم لمن استحقها ، فعجز البيت فيه الكثير مما يخفيه من الاسرار ولعل اهمها من اوجع حسن فآثر اذية نفسه على المساس به ؟ ولا اعتقد ان الصبر هو المستهدف هنا لأنه ببساطة ناتج عن اذى تمكن الشاعر بطريقة ما من تحمله .
" أُبَعثِرُ في البالِ السّنينَ ورغبتي
أَرى طيفَ أَفراحٍ فَعَزَّت رَغائبي
ويا ليتني ما كُنتُ أَعمَدُ ذاكراً
لِأَفتحَ ما اضْطَمّتْ عليهِ حَقائبي"
غالباً ما تكتب القصيدة العمودية بانتقالات وتغييرات متفرقة تجمعها وحدة الموضوع فنجد شاعرا ما يمر في قصيدة واحدة بتحولات مختلفة فمرة يجود بنفسه واخرى يضحي بمن اتعبه ثم ينتهي به الامر الى المتلقي فحتى هذا لا ينجُ من فورته الا ان شاعرنا هنا ابتدأ بنفسه ولازال يتجول بين اوجاعها موقضاً في كل بيت الشيء الاكثر ايلاماً من غيره ، لذلك هو يتبعثر ثم يجتمع ثم يعود لبعثرة افكاره ويعود مرة اخرى لجمعها و تتوالى الفكرة تلو الفكرة والرغبة تلو الرغبة ليجمعها في حقيبة حياة التي يبدو انها ممتلئة بما لا يطيق الانسان العادي ثقله وهذا واضح بقوله :
فقد زُوِّدَتْ مِمّا تَنوءُ بِحَملِهِ
وأُوْقِرْنَ لو كُنَّ الجبالَ مَناكِبي " هي والله هذه القضية التي تمكن للشاعر من اعتماد ثقته بنفسه كمنجى للخلاص من فقدان الاحساس بوجود ما يعينه غيرها.
" قَوارِبُ غيري في الدّلالةِ أَشْرَعَتْ
وللآنَ في نهرِ الضّياعِ قَواربي
تُفَتِّشُ عن مرسى انتظارٍ ولم تزلْ
تُرَجِّي ازْدِهاءً كازْدِهاءِ المَراكِبِ
ومسكينَةٌ نفسي تَبُثُّ شَكاتَها
حَبائبَها والمُتْلِفوها حَبائِبي
ومَنْ تهجمِ الدنيا عليهِ بهمِّها
وتُبدلْ صباحاتٍ له بالغياهبِ
وتُفْرِدْهُ ما شاءَتْ وشاءَت تَنائِياً
وتَترُكْهُ رهنَ الغابِ دونَ مخالبِ
يكنْ حَرَضاً للحُزنِ خِدْناً مُلازماً
يُغالبُ في دمعٍ شَجِيٍّ مُغالِبِ "
ان ما يميز الشاعر المبدع في القصيدة العمودية هو عمق التجربة الجمالية عن طريق تحويله للإدراك الجمالي الى وصف اكثر قدرة على الظهور فيتيح لنا للمتلقي ان يرى ما لم يكن قادراً على ادراكه كيف ؟
الجواب في هذه الابيات فالمتأمل لها ولطريقة الشاعر في نظمها واسلوب الانتقال عبر السهل الممتنع الى المكتوب العميق يجد ان الفهم للمفردة وما تخفيه اصبح اكثر التقاطاً للمعنى بقراءته قبل سماعه والاحساس به قبل قراءته فيستطيع إن يميز ما يتضمنه الشعر بوضوح و عذوبة ، و حين يخرج الشاعر من التنقل بين نفسه ونفسه و يجد من يلومه على ما وضعه فيه سيكون قد شرح معادلة الالم بما تقتضيه آلية الدواء لذا جاءت بعض المشاهد في القصيدة متماشية مع البحث عن خلاص واتضح انه ليس بيعيد عن امكانية الطامح و لا بغريب عن قدرته على ايجاده وبالتالى ترويض الحل و التمكن من ذلك بجدارة و هنا بيرز تالق الفكرة الحسية و يعظم سحرها استناداً عمق الشكل الشعري والآلية التي تم بها بناء النص فجميع ما جاء فيه هو محاكاة لواقع مؤلم تمكن شاعرنا من رسم ملامحه بطريقة تثير الدهشة وهو يصف لنا كيف انتهى به المطاف الى متألم لما يزل قوياً بعد رغم جبروت و شدة بطش خصمه .
" وأُخبرُ مَنْ يلقى عليَّ تَضَعضُعاً
وإنْ لم أُجِبْ إنْ كانَ يوماً مُخاطبي
لقد مِتُّ مِنْ قَبلِ المماتِ حقيقةً
وما هَيئتي إلّا مَجازٌ لِذاهِبِ "
لا يعاف الحدث عنوانه والشاعر هنا كأنه يريد بنفسه الأمل دون ان يفصح صراحةً وهذه في الشعر اعتبرها شخصياً انعطافة زمنية منتهية بحدث لم ينتهِ بعد لذلك نجد النص ينتقل من ذاته لذات الشاعر عبر انزياحات قل ما نصادفها في القصيدة العمودية فالحداثة قرينة الفكرة والفكرة ربيبة الخيال وخيال الشاعر هنا عميق جداً وان جاء النص بوجه واضح وبائن فهو يقول انا حي رغم موت كل الآمال و اندثار الاحلام وهذا ما اشرنا اليه اعلاه فوصف الشاعر لنفسه انه مجاز لا يعني الا كونه حقيقة أريد بها التغييب و المجاز في هذا النص ليس مجازاً مطلقاً سيما وانه صرح عبر قوله :
"أَبَتْ حادثاتٌ للزّمانِ تَعافُني
ولا تَستَطيبُ المكثَ إلّا بجانبي"
اي انه ليس وليد قناعاته بقدر ماهو رهين قدره وتقلبات الزمان ، ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بأمل عظيم وقليل مما اخذ به .
" تُراودُني في غَفلةٍ أو تَنَبُّهٍ
كلا الحالتينِ اسْتُمْرِءَا في تَجاربي
أَضيقُ بِوِسعٍ لا أُطيقُ سعادةً
لِسابقِ علمٍ أنّ حُزناً مُراقبي"
وهنا اجاب الشاعر على التساؤلات التي تطرحها قراءتنا للابيات التي سبقت هذه، وهكذا هو الشعر اذا ما كُتب بأنامل محترف متمكن من لغته و اداته التخييلة فهو يعلم ما هو فيه وما وصل اليه ولا شك انه يعلم ماذا يريد و ان لم يُصرح بذلك ، فالشعر ليس سرداً بطبيعة الحال و ان اتخذ الاخير نمط الفنية الشعرية الا انه في النهاية سرد بينما الشعر يوجب التأمل في كيان القصيدة عبر التدقيق بكل مفصل من مفاصل لغته وهو أمر لا يتأتى بمجرد قراءة سطحية او انطباعية للنص فالخوض في تفاصيل العملية الشعرية واستنتاج معادلات الجمال فيها شيء يفرضه النص على المتلقي و النص هو بحقيقته نتاج شاعر فكيف اذا كان الشاعر ذو ملكة استنتاجية متميزة و احساس عال بما يدور في نفسه شاعر يضيق وسعاً بالسعادة فيكتب حزنه بطريقة مثيرة للاعجاب و الدهشة ، حين يتوقف الشعر يبرز الفكر وحين يجتمعان في وقفة واحدة ينتجان كماً لا يستهان به من علامات التعجب و الدهشة .
" وقد خَبَرَتْ نفسي اللّيالِيَ خبرةً
فصارَ كفافُ الحالِ أَسمى مطالبي
فللهِ ما أَعطى وللهِ أَخذُهُ
وصبرُ الفتى فيها عظيمُ المواهبِ"
نحن امام بناء متكامل للقصيدة الحقيقية المكتوبة بحرفة وتقنية لغوية متميزة فمنذ بداية القصيدة الى نهاتيها يبدو الترابط اللفضي واللغوي و المعنوي متزن متواصل مستمر منغمس باحساس شفيف متقن الايضاح و وواضح الفكرة بموضوع واحد دون خروج غير مبرر عن وحدته حتى الموسيقى و النظم و الايحاء و السبك كانت جميعها خطوط متماسكة حيكت باتقان حتى برزت القصيدة بهذه الحلة الجميلة التي تملأ نفس القاريء بالاستمتاع بوجع الشاعر لأنه وببساطة يريد ان يصنع هذه المتعة من مواد التألم وهو بهذا عبر حدود الكلاسيكية الرتيبة الى مستوى حداثوي يمكن للقاريء الفاهم لنَفس الشعر ان يلاحظه رغم اعتماد الشاعر لغة سلسة و بحر خفيف الظل لكن لموضوع عميق يستدرج القاريء الى خفاياه بخطى ترسمها الصعوبة المرنة - ان جاز لنا القول - وهكذا يُكتب الشعر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا