الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أن تقرأ ( الأمريكي القبيح ) في العراق . قصة قصيرة

محمود يعقوب

2022 / 2 / 5
الادب والفن


أن تقرأ " الأمريكي القبيح " في العراق*.
قصة قصيرة


( قال يومونج سو : يا لأمريكا المسكينة.. لقد فقد الإنجليز هيبتهم في آسيا بعد مائة عام ، أما أمريكا فقد فقدت هيبتها في عشر سنوات ) .
رواية " الأمريكي القبيح " .

أخيراً حان الموعد المرتقب في العراق ؛ فانتزعت الولايات المتحدة سفيرها السيد " لويس سيرس " من العاصمة هايدهو في دولة سارخان وقذفت به إلى أتون بغداد . والسيد " سيرس " كان حصاناً من خيول السياسة الاستعمارية لبلاده ، ألمّ بتفاصيل الألاعيب الدبلوماسية وخفايا أجهزة المخابرات ، حتّى بات في الوصف كالثعلب الماهر ، القادر على استباحة خم الدجاج بوثبة واحدة ، سريعة . وفي واقع الأمر ، إن هذا السفير أينما ولّى بوجهه فإنه سرعان ما ينجح في نشر الطاعون السياسي الذي يسمّم أرواح الناس .
لم يفرّط السفير في وقته الثمين ، فعلى جناح السرعة أحاط سفارته ـ في بغداد ـ بمئات الخبراء والمستشارين ، ورجال الأمن والمخابرات ؛ ذلك أن مهمته في العراق أشقّ وأكثر تعقيداً وخطورة من تلك التي تطلبتها منه دولة سارخان . ففي تلك الدولة الشرق آسيوية لم يجعل الأمريكيون نصب أعينهم سوى هدف كبح جماح الشيوعية ، وتقليم أظفار الشيوعيين . ولكن هنا في العراق يتعقّد المشهد وتتشابك الصور ، وتتعدّد الغايات ، وإن مستنقع النفط ليبدو أكثر خطورة من مستنقع الأرز . وها هو السيد " سيرس " يتوسّل ، كعادته ، بالمكر والخدع والدسائس ، وهو يتحصّن في سفارته ، ولا يتورّع عن إنفاق الأموال ذات اليمين وذات اليسار ، في عته وإسراف . ويواصل ما بات يحذقه في محاربة من يقف حجر عثرة أمام مصالح بلاده وسياستها ، والسيطرة على عقول الجماهير عبر كل وسيلة متاحة .
اعتاد السيد " سيرس " أن يخلد إلى الراحة بعد الساعة الرابعة عصراً ، عقب ثماني ساعات من العمل اليومي المتواصل . ولم يكن هذا الوقت وقت راحة بحق ، فغالباً ما كانت الأنباء السيئة التي تحدث في العراق تتسابق إليه في هذا الوقت . لم يحسب ، عندما وافق على السفر إلى العراق ، أن ثمة مشاكل بهذا القدر يمكن أن تنتظر مقدمه . حتّى أنه كتب ، ذات مرّة ، إلى المسؤول الأول في الشؤون الخارجية لبلاده ، ينحى باللائمة على العراقيين ، وهو يتندّر قائلاً :
« إن أردت الحق ، إنها بلاد ما بين الجحيمين على خريطة الواقع ؛ هنا إذا تناهى لسمعك أصوات هتافات من بعيد فاعلم أن مشكلة كبيرة تحدث ، وإذا سمعت دجاجة تزعق بأعلى صوتها فاعلم بأنها باضت مصيبة ، وإذا اخترق سمعك صوت من يحلف بأغلظ الأيمان فاعلم بأن السماء توشك أن تنطبق على الأرض » .
ولكن السيد " سيرس " الذي استطاع أن يحرز بعض النجاحات في إيقاف المد الشيوعي في سارخان ، أبدى إقداماً وهمّة في اقتحام السبل الشائكة في العراق ؛ في ذلك الوقت الذي استغرقت فيه القوات الأمريكية بتنفيذ مهام قتالية ومخابراتية في عموم مناطق العراق ، من الشمال وحتّى أقصى الجنوب . وغالباً ما كان يترتّب عن أعمالها مشاكل ومآزق شتّى ، تتطلّب في نهاية الأمر تدّخل السفارة لأجل المساعدة في معالجتها ؛ وهذا ما أثقل كاهل السفارة ، وأزعج السفير بحق .

♦♦♦♦

اليوم ، هو يوم الأحد المصادف ١٢آذار ، ومنذ أول صباحه بدت الأجواء مشرقة ودافئة حول نقطة التفتيش الأمريكية ، كانت قبّة السماء متوهّجة ، وعندما قارب النهار وقت الزوال ، شرع بعض الجنود يخلعون جزءاً من الملابس التي تغطّي أجسادهم ، بعد أن اشتدّ عليهم صهد الشمس . كانت نقطة التفتيش تلك تعترض الطريق بين العاصمة ومدينة أخرى إلى الجنوب منها تُسمّى " المحمودية " . وكان ذلك الطريق قد وُصِفَ في وقت من الأوقات بأنه طريق الموت ، لجسامة الحوادث الإرهابية التي تعرّض لها المسافرون عبر الطريق . وكانت المهمة التي تبنّاها فصيل من الجنود الأمريكيين هو تفتيش العجلات والسابلة .
غير بعيد عن نقطة التفتيش ، تناثرت بعض المنازل الريفية الصغيرة ، بطريقة عشوائية ، وأغلبها يوحي بفقر ساكنيها . وإلى جهة اليسار من نقطة التفتيش ، كان هنالك أيضاً فصيل من الجنود العراقيين الذين يتناوبون الحراسة والتفتيش مع الأمريكيين .
كان أقرب تلك البيوت الريفية من نقطة التفتيش ، لا يبعد أكثر من مائتي متراً عنها . وهو بيت مفتوح مباشرة على الأرض الزراعية التي تحيط به . درج أحد جنود نقطة التفتيش الأمريكية على مراقبة تلك البيوت ، ولا سيّما هذا البيت الصغير . وكان ( ستيفن غرين ) وهو اسم الجندي ، من أكثر الجنود الأمريكيين تهوّراً وسوء خلق . وقد درج على وضع المنظار على عينيه ومراقبة صبية جميلة ، اعتادت اللهو واللعب مع أختها الصغيرة قرب بيتهما ، أو مع أخويها الصغيرين ، إذا لم يكونا قد ذهبا إلى المدرسة . درج يراقبها بافتتان ، ويطيل النظر إليها كل يوم . ولربما كان لرشاقة جسدها وجماله أثره الحقيقي في الاستحواذ على اهتمام هذا الجندي وعدد من رفاقه أيضاً ، الذين كانوا يتزاحمون على استخدام المنظار لأجل الاستمتاع بمتابعة حركات الفتاة . من تلك المسافة ، لم تكن الصبية تدرك أن الجنود يراقبون كل حركة من حركات جسدها ، لذلك دأبت تلعب مع أختها الصغيرة وأخويها خارج الدار بطريقة حرّة ، أو تساعد في بعض مشاغل والدتها ، غير عابئة لأيمّا شيء . . كان عمرها أربعة عشرة عاماً ، ولكن جسدها جسد امرأة ريفية ناضجة . كان اسمها ( هديل ) .
في هذا اليوم ، ربما أشعل بريق الشمس في نفس ( ستيفن غرين ) المزيد من الرغبات ، فقد تشبّث بالمنظار وراح يراقب الصبية بإمعان لوقت ليس بالقصير ، كانت الفتاة لاهية ، وفي لهو الفتاة ما يثير الهوى .. راقبها إلى حدّ الاهتياج . وفي إثر ذلك خاطب أصدقاءه الجنود يعرض عليهم أمراً ، ومن غير تردّد ، أو تمحيص ، وافقوه ، وهم يتضاحكون . وانطلق الجنود صوب البيت الصغير ، يتقدّمهم ( ستيفن غرين ) . في ذلك الوقت ، كان الولدان الصغيران لهذه العائلة في المدرسة . عندما أبصرت الصبية الجنود وهم يقتربون أسرعت وندهت على أمها قائلة :
« إن الجنود قادمون نحونا يا ماما ! »
« لا شأن لكنّ بهم ، هيا أسرعن وادخلن إلى الدار » .
وفي ريبة من الأمر ، دفعت الأم بالصبيتين إلى المنزل . ولكن في إثرها مباشرة ، فتح أحد أولئك الجنود الباب من غير حشمة أو تأني ، وهو يصرخ بأعلى صوته :
« هاي .. هاي » .
ومن داخل أحد الغرف هبّ رجل ، في توجّس وقلق ، ووقف حيال الجندي ، وقال متسائلاً :
« تفضّل ، ماذا تريد ؟ » .
لم يجرِ أي حديث بين الرجل وبينهم ، فقد أمسك به أحدهم ، في الحال ، وقام بثني يديه خلف ظهره ، قيّدهما في منتهى القسوة ، وقاده نحو الغرفة التي كانت الأم وابنتاها يقبعن في داخلها ؛ في حين اكفهر وجه الرجل ، وأوشكت الشمس المتوهجة أن تغيم بين عينيه ، لم يحر جواباً ، بل كان عاجزاً عن نطق شيء إثر هذه المباغتة . وفي الحال أمر ( ستيفنس ) رفاقه بأن يوقفوا الوالدين وطفلتهما الصغيرة ووجوههم إلى الحائط . ثم أمسك بيد الصبية ( هديل ) وسحبها معه خارجاً ، وهو يأمر رفاقه بقتل أفراد العائلة سريعاً . وبدم بارد توالت طلقات عدّة أطاحت بالأب والأم وصغيرتهما . هكذا هم رجال اليانكي مولّعون بالسرعة ، فلا وقت لكي يضيع هباءً ؛ كل شيء مرّ خاطفاً ..
في الغرفة المجاورة قام ( ستيفنس ) بطرح ( هديل ) على الأرض ، وشرع يخلع سراويله . وكانت الصبية تهتزّ مرتجفة ، وهي تعضّ على شفتيها بقوة ، وكانت قد أغرقت في التبوّل على نفسها من فرط الفزع والرعب ؟ . إلّا أن ذلك لم يثنه عن عزمه ، فقد انتزع سروالها المبتل ورمى به بعيداً عنه ، وشرع في اغتصابها على مهل ..
كانت عينا الفتاة غائمة ، وربما كانت فاقدة الوعي ، حين تناوب الجنود الثلاثة الآخرين على اغتصابها . وما أن أتموا فعلتهم حتّى دخل ( ستيفنس ) على الفتاة ثانية . ومن غير أن ينتظر شيئاَ ، وضع فوهة بندقيته على جبينها ، وفجّر رأسها في الحال . وقف إزائها متأملاً بضعة لحظات ، ثم طلب من رفاقه أن يأتوه بشيء من الكيروسين ، إذا ما عثروا عليه في المنزل . وبالفعل فقد أسرع أحدهم إلى إحدى زوايا المنزل وجاء بصفيحة ممتلئة بالكيروسين . تناولها منه ( ستيفنس ) ، وصبّ الكثير منه بين ساقي الفتاة ، وأشعل النار في جسدها الغض ، ثم أوصد الباب دونها . لقد رشف الجمال وكسر القدح ! .
أتمّوا كل شيء ، بخفة ، ومهارة ، وسرعة ، وإتقان ؛ وعادوا إلى نقطتهم والبشاشة تغمر وجوههم ، كما لو كانوا قد انتهوا من تفتيش مركبة عابرة للطريق . لم يشعر أي منهم بالأسف لأنهم كدّروا ألق النهار ولوّثوا شعاع الشمس . من أمام نقطة التفتيش ، كان البيت يلوح في غاية السكون ، لا شيء يتحرّك من أركانه ، ما عدا خيط من دخان كان يتصاعد متعثّراَ ، ويذوب خجلاً في السماء .
بعد مرور ما يربو على الساعتين من الوقت ، عاد الولدان الصغيران من المدرسة ، وما أن وطئت أقدامها المنزل حتّى شقّ صراخهما عنان السماء ، وخرجا هلعين ، مرعوبين إلى العراء ، يلوذ أحدهما بالآخر . وظلّا يبكيان بمرارة ، يتقدّمان تارة نحو باب المنزل ، وتارة أخرى يبتعدان عنه ، حتّى تنبّه لهما بعض الجيران وسارع نحوهما . بعد ساعة من الوقت ، أمسى هناك لفيف من سكّان المنطقة ، وهم يدخلون البيت ويخرجون منه ، في حركة دؤوب .
في إثر تقاطر أعداد من الناس إلى البيت المنكوب ، وتجمهرهم قربه ، علا لغطهم وضجيجهم ؛ ما دفع برجال الحاجز الأمريكي إلى الإسراع صوب البيت أيضاً ، وكان من بينهم الجندي ( ستيفنس ) . وفي حركة من التمثيل المسرحي المخادع ، أبدا الأمريكيون أسفهم لما ألمّ بهذه العائلة المسالمة ، وانتشروا على الفور في أنحاء المنطقة للبحث عن الجناة . وعقب ساعة من الوقت تقريباً ، عادوا ليقولوا للناس المتجمهرين ، أن لا أثر للجناة ، وهم يصوّرون الأمر بأن من ارتكب الجريمة هم الإرهابيين حسب المعطيات الأولية التي توصّلوا إليها ، وأنهم سوف يتابعون تحقيقاتهم وبحثهم ، وتعقّب هؤلاء الجناة ! .
وعلى العكس من ذلك ، كان الفصيل العسكري العراقي غائباً عن المشهد . فقد كان موضعه بعيداً عن مكان الحادث بعض الشيء ، وليس بوسع أحد من جنوده سماع أصوات اللغط ، أو رؤية ما يحدث بوضوح . ولكن كان ثلاثة من الجنود منهمكين في معالجة عطب لحق بعجلة من عجلات النقل ، على مسافة قريبة من فصيلهم ، وقد تسنًى لأحدهم أن يبصر ، على نحوٍ شبه غائم ، جمع من الجنود الأمريكيين في طريق عودتهم من المنزل ، الذي التف حوله جمع من الناس . فخاطب زميليه قائلاً :
« انظرا هناك ، يبدو أن ثمة حادث قد وقع » . وانتصب الجنديان الآخران ، وصوّبا أنظارهما نحو ذلك المنزل ، وقال أحدهما : « يبدو أنه حادث خطير ، هيا بنا لنستطلع الأمر » . وهبّ ثلاثتهم إلى ذلك المكان يحثّون الخطى . فور وصولهم ، علموا من أحاديث الناس المتجمهرين أن جريمة مروعة أودت بحياة ربّ المنزل وأفراد عائلته . وكان بعض هؤلاء الناس يدخلون إلى البيت لإلقاء نظرة على الجثث . قال أكبر هؤلاء الجنود سنّاً ، واسمه ( غني ) لصاحبيه : « دعونا ندخل إلى البيت ونشاهد ما حدث » . وكان ( غني ) هذا شابّاً ريفياً شجاعاً وذا مروءة وحكمة . ووافقه زميله الآخر المدعو ( فوزي ) ، بينما لم ينطق الجندي الثالث بشيء وظلّ متسمّراً في مكانه ، وكان هذا الجندي معروفاً باسم ( سلام السائق ) ، وهو سائق الفصيل . وعلى الرغم من محبة الجميع له ، وألفته ، إلّا أنه كان رعديداً ومتردّداً في أغلب المواقف ، ما أن ولج صديقاه ( غني ) و( فوزي ) إلى داخل البيت ، حتّى أسرع وأثنى قدميه عائداً إلى فصيله ، بعد أن أدرك أن الحادث جريمة قتل عائلة برمّتها . اقتحم ( فوزي ) وصديقه الغرفة الأولى ، وشاهدا الأب والأم وطفلتهما مضرّجين بدمائهم على أرضها ، وكان واضحاً لهما أن العائلة أُعدِمت معاً ، وفي وقت واحد ، ومن موضع إطلاق نار قريب جداً . كان ( غني ) ملمّاً بتجارب السلاح ، وعارفاً بمثل هذه الأمور . ثم عمدا إلى الغرفة الأخرى ، وصدمهما مرأى الصبية المحروقة . حدّقا بها ملياً .. حدّقا بألم وخذلان . تصلّبت أجسادهما ، وارتعشت شفاههما ، ورشح كل منهما عرقاً من تحت ياقة قميصه ، وكانا أشبه بالميتين . دار ( غني ) حول جثتها بضع دورات ، وراوده الشكّ وهو يتفحّص ما فعله الطلق الناري في رأس الفتاة . ومن غير حسبان حانت التفاتة منه ليرى السروال الداخلي للفتاة مرميّاً على مبعدة منها ، فدنا منه ، والتقط عوداً سميكاً من الأرض ، ليقلّب قطعة ملابسها هذه ، وأخذ يتملّاه بدقّة . كان اللباس لا يزال مبتلّاً ، ورائحة البول تفوح منه ؛ حينئذٍ التفت إلى ( فوزي ) وأخبره ، بصوت خافض : « إن الفتاة ، على الأرجح ، اغتصبت قبل قتلها ، والمجرم رمى بثيابها بعيداً ليتخلّص من رائحة البول » . بدأت شكوكهما تنمو . راحا يدوران في الغرفة ويتفحّصان كل شيء فيها ، وفجأة أسرع ( فوزي ) ليلتقط علبة ماء بلاستيكية شبه فارغة ، مرمية في إحدى الزوايا ، ورفعها ليريها إلى ( غني ) . بهت الاثنان معاً فقد كانت تلك العلبة من النوع الذي يستعمله الأمريكيون . وهنا أمسك ( غني ) بساعد زميله وقاده إلى الغرفة الأولى ثانية ، وهو يقول له : « دعنا نبحث عن أثر لطلقات الرصاص ونرى » . وكان الأمر في منتهى السهولة ، فسرعان ما عثرا على بعض طلقات الرصاص غائرة في الجدار الذي قُتِلَت العائلة قربه . وحينما دقّقا النظر فيها أدركا أنها من العتاد الأمريكي . « لقد شككت بالأمر حالما رأيت كيف تم فلق رأس الفتاة ، لا تفعل مثل ذلك سوى البنادق الأمريكية » . وعادا أدراجهما ليفرّقا شكوكهما بين جنود فصيلهما ، تلك الشكوك التي ترعرعت الآن وراحت تربو إلى اليقين . ولكنهما تفاجئا أيضاً باعتراف بعض الجنود الذين شاهدوا الأمريكيين يقصدون موقع الجريمة قبل حصولها بوقت قصير ! . بعد الأخذ والرد بين الجنود العراقيين ، في تفاصيل الجريمة ، صار الأمر إلى أن تُرفع تلك الشكوك إلى أيّة لجنة من لجان التحقيق إذا ما قصدت إلى الفصيل لتحرّي الجريمة . صدقت الظنون ، في نهار اليوم التالي ، طلّت لجنة تحقيق أمنية ، وبعد زيارتها موقع الجريمة ، وفي أعقاب ضبط شهادة بعض السكّان المحليين ، المجاورين لمحل الحادث ، توجّهت اللجنة إلى الفصيل العسكري العراقي ، والتقوا بالضابط المسؤول هناك . سرعان ما استنجد الضابط بشهادة الجنديين ( غني ) و ( فوزي ) اللذان أبديا استعدادهما للتعاون مع أفراد تلك اللجنة . وما لبث الجميع أن قصدوا موضع الحادث ، وهناك تصدّى غني لشرح شكوكه أمام أنظارهم ومسامعهم كما لو أنه رجل تحرٍّ . يبدو أن الشكوك تلك أخذت تساور الجميع ، فقد أوصت اللجنة الأمنية بضرورة استجواب الجنود الأمريكيين الذين كانوا متواجدين في الحاجز الأمريكي يوم وقوع الجريمة ، ورفعت الطلب إلى مرجعياتها لعرض الأمر على الجانب الأمريكي .

♦♦♦♦

في صبيحة يوم الاثنين التالي ، نقرت السكرتيرة الصحافية للسفارة الأمريكية باب غرفة السفير ، ولم يسع وقتها أن تنتظر الرد ، اقتحمت الغرفة ، في وقت كان فيه السفير قد أغرق في مطالعة ملف سميك بين يديه . ومن غير مقدمات تساءلت السكرتيرة : « هل نمى إلى سمعك أحدث المشاكل ؟ » . « أعتقد أنه لا توجد نهاية لمشاكل العراقيين » . قال السفير ذلك وهو منكب على الملف . « ولكنها مشكلة الأمريكيين هذه المرّة » . انتزع السفير عينيه من الملف ، وراح يتطلّع في وجهها ، ونظراته تنصبّ على أنفها المستقيم الذي ينسكب منه معظم كلامها . وشرعت تسرد تفاصيل حادثة اليوم السابق ، وكانت طريقة سردها توحي بعمق المشكلة ؛ بينما أنصت السفير إلى الحكاية في غاية البرود . وحينما انتهت منها ، لمعت عينا السيد ( سيرس ) بالخبث والمكر ، وبادر يسألها : « هل ثمة شيء تخشين أمره في هذه المشكلة ؟ » . « هناك شاهدان من الجيش العراقي ، يمتلكان أدلّة تدين جنودنا » . « هل بحوزتنا اسمي هذين الجنديين وعنوانهما ؟ » . « بالتأكيد با سعادة السفير » . وعندئذٍ ابتسم بنعومة ومكر ، وقال لها : « إذن لا توجد أيّة مشكلة ، سوف نصلح الأمر على جناح السرعة » . وفي الحال سرح بأفكاره بعيداً . كانت السكرتيرة تتأمّله في وقفتها ، بدا لها عجوزاً لعيناً ، يتخاطب مع الشياطين ، ويستنبط منهم أروع الأفكار والحلول ، طبعت على شفتيها ابتسامة اطمئنان . وما لبث السفير أن التقط جهاز تلفونه ، وقبل أن يستغرق في مكالماته ، سألته : « هل تأمر بشيء سعادة السفير ؟ » . « كلا ، يمكنك الانصراف ، واحرصوا على كتمان هذه المشكلة بشكل صارم » . « هذا ما نقوم به لغاية الآن » . وفي الحال اتصل السفير بمركز قيادة جيش بلاده في العراق ، وانهمك في الحوار بشأن تلك الحادثة ، وكيفية التضليل على مشاهدها ، وإلصاقها بجهة إرهابية ، ومحق الكلام الفائض عنها . لم يُجهد السفير ( سيرس ) نفسه بالتفكير عن تلك الجريمة ، فقد كانت الحلول السريعة جاهزة في ذهنه . استمع إليه ضباط القيادة جيداً ، وعملوا بنصائحه ، لأنهم يدركون عمق الحيلة والدهاء الذي جبل عليه هذا الرجل طوال مسيرته المهنية في خدمة بلاده .
في صبيحة اليوم الثالث ، تم استدعاء الجنديين الشاهدين إلى نقطة الحاجز الأمريكي ، للمثول أمام لجنة تحقيق أمريكية رغبت بالاستماع لشهادتيهما ، وكان هذا الطلب مخالفاً لكل القوانين والأعراف الأمنية والعسكرية . وحضر الشاهدان برفقة مأمور مكتب الفصيل . ولكن هذا المأمور لم يُسمح له بالدخول إلى النقطة ، ففضل واقفاً في الخارج لوقت طويل ، حتى طلّ عليه أحد الضباط الأمريكيين وأمره بالانصراف ، بحجة أن التحقيقات سوف تستغرق ساعات أخر . منذ ذلك الحين ضاع خبر الجنديين ، انتظر عودتهما ضابط الفصيل حتى المساء ، ولمّا يأس اصطحب المأمور نفسه وقصد النقطة الأمريكية ، ليستفسرا عن أسباب تأخر الجنديين ، فتم إخبارهما بأن الجنديين غادرا نقطة التفتيش فور تثبيت إفادتيهما . ليس الأمر هكذا وحسب ، بل أن مصير الجنديين طُوِيَ في غاية الغموض حتّى لم يعد إي أحد من أبناء آدم يمكنه الاستدلال عليهما .
إن تلك الجريمة النكراء ، وما دار حولها من لغط ، وما أعقبها من ضياع الجندي ( غني ساجت ) والجندي ( فوزي خضر ) ، لم تمرّ على أحداثها أكثر من أثني وسبعين ساعة فقط حتّى رُكِنَت جانباُ ، وعُدّت قضية مجهولة . والعجيب في الأمر ، أنه طوال تلك الأيام الثلاثة ، لم يسمع أحد فيها صوتاً لحكومة البلاد ، أو يرى لها أثراً ، ومردّ ذلك يعود ، بما لا يقبل الشك ، إلى قوّة ودهاء عمل السفير ( سيرس ) في العراق ونجاعة وصفاته السحرية . هنا ليس بوسع من تأثّر لسماع أحداث هذه الحكاية الأليمة واهتزّت مشاعره ، سوى أن يعود ليستأنس برأي ذلك الجندي المتردّد ، الهلوع ( سلام السائق ) ، الذي فرّ من مسرح الجريمة ناكصاً ، وعائداً على جناح السرعة إلى فصيله ، على مرأى من جميع الجنود . فحينما أخذ أقرب أصدقائه يلومه بالقول : « كيف سوّلت لك نفسك أن تتنصّل عن صديقيك وتقفل عائداً بمفردك ؟ » . حينها ، انكفأ ( سلام ) مدافعاً عن نفسه ، وهامساً في أذن صديقه : « بصراحة ، أعترف بأنني درجت أن أخاف عاقبة الأمور عادة ، فحينما طللت برأسي على ذلك البيت ، واستنشقت رائحة الموت ، رجعت على أعقابي من غير تأخير لأجل أن أصون نفسي من الانزلاق في ورطة خطيرة .. ورطة لا يمكن أن تمنعها وتدفعها عني الحكومة ، فأنا أعلم تمام العلم بأن الأمريكيين أينما حلّوا ، فسوف يعملون جاهدين على صنع حكومة محليّة سائلة ، تترجّرج في إنائها ، يمكنهم أن يميلوا بها إلى أية جهة بمجرد تحريك الإناء » .
ثم حدّق ( سلام السائق ) في وجه الجندي الذي كان ينصت إليه ، عبر نظرة عميقة انطوت على الكثير من المعاني ، ورغب في قول الكثير مّما كان يبطنه ، ولكن قبل أن يستطرد في كلامه ، سبقه ذلك الجندي ليقول له :
« هذا صحيح ، إذا ما فكّرت في الأمر من هذا الجانب ، لا يمكن أن تسوّغ لك نفسك أن تضعها موضع الخطر ، ومن الحكمة أن تنفض يديك يأساً من الحكومة ، كما تنفض الأنامل تراب الميت عنها ؟ » .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القصة مقتبسة من الملفات الإلكترونية لمركز جنيف الدولي للعدالة / منظمة تعنى
بحقوق الإنسان . ورواية ( الأمريكي القبيح )هي رواية سياسية من تأليف يوجين بورديك و يليام يدرر صدرت عام 1958 تصوّر الفشل في السلك الدبلوماسي الأمريكي في جنوب شرق آسيا . ... أثار الكتاب ضجة كبيرة في الأوساط السياسية والدبلوماسية لفترة طويلة إثر صدوره .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_