الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النظرية الماركسية: رسالتها تنمية الانسان الحر والمتطوّر والخلاق من جديد

خليل اندراوس

2022 / 2 / 11
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



الاهتمام بالمستقبل لا يعتبر فضولاً بسيطًا أو نوعًا من النقاش السفسطائي بل تعبيرًا عن حاجة عملية، خاصة في هذه المرحلة، بعد فشل التجربة في بناء الاشتراكية وسيطرة الرأسمالية المتوحشة، وعولمة السوق الحرة على نطاق العلاقات الدولية. في مرحلة كان من المفروض بعد حدوث الثورة العلمية التكنيكية والمعلوماتية، أن تعود بالفائدة مجموع الانسانية، ولكن بدل ذلك نجد ما يحدث، مناقضًا تمامًا لهذه التوقعات، ونرى زيادة الفوارق الطبقية داخل المجتمعات الرأسمالية نفسها، وزيادة الدول الغنية غناء والدول الفقيرة فقرًا.

لذلك التنبؤ العلمي ضروري، وملح، ويجب أن يكون جزءًا من العمل والفكر الثوري، من أجل التأثير على وعي الفرد والمجتمع باتجاه التأثير على القناعات، وتسييس النشاطات والنضالات الاقتصادية والاجتماعية والطبقية وحتى القومية، كجزء من العملية الثورية العالمية.

مضى أكثر من قرن ونصف على ذلك اليوم الذي أدرك فيه أحد العباقرة السابقين لماركس وانجلز، وعلى طريقته الخاصة، مدى الحاجة إلى معرفة علمية حقة للمستقبل، فصرّح بفكرة حكيمة وعميقة جدًّا: "حتى الآن تحرك الناس في طريق الحضارة، وظهرهم إلى المستقبل، موجهين أنظارهم عادة إلى الماضي، أما المستقبل فقد رمقوه بنظرات نادرة جدًّا وسطحية فقط. والآن وقد قضي على العبودية، فإن على الانسان أن يركز انتباهه نحو المستقبل". قيل هذا قبل عقدين من نشوء الشيوعية العلمية وفي أحد آخر مؤلفات سان سيمون الاشتراكي الطوباوي الفرنسي العظيم.

إنّ تصوّراته عن المستقبل، كآراء السابقين الآخرين للشيوعية العلمية، بقيت بكاملها في حدود الطوباوية أيضًا، ولكن ما كان طوباويا آنذاك أصبح علمًا في مؤلفات ماركس وانجلز ولينين.

لذلك مهم جدًّا توجيه أنظارنا نحو المستقبل والبحث العلمي والنظري والفلسفي في هذا الاتجاه.

إنّ تطور المجتمع البشري في زمننا يجري بشكل عاصف، والتطوّر السريع هذا يعجل في عملية الانتقال من الحاضر إلى المستقبل، ولذلك مهم جدًّا أن تكون وسائل الدراسات العلمية ونظرية تطوّر المجتمعات الانسانية أكثر تكاملاً، خصوصًا وأن دور الوعي في حياة المجتمع، وإعادة تنظيمه يصبح أكثر أهمية وهذا يعني أهمية التنبؤ العلمي للمستقبل.

فأمام أنظارنا، وتحت تأثير الثورة العلمية والمعلوماتية والتكنولوجية، يجري تغيير حاسم لدور الوعي الاجتماعي (أو ما يسمى البناء الفوقي للمجتمع)، وتأثيره على التطورات الحاصلة في التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية المتطورة (أو ما يسمى البناء التحتي للمجتمع)، هذه هي العلاقات الجدلية الديالكتيكية بين الفوقي والتحتي في أي مجتمع. فالتطوّر الواعي الديمقراطي لملايين الناس في أمريكا اللاتينية أحدث قفزة نوعية نحو مجتمعات أكثر ديمقراطية وأكثر يسارية، تسعى من أجل التخلص من الهيمنة الرأسمالية المتوحشة للرأسمال العالمي وخاصة الأمريكي، وهذا ما نبتغي ويجب أن يكون رسالة الفكر الثوري الوطني اليساري في العالم العربي، من أجل إحداث التغيير في الوعي الفردي والوعي الجماعي في العالم العربي نحو دمقرطة هذا العالم وعلمنته.

ولكن النظرية الماركسية شكل علمي للتنبؤ الاجتماعي من الناحية التاريخية. لا شكّ بأن هناك موضوعات ماركسية حول تنبؤات انجلز وماركس عن مجتمع المستقبل تحافظ على كامل قوتها الآن، في ظروفنا التاريخية الجديدة، ولكن هناك أيضًا موضوعات بحاجة إلى دراسة أعمق أو تصحيح يتناسب مع التطوّرات المختلفة الحاصلة في عصرنا الحاضر.

إنّ التجربة التاريخية أثبتت بأن التحولات الاجتماعية أطول وأعقد بكثير مما تصوّره ماركس وانجلز، خاصة في المرحلة المبكرة من تطور الماركسية، كما أن الثورة الاشتراكية لم تحدث في مراكز رئيسية من العالم الرأسمالي وليس في البلدان الرأسمالية الأكثر تطوّرًا، ولكن في أطراف التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية- روسيا، وقد يكون هذا أحد أسباب فشلها الموضوعي.

النظرية الماركسية تطورت تحت التأثير المباشر لتطور الحركة العمالية والمجتمع إجمالًا في عهد النهضة والثورة الصناعية التي حصلت في القرن التاسع عشر، ولذلك فالتصورات الماركسية عن المستقبل في الشكل الذي تكونت فيه كانت شكلاً معينًا يعكس الوعي والواقع آنذاك.

ومادة تكوين صورة المستقبل كانت بهذا الشكل أو ذاك تُستَقَى دومًا من الحاضر آنذاك، ومع تطور الواقع الحالي، أي المجتمع الذي عاش ماركس وانجلز في ظروفه، كان من المفروض أن تتغير تصوراتهما عن المستقبل.

ولذلك فالنظرية التي وضعت وطورت في ظروف القرن التاسع عشر لا يمكن اعادتها ميكانيكيا في ظروف تاريخية اجتماعية اقتصادية مختلفة جوهريا، بعد قرن كامل مضى، ولأجل أن تبقى النظرية حية، كما قال ماركس، وجب عليها أن تتطور خلال هذه المدة، كما يجب أن تتطور في المستقبل أيضًا لتتلاءم مع التغييرات التاريخية الحاصلة دومًا بشكل جدلي موضوعي وهذا الدور يجب أن تلعبه القيادات الثورية للأحزاب اليسارية والشيوعية في العالم أجمع عن طريق التحليل الديالكتيكي (الجدلي) الموضوعي لوقائع واتجاهات تطور الواقع الموجود.

ولذلك نرى مؤسسي الماركسية ماركس وانجلز خلال بحثهما عن المستقبل، اعتقدا أن من الممكن فقط التنبؤ بالملامح الرئيسية وتحديد الأطر العامة للمستقبل، وامتنعا مبدئيا عن الإفراط في ذكر تفصيلات دقيقة لتصوراتهما عن المستقبل، ولذلك كتب لينين يقول "لا يوجد لدى ماركس أي ظل لمحاولة تأليف طوباويات أو التكهن الفارغ فيما يتعلق بما لا يمكن معرفته".

وحتى ماركس نفسه قال "إنّنا لا نستطيع حل أي معادلة لا تحتوي في معطياتها على عناصر حلها".

وكذلك التزم انجلز بنفس هذا الموقف المبدئي، مشيرًا إلى العلاقة الحتمية بين الطوباوية والتفصيل غير المعلّل عن المستقبل.

وقد حقق انجلز تطورًا علميًا أصيلاً عن مجتمع المستقبل في كتابه العبقري (على حد تعبير ماركس) "ملاحظات في نقد الاقتصاد السياسي"، وقد أصبح من الممكن الآن اثبات أن هذا العمل قد كتب بتاريخ لا يتعدى أواسط تشرين الثاني 1843.

ان "ملاحظات في نقد الاقتصاد السياسي" هي أول بحث اقتصادي خاص لانجلز. وهي في الوقت نفسه أول تجربة علمية لتحليل الاقتصاد الرأسمالي ونقد علمي للاقتصاد السياسي البرجوازي من موقف الطبقة العاملة الثورية.

ويؤكد انجلز في هذا الكتاب ولأول مرة موضوعة التطور غير المحدود اللانهائي للقوى المنتجة، وهذا ما نشاهده في عصرنا الحاضر، "ان القوى المنتجة الموجودة في حوزة الانسانية لا حدود لها" وبنفس الروح يتحدث عن تطور العلوم.

يقول انجلز "ان تقدمها (أي العلوم) لا نهائي أيضًا"، وكتب يقول "ان هذه القدرة الانتاجية التي لا حد لها إذا استخدمت بوعي وفي صالح الجميع يمكن أن تقلص العمل الذي يقع على كاهل الانسانية الى الحد الأدنى".

ويضيف انجلز في كتابه هذا "عندما يقضى على الملكية الخاصة تنتفي ضرورة التبادل بشكله القائم الآن".

إن أكبر اقتصاد للقوى العاملة يكمن في توحيد القوى المنفردة في قوة المجتمع الجماعية (أي أن يتم القضاء على البطالة ويكون العمل للجميع)، وفي نظام يقوم على هذا التركيز للقوى التي تقف حتى الآن بعض نقيض البعض".

ولكن ماذا نرى الآن في عالم تسيطر عليه الرأسمالية المتوحشة، ومفاهيم السوق الحرة، نشاهد زيادة الفروق والقدرات الاقتصادية على مستوى الدول، فالدول الغنية تزداد قوى ويزداد رأسمالها، بينما الدول الفقيرة تزداد فقرًا.

وحتى تلك الدول الغنية يسود مجتمعاتها الفقر والبطالة والفوارق الاجتماعية والطبقية تزداد عمقًا وتناقضًا وصراعًا.

كم عظيمة هذه الرؤية للمستقبل الانساني المبنية على تحليل جدلي اقتصادي-اجتماعي- سياسي، لتصور المجتمع الانساني، والآن لنتصور لو قضي على البطالة وتم استغلال وسائل الانتاج لصالح المجتمع الانساني ككل وليس لإنتاج السلاح، والمخدرات والكحول وتكريس وفلسفة البطالة في المجتمع الرأسمالي، ولكان من الممكن فقط بتكريس 10% من ميزانية الحرب والعدوان الأمريكية، منع وفاة عشرات ملايين الأطفال في العالم الثالث والقضاء على العديد من الأمراض، وإيصال مياه الشرب لكل انسان على الأرض وغير ذلك من المشاريع الإنسانية ولكان بالإمكان مكافحة مرض الايدز الذي أصاب أكثر من 40 مليون انسان في العالم بصورة ناجحة وفعّالة ومنع انتشاره خاصة في افريقيا.

فالنظرية الماركسية المادية تختلف عن وجهات النظر المادية القديمة المجرّدة من الجدلية، لأنها تعتني بالمجتمع الانساني وتطوره وتطرح تصورات مستقبلية عامة عن هذا التطور وتؤكد هذه النظرية بأنها تتسم بطابع اجتماعي وانساني، رسالتها خلق الانسان الحر والمتطور والخلاق من جديد.

من هنا نستنبط ونستنتج بأن الظروف الحقيقية لتحرير الناس، ليس باحتلال هذا البلد أو ذلك، وليس بتهميش ثلثي المجتمع الانساني، وليس بالقوة والعدوان، وليس بالشعارات الزائفة حول الحرية وحقوق الانسان بل عن طريق:

أولا: التطور العالي الى حد كاف للإنتاج المادي، التطور الذي يكفل امكانية تلبية الحاجات الأساسية للإنسان، لكل انسان، في الغذاء، والشراب، والمسكن، والملبس، والتعلم، والصحة وغيرها من مستلزمات وضروريات الحياة.

ثانيا: التوحيد الحقيقي للناس، المسيطرين على القوى المنتجة من جهة وعلى العلاقات الاجتماعية من الجهة الأخرى.

ان الحرية الحقيقية ممكنة على أساس مادي محدّد وفي ظل الوحدة الاجتماعية فقط.

ولذلك عندما نسمع منافقي رأس المال يتحدثون عن الحرية والمساواة، يكذبون على الملأ، فهل الجائع والفقير والعاطل عن العمل، على مدى ثلاثة أجيال أو أربعة أجيال كما في أمريكا يشعر بالحرية، بل هل يشعر بأنه جزء من المجتمع الذي يعيش فيه، أو أنه فاقد كل شيء حتى انسانيته.

فقط عندما تخلق الظروف المادية، والتي تغير حاجات الناس نفسها، تكون الحرية والمساواة.

والرؤية الماركسية لمجتمع للمستقبل الذي يعتمد على الملكية الجماعية لوسائل الانتاج الأساسية يتيح الامكانية لكي "تلبى بشكل طبيعي" جميع الحاجات، وتجعل من الممكن "النشاط الشامل، بذلك التطور الكامل لمجمل قابلياتنا".

ومن هذا المنطلق لن يكون في مجتمع المستقبل، مكان لأخلاقيات الزهد (الأخلاقيات التي تبرر الفقر والحرمان والذل، وكأن هذا الأمر من مشيئة الله).

ولا لأخلاقية المتعة (كما يجري الآن من تجارة حتى بالنساء والأطفال) وذلك لأنه سيتم التوصّل في هذا المجتمع المستقبلي الخالي من الملكية الخاصة الى التلبية الاعتيادية، لجميع حاجات الانسان، وسترتبط المتعة عضويا بالمضمون الحقيقي لنشاط الناس الحياتي.

فالمجتمع الرأسمالي الحالي، نرى بعض الأفراد يلبون حاجاتهم على حساب عذاب ومعاناة الآخرين، أفرادا وشعوبا.

ولذلك نجد ماركس وانجلز يضعون رؤى مستقبلية عن التحولات في مجتمع المستقبل، حيث يقولان "لقد برهنا، أن على الأفراد في الوقت الحاضر القضاء على الملكية الخاصة، وذلك لأن القوى المنتجة وأشكال التعاشر قد تطورت الى درجة أصبحت منها في ظل سيطرة الملكية الخاصة قوى مدمّرة، ولأن التضاد بين الطبقات قد وصل حدوده القصوى". فالشرط العام للتطور الحر للأفراد هو الثورة الاجتماعية، وهي واقعة لا محالة، وتعمق الفجوات والفوارق الطبقية، في عالمنا المعاصر تؤكد بأن هذه الثورة واقعة لا محالة. وفقط في المجتمع الخالي من الملكية الخاصة، لن يعود التطور الحر للأفراد مجرد عبارة جوفاء.

بكل هذا العرض، نؤكد المفهوم المادي للتاريخ كنظرية متكاملة وأساس فلسفي لنظرية الجدل الماركسية، حيث أوضحنا جوهريا ديالكتيكية الفاعل المتبادل وتطور القوى المنتجة والعلاقات الانتاجية، ووصولها الى نقطة التضاد والصدام، الذي لا مرد منه والذي يحدِث القفزة أو الثورة الاجتماعية نحو مجتمع المستقبل.

فالماركسية لا تتحدث فقط عن الملامح الأساسية للمجتمع المقبل، ومجالات انتاجه المادي، بل تتطرّق بشكل علمي إلى مجال الوعي الاجتماعي. ولا شك بأن ماركس لعب الدور الحاسم في وضع النظرية المادية الديالكتيكية لمجتمع المستقبل، فمؤلفاته "الايديولوجية الألمانية" "وبؤس الفلسفة" الذي صدر في عام 1847، والبيان الشيوعي الذي وضعه بالاشتراك مع انجلز تعتبر باكورة الماركسية في طور نضوجها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح الأمين العام عقب المجلس الوطني الثاني لحزب النهج الديم


.. رسالة بيرني ساندرز لمعارضي هاريس بسبب موقفها حول غزة




.. نقاش فلسفي حول فيلم المعطي The Giver - نور شبيطة.


.. ندوة تحت عنوان: اليسار ومهام المرحلة




.. كلمة الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي العمالي الرفيق جمال