الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل جعل داروين الإلحاد معقولاً؟

محمد زايد

2022 / 2 / 15
الطب , والعلوم


مقال مترجم لريتشارد بوغز (عالم أحياء)

تخيل أنني دخلت أنا وزوجتي إلى غرفة المعيشة في صباح أحد الأيام لنجد أن صندوق ألعاب ابننا قد سقط، وأن قطع مسار قطار البريو (لعبة قطار للأطفال) ملقاة على الأرض. لكن ثماني قطع مترابطة معًا في دائرة مثالية، ملقاة على الأرض، مع قطار فوق القضبان. تسألني زوجتي: "هل فعلت ذلك؟" أقول "لا – يجب أنه أنت من فعل ذلك". تقول "لا، هي أيضاً". ننظر إلى بعضنا البعض للحظة ونفكر ثم نصل إلى استنتاجين مختلفين.

زوجتي قلقة وتقول: "لابد أن شخصًا ما دخل الشقة الليلة الماضية. لا تظهر السكك الحديدية بشكل عفوي من خليط من القطع المتساقطة. نحن بحاجة إلى التحقق من أن مجوهراتي لا تزال موجودة".

هززت رأسي وقلت: "هذا دليل على أن هناك مليارات من قطارات البريو في العالم".

"هل أنت مجنون؟" زوجتي تسأل.

أقول: "لا، ما رأيك في فرص سقوط هذه القطع بهذه الطريقة، وسقوط القطار فوقها؟ واحد في المليار؟ واحد في التريليون؟".

تقول: "ربما واحد في التريليون – ما كان ليحدث ذلك بالصدفة".

أجبت: "نعم، يمكن ذلك، إذا كان هناك المليارات من قطارات البريو في العالم التي تتساقط على الأرض. فبالصدفة يمكن أن يحدث ذلك".

زوجتي تعتقد أنني مجنون. بدلاً من التفسير الواضح لمصمم ذكي وضع الأجزاء مع بعضها البعض، ألجأ إلى صدفة محضة، مبررة بتكهنات حول وجود المليارات من قطارات البريو.

– حجج اليونان القديمة.

هذه المشكلة، في تفسير أصل البنيات المعقدة والهادفة بفعل الصدفة وليس بفعل عقل هادف، هي مشكلة يواجهها الملحدين. يوجد في العالم الطبيعي العديد من البنيات التي لها أجزاء متعددة تعمل معًا لإنشاء بنيات أكثر تعقيداً ولها غرض. يتم تقديم هذه الأشياء كدليل على وجود عقل ذكي خلفهم. كان الفلاسفة الأوائل الذين قدموا حججًا مواتية للإلحاد – ليوكيبوس وديموقريطوس وإبيقور، والذين عاشوا منذ أكثر من 2000 عام في اليونان – على دراية بهذه المشكلة.

حجة التصميم الذكي كانت حجة بليغة ومقنعة من قبل فلاسفة يونانيين آخرين مثل سقراط وأفلاطون. رسموا تشبيهًا بين العالم الطبيعي والحرفية البشرية. انظر إلى التمثال. لا أحد يستطيع أن ينكر أن التمثال هو عمل عقل ذكي. فكم بالحري جسم الإنسان، الذي يعتبر التمثال مجرد تمثيل بسيط له. يجب أن يكون هناك عقل فائق الذكاء وراء العالم الطبيعي من حولنا، وهذا هو عقل الإله.

كان هذا التشبيه سائدًا عبر تاريخ البشرية. بعد مئات السنين، قال يسوع المسيح: "تَأَمَّلُوا الزَّنَابِقَ كَيْفَ تَنْمُو: لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ، وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا". (إنجيل لوقا 27:12) لقد افترض أنه سيكون من الواضح لمستمعيه أن النباتات المزهرة (الزنابق) قد أظهرت تصميماً يفوق تصميم الجلباب الملكي لملك إسرائيل (سليمان عليه السلام) عندما كانت مملكته في ذروة الابتكار الثقافي. كان يسوع يصنع نفس التشبيه بين الحرفية البشرية والعالم الطبيعي.

كل ما يمكن أن يقوله الملحدون الأوائل مثل ديموقريطوس وإبيقور رداً على هذه الحجة هو أن الأشياء المعقدة والهادفة في العالم الطبيعي قد نشأت للتو عن طريق الصدفة. كانت هذه الأشياء مجرد تجمعات لذرات محظوظة. لمحاولة تبرير ذلك، قالوا إن الكون يجب أن يكون كبيرًا بشكل غير محدود وكذلك أزلي، وأن هناك تريليونات من العوالم بداخله. نحن فقط الأشخاص المحظوظون الذين هم في عالم محظوظ للغاية حيث حدثت الأشياء معًا بطريقة تجعل الحياة المعقدة موجودة.

لم يقتنع الكثير من الناس بهذه الحجة. حتى الملحد المخلص ريتشارد دوكينز يعترف بأن الحجج المؤيدة للإلحاد في العالم القديم لم تكن مقنعة. كتب في كتابه صانع الساعات الأعمى: "لم أستطع أن أتخيل أن أكون ملحدًا في أي وقت قبل عام 1859 عندما تم نشر أصل الأنواع لداروين".

إن التبرير الذي قدمه ديموقريطوس وإبيقور سخيف مثل استنتاجي لوجود مليارات من قطارات البريو، وبسبب الحاجة إلى الكثير من الحظ لشرح العالم، لم ينتشر الإلحاد.

ترك سقراط وأفلاطون حجة التصميم كواحدة من أقوى الحجج المتاحة للمؤمنين على مر القرون. النظام الشمسي، العالم، أشكال الحياة المعقدة على الأرض – لم يكن من الممكن أن يحدث أي من هذه الأشياء بالصدفة. نحن بحاجة إلى عقل الإله لشرح تصميمهم ووجودهم.

نظرًا لأن التكنولوجيا البشرية أصبحت أكثر تعقيدًا على مر العصور، اكتشفنا المزيد عن العالم الطبيعي، وتم رسم المقارنات باستمرار بين أحدث التقنيات البشرية والعالم الطبيعي. قارن الرومان آلية أرخميدس الفلكية بآلية عمل النجوم والكواكب الفعلية. قارن ويليام بالي ساعة الجيب بالكائنات الحية في القرن الثامن عشر بإنجلترا. يمكننا اليوم مقارنة أحدث تقنيات النانو بالآلات الجزيئية الأكثر تعقيدًا وفعالية الموجودة في كل خلية حية. أو مقارنة برامج الكمبيوتر المكتوبة بشق الأنفس بالمعلومات المشفرة بحمضنا النووي. تتالت المقارنات بين التقنيات البشرية والعالم الطبيعي عبر العصور، وأصبح موقف المؤمنين أقوى مع التقدم التكنولوجي والعلمي. إنها حجة مقنعة على وجود الإله.

– داروين وفقاً لدوكينز.

تم تقويض هذه الحجة بشكل قاتل عندما نشر داروين أصل الأنواع وفقًا لملحدين مثل ريتشارد دوكينز. "برر داروين الإلحاد فكريا" كما يزعم في كتابه صانع الساعات الأعمى. وفقًا لدوكينز، يمكن للانتقاء الطبيعي الدارويني أن يشرح أشكال الحياة المعقدة دون الحاجة إلى استحضار ضربات حظ ضخمة؛ ودون الحاجة إلى حدوث أشياء بعيدة الاحتمال؛ أحداث احتمالية وقوعها واحد في التريليون.

كيف ذلك؟ دعونا نعود إلى تشبيه قطار البريو. تخيل أنه بدلاً من مجرد سقوط قطع القطار على الأرض مرة واحدة، نقوم بإعادة خلط القطع مع بعضها البعض كل 5 دقائق. كل خمس دقائق ستكون هناك فرصة جديدة لضم أجزاء من القطار بالصدفة. هذا يشبه إلى حد ما ما يحدث في الكائنات الحية التي تتكاثر. في كل جيل جديد هناك فرصة جديدة لتنوع جديد.

تخيل الآن أنه بالإضافة إلى إعادة خلط قطع قطار البريو كل خمس دقائق، هناك أيضًا قاعدة سارية مفادها أن أي أجزاء من مسار القطار تلتصق ببعضها البعض، لا تنفصل مرة أخرى. تبقى القطع كما هي. عندما يتم لصق قطعتين من مسار القطار معاً. يبقيان كما هما معاً، يمكنك الانتظار حتى تتم إضافة قطعة ثالثة بالصدفة. ثم يمكن أن تنتظر حتى تتم إضافة قطعة رابعة بالصدفة. في النهاية قد تتشكل الدائرة الكاملة (مسار القطار)، ويتم إلقاء القطار فوق ذلك المسار. لقد تطورت السكة الحديدية من خلال عملية انتقاء تراكمي تدريجية.

إذا كان لديك نظام قد تم إعداده بهذه الطريقة، فإن إنتاج قطار وظيفي لا يبدو مستبعدًا. إنها سلسلة من الأحداث غير محتملة الوقوع، لكن احتمال حصول ذلك أعلى بكثير من التجمع التلقائي للدائرة الكاملة والقطار دفعة واحدة. لا يزال هناك الكثير من الحظ ولكن ليس بقدر ما كان من قبل.

هذه هي الطريقة التي يحاول بها دوكينز شرح أصل الأشياء شديدة التعقيد من خلال التطور الدارويني. يعتمد على التغيرات الصغيرة التي يتم اختيار كل منها، لأنها توفر لياقة أكبر للكائن. تدريجيًا يبنون شيئًا أكثر تعقيدًا. كل شيء يبدو معقولاً.

في صانع الساعات الأعمى، يقترح دوكينز أن هذه العملية يمكن أن تولد شيئًا معقدًا مثل العين البشرية. يقترح أن الكائن الحي يمكن أن يبدأ ببقعة صغيرة حساسة للضوء على جلده، وبالتدريج على مدى ملايين الأجيال، يمكن أن تحصل على العين المعقدة، كل هذا يبدو معقولاً.

لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو: هل تقضي هذه العملية على قدر كاف من الحظ لتفسير العالم الطبيعي كما نعرفه اليوم ليكون الإلحاد معقولاً؟

– الصدفة في التطور.

في كتابه وهم الإله، كتب دوكينز عن آلية التطور الداروينية كما لو كانت تعتمد على قدر صغير جداً من الحظ. يدعي أشياء مثل هذه: "الانتقاء الطبيعي هو عملية تراكمية تقسم مشكلة اللااحتمالية إلى أجزاء صغيرة". "الانتقاء الطبيعي ليس مجرد حل بسيط ومعقول وأنيق. إنه البديل العملي الوحيد الذي تم اقتراحه للصدفة". يقول إن "الشخص الذي لا يفهم شيئاً عن الانتقاء الطبيعي هو الوحيد الذي سيسميه نظرية الصدفة، إنه العكس".

يجب أن أشير إلى أن دوكينز يبدو أنه ينغمس في القليل من اللبس هنا. من ناحية، ما يقوله صحيح تمامًا: الانتقاء الطبيعي، بتعريفه الضيق، هو عكس الصدفة. غالبًا ما نتحدث في أبحاث علم الأحياء عن حدوث التطور من خلال خمس قوى: الانتخاب الطبيعي، والانحراف الوراثي، وإعادة التركيب الوراثي، والهجرة، والطفرة. في سياق هذه القوى الخمس، يكون الانتخاب الطبيعي غير-عشوائي. لذا بصفتي عالم أحياء بحثي، إذا قرأت بشكل سطحي عبارات دوكينز أعلاه، يمكنني أن أومأ برأسي وأوافق على كلامه.

ومع ذلك، في سياق كتابه، يستخدم دوكينز "الانتقاء الطبيعي" بمعنى أوسع بكثير، وأكثر عامية، هو يستخدمه ككناية عن العملية التطورية بأكملها. عند استخدامه بهذا المعنى، من الخطأ تمامًا القول إنه "عكس" الصدفة. في الحقيقة، الصدفة عنصر لا مفر منه.

هنا، يمكنني الخوض في الكثير من التفاصيل حول عملية التطور الداروينية، مما يمنحك الكثير من الحالات التي تتطلب جرعات ضخمة من الحظ.

يمكنني أن أكتب عن كيف يمكن للمسارات التطورية أن تنحصر في قمم اللياقة المحلية التي ليست قمم لياقة عالمية، ولا يمكن للمسارات التطورية الهروب من هذه القمم المحلية إلا عن طريق الانحراف الوراثي العشوائي.

على سبيل المثال، إذا كانت مجموعة قطار البريو الخاصة بي تحتوي على دائرة مكونة من ثماني قطع، والتي يمكن للقطار أن يدور حولها بسعادة، فكيف يمكنني الانتقال من تلك الحالة إلى مجموعة قطار بريو أكثر تعقيدًا؟ سأضطر إلى كسر مسار السكة الحديد الدائري وإدخال قطع إضافية. كنت سأضطر إلى النزول من قمة اللياقة المحلية حتى أتمكن من تسلق قمة لياقة مختلفة يمثلها خط سكة حديد أطول وأكثر تعقيداً ولا يحدث ذلك إلا عن طريق الحظ (الانحراف الوراثي). بدون هذه الخطوة، لا يمكن خلق مستويات أكبر من التعقيد.

يمكنني أن أكتب عن المسارات التطورية التي تحتاج إلى أكثر من طفرة متزامنة لتعمل. إن الحصول على طفرتين – كلاهما مطلوب قبل زيادة اللياقة التطورية – في مكانهما في نفس الوقت، يتطلب ضربة حظ كبيرة.

يمكنني أن أكتب عن الطفرات المفيدة الجديدة التي تصبح ببساطة غير محظوظة، ويتم القضاء عليها عن طريق الانحراف الوراثي العشوائي.

يمكنني أن أكتب عن الآلات الجزيئية المعقدة التي تحتاج على الأرجح إلى تطور أجزاء متعددة في نفس الوقت كي تؤدي وظيفتها، وبالتالي تتطلب الكثير من الحظ.

باختصار، من المعروف جدًا لعلماء الأحياء العاملين في هذا المجال (ولا شك لدوكينز نفسه) أن الصدفة عنصر مهم جدًا في العملية التطورية. لكن إذا قرأت كتاب وهم الإله كشخص غير متخصص في علم الأحياء، فمن المحتمل أن يصل إليك انطباع بأن العملية التطورية لا تكاد تنطوي على أي حظ على الإطلاق.

– الصدفة في أماكن أخرى.

لا يعتمد الماديون (وأغلب الملحدين هم ماديون) بشكل عام على الحظ لتفسير تنوع الكائنات الحية وحسب، بل يعتمدون أيضاً على الحظ لتفسير أشياء أخرى مثل: الضبط الدقيق للكون من خلال فكرة الأكوان المتعددة، وكذلك أصل الحياة.

فمثلاً يكتب واحد من أكبر علماء الكونيات – أليكساندر فيلينكن في مجلة علم الفلك والجيوفيزياء التي ينشرها المجتمع الفلكي الملكي، أن الضبط الدقيق يبدو وكأنه يشير إلى وجود مصمم كما يدعي ”منظري التصميم الذكي“، لكنه مع ذلك يرفض هذا التفسير ويلجأ إلي فكرة الأكوان المتعددة أي الصدفة لتفسير الضبط الدقيق، ومن المعلوم أن فكرة الأكوان المتعددة قد أصبحت شائعة جداً بين علماء الكونيات في العصر الحالي.

يكتب واحد من أكبر علماء الكيمياء في العالم حالياً – جورج إم. وايتسايدز من جامعة هارفارد في مقدمة كتاب ”ملائمة الكون للحياة: الكيمياء الحيوية والضبط الدقيق“ نشر جامعة كامبريدج متسائلاً: كيف بدأت الحياة؟ سأجيب، ومعظم العلماء كذلك سيجيبون بالصدفة، .... من خليط من الجزيئات، انبثقت بطريقة ما مجموعة فرعية صغيرة من العمليات الكيميائية وتكررت هذه العمليات بالصدفة، حتي ظهرت الخلايا الأولى“.

– خاتمة.

مثل القدماء، ما زلنا أمام خياران: كميات هائلة من الحظ، أو عقل إلهي وراء الكون والحياة.


• مقال مترجم بتصرف (وبإضافات مني) لا يخل بالمضمون، من مقال على مدونة عالم الأحياء ريتشارد بوغز، بروفيسور علم الأحياء التطوري في جامعة الملكة ماري بلندن – إنجلترا، وداعم للتصميم للذكي، ونشر العديد من الأوراق العلمية في مجلات مرموقة كمجلة (Nature) ومجلة (Current Biology)، بعنوان ”هل جعل داروين الإلحاد معقولاً؟“.

- الملف الشخصي لريتشارد بوغز من موقع الجامعة:
https://www.qmul.ac.uk/sbbs/staff/richardbuggs.html
- المقال من على مدونته:
https://richardbuggs.com/2020/03/28/did-darwin-make-atheism-credible/
- قول أليكساندر فيلينكن:
https://academic.oup.com/astrogeo/article/52/5/5.33/254038
- قول جورج إم. وايتسايدز:
https://www.cambridge.org/core/books/abs/fitness-of-the-cosmos-for-life/foreword-the-improbability-of-life/725960ACA67BF4218597A3E83E5B6164








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ابتداءً من 6 مايو | أثر الطائر الطنان | ناشونال جيوغرافيك أب


.. هكذا نحمي أطفالنا من مخاطر مواقع التواصل الاجتماعي




.. قوات الأمن الأمريكية تمنع وسائل الإعلام من تغطية اعتصام معهد


.. الجزيرة ترصد تزايد أعداد السفن المنتظرة في المياه الإقليمية




.. واشنطن تستعمل التكنولوجيا لكسب تأييد جزر المحيط الهادي