الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متاهة / قصة قصيرة

ابراهيم سبتي

2006 / 9 / 4
الادب والفن


الذين عرفوه.. لم يألفوه كئيباً.. صامتاً.. شارد الذهن، قبل هذه الأيام كان يشاركهم الحديث ولو ببضع كلمات مبعثرة لا معنى لها.. أصدقاؤه لا يعرفون عن عائلته شيئاً سوى أنه مقطوع لا أحد لـه في هذه الدنيا.. أخبرهم مرة بأن والده تركهم مرة وسافر إلى مدن أخرى يعمل هناك وما يعرف عنه شيئاً البتة.. أمه ماتت في حريق شب في بيتهم وهو طفل بعد ولادته بأيام.. هذه الأيام يصمت كثيراً.. يذهب إلى عوالم أخرى، فيغرق في متاهة طويلة لا حدَّ لها، يفز منها بعد صيحة قوية يوجهها أحدهم ممن حامت الحيرة حول رأسه.. لا فائدة من كل ما يطلقونه من كلمات تجاهه.. هو غائص في أمواج تعيده لسنوات نحو الطفولة التي احترقت مع البيت وماتت مع أمه.. كان مجيئك نذير شؤم لأهلك؟ لا يعلق بأية كلمة.. يبتلع ثرثرتهم وينسحب مهزوماً بدموع خفية.. النار تستعر.. ألسنة اللهب تصل إلى قبة السماء، الصرخات المدوية تنصهر وتختلط مع الفزع والرهبة.. هاله منظر النار المشتعلة داخل البيت القابع تحت رحمة المباني الكبيرة.. ركض مع الناس الراكضين بهوس وجنون حاملين الماء ومطافئ الحريق اليدوية.. لا يحمل شيئاً.. نظراته تسابقه إلى حيث النار والجحيم ومنظر الجثث المتفحمة المستخرجة من أتون النار يحزنه ويعيد إلى نفسه ألماً طفولياً غائراً في أعماقه منذ سنين لا يفارقه..ذلك الألم الذي استفزته النار الهائجة أمامه..
الساعة الثامنة صباحاً.. وسط ضجيج الناس وهسيس احتراق الأجساد المحاصرة داخل البيت الملتهب، اخترق الحشد صوت مدو لمنبّه سيارة الإطفاء الكبيرة التي ترجل منها أربعة رجال، وسحبوا أنبوباً مطاطياً وأطلقوا عنان الماء الحبيس صوب النار الصاعدة، ابتعد الناس، ورجع هو إلى الخلف وهمس في أذن رجل واقف..
-كم جثة أخرجت؟
-ثلاث!

كان في نفسه طفل يتأوه من شدة الخوف والجوع يتضرع ويتوسل نافضاً غبار سنين متعبة داخل جسد واه، فز من صمته عندما حدثه الرجل الواقف بقربه..
-الحريق بدأ بالانتشار وقد ينال من البيوت القريبة.. صرخات قديمة لطفل تطنطن في رأسه امتزجت مع عويل نسوة يقفن جانباً.. روح الطفل تلبس جسده منذ موت أمه محترقة بعد ولاته بأيام..
الساعة الثامنة وخمس دقائق.. الدخان يتصاعد والنار تتلاحق مسرعة ويستمر أوارها دون انقطاع.. هاجمته فكرة اقتحام المبنى وتحركت في أعماقه ، تحرك بخطوات قصيرة إلى أمام.. الناس يتجمعون والجثث الثلاث تفترش الرصيف وقد غُطيت بالبطانيات.. الرجل القريب همس بأن جهود رجال الإطفاء قد تفشل حيث بدت سرعة الريح تنذر بخطر وشيك.. النار تلتهم الأشياء كوحش، وبدا البيت كأنه ينصهر في فرن كبير وهو يحاول الإفلات من بقايا صرخات طفولية تهاجمه كل لحظة.. تنتصب صورة أمه المحترقة التي لم يرها أبداً..
الساعة الثامنة وعشر دقائق.. غرق المكان في مستنقع أسود سبحت فيه بقايا أشياء تقاذفتها أمواج مياه رجال الإطفاء ووصلت إلى الناس، فيما راحت الريح المسرعة تحوم فوق النار فتزيدها ضراوة وقسوة.. ظل وحده يتخطى حواجز اللهب بخطوات مرتعشة..
الساعة الثامنة والربع.. كانت ألسنة اللهب تصارع الريح والمياه القوية تتدفق عبر الأنبوب وسط المجهود الخارق الذي يبذله الرجال الأربعة.. تقدم مسرعاً إلى الأمام.. لامست قدماه مياه المستنقع السوداء، وسط صرخات الناس وجنون النساء الباكيات، خرج مترنحاً حاملاً جسداً صغيراً متفحماً تلقفه أحد الرجال الباكين تمدد هو على الرصيف قرب الجثث الصامتة وغطى نفسه ببطانية متهرئة تحت خيوط الدخان الساقطة في جوف المكان..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب


.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو




.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق


.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس




.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم