الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الربيع في موسكو

نواف سلمان القنطار
كاتب ومترجم.

(Nawaf Kontar)

2022 / 2 / 12
الادب والفن


كأن الطبيعة تكافؤك على انتظارك المُضني، على أملك الذي لا يخبو، أو صمودك المدهش أمام طاغية يحتل الأرض والسماء، يتسيّدُ الوقتَ من دون أن يمنحك فرصة للاعتراض أو الحلم بأن سلطته ـ مهما طالت ـ تظل مؤقتة...
ثلجٌ ... يغطي المدى، صقيعٌ يعلّق مراياه المسحورة على الهواء، بردٌ يهزأ بالفيزيولوجيا وبأبسط الأفعال الإرادية، جليدٌ يحزّ رئتيك بسكاكين البلور، يمنعك من إيجاد إيقاعٍ ما بين الشهيق والزفير، ما بين الحركة والسكون، ما بين الواقع والخيال، فلا يبقى أمامك سوى أن تنكفئ نحو ذاكرة تحتفظ بصور الربيع لعلك تستمد منها ـ مثل قصة بائعة الكبريت ـ بعض الدفء.
نصف عام، ستة أشهر، مئة وثمانون يوماً، يحكم الصقيع هذه البلاد، يفرض عليها قوانينه، عاداته وتقاليده، لكنه لا ينال من عزيمتها، ولا يقتل أحلام الربيع فيها، فيستسلم لحكمة الطبيعة وديمقراطيتها في ترتيب الفصول، يحمل عرشه البارد ويرحل إلى الشمال تاركاً وراءه أنهاراً من الدموع والوعود ...
في البداية، يحل الخريف في موسكو هادئاً بلا صخب... ريح خفيفة باردة تحوم بقلق حول المكان، أوراق الشجر الصفراء تترنح فوق الطرقات، رائحة عشب يغتسل بقطرات مطر ناعمة، وشعور مكبوت بالأسى على شيء ما بعيد، فلا يبقى لك سوى أن تختصر نزهتك بالقرب من تلال " فوروبيوف" وتعود إلى البيت قبل أن تدركك ذكريات السنين الماضية.
ربما ترأف الطبيعة بك وتمنحك بضعة أيام من دفء صيف ولىّ، لكنها سرعان ما تقودك إلى مملكة الجليد... تهبط بك درجة تلو أخرى نحو صقيع الأقبية... درجة الحرارة صفر: تقتنع تماماً بضرورة ارتداء ملابس دافئة، خمس درجات تحت الصفر: جو مناسب للزكام ولكنك مضطر للذهاب إلى العمل، عشر درجات تحت الصفر: مازال الطقس صالحاً لنزهة قصيرة فوق طبقات الثلج المتراصة بعد نقاش سياسي حاد ورغبة شديدة في إشعال سيجارة، خمس عشرة درجة تحت الصفر: تبحث عن طرق مختصرة للوصول إلى غايتك، عشرون درجة تحت الصفر: لا تطل المشي في الشارع، ثلاثون درجة تحت الصفر: تتساءل هل سيشتغل محرك سيارتك غداً، أربعون: يتجمد كل شيء، ولا يتجول في الطرقات إلا مجنون أو عاشق، أو مسافر ضل طريقه.
فجأة ... يحل الربيع ... هكذا، من دون مقدمات، كأنك لم تنتظره أبداً... يهزأ بأنانيتك وغرورك، أو بضعفك وبطفولية المزاج فيك، فلست أنت من يسمح له بالمجيء أو الرحيل، ولست أنت الوحيد الذي ينتظره ...
يطل من نافذة الصباح، كأنه كان نائماً طوال الوقت تحت تلك الطبقة السميكة من البياض، كأن هذه البلاد لم تعرف الشتاء يوماً، كأن الصقيع لم يستنزف الجسد والروح معاً، أو كأن الثلج لم يفكر أبداً بالرحيل...
يقفز قبل أن تلحظه، مثل طفل يريدك أن تلاعبه، ينثر لونه وسحره وصخبه في كل مكان، يعزف موسيقاه بجرأة غريبة، فيتراقص الدفء في شرايينك، ويدب الفرح فيها من جديد... هكذا، من دون مقدمات، يصبح الربيع حقيقة وليس صفة أو كناية أو دلالة ... وبعد مئة مرادف للثلج، تزهو اللغة بمرادف واحد للربيع، واضح صاف نقي رائع جميل: الربيع هو الحياة.
حياة تنبع من تحت الأرض، من شظايا انفجار أخضر في الطبيعة، وآخر في الروح، حياة تتدفق في نسغ الشجر، في العشب، في كل شيء من حولك، في كل شيء داخلك، في مواعيدك، في قلبك الذي بدأ يستيقظ من سباته الشتوي، فتتساءل في سرك، هل هي نفسها، تلك الأشجار التي تعرت طوال الشتاء، هل هو نفسه هذا النهر الذي يتراقص ماؤه بعد أن كان مرآة من جليد، هل هي نفسها هذه الشمس التي كانت معلقة وراء الغيم مثل فانوس في الفضاء البعيد.
في الربيع تشعر بأنك جديد على هذا المكان، تتلفت حولك بريبة باحثاً عن درب العودة إلى بيتك الضائع بين الأزهار والأعشاب البرية التي نبتت فجأة أمامك، وفي الربيع تكتشف ألواناً جديدة بين الغيوم المتجمعة عند حدود الغروب، وفي الربيع لا أحد يسرع إلى هدفه، ولا أحد يخزن الفاكهة أو الخضراوات، فكل شيء طازج مليء بنكهة الحياة.
وفي الربيع تتحول الحديقة القريبة من بيتك إلى غابة صغيرة، توقظ حدة الحواس فيك، مثل ذئب يتذكر غريزته أو شاعر متجول يستعيد قافيته أو عاشق يسترد عافية قلبه.
في الربيع، تصبح النساء أكثر جمالاً، والرجال أكثر جرأة، وفي الربيع تولد الأسطورة: يقال بأن ابنة القيصر أرادت ثلجاً في الربيع، فتطاير الزغب الذي يشبه ندف الثلج من أشجار البتولا غير المثمرة، زغب يغزو الشوارع، لا لشيء، إلا ليزعج عيون المارة، كأن الثلج لا يريد أن يعترف بهزيمته، ويسعى للانتقام على طريقته الخاصة.
وفي الربيع تتذكر أحد أبطال روايات ميخائيل بولغاكوف المصاب بحساسية الربيع، أو جارتك الحسناء التي تستحي من الخروج لأن وجهها يزداد احمراراً في هذا الوقت من السنة.
عندما يحل الربيع في موسكو، تكتشف أن انتظارك لم يكن عبثاً، فهناك أشياء كثيرة تستحق أن تراها، أن تلمسها، حتى لو اضطررت للعيش في طقس جليدي نصف سنة على الأقل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي