الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقتل الشاعر

رياض رمزي

2022 / 2 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


رياض رمزي : مقتل الشاعر
29-1-1837 في الساعة الثانية وخمس وأربعين دقيقة ظهرا مات شاعر روسيا العظيم بوشكين.




ليت السماء الأرض ليت مدارها/ للعبقري به مكان شهاب
يوما له ويقال ذاك شعاعه/ لا محض أخبار ومحض كتاب محمد مهدي الجواهري

اتخذ تكوّن الدولة الروسية الشكل الإمبراطوري قبل المرور بمرحلة الدولة القومية. عندما انهارت الإمبراطوريتين الخارجية( المعسكر الاشتراكي) والداخلية( الجمهوريات السوفيتية السابقة) أصيب الروس بإحباط عظيم. كي تحافظ الأمة على توازنها بدأت بعملية رجوع إلى الماضي. في آخر أكبر استطلاع للرأي طلب من الروس التصويت لصالح أهم ثلاثة ركائز، في تاريخهم، أكسبتهم تماسكا روحيا. فكانت النتيجة التالية: ثلاثة أشخاص يأتي في مقدمتهم بطرس الأكبر ثم بوشكين وبعده لينين. لم يصب أحد في روسيا بالدهشة. فكما قال أحد المثقفين” نعم لان حزننا على شاعرنا مستديم، فنحن أمة عظيمة”. لماذا بوشكين؟ كيف يأتي لينين بعده؟. فيما يلي جزء من الإجابة.
افرد له الديسمبريون مكانا في أكثر وثائقهم خطورة. بين محاضر اجتماعاتهم وخططهم السرية لإسقاط الحكم القيصري، فقد وجد المحققون، بعد فشل انتفاضتهم، قصاصات تحوي أشعاره. وصف الناقد الروسي بيلنسكي روايته الشعرية(يفغيني أنيغين) بكونها دائرة معارف للحياة الروسية. كانت شاعريته مصدر الهام لعدد من كبار المؤلفين الموسيقيين بدء بغلينكا الملقب بأبي الموسيقى الروسية الذي ألف صيغة اوبرالية لقصيدته الرومانسية( روسلان ولودميلا) والتي تعتبر نقطة البداية للموسيقى الروسية. من قصيدته عفريت الماء أستلهم غلينكا، كذلك، إنجازه الموسيقي المهم( روسالكا). وشرع قبل وفاته بفترة وجيزة بكتابة اوبرا (الضيف الحجري) أكملها عقب وفاته. ريمسكي كورساكوف الذي أستلهم بدوره من شعر بوشكين أوبرا( القيصر سلطان). أما قصيدته المأساوية( يفغيني أنيغين) فقد صاغها جايكوفسكي عملا اوبراليا رائعا. وقصيدته الاخرى( بوريس غودونوف) أصبحت موضوعا لمقطوعة أوركسترالية شغلت رائد الموسيقى الروسية مزورسكي أربع سنوات. عندما جاء البلاشفة إلى السلطة تحركت آلتهم الثقافية الضخمة لاسترداده ميتا وتحويله إلى أيقونة حية لبناء أسس نظرياتهم في الأدب من جانب، ولتحميل النظام القيصري وزر موته من جانب آخر. أقام ستالين في عام 1937، في ذروة سنوات التطهير، احتفالا عظيما بمرور 100 عام على وفاته، في نفس الوقت الذي كان يرسل فيه إلى معسكرات الاعتقال النخبة المثقفة كي تتحمى بنار أشعاره من برد ووحدة معسكرات غولاغه سيئة الصيت. عندما سمع السفراء المعتمدون ،آنذاك، في روسيا نبأ وفاته كتبوا إلى حكوماتهم” فقدت روسيا شاعرها الأعظم في عز عطائه… يعود سبب موته إلى طبع عنيف مرده دماؤه الهجينة الأفريقية…غيرته القاتلة على زوجته الفاتنة… وصلت شكوكه حد الجنون على علاقة مفترضة بين زوجته نتاليا نيكولايفنا غونتشيروفا وعديله الضابط الفرنسي جورج دي أنثيس” . عندما مات تجمع عشرات الألوف لمرافقة نعشه المحمول على فرس مطهمة. حدث شئ يشبه ما قاله الجواهري بعد أكثر من مائة عام : صرعت فحامت عليك القلوب- وخفّ لك الملأ الأعظم . لم تستطع الجموع تحمل انقطاع نبعه الشعري. هجمت على الفرس، حلّت أطقمها وسيورها ورمتها في نهر النيفا، وهو أمر جعل أحد البسطاء الروس يقول واجما ” يا الهي لقد شاهدت موت عديد من العسكريين، غير أني لم أشاهد جنازة كجنازة هذا الجنرال”. شعرت الدولة المشغولة ،آنذاك، بكيفية الحفاظ على سلطتها أن تململا يثيره شاعر كهذا يمكن أن يودي بعروش وممالك، غير قادرة جيوش وقوى معادية منظمة على إنجازه. قررت السلطات، على عجل، نقل الجثمان من الكنيسة المركزية في قلب بطرسبورغ وإعادة دفنه في الضواحي. تحول القاتل إلى أسم ملعون. فهو لم يودي بحياة الشاعر مرة واحدة، بل في كل مرة تسمع أو تقرأ قصائده، في كل مرة تصدح فيها سمفونية أو أوبرا ألهمتها أشعاره.
تعج كتب السيرة الذاتية المكتوبة عن الشاعر من قبل أغلب الباحثين الروس والأجانب بما يشير إلى موت الشاعر كحدث أزلي قديم قدم الزمان الغابر. وهي محاولة لاواعية ( ربما بسبب طريقة موته) تهدف إلى رفعه إلى مرتبة القديسين. فموته لا علاقة له بعلل أو حدث خارجي، بل هو حدث أزلي، فعالية منافية للمألوف تتجاوز ابتذال الحادثة الطارئة ذات الأسباب مدركة الكنه والأسباب. في عام 1989 أُذن للبروفيسور الإيطالية سيرينا فيتيل بالبحث في أرشيف عائلة هيكيرن، السفير الهولندي في البلاط الروسي ، الذي قام بتبني القاتل. أكتشفت الباحثة ، بعد بحث مضن، مجموعة من رسائل أرسلها الابن المتبّنى إلى والده ، وهي رسائل أتاحت لدارسي بوشكين رؤية جديدة لشكل العلاقة بين كل من الزوجة والشاعر والقاتل. تبدأ رسالته الأولى بتاريخ 20-1-1836 أي قبل عام من موت الشاعر، ويقول فيها ” وقعت في حب جنوني… لن أقول لكَ مع من، لأنني أخاف ضياع هذه الرسالة. لكنك ستعرف أسمها ، لا محالة، فهي اكثر المخلوقات جمالا في بطرسبورغ. ما يؤلم إنها تبادلني الحب أيضا، بيد أننا غير قادرين على اللقاء لأن زوجها ذو غيرة قاتلة "
الشاعر
لم تكن أسرة الشاعر بلا تعقيدات. فالعلاقة بين ألأم والأب لم تكن ألا انعكاسا لأخلاقيات ذلك العصر مضافا أليها تعقيدات أسرية تنبع من طبيعة الوالدين أنفسهما. كان المجتمع الروسي، آنذاك، تحت تأثير مباشر من المجتمع الفرنسي، حيث التهتك والرؤية الفرنسية لأمور الحياة رائجتان في ذلك الزمان. كانت حياة الفئات العليا من المجتمع متخمة بالمعاصي. الأب من النوع الذي يخشاه الكل ليس لهيبة مردها إنجاز شخصي، بل لأنه بلا فضائل مميزة خلا القسوة والنزق اللذان طبعا شكل علاقته مع أفراد الأسرة. يتمتع الرجال في عائلة الوالد بسمعتهم السيئة في تعاملهم مع نسائهم. فاحد أجداده حبس زوجته حتى الموت لشكه بوجود علاقة عاطفية مع مدرسها للغة الفرنسية. تجاوز والد الشاعر العيش بنمط حياته حدود استطاعته المالية. بات الغضب والبرم بالحياة المعاشة سببا آخر لتوجيه النقمة نحو أقرب الناس. وأهمل شؤون البيت والعمل حتى انه أخفق في أداء مهامه كضابط في الجيش فعين بوظيفة مدنية براتب اقل. أما ألأم فيرجع نسبها إلى إبراهيم هانيبال الذي اختطف من أحد الدول الأفريقية لصالح لويس الخامس عشر، وأرسل إلى القاهرة، أين أخذه الأتراك إلى اسطنبول، كي يلحق بقسم الحريم لدى السلطان. وجده السفير الروسي هناك فاعجب به . بعثه إلى روسيا حيث ألحقه بطرس الأكبر في خدمته. عانت ألأم من الشقاء في طفولتها. فوالدها الضابط في الجيش والذي أشتهر بكثرة مروقه وخياناته المتعددة لزوجته قام بطردها مع ابنتها( أم الشاعر) من البيت. دفعت الحياة البائسة ألأم إلى تلقين أبنتها بما يكفي من النصائح لجعل وجودها أمام زوجها المقبل ملموسا، عن طريق جعل المحافظة على التصنع، الشكليات والمظهر نزعة سائدة في السلوك. أفرطت ألأم في استخدام نصائح أمها على نحو متقن، لاكتساب سيطرة غير ناقصة على مستقبلها. لم يكن هذا الترتيب مريحا للبيت الغاطس في فوضى شاملة. محوّلة، بنفس الوقت، عواطف الأمومة إلى تفضيلات خاضعة للأهواء. كانت تفضِّل أولغا على أخيها ألكساندر، المُعامل دائما بنفاذ صبر. عندما رأته يمسح يديه دون استخدام منديل، عقدت يديه خلف ظهره لمدة يوم كامل. ثم أتبعت ذلك بإظهاره أمام الضيوف دون اكتراث. هكذا حولت ألأم إدارة البيت إلى مسرح لنزواتها، الأمر الذي دفع الشاب الكساندر إلى هجر البيت العائلي عند إكماله الدراسة وحصوله على عمل في وزارة الخارجية بمرتب 700 روبل في الشهر، وهو مبلغ لم يكن يكفي لمجاراة ما يتمناه من أسلوب عيش باذخ كان سائدا لدى الفئة الأرستقراطية آنذاك. كان الشاعر رغم وجهه ذي البشرة النحاسية وعينيه الزرقاوين اللتين تتوسطان وجهه المولّد الصغير المشدود نحو الأسفل وشعره الكث بلونه الشبيه بلون الحبر الصيني وقامته القصيرة، فانه كان يأخذ على محمل الجد في مجتمعات النساء لقابلياته الفذة الملفتة للانتباه لعذوبة حديثه و تنوعه. بيد أن هذا لم يكن سعيه الأول، بل العمل الفكري- ممارسة الشعر. ففي غرفته الصغيرة كان فراشه مغطى بقصاصات عليها أبيات أو مشاريع لأعمال شعرية غير منجزة. كان بعد ليالي القصف يأتي إلى غرفته كي يقضي أياما طوالا مبالغا في التزامه بإنجاز أعماله غير المنجزة. فمن يقرأ عملا كروسلان ولودميلا ،على سبيل المثال، وهو عمل يتألف من 3000 بيت شعري، يجد انه نتاج ذهن متأمل ومستريح. هذا وهو العمل الذي نفذت طبعاته حال صدوره مما حدا بالقراء على استنساخه. بدا الكتاب يباع بـ25 روبل للنسخة الواحدة ممهدا الطريق لخلق تجارة السوق السوداء للكتب. لكنه رغم الفائض الغزير من المخيلة لم يستطع مجاراة تلك العرافة الألمانية التي أجلسته ذات يوم شتوي، حيث لجاجة الثلج المتهاطل في الخارج لم تكن لتثنيها عن التنبؤ بمصيره بسطور تشابه أو تفوق ما كتبه هو عن يفغيني أنيغين التي تقع في حبه أولغا زوجة صديقه الشاعر لينسكي، وتبادله الرسائل الغرامية، كي يكتشف زوجها ذلك فيتحداه لمبارزة يقتل على أثرها الشاعر. قالت له العرافة بحضور أخيه ليف” تذهب منفيا إلى الشمال. زيجتك تنتهي قبل فوات الأوان. تموت على يد رجل طويل أشقر”. دفعته النبوءة، رغم عدم أيمان الشاعر بالرقى والتعازيم، لتحدي كل أشقر طويل كي يؤكد لنفسه هشاشتها. وهي حالة تشبه هوس البلابل المتجهة بجنون نحو أماكن نصبت لها فيها أفخاخ ترسل إشارات على شكل نداءات يلتقطها العقل المهووس كي يقنع نفسه ” كلا حتفي ليس هنا”. أن ما جعل هذه النبوءة تسير في طريقها المرسوم هي طباع الشاعر العنيفة المتجاوزة حدود الشجاعة نحو جسارات مميتة تستهين بالخطر. كي يلقي بمشاعره الغامّة لمزاجه نحو الخارج فهو لم يفعل شيئا غير إلحاق الأذى بنفسه كالجمرة اليائسة لا تتغذى إلا على فنائها. يشبه الشاعر رساما أدمن الألوان القانية ولم يعد يستثار إلا عند رؤيتها. فهو الوحيد الذي رأى- على سبيل المثال- إن الملمح الوحيد الجدير بالذكر من حاكم البلاد المطلق القيصر ألكساندرألأول هو تخاذله في معركة اوسترلتز. نظم الشاعر قصيدة كانت كافية لتعفير وجه القيصر في التراب أمام المثقفين الذين سرعان ما حفظوها عن ظهر قلب. لم يتأخر القيصر طويلا عن القيام بجرده لحسابات هذه المواجهة غير المجدية مع شاعر أشبه بقاطع طريق يعتبر معركته مع القوافل صراعا طويل النفس ينتصر فيه عن طريق اللجاجة والنفس الطويل لبس آلا. حاولت السلطات رشوة خادمه للحصول على نسخة من القصيدة كشهادة إثبات جرمية. رد على ذلك الشاعر بإحراق كل أوراقه بعد أن أخبره الخادم. عندما أستدعي أمام المدعي العام قال بوشكين وهو رابط الجأش” أتت النار على أوراقي كلها ماعدا هذا المستودع- مشيرا الى رأسه- فهو يحوي كل شيء”. عندها أتخذ القيصر قرارا بنفيه الى الجنوب. لم يكن هذا القرار، في نهاية المطاف، ألا أمرا منحولا إلى القيصر. فهو لم يفعل سوى تثبيت كارثة أزلية، دونت في مكان ما، فانتبهت العرافة الى وجودها ثم أكدتها فحسب.
نفي الشاعر الى الجنوب صوب مدينة يكاتيرينوسلاف تحت رقابة عسكرية ورسالة موجهة من وزير الخارجية الى الحاكم العسكري الجنرال أنزوف يرسم فيها صورة شخصية للشاعر: ،لم تترك للحاكم الكثير من الحيرة فيما يتوجب عمله حيال الزائر الجديد" حياته المريرة- كما تقول الرسالة- مع والديه اظطرته إلى هجران البيت بدون أسف. فقلبه المحروم من الحنان جعله يتعلق بشدة بالاستقلالية..جاء إلى هذا العالم وهو مزود بخيال ملتهب.. لا توجد ذرى عصية على مواهبه..جعلت قصيدته الغنائية عن الحرية السلطات توليه اهتمامها اللازم". لم يأخذ الشاعر معه، في سفرته، غير قائمة دون جوان الشهيرة التي ضمّت أسماء النساء اللواتي أحببنه أو أحبهن. أنتقل الشاعر من هناك إلى كشنيوف في مولدافيا حيث تعرف على الموسيقى والرقص الغجريين. يقال أنه قضى فترة طويلة في تجمعات الغجر الرحل. ينتقل بعدها إلى أوديسا. ينتج في هذه المرحلة أعمالا عظيمة كسجين القفقاز ونافورة بقجة سراي، الغجر. يبدأ العمل على ملحمته العظيمة يفغيني أنيغين وهو في سن الرابعة والعشرين كي ينهيها في سن الثانية والثلاثين .وهي رواية شعرية تحكي عن حياة غندور من بطرسبورغ يذهب إلى ريف قريب يتعرف هناك على شاعر عاطفي هو لينسكي. وفي إحدى الحفلات يبدأ بمعابثة أولغا التي تربطها علاقة حب بالشاعر. لكن أخت اولغا وأسمها تاتيانا تقع في حبه بدون إن يبادلها الحب. تدفع ملاحقته لأولغا بالشاعرالى طلب المبارزة التي تنتهي بموت الشاعر. بعد عدة سنوات يرجع أنيغين إلى بطرسبورغ حيث يلتقي بتاتيانا التي تزوجت من رجل ذي غنى وجاه. يجد انيغين أن الفتاة أصبحت اكثر جمالا من السابق فيقع في حبها بجنون ، لكنها ترفض خيانة زوجها،
في1 ديسمبر- كانون أول من عام 1825 يموت القيصر الكساندر الأول ويتولى الأخ الأصغر نيقولاي الأول العرش. يسمع بوشكين بخبر الوفاة في 27 تشرين الثاني-نوفمبر. يقرر السفر إلى بطرسبورغ في 1 كانون الأول-ديسمبر. في طريقه نحو المدينة يعّرج بوشكين على قرية ميخائيلوفسكيه. لو لم يتخذ الشاعر قراره بالذهاب إلى ميخايلوفسكيه لكان وصل المدينة في 13 كانون الأول-ديسمبر ولذهب إلى بيت صديقه الأقرب ريلييف حيث كان الثوار الديسمبريون يعقدون اجتماعا لمناقشة الخطة النهائية لثورتهم ضد القيصرية يوم 14 وهو يوم أداء القيصر الجديد القسم. عندما حدث تمرد الديسمبريين لم تشارك سوى فرقة عسكرية واحدة. تم القضاء على التمرد الذي قاده وشارك أصدقاء له أعدم جزء منهم ونفي الباقون إلى سيبيريا .
لدى قراءة محاضر التحقيق، وجد القيصر أن المصدر الفكري للديسمبريين وبدون استثناء- حسب اعترافهم- قصيدة بوشكين الغنائية عن الحرية. رغم عدم اهتمامه بالشعر والشعراء أصاب القيصر الذهول لرؤية علية القوم- الديسمبريين- وهم يتقدمون بثبات نحو الموت تحت تاثير عمل شعري. أصدر القيصر أمرا في 3 أيلول-سبتمبر 1826 بدعوة الشاعر للقائه في موسكو. أستغرقت سفرة الشاعر من بطرسبورغ خمسة أيام. بمجرد وصوله يستدعيه القيصر يوم 8 أيلول-سبتمبر. في الساعة الرابعة عصرا يدخل شخص ذي شعر طويل وسحنة داكنة لم تغيرها عدة أجيال من الزواج المختلط، وبمنظر جانبي لوجهه ورأسه أشبه برليف فرعوني. كان يتنفس تنفس من يعاني من مرض مزمن. لم يكن هذا المخلوق القصير القامة ذي الهيئة المدهوشة غير شاعر روسيا الأعظم الكساندر سيرغييفتش بوشكين.أستمر اللقاء ساعة واحدة لم يصلنا من مضمونه سوى جملة واحدة قالها القيصر لأحد ضباط حاشيته” هل تعلم؟ البارحة قابلت من هو اكثر الرجال ثقافة في روسيا”. هناك 28 رواية لما دار بين الرجلين . كيف تصرف الشاعر؟. جلس مسندا ظهره على كرسيه في جلسة مستريحة مثل كشخص مستند إلى جدار منتظرا مجيء أيام أفضل . شبك يديه وظل يتكلم في وضعية واحدة مستريحة لم يغيرها طوال حديثه، غير معوّل على فضل أو إعجاب من أحد.. تتفق الروايات الثمانية والعشرين على المحاورة التالية:
القيصر- أنا أعرف أنك تكرهني لأنني شردت أصدقائك، صدّقني أنا أحب روسيا ولست عدوا لشعبها، أريد لها الحرية ولكن قبل ذلك أريد لها أن تكون قوية. بعد فترة صمت تابع القيصر قائلا: هل المتآمرون أصدقاؤك.
الشاعر- احب وأحترم الكثير منهم وما زلت أحمل نفس الشعور.
القيصر- ماذا كنت ستفعل لو كنت هناك يوم 14 ديسمبر- كانون الأول.
الشاعر- لم اكن سوى أحدهم. الولاء والصداقات هي قضية شرف يا صاحب الفخامة.
ربما نظر القيصر ألان إلى الشاعر،الذي دفع باناس مرفهين نحو الموت ووجد ان سلطته بحاجة إلى مداراة شروره التي يمكن لها
أن تباغت أية سلطة عندما تكون بلا احتياطات. سأله القيصر القيصر : ماذا تكتب الآن؟ القليل أجاب الشاعر القليل.

القيصر- أبعث لي بما تكتبه فأنا رقيبك منذ اللحظة. .
هكذا أضافه إلى مشاغله في أداره بلد يبلغ سدس مساحة العالم يقرر حاكم البلاد المطلق قراءة أعمال شاعر كي يقرر مدى خطورتها على عرشه. عندما خرج القيصر مودعا الشاعر وجّه الكلام إلى ديوانه الإمبراطوري قائلا: اقدم لكم بوشكين الجديد، دعونا ننسى القديم.
خرج الشاعر كي يكتب المأساة الشعرية الرائعة بوريس غودونوف التي دفعها إلى القيصر الذي اكمل قراءتها في ثلاثة أسابيع.
الزوجة: ناتاليا نيكولايفنا غونتشيروفا
في سنة 1828 ذهب بوشكين في موسكو إلى حفلة رقص شاهد فيها ولأول مرة زوجته المقبلة ناتاليا ذات الستة عشر ربيعا. كان جمالها المتوهج من بشرتها المصطبغة بحمرة العافية وبرائحة عطرها الياسميني مصادر كافية لتقويض وقار الرجال، وإدخال الهذيان إلى قلوبهم. كانت تلبس ثوبا من الفراء مزّررا حتى العنق، تعتمر عمامة مرصعة باتجواهر وهي تشبك صدرها بحقيبتها، حيث لم يكن من سبيل أمام الحضور غير الخضوع لهيمنة هذا الاكتشاف المثير. كتب بوشكين عنها" أدارت رأسي عندما رأيتها لأول مرة بجمالها المخيّم بثقله على الحضور. أحببتها". عاد إلى بطرسبورغ التي قضى فيها فترة قليلة حيث قرر بعدها العودة إلى موسكو كي يطلب من صديقه الكونت تولستوي تعريفه بعائلة غونتشيروف. قام بطلب يدها للزواج أثناء ذلك اللقاء الأول. لم يكن عملا كهذا في معايير طقوس العشق غير عمل أخرق. فالشاعر الذي حمل قائمة دون جوان في جيبه تصرف كعاشق غير عابئ باحتياطات سبق له أن نادى بها" كي تكون لك حظوة لديهن.."

ناتاليا واحدة من ثلاثة أخوات. أذهب الإدمان المفرط على الكحول بعقل والدها . حلت ألام محل زوجها مُسندة لنفسها صلاحيات رجالية. انشغلت ألام بإعدادهن مهنيا وتلقينهن كيفية الحصول على أزواج موسرين. لكن نتاليا لم تكن بحاجة لنصائح كهذه. فجمالها ذو الألوان غير المرقّقة ليس بحاجة إلى تصنع ، بل إلى حسن استخدام: ابتسامة آسرة، بساطة ذات مغزى، إشارات مفعمة بدهاء مضمر، نظرات عفوية غير أنها فطنة وذات قصد لأنها موجهة إلى الكل والى لا أحد.
ترددت ألام كثيرا في قبول العرض. أطلق عليها بوشكين اسم كارس، وهي تحصينات أقامها الأتراك في أرمينيا لكنها سرعان ما تهاوت أمام هجمات الروس المتكررة. عاد الشاعر إلى بطرسبورغ حيث نُقل أليه أن ناتالي قبلت عرضا للزواج من شخص آخر. قرر معاودة العمل على دك تحصينات ماما كارس. كتب رسالة طويلة إلى الام عارضا مجمل أوضاعه خاصة المالية منها، أردفها برسالة شفاعة كتبها له وزير الداخلية يبين فيها نية السلطات الحسنة تجاه الشاعر. تم قبول عرضه للزواج في 16 أبريل-نيسان عام 1830.
لماذا وافقت على الزواج من بوشكين؟. هل هي بحاجة إلى شهرة لم يكن بمقدورها الوصول إليها دون ساعد قوي وعمل شاق؟.هل أحبت الشاعر حبا أرادت عن طريقه تأكيد إنجازها الشخصي؟. فأية امرأة ، مهما كان جمالها وسلامة ذوقها، ما كانت لتجرؤ على التخلي عن لعب دور معشوقة أبي العشاق. لاشك إنها أحبت بوشكين حبا ما كانت تتمكن، بدون شهرته الأدبية، من الانقياد إليه. لكنها لم تكن تخلو من مواهب أخرى تفترشها معه، عدا مجموعات شعرية لم تكن لتستظهر منها بيتين متتاليتين. كذلك الامر بالنسبة للشاعر. فهو لا يفتقر إلى مواهب أخرى تجعله بدون سقف يعلو رأسه، مع النساء، خلا الاحتماء بأشعاره. يؤكد البعض أن الزوجة لم تكن لتضيّع الوقت بأنفاقه عليه. كان اهتمامها منصبا على حضور الحفلات. تقول أنا أخماتوفا” فعلت كل ما يحلو لها دون أخذه بالحسبان. فهي حطمته وحرمته من كل هدوء روح"
في يوم 18-2-1831 في بولشايا نيكيتسكويا أوليتسا، عقد القران بعد تأجيله بسبب موت صديقه ديلفج. في ليلة زواجه أنخرط الشاعر في نشيج مسموع ظل صداه يهيمن على حياة أصوليين تابعوا حياته وموته وهو يرى الإنشوطة التي بدأت تحكم الخناق حوله؟ انحراف عابر للمزاج سببه موت صديق أو فقدان العزوبية؟ إشارات لا تخطئ لواقع يستبسل في التصريح بدنو هلاكه؟. دهش هؤلاء لرؤية رتل من الإيماءات كمجموعة من الجنيات كنّ يتراءين في الليالي وأوقات الخلوات يوهمن المحبين إنهن فتيات جميلات فيتبعونهن ويزيلونهن عن الطريق إلى موارد الهلاك. ففي مراسيم الزواج سقط أحد الخاتمين وتدحرج بعيدا عن العروسين مما اظطر أحد الحاضرين إلى البحث عنه تحت الكراسي، وعندما احضر، هوى الكتاب المقدس من على منبر الوعظ كإشارة لالبس فيها على قرب قدوم بلاء غامض..
ترك الشاعر موسكو نحو بطرسبورغ هربا من أم الزوجة كي يصبح حكم القدر( الذي اصطلح فيما بعد ، وتبعا لموضة فترة متأخرة، على إطلاق تسمية مخادعة عليه: الظروف) أكثر يسرا. عانى بوشكين عسرا ماليا شديدا. فأنفاقها فاق توقعاته، لكنه لم يكن يأبه بذلك. فهي لم تكن زوجة بل طفلة مدللة كلما ألحفت في طلباتها كلما وجد في ذلك سببا في مضاعفة حبه لها. فهو يعرف أن هناك أنواعا من التوازنات تلحق ضررا بالعشاق: الإيرادات مساوية للمصاريف، الأخذ على قدر العطاء…أن شاعرا يراعي هكذا موازنات سيتحول، لا مناص، إلى رجل إعمال مرموق. يجب أن تزيد حاجات ورغبات أحد الطرفين على قدرة الأخر على تلبيتها ،ويجب على الأخر أن يضحي شريطة أن لا يقدّر الأول مدى جسامتها ولا على الوفاء بها. كانت الزوجة تنفق الأموال دون أن تدرك أن الرصيد المتبقي وصل إلى حدود تنذر بالخطر. وعندما يوصد الشاعر باب مكتبه كي يعمل كانت تشعر بالوحدة والضيق، معتبرة ذلك خطيئة لا تحتمل لزوج يضحي بالفضائل المنزلية لصالح الوفاء لمتطلبات مهنته كشاعر. هذه هي دراما الشاعر وزوجته الجميلة: زوجة لا تبالي بعمله الفني، بل بمردوده المادي، وزوج مهتم بعمله الفني معتبرا المردود المادي ناتجا عرضيا. غير انهما وفي دوامة العشق يتبادلان المواقف: زوجة تنشغل بنتاج زوجها الادبي لأنها تزوجت شاعرا، وزوج يهتم بعطاء عمله المادي لانه تزوج امرأة جميلة. سيجد ، من يسعى لتوثيق لقاء شاعر عظيم بامرأة فاتنة، انه أمام علاقة يلتقي فيها الساخن بالساخن. فالسعادة الزوجية ، في أخر المطاف، لا تعدو أن تكون علاقة غير ملحوظة لأفراد تُركوا وشانهم كي يقرّروا أن يكونوا سعداء دون يأخذ أحد ذلك على محمل الأهمية. عندما يكون الطرفان ملكا اجتماعيا تصبح السعادة مثل رسم مزوّرلايجذب الجمهور المتعطش إلى متعة المشاهدة المتأتية من تدمير موضوعاته كي يحصل على غبطة لامتناهية، تعيد للتراجيديا قوامها الصحيح : قصص الحب ذات النهايات غير السعيدة. عندما يصبح السلوك الشخصي مادة اجتماعية للتسلية تتضاعف أخطاء الزوجين ويصبح أمر إصلاحها ضربا من المحال. تتحول تسوية الأمور بينهما ، من قضية شخصية إلى شأن وطني، لا يتبقى معه للزوجين من عمل، لان الآخرين تكفلوا بإنجازه. يؤكد الكثيرون أن ناتاليا أحبت زوجها. عندما كان يغيب عدة أيام عن البيت، كانت تطوف على بيوت الأصدقاء تبحث عنه مثل كلب تدلى لسانه من كثرة البحث عن صاحبه. عندما حلت سنة 1831 أصبحت مهنة ناتاشا الرائجة حضور الحفلات كل ليلة تقريبا، يرافقها زوجها الذي لم يكن يحسن إجادة مفردات اللغط اليومي المتداول. وعندما كان يحاول ذلك كان يبدو مثل صانع الشخوص الذي يتنازل عن دوره لصالح أدوار ثانوية في مسرحيات هزيلة لم يكن يأنف حتى عن مجرد التفكير بمشاهدتها. عندما تخّلت الشخصية الرئيسية عن دورها خلا الجو لأبطال الأراجوز لتمثيل أدوار عظيمة.أنه
القاتل ( جورج دي أنثيس .

يشبه التاريخ الإلهام الشعري. فهو يحل على الأفراد في لحظات الخلق العظيمة، سواء كانوا عظماء، أو تصادف حضورهم بجنب عظماء، أو لأنهم موجودون في أماكن عظيمة. يستطيع التاريخ خلق دراما عظيمة تمثل فيه شخصيات ضئيلة أدوارا فائقة الأهمية. صناعة التراجيديا ليست مرهونة دائما بالنسيج الذي جبلت منه شخصياتها الفاعلة. فعدم التناسب بين الفرد وقدره هو تراجيديا بحد ذاته: شخص عظيم يتزوج امرأة بدون مواهب يغويها فارس من الدرجة الثالثة. ينجر العظيم إلى منازلته إكراها، كي يموت رافعا شأن الوضيع. أنها الحالة التي يجد فيها العبقري نفسه في نزاع مع واقع يأنف الهبوط أليه، لكن الأقدار تدفعه دفعا إلى الاصطدام به. فهو يعمل بعناده المألوف لإنجاز مسؤولية رميت على كتفيه،لكنه لا يستبينها جيدا لأنها لا تدخل في نطاق مواهبه، لذا فهو غالبا ما يخفق في إنجازها بإتقانه المعتاد. هذا هو جوهر التراجيديا: 1) لا يوجد سوط لدى القدر يجلد به مبتليه افضل من الكارثة.2 ) قدرة الأقدار على إناطة أدوار عظيمة لأفراد مبتذلين ودفعهم بيد آمرة كي يتخطوا حدود مواهبهم. يموت بوشكين كي يجلب الخلود لقاتله، كما جلب المتنبي بموته الخلود لقاتل ضئيل الشان .
نوع من الرجال يصيب حظا وافرا لدى النساء، حاضر البديهة، يتمتع برياء خالص، إلحاح يشبه إلحاح مروّض الثعالب، لا يعبأ بالاحتياطات التي يضعنها النساء أمامهن، أقوال وإيماءات حافلة بالمزح الشبيهة بالفقاعات ما إن تنفجر مثيرة المتعة حتى تختفي. لا يعرف من اللغة الروسية غير مجموعة من كلمات وتراكيب هدفها إثارة الضحك لغرابتها. لم يقرا يوما ما عملا أدبيا ناهيك أعمال ضحيته. مراقص ممتاز. يشعر شعورا مضنيا بالهزيمة عندما تفلت فرصة منه. يعد الحالة التالية انتصارا: عندما يعمل بدأب للحصول على امرأة لديها ارتباطات أخلاقية أو قانونية. فهو لا يتمتع إلا بالثمار ذات الوبر الشائك. ولد في 5 شباط-فبراير عام 1812 في الألزاس. بعد آن أكمل مدرسة بور بون في باريس التحق بالأكاديمية العسكرية ، حيث اشترك في تمرد مؤيد للملك تشارلس العاشر، تم طرده على أثرها من الأكاديمية. عندما فقد أي مستقبل مهني في بلاده قرر الالتحاق بأي جيش أجنبي يمكنه العمل فيه كعسكري محترف. حاول العمل في الجيش البروسي. لكنه لم يحد عملا هناك. حصل على توصية من إحدى الشخصيات القريبة إلى القيصر للعمل في روسيا. أثناء توجهه إلى هناك مرض مرضا شديدا ، توقفت عربته بسبب عطل في مكان ما على طريق كان يجتازه صدفة ، آنذاك، سفير هولندا في روسيا البارون جاكوب ديرك بورتشارد هيكيرن. عرف السفير بمرض الشاب الفرنسي البالغ من العمر آنذاك 21 عاما فذهب لمقابلته والعناية به. عندما تماثل المريض للشفاء دعاه البارون إلى السفر سوية. دخلت قافلة السفير يصحبة الشاب الفرنسي روسيا في 4 تشرين الثاني -نوفمبر 1833. لم يكن السفير متزوجا. لذا فقد قرر تبني الشاب، حيث سافر لهذا الغرض إلى كل من فرنسا كي يقنع والد جورج بقبول تبنيه لابنه، و إلى هولندا لأقناع الملك بالموافقة على تبنيه رسميا. في سنة 1989 وبعد 153 عاما على مقتل بوشكين على يد هذا الرجل يتم اكتشاف مجموعة رسائل متبادلة بين القاتل والسفير الذي تبنّاه في أرشيف عائلة الأخير عندما كان في باريس يحاول إتمام عملية التبني التي أنجزها بنجاح. تكشف هذه الرسائل طبيعة العلاقة بين المتبني والمتبنّى ، لكننا سنركز على العلاقة بين دي أنثيس وزوجة الشاعر. يكتب دي أنثيس إلى هيكيرن في 20 يناير- كانون الثاني من عام 1836 قائلا" لقد وقعت في حب جنوني.. لن أقول لك من هي خوفا من ضياع هذه الرسالة. لكنك ستعرف اسمها .. . المؤلم إنها تبادلني الحب، لكننا غير قادرين على اللقاء لان زوجها ذو غيرة قاتلة…" يكتب رسالة أخرى في 2 شباط- فبراير يقول فيها".. أنا الآن في فرح غامر، زرت بيتها، غير انه لم يكن بمقدوري الكلام معها على انفراد…" كان دي أنثيس يصر على لقاء ينفرد فيه معها، لكنها كانت تواجهه بالرفض. عندما يفلح في لقاءها على انفراد يكتب عن ذلك الأمر في 14 شباط-فبراير قائلا" عندما شرحت لي وضعها بكل لباقة وود، شعرت معها بالهزيمة …قالت أنا احبك كما لم أفعل من قبل. ليس بمقدوري منحك ما هو أغلى من القلب ، وما تبقّى ليس ملكا لي. لن أكون سعيدة إذا ما انتهكتُ واجباتي.." في 28 مارت- آذار يكتب”".كلماتي تسير بلا هدي دونها ..التقينا أربعة مرات ، تكلمت معها عن أشياء ليست بذات معنى،.. إنني قادر على الكلام معها ساعات طوال كي أقول لها نصف ما أشعر به تجاهها .". ثم ينتهي إلى القول” مازلت مجنونا بحبها". في 3 حزيران- يونيو يكتب” إنها ترجوني أن أشفق على أطفالها ومستقبلها.. .
ما الذي حدث؟ ما هو مرامها فعلا؟ وماذا ستحصل عليه من كل هذا؟هل أحبته؟. هل كان الشاعر نفسه ملوما؟. هل كانت الزوجة تشك بعدم وفاء زوجها؟. هل لأنها تؤمن بما يشاع أن الشاعر يعتبر المرأة جزء من أدواته المهنية، شأنها شأن خضرة المروج، سنا البدر المنير، زرقة المياه الصافية والسحب الملونة بلون شمس الغروب؟ وهي كلها عناصر لاغنى عنها لإنضاج طبخته العاطفية؟.
علينا التخلي عن تقديم شرح للحب دون التبصر بتشابكاته المعقدة: أنك إذا أحببت شخصا أو تزوجته فأنت لم تعد قادرا على فعل شيء آخر. أحاول تقديم تفسير ذوقي معقول لهذه الأسئلة.
هناك نوع من العشق شبيه بتذكير النفس بأننا مازلنا هنا، واليك الدليل. فهناك شخص ما تحت الطلب. انه ليس الحب ، بل بديله الذهني الشبيه بقصة حب خيالية لامرأة تمثل دور معشوقة تطلب من شخص أن يمثل بصدق دور العاشق المضحّي كي تحصل على استمتاع عاطفي. أنها حالة تنتاب كل من يقع تحت قبضة ما يسمى ب" لم يعد من الوقت متسع”. تشبه هذه الحالة مرضا يصيب الملوك الذين يطلبون من نساء يُستأجرن لأداء دور حبيبات يهجرن الملوك ويتمنعن عليهم لا لشيء إلا لأشعارهم بمكابدات الشوق، كي يقع الملوك في حب لم يعودوا يحيوه وعلى الأخريات أن تجسدنه بتمثيله ليقتنعوا بوجوده. كيف حدثت التراجيديا؟. دعني أحاول أولا قراءة الحالة الذهنية لناتاليا. كانت تتصرف تبعا للمفهوم القائل بشعور المتزوجة بالغبطة وهي تستعيد أيام مراهقتها عندما يتراءى لها طيف شخص مبادر يحرك فيها النبتة التي طمرت تحت تربة الواجبات الزوجية، خالقا في حواسها الاظطراب ، مؤججا العواطف التي تجعل القلب يعمل تحت وقع غارات مفاجئة ومتخيلة، تترك في النفس ما يشبه الرعشة العارضة، النفس المبهور، حيرة البال. فهي تعلمت من زوجها أن المواهب تتعرض للضمور مع عدم الاستعمال، وان عليها أن تأخذ مواهبها على محمل الجد كموهبة زوجها الشعرية. إذ ما هو الضير في استخدام مواهبها في الجمال بشكل شاعري مادام الشاعر يصوغ مواهبه الشعرية في قالب جميل؟.
بين هاتين الموهبتين اللتين خرجتا إلى العلن منذ لحظة لقائهما الأول، كان هناك شخص يتقدم صوب موقع الأحداث مزودا بموهبة غير جدية: مغازلة النساء ومطاردتهن بداب عظيم. هذا هو المثلث إلذى صاغ شكل الكارثة المتجددة على الدوام : شاعر عظيم، أمراه فائقة الجمال، عاشق حول العشق إلى تحدي عن طريق الحصول على زوجات صعبات المنال. في 1 كانون الثاني- يناير 1836 كان القيصر نيقولاي الأول وزوجته الإمبراطورة الكساندرا فيودوروفنا يحتفلان بالذكرى العاشرة لاعتلائه العرش في حفل تنكري ضخم حضره مئات المدعوين، في القصر الشتوي، حيث تقاطعت في هذا المكان مصائر ثلاثة أشخاص. كانت مجموعة من النظرات كافية ليست لقتل شاعر، بل للإجهاز على معاني حرمت عاشقين، لم يولدا بعد وحتى زوال الخليقة، من أن يمدا من عمر لقائهم عدة ثواني سيستغرقها زمن الاستشهاد بتلك القوافي التي منع الموت الشاعر من قولها. حضرت نتاليا نيكولايفنا، أجمل النساء في بطرسبورغ نتيجة مبايعة مطلقة وغير رسمية لم يطعن أحد بصحتها، وبحوزتها نوع من الجمال لا يشغل باله بلفت انتباه الآخرين، لانه جوهر أولي جاء إلى الدنيا ومعه كل أجزائه المكملة: الابتسامة الآسرة، النفس المبهور، الدم الذي وضعت فيه كل السلالات التي مرت على هذه الأرض أجمل ما لديها، طريقة السير برفع طرف الثوب وتخفيض الرأس إدعاء أن السبب هو النظر إلى موضع القدمين. بعد عشرين يوما من هذا التاريخ سيكتب دي أنثيس رسالته الأولى “وقعت في حب جنوني..”، كي يتبعها بالرسائل الأخرى التي تؤرخ تطوّر العلاقة( كما سبق ذكره). في نهاية مايس - مايو 1836 يعود هيكيرن إلى بطرسبورغ كي يعلم الجميع أن إجراءات التبنّي أنجزت بنجاح. في 17 تشرين الأول-اكتو بر من نفس العام يكتب دي أنثيس إلى هيكيرن رسالة يرسم له فيها خطة لاستدراج ناتاليا إلى لقاء ينفرد فيه معها، حيث يذكر له مكانا ستذهب إليه الزوجة. حال رؤيتها أطلب منك ( من هيكيرين) أن تسألها( وفقا للخطة المقترحة) إن كانت قد التقت بي في بيت فيازيمسكي، وعندما تجيبك بالإيجاب عليك إظهار حيرتك الشديدة من وضعي المقلق وكأنك كنت شاهدا على ضناي وأساي والسبب في ذلك. قل لها( يستطرد دي انثيس في خطته) إن خادمك أيقظك في الثانية صباحا كي ينبئك بما أنا عليه. وانك حالما سمعت بالأمر حتى جئت تستطلع الخبر. قل لها انك سألتني أسئلة عديدة لم تحصل مني على جواب مطمئن. عندها تتكون لديك قناعة مؤداها أن مشادة حصلت بيني وبين زوجها… لم تكن هذه الخطة سوى شرك نجح القاتل في استدراجها إليه. إذ حضرت الزوجة إلى بيت إحدى الصديقات وهي أيدا ليا بولياتيكا. ما إن حضرت الزوجة حتى أنسّلت صاحبة البيت خارجة. عندما أنفرد بها الرجل سحب أقسام مسدسه ووجهه إلى قلبه مهددا بقتل نفسه أن لم تعاشره كرجل، الأمر الذي حدا بها إلى صراخ أستدعى دخول أبنه صاحبة البيت. وهو دخول سمح للزوجة بالهرب من البيت. لا أحد يعلم بأمر اللقاء لكن ناتاليا أخبرت زوجها بالأمر. كان الشاعر على علم بمطاردات دي أنثيس لزوجته. وقد زاد من حدة غضبه إن القضية أصبحت زادا للفئات العليا المتمتعة بالقيل والقال قدر تمتعها بأشعاره.
قرر بوشكين دعوة أختي ناتاليا وهن الكساندرا وأيكاترينا للعيش في بطرسبورغ كي يبقين قريبات من مجتمع بطرسبورغ رغبة من الزوجة في إيجاد عرسان لهن. كان دي أنثيس يغازل الأخت الكبرى ايكاترينا التي سرعان ما وقعت في حبه. تصّور الرسالة التي بعثتها زوجة المؤرخ الشهير كرامزين( أصدقاء عائلة بوشكين) إلى أخيها الوضع النفسي لبوشكين ” حضرت عائلة بوشكين ..الأخوات الثلاث ..ثم دي أنثيس..في ساعات ما بعد العشاء كان الكل مسرورا عدا ألكساندر بوشكين الذي كان كئيبا ، مستغرقا في التفكير، مهموما..كانت نظراته تتجه نحو نتاليا ودي أنثيس اللذان كانا يواصلان النكات. لم يكن دي أنثيس يفارق ايكاترينا في الوقت الذي يوجه نظراته نحو نتاليا..كان بوشكين يقف أمامهم واجما قرب الباب..”. كان مزاج الشاعر موحشا. حتى انه كان يدعو أشخاصا للمبارزة أثر تعليقات أو كلام عابر يعتبرها إساءات مقصودة لزعزعة شرفه الشخصي. أما عندما يختلي بنفسه فانه كان يردد” أن هذا لكثير. لن تكون نهاية حميدة لكل هذا"
في 19 تشرين الثاني-أكتوبر يدعى لالقاء مجموعة من قصائده. بعد إكمال القراءة ينخرط الشاعر في بكاء أشبه بالنحيب على مرأى ومسمع من الجمهور. بدأ الناس يفتشون عن السبب. : هل على أصدقاء غيبهم الموت أو تم نفيهم إلى سيبيريا؟ على مصاعبه المالية؟ لرؤيته رجلا آخر يغازل زوجته على مرأى من الجميع؟. أيا كان السبب فانه بكاء شخص بدأ يشعر بوهن في عزيمته ، ليس بسبب خلل في نبعه الشعري ولكن بسبب قلوب جافة تحيط به. كتب رسالة بعدها إلي والده يقول فيها” لا أعمل شيئا، بل أسير بنفسي نحو حتفها”.
الرسالة المجهولة
رسالة كتبت باللغة الفرنسية باثنتي عشر نسخة أرسلت إلى الشاعر ومجموعة من أصدقائه القريبين. عندما استلمها بوشكين وقرأها عرف إن محررها هو هيكيرين. من هو الذي كتب هذه الرسالة الشهيرة؟. أكد الشاعر إن المؤلف هو هيكيرن. لكن تصرفات البارون بعد إعلان المبارزة واستماتته في منعها وسعيه المحموم لزواج أبنه من أيكاترينا أخت زوجة الشاعر يلغي هذا الاحتمال. كان الرأي السوفيتي السائد إن محرر الرسالة هو القيصر نفسه لإسكات صوت بوشكين الثوري. توصلت دراسة صدرت في سنة 1927 إلى استنتاج مفاده إن محرر الرسالة هو الأمير دولغوروكوف.. أما في سنة 1961 فان دراسة أخرى عزت مصدرها إلى غغارين أحد أعداء الشاعر. ودراسة أخرى إلى ايداليا بولياتيكا التي شاركت في استدراج الزوجة للقاء القاتل. أرجعت البروفيسورة سيرينا فيتيل، في دراستها التي أعلنت فيها عن اكتشافها لرسائل دي أنثيس إلى هيكيرن، الرسالة المجهولة إلى نيسلرود ابن وزير الخارجية. لكنها تورد احتمالا آخر: ماذا عن عدوات دي أنثيس من النساء اللواتي تعرضن للهجر على يديه. نص الرسالة" أجتمع القادة ألأعلون وفرسان أخوية ألديوثين في الكنيسة المركزية تحت رئاسة المعلم الأكبر للأخوية صاحب المهابة د. ل. ناريشكين ، تم فيه بالإجماع تسمية السيد الكساندر بوشكين مساعدا للرئيس الأكبر للديوثين وموثقا للأحداث التاريخية الهامة للأخوية.
التوقيع
السكرتير الدائم بروكين
لم يكن رئيس الجمعية غير زوج الامرأة الجميلة ماريا انتونوفنا سفيتابولكا- جيتفيرتينسكايا عشيقة القيصر لفترة تزيد عن 14 عاما.
كان الشاعر أشبه بنمر أثخنت الأشواك قوائمه فوقع في الشراك. لم تكن الإصابة مميتة ولكن طريقة وقوعه المهينة في الشراك هي التي أصابته إصابات فادحة. عليه أن يخرج الأشواك من الكفين أولا كي يتدبر أمر سقوطه المهين لاحقا. لم يكن أمامه متسع من الوقت والمزاج كي يضع الحل في موضعه الصحيح. عندما أدرك استحالة ذلك قرر حل العقدة بطريقة حل الأسكندر لعقدة غوردون بطريقته الخاصة. كتب الشاعر في ليلة4 كانون الثاني- يناير رسالة التحدي للمبارزة. كانت ابنة القائد الشهير كوتوزوف، وهي واحدة من تلك الاثنتي عشرة شخصية ممن استلم نسخة من الرسالة المجهولة قد أرسلت صباح ذلك اليوم رسالة إلى الشاعر تقول فيها” أتوسل إليك وأنا راكعة أمامك أن لا تحّدث أحدا بهذا الشأن … فهم يريدون وضع أيديهم على صوت روسيا وقلبها .
أستلم هيكيرن رسالة التحدي ، وعندما علم بمضمونها ذهب إلى بيت الشاعر يطلب مهلة يوم واحد ثم أسبوع ثم أسبوعين لتأجيل المبارزة. ذهب هيكيرن إلى بيت أحد أصدقاء الشاعر وهو جيوكوفسكي طالبا إليه إقناع الشاعر أن مبتغى ولده ليس نتاليا بل أختها أيكاترينا، وانه، أي هيكيرن، يطلب يدها منه. في 6 كانون الثاني-يناير يرسل دي انثيس رسالة إلى هيكيرن يقول فيها انه يوافق على كل أجراء يقرره. في هذه الأثناء تكتب صوفيا كرامزينا عن نتاليا وأختها ” اختفى صوت نتاليا. و أيكاترينا أعماها الفرح..أما المجتمع فمذهول مما يحدث”. كانت أيكاترينا تكبره بأربعة أعوام. في نفس اليوم ليلا يستلم بوشكين رسالة من هيكيرن يطلب فيها تمديد المهلة الممنوحة، ويعده بأنه سيأتي في اليوم التالي لرؤيته. عند مجيء البارون لملاقاة الشاعر يستعطفه هيكيرن فيرق الشاعر لحاله ويعده بسحب التحدي. يذهب هيكيرن إلى عمة نتاليا كي يناقش معها زواج ابنه من أيكاترينا. في اليوم التالي يأخذ هيكيرن جيوكوفسكي للقاء عمة نتاليا كي يطلب منها يد أيكاترينا لابنه، قائلا انه يريد تجنب المبارزة بأي ثمن. تتم الموافقة من قبل الأهل شريطة الانتهاء من أمر المبارزة. يستمع بوشكين إلى شروط الزواج ومن ضمنها تخليه عن المبارزة. يبدأ الشاعر بتحرير رسالة سحبه لتحديه. يقول بوشكين في رسالته” شرفني البارون هيكيرن بقبوله عرضي لمبارزة ابنه .. ما أن علمت أن جورج دي أنثيس قرر طلب يد أخت زوجتي ..حتى طلبت من البارون اعتبار عرض المبارزة لاغيا..”. في يوم 14 كانون الثاني حضر هيكيرن كي يطلب يد يكاترينا مع طلب بعض التعديلات على رسالة المنازلة حتى لا يبدو إلغاء المبارزة سببا للزواج. يجلب هيكيرن رسالة من ولده يقول فيها” في البداية لابد من معرفة السبب الذي حدا بك لتغيير قرارك..علينا أن نقدم تفسيرا يسمح لكلينا بعده أن يعامل أحدنا الآخر باحترام.”كان دي أنثيس يريد تثبيت السبب وراء سحب بوشكين لتحديه كي لا يبدو زواجه من أخت الزوجة هروبا من المواجهة. سببت هذه الرسالة غضبا شديدا لبوشكين، دفعت به إلى عدم الرد في الوقت الذي بدأت فيه مهلة الأسبوعين بالانقضاء. أرسل دي أنثيس رسالة إلى بوشكين يقول فيها”أنني تحت الطلب”. في 16 كانون الثاني/ يناير حضر بوشكين حفلة عيد ميلاد السيدة كرامزين حيث قال لشاهد مبارزته سولوغوب ( الذي اعتذر لاحقا)أمام الملأ ” تعال إلى غدا كي نضع شروط المبارزة. الأكثر دموية الأفضل شروطا .
أصبح أمر المبارزة الشغل الشاغل لروسيا كلها، مما حدا بالقيصر إلى دعوة الشاعر لمقابلة يتعهد بعدم المضي فيها . تكتب صوفيا بوبرينسكايا إلى زوجها في 25 كانون الأول- ديسمبر" منذ أن خلق العالم لم تكن هناك جلبة كالتي تحدث الآن في صالونات بطرسبورغ..” عبر الكساندر بلوك عن الوضع بالقول” ليست طلقة دي أنثيس هي التي قتلت بوشكين، بل ندرة الهواء”. كتب بعض أصدقاء الشاعر عن وضعه النفسي وتصرفاته في تلك الأيام التي سبقت المبارزة. وهي ملاحظات من أشخاص عرفوا بوشكين لفترة تزيد عن عشرين عاما( عائلة كرامزين، فيازيمسكي)” كان مكتئبا وصامتا لكنه (كما يرد في الرسائل المتبادلة بين أفراد هذه العوائل) كان يكسر صمته بطريقة خرقاء ومستهجنة مطلقا ضحكات هستيرية ، صارّا بأسنانه غضبا أمام غريمه الذي كان يحضر الدعوات التي توجه إلى العائلة باعتباره فردا منها”. تدل هذه الملاحظات على نوع من التسلية الهابطة الشبيهة بالشماتة هدفها إنزال شخص عظيم إلى درك ضئيل دون مراعاة لبلواه. أما الزوجة فكانت ترسل النظرات باتجاه دي انثيس أثناء غياب زوجها و تمتنع بحضوره عن فعل ذلك، حيث يندفع دي أنثيس إلى الوقوف أمام الزوجة تاركا خطيبته شاحبة شحوب منحوتات الشمع .

المبارزة
في 10 كانون الثاني- يناير يتزوج دي أنثيس من أيكاترينا غونتشيروفا. تحضر ناتاليا المراسيم فقط وتتخلف عن الاحتفال امتثالا لأوامر محددة من زوجها. يرسل دي أنثيس رسالة إلى عديله يطلب منه نسيان الماضي. يجيب الشاعر بالصمت. في 14 كانون الثاني يقيم الكونت ستروغونوف حفلة غذاء على شرف العروسين. يرفض بوشكين الكلام مع عديله. وعندما يأتي دي أنثيس مع زوجته يوم 14 كانون الثاني لزيارة بوشكين في بيته يرفض الأخير استقباله. في يوم 24 كانون الثاني يحضر هيكيرن إلى العنوان 12 شارع مويكا لكن الشاعر يغلق الباب تاركا الرجل متيبسا من البرد وراء الباب مستسلما لوقع أهانة لم تعد تحتمل.
يذهب الشاعر مباشرة إلى مكتبه كي يكتب رسالة هجائية ومقذعة لهيكيرن يقول فيها”..كانت تصرفات ولدك مكشوفة لي منذ زمن .. كنت أراقب الأحداث مستعدا للتدخل عندما أرى ذلك مناسبا.. لقد كنت سمسارا لصالح أبنك النغل.. انك أنت من كنت توجه سلوكه.. كنت كالعجوز الشمطاء تترصد زوجتي في كل زاوية تحدثها عن حب نغلك لها…أنه في الوقت الذي كان يظطجع في فراشه مكللا بالسفلس كنت تقول لها انه يهلك من شدة الحب…”. غير أن رسالة كتبها هيكيرن إلى نيسلرود وزير الخارجية في 12شباط- فبراير، أي بعد موت بوشكين تؤكد عكس ما ذكره بوشكين في رسالته. يقول فيها” ..أستحلفها( يقصد الزوجة) ستجد أن كل حججها ستتهاوى. بإمكانها إبلاغك بمحاولاتي لتبصيرها بنوع التهلكة التي تتوجه هي صوبها..”. يقوم دي أنثيس بكتابة رسالة إلى مسؤولة العسكري المباشر يسرد فيه تجاوزات بوشكين عليه وحيث يصل إلى نتيجة مؤداها أن المبارزة أمست نتيجة حتمية. في 26 كانون الثاني يستلم هيكيرن رسالة بوشكين الهجائية ويحرر الرد سريعا : قبول التحدي والدعوة إلى المبارزة. يقوم بإرسال الرسالة إلى بوشكين مع أرشيباك أحد موظفي السفارة الذي عينه هيكيرن مشرفا( حكما) على المبارزة من جانبه. وافق الشاعر على مضمون الرسالة بدون الخوض في التفاصيل. بقيت أمام الشاعر مهمة اختيار مشرف على المبارزة من جانبه. ذهب لهذا الغرض إلى إحدى أماكن السهرات المتأخرة في المدينة بحثا عن مشرف، أين التقى بأحد موظفي السفارة الإنكليزية ماغينيس. لم يكن الطلب من ماغينيس إلا محاولة من الشاعر لتجنب اختيار أحد مواطنيه خوفا من انتشار خبر المبارزة ومنع حدوثها. في الساعة الثانية ليلا يستلم الشاعر رد ماغينيس السلبي. ينهض في الساعة الثامنة صباحا من اليوم التالي بمزاج رائق. في الساعة التاسعة يتلقى رسالة من دي أرشيباك يبلغه فيها رغبته بلقائه لتحديد شروط المبارزة. بما أن الشاعر لم يكن متأكدا من إمكانية أيجاد مشرف من جانبه على المبارزة، فهو يكتب الرسالة التالية إلى ارشيباك” ..ليست لدي أية نية في إشراك متبطلي بطرسبورغ في شئوني.. بما أن السيد دي أنثيس هو المتحدي والجهة المعتدية فله الحرية في اختيار المشرف كما يرغب..بالنسبة للوقت والمكان فأنا لا أعترض على ما يراه مناسبا.. سأذهب، إلى موقع النزال، كي أهيئ الحلبة فقط..". في الساعة الحادية عشرة صباحا يتناول طعام الغذاء مع زوجته وأطفاله، يذرع بعدها الغرفة جيئة وذهابا. كان سقوط الثلج، الذي يشاهد من النافذة، مستمرا، حيث جعلته الرياح الهابة من البحر يتطاير في دوامات هوائية على شكل فراشات بيضاء صغيرة آثرت على مجال الرؤية في شوارع باتت شبه خالية. في هذه الأثناء يأتي أحد أصدقائه إليه وهو دانزاس لزيارته. يخبره بان اليوم هو موعد مبارزته، ويطلب منه أن يمثله في الإشراف على المبارزة. يرتج عليه ويرفض عرض الشاعر ويغادر المنزل. يستلم رسالة من ارشيباك يطالبه باحترام قواعد المبارزة والإسراع بتعيين مشرف يمثله. فأي تأخير يعتبر تنازلا. يسرع الشاعر في استئجار عربة يطوف بها على أصدقائه، وعندما لايجد أحدا يعرج على بيت دانزاس، ويطلب منه الذهاب معه إلى السفارة الفرنسية، أين يقدمه كمشرف من جانبه على المبارزة وسط ذهول الرجل الذي أسقط على يديه ولم يجد مفرا من القبول. يجلس دي ارشيباك ودانزاس لوضع شروط المبارزة. يعود بوشكين في الساعة الثانية والنصف إلى بيته الخالي من الزوجة والأطفال، كي يحرر رسالة إلى أشيموفا يعتذر لها عن الحضور. يخرج من البيت في الساعة الثالثة والنصف عصرا حيث يلتقي مع دانزاس في مقهى قريب، وفق موعد مسبق، للاطلاع على شروط المبارزة. وهي 1- المسافة الفاصلة بين المتبارزين عشر خطوات تضاف أليها خمسة من كل جانب بحيث تصبح المساحة الكلية عشرون خطوة.2- يحمل كل متبارز مسدسا. يتقدم المتبارزان نحوا لحاجز الموضوع أمام كل منهما ويبدأن بإطلاق النار عند رؤية الإشارة.3- حالما يطلق أحدهما النار يتوقف المتسابقان في مكانهما ليسمحا للمتبارز الذي لم يطلق النار باستعمال سلاحه على الآخر الذي يجب أن يقف ،في مكانه، دون حراك.4- يتوجب على الطرفين تكرار العملية إذا لم يصب أحدهما الآخر.4- المشرفان هما الجهة الوحيدة المخولة بحل إشكاليات النزاع. لم تكن هذه التفاصيل غير شكليات لم يكترث لها الشاعر كثيرا. فما كان يهمه هو وقت ومكان النزال: اليوم 27-1-1837الساعة الخامسة مساء في منطقة تشورنيا ريتشكا خارج المدينة. يستعد الشاعر للذهاب ولكنه يطلب آخر زاد له في هذه الدنيا كأسا من الماء المخلوط بالليمون. في الساعة الرابعة وعشرة دقائق تنطلق المركبة الجليدية نحو تشورنيا ريتشكا. ما أن تترك العربة المدينة متجهة نحوا لفضاء المفتوح حتى تأتي عربة أخرى من الجهة المقابلة. تفسح العربتان الطريق إحداهما للأخرى. كان الشاعر يتطلع إلى حافة الغابة منحنيا على نافذة المركبة دون أن يكون لديه الكثير مما يتوجب عليه النظر أليه أوالتفكير فيه وهي مؤهلاته الوحيدة السابقة التي يشعرانه سيفارقها قريبا. كانت المرأة التي تجلس في العربة الأخرى مع أطفالها تعاني من قصر النظر، لذا فهي لم تلمح زوجها في المركبة الأخرى. حاول دانزاس الإشارة أليها بيده ولكنها ابتعدت تاركة وراءها فراغا يزداد أتساعا بتباعد المركبتين. لم يكد يصل إلى الطريق الفرعي المفضي إلى محطة النزال الأخير حتى ظهرت من بين آخر توهجات الغروب مركبة أطلت منها امرأة برأسها وصرخت” الكساندر سيرغييفتش إلى أين أنت ذاهب؟. أن الوقت لمتأخر”. لم تكن غير ابنة البارون ليتزيرود. أجابها الشاعر بدون إبطاء” كلا أنني لفي متسع من الوقت”. توقفت العربتان قرب طريق، دكّته الأقدام بالكاد، يفضي إلى مرج صغير حوله الثلج الهاطل إلى سجادة بيضاء. خرج المتبارزان كل من عربته. تقدم الشاعر، دون أن ينظر إلى الوراء، بفم مطبق ووجه ألهبه البرد، لا يرى منه غير خرطوم من البخار يخرج من فمه بدون توقف، كمدمن يريد الانقضاض على عقب سيجارته الأخير تمهيدا لدعسه بالقدم. تقدم المشرفان لوضع شواهد النزال. تقدم دانزاس نحو الشاعر قائلا” الكساندر سيرغييفتش هل المكان ملائم؟”. أجاب الشاعر” ليس هذا بالشيء المهم. الإسراع هو الأهم حتى لا يصل الثلج إلى الركب”. أنشغل الثلاثة بترسيم المكان ، حيث لم يشأ دي انثيس الجلوس، بل فضل أشغال نفسه في تحضير ساحة الصراع. كان الشاعر يجلس على وهدة صغيرة بدون حراك خلا حركات من اليدين لإزالة الثلج المتجمع على عينيه. وضع يديه على ركبتيه كي يساعد نفسه على النهوض وهو يقول” هكذا أذن. هل أكملتم؟”. عندما تقدم إلى ارض النزال وجد إن الحدود الفاصلة الأخيرة لم تكن سوى معطفي المشرفين المرميين على الأرض كحاجز أخير.قام المشرفان بإلقام مسدسي المتبارزين باطلاقتين ناولاهما إلى المتبارزين. حالما أستلم الشاعر مسدسه تولدت على وجهه تلك الانزعاجة الخالدة التي حاول عبثا إخفائها وجعلها من طبائعه الثابتة. تقدم نحو المعطف المرمي مرفوع الرأس سائرا بخطوات تشبه خطوات الديك الضال. نظر إلى دانزاس وجد انه يرفع القبعة . عرف من الإيماءة ومن طريقة النظر انه يشير إلى شيء لم يسبق له أن شاهده بل سيراه ولأول مرة. تقدم المتبارزان نحو المعاطف المرمية . تأخر دي أنثيس خطوة واحدة سُمع على أثرها دوي أطلاقة سقط الشاعر بعدها أرضا. تقدم نحوه دانزاس أشار الشاعر بيديه أن انتظر ما زال في داخلي من العزم ما يكفي لأطلاق طلقة أخرى. وقف دي أنثيس في مكانه بدون حراك، كما تقتضي الشروط، واضعا يده على قلبه كي يعطي المجال لبوشكين لإطلاق طلقته الأخيرة، منتظرا كي يسلم دانزاس المسدس الثاني إلى الشاعر الطريح أرضا. وضع الشاعر يده اليسرى على الأرض كي يساعد نفسه على النهوض. أحس بسائل رطب ودافئ يخرج منه. ما إن أستلم المسدس واقفا حتى عاجل دي أنثيس بطلقة أسقطته أرضا، فصرخ بوشكين” برافو” وهو يرمي سلاحه في الهواء. لكنه بعد سقوط غريمه قال بصوت واهن” أن الأمر لغريب فقتل عدوي لم يجلب لي السرور”. لم تصب أطلاقته سوى الذراع اليمنى لدي أنثيس، حيث صدتها واحدة من أ زرار جاكيتته المعدنية محدثة جروحا خفيفة. تقدم ارشيباك إلى الشاعر محاولا تهدئته، لكنه قال” لاعليك. إذا تعافينا سنعيدها ثانية”. نظر بوشكين إلى الأرض فعرف فداحة الجرح. فهم الآن أن ما جرى ليس حدثا عارضا، بل حتفا انشغلت ملائكة الموت منذ زمن طويل في تدبير مراسيم إنجازه. غاب عن الوعي مرتين. أجلس في عربته. حيث أي أخدود أو عثرة تسبب له آلاما مضاعفة. كان هيكيرن ينتظر على جانب الطريق نتيجة الصراع في عربة أكثر راحة. تم نقل الشاعر إليها دون أن يخبره أحد إنها تعود لهيكيرن. لمح ولآخر مرة دي أنثيس فقال له بصوت شحيح” لم ينته الأمر بيننا ”
لماذا لم يمت دي أنثيس؟. هل كان يلبس درعا واقيا من الرصاص؟ هل أن مسدسه كان بقطر ماسورة أكبر؟. انشغلت روسيا في بحث ذلك زمنا طويلا.
بدأ يشعر الآن بفقدان سيطرته على آلامه هو دليل على بداية أهوال آلام الاحتضار. قال لدانزاس بصوت واهن أن يهدئ من روع زوجته، وان يقلل من سوء حالته. وصلت المركبة إلى 12 مويكا في الساعة السادسة مساء. دخل دانزاس طالبا من الخدم جلب سيد البيت من العربة ونقله إلى مكتبه مباشرة كما أوصى. أسرع الخدم لرفعه وجدوا وجهه اصفرا وذابلا ذبول شهيد سُّلط على وجهه نور ضنين. جاءت نتاليا مندفعة على صوت جلبة الداخلين. انتحى بها دانزاس كي يقول لها إن زوجها أصيب بجروح بسيطة. اندفعت إلى المكتب وجدته وقد تكدس على الأريكة متقلصا حجمه إلى حجم كومة من الصوف الذابل ، حيث قام الخدم بتسطير كمادات ثلجية على وجهه كمدافعين يضعون أكياسا من الرمل على موقع آيل إلى الانهيار. شرعت بالصراخ لكنه أوقفها بيده وقال لها بلسان متثاقل” لاتدخلي”، ريثما يستبدل الخدم ملابسه المنقوعة دما. عندما دخلت قال لها” لاذنب لك في هذا الذي يجري”. تم استدعاء الطبيب الذي قال إن تدخلا جراحيا أمر ضروري. قال الشاعر” قل لي الحقيقة. ماذا ترى؟، شيئا مميتا؟”. عرف الطبيب أن تقديم أكاذيب أو كلمات عزاء ليست دواء علاجيا لشخص كهذا الشاعر. إذ لا يصح أشعاره بالشفقة وهو يرى نذر الموت تجول أمامه. قال له” واجبي يحتم علي القول أنني لا أستبعد ذلك”. اكتسى وجه الشاعر بتعال حائر: تعال على الموت، وحيرة على حياة بدأت بالغروب. قال له الطبيب ” هل تريد أن ترى أحدا؟”.أجاب الشاعر":ماذا؟ وداع؟ كم تبقى لي من الوقت؟ ساعة؟. ألتفت إلى مكتبته العامرة بالكتب ورفع يده مقتصدا بالجهد كي يقول " وداعا أصدقائي”. في الساعة الرابعة صباحا طلب رؤية أصدقائه. دخلوا عليه فردا. كان أحدهم تورجينيف. شدوا على يديه وداعا. طلب رؤية أطفاله. أخبر زوجته ( التي كانت تقول للرائح والغادي” هل تراهن؟. أنا أراهن إن زوجي سيبقى حيا”) إن مقامه في الدنيا ساعات. قال لها ” البسي الحداد علي لسنتين، تزوجي بعدها شريطة أن لا يكون وغدا”. طلب منها مرآة. نظر إلى نفسه فيها. أشار بيده إشارة الوداع. قال لدال” أنني أشعر بالتعب متى سينتهي كل هذا؟”. في يوم 29-1-1837 في الساعة الثانية وخمس وأربعين دقيقة ظهرا مات الشاعر بوشكين. عندما سمعت الزوجة بموته اندفعت إلى فراشه وهي تولول” ساشا هل أنت حي؟”. أنها المرة الأولى التي لم يعطها فيها جوابا، لابل انه لم يكن ينظر إليها، لا بل انه لم يكن ينظر إلى أي شيء. كان يرقد بخمول لامبالي، في مظهره نوع من اليسر يدل على انه سعيد ومعافى من شدة الموت. كان ينتظر شيئين: رشة من ماء الورد المقدس وكمشه من تراب على وجهه. جلس تورجينيف على طاولة قريبا من الجسد المسجى كي يكتب” زوجته لا تصدق أنه في عداد الأموات. إنها ببساطة لا تصدق. الصمت ينشر جناحه على الجميع. نحن نتكلم بصوت عال. الكلام بغيض على الأسماع، لأنه ينبئ بموت رجل الصمت من اجله جليل"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس كولومبيا يعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ويعتب


.. -أفريكا إنتليجنس-: صفقة مرتقبة تحصل بموجبها إيران على اليورا




.. ما التكتيكات التي تستخدمها فصائل المقاومة عند استهداف مواقع


.. بمناسبة عيد العمال.. مظاهرات في باريس تندد بما وصفوها حرب ال




.. الدكتور المصري حسام موافي يثير الجدل بقبلة على يد محمد أبو ا