الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة لنص قصصي-الحاف- للقاصة الزهراء وزيك

محمد هالي

2022 / 2 / 8
الادب والفن


النص:
الحافة
ألقى بجسده النحيف إلى الأرض، وقد كسته أسمال رثة حتى كاد يتلاشى تحتها، اتكأ إلى جدران المتجر خلفه ، كادت ملامح وجهه تختفي خلف شعيرات لحية كثة ، وشعره الأشعث قد كساه البياض يخالط سواده فاستحال كثلة من رماد . وضع صندوقا من الكرطون وهو يصيح بين الفينة والأخرى بأسماء سجائر رخيصة :
- سجاير .....سجاير
طفق يطرق بيده الصندوق طرقات خفيفة إيذانا بحلول بائع السجائر بالشارع الرئيسي على مقربة من محطة القطار وسط المدينة ، وعيناه تتابعان خطوات الأقدام أمامه .
فجأة وقعت عيناه الغائرتان في عينيها البريئتين النابضتين بالحياة ، توقف فجأة عن الطرق، فلمعت عيناه كما لم تلمعا من قبل ، انفرجت أسارير وجهه ونثرت تلك الشعيرات بعيدا لتكشف عن ابتسامة مجهدة وكأنها كانت عالقة بحافة بئر عميقة ، تحرك قليلا وهو يعتدل في جلسته ثم وقف أمامها منتصبا ، ومد يده نحو جيب ذاك المعطف الضخم الذي يكسو جميع جسمه ، ليخرجها أخيرا ممدّدة نحو الصغيرة بعلبة بسكويت مغلفة ومحكمة الإغلاق ، أومأ إليها برأسه مشيرا أن تأخذها ، وألح في ذلك إلى أن تحركت بخطواتها الصغيرة نحوه ومدت يدها الصغيرة نحوه فأمسكتها من طرفها .
احتلت الابتسامة كامل وجهه ، فتدفقت نضارة تغزو أساريره، تبدّت أسنانه التي كستها صفرة داكنة ، وهو يتأمل حركتها الخفيفة استولى على كامل كيانه رائحة عطر طفولي ، لتحلق به على بساط الذكريات وتنتفض في ذهنه صورة ابنته الصغيرة ، في نفس حجمها وحركتها ونظرتها وبنفس العبق الطفولي الذي لا يكاد يبرح جوارحه ، تذكر قفزاتها حوله ، ولا تزال رنات ضحكاتها في مسمعيه ، ضم أصابع يديه على بعض وكأن يدها لا تزال في يده .اتّقدت الذكريات في مخيلته إلى أن داهمت مخيلته ذكرى هزّت كيانه وقلبت حياته ، حين استيقظ ليتفاجأ باختفاء زوجته وابنته ذات الأربع سنوات .
ليعيش الحيرة والضياع تنهشه أقاويل الناس وهو في رحلة البحث عنهما . رماه اليأس في أحضان الوحدة والكحول والضياع ، فقد وظيفته وأهله ونفسه ، ودّع وعيه الذي يغادره لأيام ويحضره ليوم أو ثلاثة ، يقتات من بيع السجائر بالتقسيط إلى أن يستسلم للضياع مرة أخرى .
غرق في ذكرياته السحيقة ، وهي واقفة أمامه تتأمله في وداعة ، وقد علت وجهه نظرة شاردة مريبة ، إلى أن كسر خيطَ هذا التواصل صوتُ أمها صارخة :
- هدى ، ماذا تفعلين ؟!
فكانت صرختها في وجه الصغيرة كسكين حاد غرزت في قلب الرجل .
تسمرت الطفلة في مكانها، توارت بسمتها خلف شفتيها الرقيقتين ، وحل الهلع محلها ، وهي تنظر إلى أمها المتحفّزة نحوها مؤنبة مزمجرة ، وانتزعت علبة البسكويت من يدها لتلقي بها في وجه الرجل وقد جذبت ابنتها إليها تجرها بعيدا ، وقدماها الصغيرتان تتعثران وسط حذائها الوردي الصغير ، مخلفا وقعا ينهش صدره.
عاد إلى عالمه وتكوّر داخل معطفه الكبير ، وتاهت نظراته في الفراغ وألقى بجسده على الأرض يغالب دمعة حارقة و يدفع الصندوق بقدمه بعيدا ، تناثرت السجائر تملأ جوانب الرصيف .
القراءة:
في المجتمعات الغير المسؤولة على مواطنيها، حيث الفقر، و الأمية، و الجهل، مجتمعات ينخرها التخلف من كافة النواحي، و نتيجة لهذا الانحطاط تجد الكثير من الصور المؤلمة، تتبدى في كل الدروب و الاحياء و الشوارع، إذ كل واحد يسبح في همومه، و مشاكله، ويبحث عن قوت عيشه في اعمال هشة و مهترئة ، و هذا يصدق على نص "الحافة" للقاصة الزهراء وزيك الذي يحاكي صورا من الواقع فتكون شخصية بائع السجائر نموذجا لها، و الذي تجسدت شخصيته من خلال مجتمع موبوء بالعقد النفسية المستعصية عن الحل، هو بالفعل يجسد كلمة الحافة بامتياز، فالهامش يبلغ هنا بفائق الدقة في الوصف، و السرد معا، ثلاث شخصيات مباشرة، تلاحمت مع شخصيات مغيبة هي السبب في تحريك كل تلك الصور المؤلمة التي جسدتها لغة النص القصصي.
كثيرة هي الصور تتراءى لنا و نغض الطرف عنها، غير مبالين او متجاهلين، لأنها تفوق طاقة الفرد من أجل ايجاد حلول لها، في غياب مجتمعات متضامنة، أو تحركها قوانين تجسد ارادة المقهورين على ارض الواقع، في غياب كل هذا يبقى دور المثقف هو تعرية ذلك الواقع، و فضح ما في الجبة من ظواهر مميتة، و هذا ما يجسده بالفعل الأدب الملتزم بقضايا المقهورين، عن طريق التعرية و الفضح و رسم صور تحرك مشاعر عديدة لعلها تتحرك لإيجاد حلول لها، و يظهر هذا بشكل جلي في نص "الحافة"، فالشخصية الرئيسية جسدتها بدقة عالية الوصف: " ألقى بجسده النحيف إلى الأرض، وقد كسته أسمال رثة حتى كاد يتلاشى تحتها، اتكأ إلى جدران المتجر خلفه ، كادت ملامح وجهه تختفي خلف شعيرات لحية كثة ، وشعره الأشعث قد كساه البياض يخالط سواده فاستحال كثلة من رماد" إنه يمثل فئة المهمشين اجتماعيا على مستوى المظهر، ليتحقق أيضا على مستوى العمل " وضع صندوقا من الكرطون وهو يصيح بين الفينة والأخرى بأسماء سجائر رخيصة :
- سجاير .....سجاير
مثل هذه الصور أصبحت معهودة في جل محطات المدن تقريبا، أطفال مشردين عمال مناومين ، تجار لا تجارة لهم، فقط يجسدون حالات اجتماعية تدعو للشفقة، و التأمل في غالب الأحيان، تحرك اسئلة عديدة تجوب عوالمنا الداخلية، و نمضي في فضاء ملوث بأقصى أشكال التلوث التي يرميها الفقر و التشرد في غياب رؤى صحيحة تحرك أصحاب القرار للحد من مثل تلك المشاهد، لكن المبدعة جعلت من هذه الشخصية لازمة لكل المشاعر النبيلة، لعلها تصيب المياه الراكدة لتتحرك و تنير انسانية بائع السجائر التي اغتصبت من خلال كدمات ، ساهمت في تحريك الية اللاشعوره بعدما بزغت صورة بنته الغائبة، في صورة شخصية بنت مرت أمامه فتوقفت صيحاته ليتابع موكب المارة بإمعان شديد، إنها بنته الآن تستحق الابتسامة و الهدية، تستحق المحاكاة التي أوجد نفسه فيها، قبل أن يصل الى هذا المستوى، يضعها النص ضمن هذه اللوحة بقالب سردي محبوك:" فجأة وقعت عيناه الغائرتان في عينيها البريئتين النابضتين بالحياة ، توقف فجأة عن الطرق، فلمعت عيناه كما لم تلمعا من قبل ، انفرجت أسارير وجهه ونثرت تلك الشعيرات بعيدا لتكشف عن ابتسامة مجهدة وكأنها كانت عالقة بحافة بئر عميقة ، تحرك قليلا وهو يعتدل في جلسته ثم وقف أمامها منتصبا ، ومد يده نحو جيب ذاك المعطف الضخم الذي يكسو جميع جسمه ، ليخرجها أخيرا ممدّدة نحو الصغيرة بعلبة بسكويت مغلفة ومحكمة الإغلاق ، أومأ إليها برأسه مشيرا أن تأخذها ، وألح في ذلك إلى أن تحركت بخطواتها الصغيرة نحوه ومدت يدها الصغيرة نحوه فأمسكتها من طرفها" هنا يلتقي الوضع السيئ بالمشكل المسبب للضياع، يلتقي القلق و الحزن بالإنسانية و الحنين و العاطفة التي تاهت في صورة الفتاة، التي غابت في العلائقي و حضرت في التصور كواقع، هي الآن تنصاع لعاطفته، و تنجر للهدية المحفزة للإغراء، المجسدة في "علبة بسكويت" لكنها مجرد محاكاة لصورة ابنته الغائبة، في غيابها فقد تلك العاطفة الجياشة، فقد روح البنوة التي تمنحها الطبيعة في دوراتها المعهودة، ها هو يجسد ذلك الفرح الموشوم بالحنين لتلك اللحظات التي كلها أنس، إنها مناداة للغريزة المجسدة في كل كائن، لكن الصورة التي احتضن بها الفرح و هو يقدم علبة البسكويت تحمل دلالات الجلب للتعاطف مع الشخصية أكثر يبلغها النص كالآتي:" احتلت الابتسامة كامل وجهه ، فتدفقت نضارة تغزو أساريره، تبدّت أسنانه التي كستها صفرة داكنة ، وهو يتأمل حركتها الخفيفة استولى على كامل كيانه رائحة عطر طفولي ، لتحلق به على بساط الذكريات وتنتفض في ذهنه صورة ابنته الصغيرة ، في نفس حجمها وحركتها ونظرتها وبنفس العبق الطفولي الذي لا يكاد يبرح جوارحه ، تذكر قفزاتها حوله ، ولا تزال رنات ضحكاتها في مسمعيه ، ضم أصابع يديه على بعض وكأن يدها لا تزال في يده" القصة تضع المتتبع للأحداث في صلب الحدث نفسه، كوننا نرى ظواهر كثيرة، و لا نعطيها أية قيمة، تضعنا في خضم أسئلة الشخصية الرئيسية و معاناته، تدفعنا للتعاطف معه، بل تنبهنا أن هناك منعرجات تضعك في مأزق التشتت و الحيرة دائما، فكل متشرد و كل منبوذ و كل متسول، و كل من هو مقصي من جدارة المجتمع، فهو يخفي أسرارا لا يعلمها الا هو، في مأزق الذات الذي أوقعته فيها ظروف و أحداث خارج إرادته، يبدو أنه خاطئ، لكن هناك شروط موضوعية أوقعته في ذلك كما هو الشأن لبطل الحافة نفسه و توضح القصة هذا أكثر:" اتّقدت الذكريات في مخيلته إلى أن داهمت مخيلته ذكرى هزّت كيانه وقلبت حياته ، حين استيقظ ليتفاجأ باختفاء زوجته وابنته ذات الأربع سنوات".لهذا المشكل تمرداته و أخطاؤه، له عواقبه الشديدة، هو الانزياح على المعهود، أو ما يجب أن يكون عليه المرء السوي، فالمخدرات، و السرقة، و الاجرام... لابد أن تتشكل من معايشة الفرد لوقائع محددة، فالمجتمع ظالم لأفراده من خلال نظمه، و عدالته، و قيمه، و حتى من طرف معاملات أفراده و ردود أفعالهم اتجاه مثل هؤلاء الافراد المقصيين من التاريخ نفسه، و هذا ما تجلى واضحا في رد فعل والدة الطفلة، التي قطعت تلك الحميمية التي كان يشعر بها بائع السجائر و يتجلى هذا في:
" إلى أن كسر خيطَ هذا التواصل صوتُ أمها صارخة :
- هدى ، ماذا تفعلين ؟!
فكانت صرختها في وجه الصغيرة كسكين حاد غرزت في قلب الرجل" .
إنه تعامل مريب مع مثل هذه الحالات، حكمت عليه من خلال المظاهر، لم تعره أي اهتمام، قطعت أوصال الفرحة، على كلا الطرفين الرجل و الطفلة و لا أجد تبليغا لهذا المشهد أكثر من تبليغ النص نفسه
"تسمرت الطفلة في مكانها، توارت بسمتها خلف شفتيها الرقيقتين ، وحل الهلع محلها ، وهي تنظر إلى أمها المتحفّزة نحوها مؤنبة مزمجرة ، وانتزعت علبة البسكويت من يدها لتلقي بها في وجه الرجل وقد جذبت ابنتها إليها تجرها بعيدا ، وقدماها الصغيرتان تتعثران وسط حذائها الوردي الصغير ، مخلفا وقعا ينهش صدره."
هكذا يكون النص القصصي قد ساهم بتبليغ رسالة واضحة للدولة، و لأفراد المجتمع، لكي يعيدوا النظر في كل شيء، في توفير نوع من الحياة لأفراده، هم بشر لهم ظروفهم، و حيثيات تلك الظروف هي التي تحكم عليهم، فكل الصور تؤكد أن هناك أمراض اجتماعية قاهرة، تضعنا القصة أمامها، قصد إعادة النظر في كل شيء، من أجل أن لا يحدث لما هو حادث في هذه المشاهد المؤلم، و بهذا تكون الزهراء وزيك بنص الحافة قد ساهمت إلى حد ما وضع إشارات كئيبة أي وضعت يدها على الجرح، لعلها تصيب في المساهمة في ايجاد حلول ناجعة لمثل هذه الأحداث، و للتقليل من مثل هذه الصور:
"عاد إلى عالمه وتكوّر داخل معطفه الكبير ، وتاهت نظراته في الفراغ وألقى بجسده على الأرض يغالب دمعة حارقة و يدفع الصندوق بقدمه بعيدا ، تناثرت السجائر تملأ جوانب الرصيف ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع