الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النمل وكأس المساء

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 2 / 13
الادب والفن


هواجس السيد نون
٣١ - البيرة والنمل

دفغ الباب ودخل البار الذي يبدو خاليا من الزبائن في هذه الساعة المبكرة من هذا المساء الشتائي الممطر. أقفل مظلته المبللة ووضعها في السلة المخصصة لذلك وراء الباب. كانت هناك عدة طاولات مشغولة، في الركن الأقصى من المقهى من قبل مجموعة من الشباب الأغلب أنهم طلبة أو شيء من هذا القبيل، يتحدثون بصوت خافت ويشربون البيرة. صاحب المقهى كان يمسح الكؤوس بمنشفته البيضاء ويرتبها على الرفوف إستعدادا لجمهور الزبائن والذين سيزداد عددهم تدريجيا، مراقبا في نفس الوقت في الجانب الأيسر من المقهى مجموعة من الموسيقيين يعدلون ويجربون آلاتهم. المكان بدا له صامتا، كصورة بدون صوت، مما ضخم الإحساس بالقلق المخيم على المكان. تردد في الجلوس على أول طاولة نتيجة خوفة من تيار الهواء إذا ما دخل أحد ما لقربه من الباب، وتردد في الذهاب إلى الكونتوار ليطلب طلبيته ثم يعود للجلوس. غير أنه أطال التردد، مما جعل الساقي يضع منشفته على الرف ويخرج من وراء الكونتوار ويأتي ليحييه، فهو يعرفه على ما يبدو، ويسجل طلبيته ويدعوه للجلوس. وشكره وأخذ مكانه بعيدا عن المدخل وأبعد ما يكون عن فرقة الموسيقى. وأتته بطريقة ما فكرة الشموس والأقمار والنجوم، ربما التقط كلمة "نجم" في الفضاء قادمة من الطاولة التي يحتلها الطلبة، وربما من الجانب الآخر حيث اعضاء الفرقة الموسيقية. وبدت له النجمة فكرة تتكسر قطعا صغيرة، مثل زجاجة أو كأس من الزجاج الرقيق الشديد الهشاشة، نجمة تدور في الفضاء، للوهلة الأولى ترائى له فراغ أبيض شاسع، ثم تظهر النجمة رويدا رويدا، معلقة، ثم تترائى له الأرض تستقبل ضلال النجوم، تعكسها على وجوه البشر، تبدو له الأرض قاسية في عالم الإنسان المعاصر الذي حلل كل ذرة من الكون كبيرة أو صغيرة، وعرف خبايا وأسرار الحياة والموت ووأسرار المادة بكل تفاصيلها. النجمة، في الحقيقة أصبحت تسحق كالذبابة، بل أنها ميته، وما نراه ليس سوى صورة متأخرة لشعاعها، ودون أن نراها أو نسمعها، تسقط قطعها المكسورة في شارع ما، في حجرة ما، في ركن ما من مدينة أو قرية على وجه الأرض المجدور، ويتكسر الإنسان بدوره مثل بيضة، تسقط النجمة من علوها وتتقشر في ليلة صيف، تتقشر النجمة، والليل يتقشر ويتساقط قطعا بلاستيكية شفافة لينة تغلف الأجسام والأشياء بغلالة بيضاء تفوح برائحة الأرض المبللة، تتقشر النجمة وتتشقق، وتتبخر الكلمات، تتسرب من بين الشقوق، وتنتشر في الفضاء سحابا أسود. تمطر السماء نجوما مثقوبة تتناثر لحظة ارتطامها بالأرض، ملايين الشظايا الزجاجية، في الفراغ الليلي البارد. وتتحول النجمة،  تعود كما كانت، مجرد فكرة يمكن قتلها، وتمزيقها أو حرقها وذر رمادها في اركان الأرض الأربعة، أو دفنها في اعماق كهف في الصحراء الكونية الشاسعة. ولكن الذي يريده في هذه اللحظات هو أن ينسى، أن ينسى كلية هذه الفكرة وكل الأفكار المشابهة، أن يخبئها في أقصى ركن معتم من ذاكرته، أن يمحوها، يقتلعها من جذورها، أن يسحقها مثل قملة، يحرقها ثانية، ويرسم بفحمها كلمة، مجرد كلمة، كلمة يقولها بلسانه المربوط والمتيبس، كلمة يكتبها بأصابعه المرتجفة، يغنيها، يرسمها وينحتها، كلمة ينقشها بأظافره على جلده، على جسد الجدار الصدئ، كلمة واحدة، يقولها ويعود إلى النوم. غير أنه لم يجد هذه الكلمة، سقطت منه وضاعت في الرمال ولم يبق له سوى صورة المغني الأعمى ترقص في قعر الكأس الذي أمامه وصدى نشيده الجنائزي عن هذا الزمان، زمان بلا صوت، زمان فقدت فيه الكلمات رنينها، وأصبحت مجرد حشرات نملية نربيها في الكراريس المدرسية، ونسجنها وسط الصفحات ذات المربعات الصغيرة. وأستيقظ السيد نون من غفوته على صوت الساقي : كأسك يا أستاذ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر


.. فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية




.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال