الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فقراء سورية بين أزمات وفساد الداخل وحصار الخارج

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

(Abdul-hamid Fajr Salloum)

2022 / 2 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


منذ اندلاع الأحداث في سورية في أواسط آذار 2011 انصرفَ الخطاب السياسي والإعلامي على تحميل الخارج المسئولية عن كل شيء.. وكلما كانت الأوضاع تتأزّم أكثر، كان يتصاعد اتهام الخارج أكثر.. وهكذا كان الحال منذ 2011 وحتى اليوم ونحن في 2022 ..
لا يُمكِنُ إغفال دور الخارج عن المسئولية، فقد لعِبَ دورا خبيثا إن كان على الصعيد الإقليمي أو على الصعيد الدولي..
فإسرائيل وتركيا وبعض دول الخليج العربي والولايات المتحدة وحلفائها الغربيون كانوا في صف المُعارضين للحُكم، بينما كانت إيران وروسيا والصين في صف الحُكم.. والجميع تدخّل بشكلٍ مُباشرٍ، فتحوّلت الأزمة إلى حالةٍ من الصراع العسكري بين قِوى إقليمية ودولية فوق الأراضي السورية، وتقاطرَ الإرهاب من كل الأصقاع... أو بين مِحورين رئيسيين: مِحورٌ مع الحُكم ومِحورٌ ضد الحُكم.. ورغم أنهُ كانت لكل محور أهدافهُ وغاياتهُ كمِحور، إلا أنه بذات الوقت كانت لكل دولة داخل كل محور أهدافها وغاياتها الخاصة بها أيضا.. فأهداف إيران الخاصة ليست كما أهداف روسيا الخاصّة، والعكس صحيح..وأهداف تركيا ليست كما أهداف أمريكا.. وهكذا..
*
عاشت سورية عشريةٌ حمراءٌ مُخضَبةٌ بالدم، ونجم عنها ما نجمَ من دماءٍ ودمارٍ ولجوءٍ ونزوحٍ.. وفي السنوات الأخيرة منها بدأ انهيارٌ كبيرٌ للعملة السورية، مما انعكس على كافة مناحي الحياة.. وهذا ما أدّى بدورهِ إلى نقمةٍ شعبيةٍ عارمةٍ في أوساط الحاضنة الشعبية للحُكم، إلى أن ارتفعت الأصوات عاليا ضد الحكومة ووصلت لِحدِّ خروج البعض للساحات والشوارع للتعبير عن احتجاجهم على سوء الأوضاع المعيشية.. وتصاعدَت بالمقابل الاتهامات للغاضبين المُحتجِّين بالتحرُّكِ بتحريضٍ من الخارج..
وهكذا كان على الدوام يتمُّ تحميل المسؤولية للخارج..
*
وكما أشرتُ في البداية، لا يُمكِنُ إغفال دور الخارج ولا إعفاءه من المسئولية، ولكن ألّا يُوجدُ أي دور للداخل ولا أية مسؤولية على الحكومة وأهلُ الحُكم في دفعِ الناس للغضب والخروج عن طورهم والتسبُّب بهذه النقمة العامّة؟.
أعتقدُ الداخل يتحمّلُ أيضا مسؤولية كبيرة، قد توازي أو تفوقُ مسؤولية الخارج.. فحينما تكونُ مُحصّنا جيدا من الداخل يضعف جدا تأثير الخارج، والعكسُ صحيح..
كان الجميعُ ينتظرُ ويتوقّعُ تحسين ظروف الحياة والمعيشة مع خفتِ أصوات المدافع والبنادق، وإعادة النظر بكافة الأمور وتصحيحها، إلا أنّ ما حصل هو بعكسِ كافة التوقعات..
*
فمنذ تكليف رئيس مجلس الوزراء الحالي(مع التقدير، وهو مَن بيني وبينهُ خبز وملح) بمهامِّ القائم بأعمال رئيس المجلس في أواسط حزيران 2020، ومن ثمّ تسميتهِ رسميا رئيسا لمجلس الوزراء في آب 2021، للأسف لم تبخل حكومتهُ على المواطنين بكل أشكال القرارات التي ضيّقتْ على الناس أكثر وأكثر كل يومٍ حتى وصل الأمرُ إلى رغيف الخبز..
كانت البداية في شهر تموز 2020 مع قرار إلزام كل مواطن سوري يأتي من الخارج إلى بلدهِ(يعني إلى موطنهِ وموطن أهلهِ وآبائه وأجداده ومنزلهِ) بتبديل مائة دولار عند نقطة الدخول بالسعر الرسمي الجائر الذي تُحدِّدهُ الدولة..
القرار لم يكُن مدروسا، ولم يُميِّز بين طالبٍ، يدرسُ في لبنان بالدَّين، أو عاملٍ يعمل في لبنان بمائتي دولار بالشهر، وبين من يُقيمُ ويعمل في الخليج أو أوروبا بآلاف الدولارات بالشهر.. أو بين ثري وفقير.. وهكذا كانت آثارهُ السلبية كبيرة، إذ حرَمَ العامل الفقير والطالب المسكين، من زيارة أهلهِ في أوقات العُطل أو مواسم الأعياد، لأنه في كل مرّة يجب أن يُبدِّل هذا المبلغ، ولو خرج ودخل كل يوم.. وحرمَ أهلهُ من زيارتهِ أيضا..
*
بعد آب 2021 تسارعت جدا القرارات التي تخنقُ الناس، وبدأت سياسات اقتصادية تُحاكي سياسات صندوق النقد الدولي ووصفاتهِ التقليدية المعروفة، دون الإعلان رسميا عن ذلك، ودون الحصول على قروض من الصندوق..وهذه الوصفات تُلخّصُ بما يلي:
ــ رفع كل أشكال الدعم، وخصوصا عن السلع والخدمات الأساسية والضرورية..
ــ رفع الدعم عن المحروقات، وزيادة كافة أسعار الطاقة، مع عدم توفيرها إلا بالنُذُرِ القليل، وما ينجم عن ذلك من ارتفاع للأسعار.. والتداعيات على القطاعات الاقتصادية والإنتاجية والاستهلاكية..
ــ تقليص برامج المعونات الاجتماعية وصولا إلى إنهاء كل الحمايات الاجتماعية والصحية والتربوية والشؤون الاجتماعية .. الخ.. ..
ــ تقليص حجم القطاع العام.. وخفض الرواتب أو تقييدها..
ــ زيادة معدلات الضرائب، ونسبتها، وتوسيع مجالاتها..
إلى آخره..
كل هذا قامت، وتقوم به الحكومة، وهذا لم يحصل في أيِّ بلدٍ طبّقت وصفات صندوق النقد الدولي، إلا وتسبّبت بإثارة القلاقل والاضطرابات وغضبٍ ونقمةٍ كانت تدفع بهم للشوارع للاحتجاج والتظاهُر..
فتطبيقُ وصفات صندوق النقد الدولي مُرتبِطٌ ارتباطا عضويا بكل ردود فعل المواطنين الآنفة الذكر.. كما يرتبط تناوُل الملح بارتفاع ضغط الدم.. أو تناول السُكّر برفعِ مستوى السُكّر في الدم..
ولذلك من الطبيعي جدّا أن تكون هذه النقمة الشعبية الواسعة، التي وصلت للاحتجاج في الشوارع، ببعض الأماكن، ضد سياسات الحكومة..
هذا حصل سابقا في الأرجنتين واليونان وتونس والأردن ومصر.. الخ
كما حصل عام 1997 في شرق آسيا، في تايلاند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية..
بل وكأنه لم يسمع أحدٌ بثورة الشعب السوداني بالأمس القريب، التي كانت شراراتها رغيف الخبز..
*
تحميلُ المواطن المسؤولية عن الغضب والاحتجاج، هذا ظلمٌ يُضافُ إلى ظُلم القرارات الحكومية المتعلقة بالأحوال المعيشية ولقمة العيش..
بل تهديدُ المواطن والتنمُّر عليه، وتوجيه الاتهمات له بالعمالَة، لأنهُ يخرج للشارع ليُعبِّر عن وجعهِ وألمهِ، بعد أن عَجِز عن إقناع الحكومة بالتراجع عن القرارات الجائرة بحقهِ، هذا أيضا ظِلمٌ يُضافُ إلى المظالم السابقة..
*
من هُم أولئك الموجوعون والضحايا من قرارات الحكومة الجائرة التي لم تربط بين رفع الدعم والغلاء، وبين رفع الأجور والرواتب والدّخل بِما يتناسب مع زيادة الأسعار؟.
إنهم الفقراء، وهؤلاء هم الأكثرُ وطنية وتضحية، وأولادهم هم من قدّموا الدماء عبر تاريخ الوطن، وهم من لم يغادروه في أي وقت، ولا يعرفون معنى السياحة والاستجمام في أوروبا أو أمريكا أو الخليج أو أي مكان آخرٍ.. بل لا يعرفون معنى السياحة أو الاستجمام حتى داخل الوطن..ولا يملكون حسابات بنكية خارجية ولا داخلية، ولا أملاكا منقولة وغير منقولة..
المنطقُ يقول أن من يُضحِّي أكثر لأجل الوطن يجب أن يحظى بالأكثر، فلنسأل أنفسنا بماذا يحظى اليوم فقراء الوطن؟.
والعدو حينما يبحث عن عُملاء لا يُضيِّعُ وقتهُ للبحث عنهم في أوساط الفقراء الذين لا يُفيدونهُ بشيء.. إنه يبحث عنهم في أوساط أصحاب مواقع النفوذ والقرار والسُلطة، وأصحاب رؤوس الأموال ، فهؤلاء هُم من يستفيدُ منهم، وليس الفقراء..
*
قد يقولُ قائلٌ ولكن العدو يستغل الفقراء في الظروف المعيشية الصعبة، لإثارة القلاقل والفوضى.. وهناك من يُفنِّد ذلك ويُجادِلُ أن الفئات التالية هي المسؤولة عن كل شيء:
1ــ فئةُ من اتّخذوا القرارات الجائرة التي رمتْ الناس في براثن العَوزِ والفقر والقهرِ والمهانةِ والحرمان.. وأذلّت حتى النُخب، أو من هُم معروفون أبا عن جد، من كِرام القوم..
2ــ فئةُ الفاسدين الذين استغلوا المناصب أو السلطة والنفوذ وقفزوا من حالة الفقر الشديد إلى حالة الثراء الشديد وعلى حساب الشعب، وأُضيفت لهم فئة أثرياء الحرب، في ظل غياب القانون والمُحاسبَة..
3ـ فئة البرجوازية الطفيلية التي نبتت من رحمِ الفساد، وتحالفت مع البرجوازية التقليدية، وأدارت الظهر للطبقات الكادحة التي تنتمي لها بالأساس..
4ــ فئة المسؤولين عن تطبيق القوانين، ومواد الدستور، ويتجاهلون ذلك تماما..
5ــ فئة المسؤولين المُتعالين المُتكبِّرين الذين خرجوا من أوساط الطبقات الفقيرة، وتناسوا ذلك ووضعوا حواجزا وعوائقا حتى بينهم وبين رفاقهم وأصدقائهم..
6ــ فئة من يطلبون من الآخرين تضحيات لا يطلبونها من أنفسهم، ولا من أولادهم.. ويُحاضرون بالناس بالوطنية..
7ــ فئة من لا يعرفون إلا ثقافة الواسطة والمحسوبية والمُحاباة والتبنِّي وتنفيع المُقرّبين، ولا يعرفون مبدأ تكافؤ الفُرص والمساواة والعدالة والكفاءة والمؤهلات.. ولا يعنيهم وضعُ الرجُل المناسب في المكان المناسب..
8ــ فئة من يتصرفون بالمؤسسات وكأنها مُلكية خاصّة، تُدار أيضا بالمحاباة والمحسوبيات والواسطات والتنفيع، ويصرِفون الناس من الخدمة حسب مستوى الدعم والمحسوبية ما بين عمر 60 و 70 عاما..
*
بعضُ الوزارات أصبحت شِبهُ حصريةٌ للمتنفّذين من داخل الوزارة، أو من خارجها في الدولة، ولأولادهم وأقاربهم(دون أولاد الآخرين الأكفأ).. والخارجية(التي كان يتحكّمُ فيها لِثمانِ سنوات سائق وزير لا يحمل أي مؤهّلٍ علمي) أكبر مثال: فما زالت تخضع لإرثِ مرسومٍ غيرُ عادلٍ صِيغَ منذ سنوات(وهذا ليس مسؤولية الطاقَم الحالي بالوزارة) تمّ تفصيله على مقاسات المدعومين، لاسيما في المادتين 41 و 49 ، حيثُ المدعومين يُمنحَون ألقاب سفراء ويُصبِحُ مداهُم للتقاعُد حتى السبعين عاما.. حسب درجة المحسوبية والدعم، وغيرهم يُصرفون مابين 60 و 62 مهما كانت المؤهلات الشخصية والكفاءات العلمية واللغوية ونظافة اليد والتضحيات..
بل فوق ذلك يبقى المدعومون في البعثات الخارجية من 10 إلى 20 و 22 سنة متواصلة، كما هو حالُ بعضهم، وكأنّ أرحام الأمهات عقُمتْ، وخلافا لكل ما كان بالماضي( أي خمس سنوات فقط)..
هذا المرسوم خالفَ القانون رقم 50 المتعلق بنظام العاملين الأساسي بالدولة، لِجهة التقاعُد.. وميّز بين الكوادر بِحسبِ مدى الدعم والمحسوبية.. وخالفَ الدستور لِجهةِ تطبيق مبدأ تكافؤ الفُرص.. وأعطى البعض كل الفُرص، وحرم غيرهم من كل الفُرص..مما جعلهم يشعرون أنّ الدولة لأُناسٍ دون غيرهم.. وأنهم ليسوا من هذا الوطن..
*
فمَن لا يرى في كل تلك الأمور، التي لا يُمكِنُ إنكارها، أسبابا موضوعية للإغضاب والغضب والاحتجاج، فإنما هو يعيش خارج الزمان والمكان والواقع والحقيقة..
وهكذا يكون أكبر المُحرِّضين على الدولة هُم من الدولة.. وليسوا من خارجها..
*
الموضوعية مطلوبة، ومن يُطالب الناس بمزيدٍ من الصبر، فوق كل هذه المعاناة والبؤس والعَوَز والفقر والحرمان، فعليه أن يكون قدوة، ويعيش هو وأولاده(هذا إن كان أولاده يعيشون بداخل البلد)كما يعيش عموم فقراء الوطن.. وحينها سيقول الجميع: من ساواكَ بِنفسهِ فما ظلمك.. وإلا الأجدى أن لا يستفزّ الناس..
لا يجوزُ إنكار حق الناس في التعبير عن ألمِهم ووجعهم وحرمانهم وعوزِهم تحت عنوان الإخلال بالأمن..
فما معنى الأمن إن لم يكُن قبل أي شيء، أمن المواطن الغذائي والدوائي والمعيشي والسكني والقانوني، وتمكينه من العيش بكرامة وحرية وحقوق مُحترمة كإنسان، بعيدا عن ذل الحاجة والحرمان؟.
*
المريض سيشكو من وجعه طالما الوجع قائما.. والمحتاج سيشكو حاجته طالما الحاجة قائمة..
تلبية مطالب ومتطلبات الناس هي التي تُسكِت الناس فقط، وإلا سيستمرُّ الغضبُ والنقدُ والشكوى..
الحرب العسكرية على مستوى سورية انتهت، وما تبقّى هي معارك متفرقة، وربما يستحقُّ الأمر إعادة النظر بالأولويات.. لقمة العيش هي الأولوية اليوم..
*
دعوتُ، وأدعو، إلى الحوار، والإصغاء لصوت عموم الفقراء.. ونُخب الوطن..
لتكُن لغة الحوار هي الفيصل(بل والدستور).. والتراجع عن الأغلاط وتصحيحها ليس ضعفا، وإنما عامل قوة وثقة بالنفس..
لغة التخوين في كل الأحوال مرفوضة.. وهذه تعكس مدى ضعف الحجة وعدم المقدرة على الحوار أو الإقناع، وتُفاقِم الأمور..
المواطنُ الذي يُزعجُ كلامه، يُمكنُ أن يُستضاف على الشاشة السورية، بدل أي مكان آخر، ويُجرَى معه حوارٌ حُرٌّ وصريحٌ على مرأى من الجميع، فإما أن يقتنع الناس بصحة كلامهِ وإما أن يرفضوه..
سورية تحتاج كثيرا لِلُغة الحوار، والابتعادُ كثيرا عن لغة التخوين.. ونحتاجُ كثيرا للغة المنطق والموضوعية.. فلا يُمكن أن تطلب من المواطنِ وأولادهِ الصبرُ على الفقر والجوع والعوز والحرمان والذل والقهر، وأولادك يتنعمون بكل شيء.. ولا يمكن أن تطلب من أولادهِ التضحية وأولادك في أوروبا أو أمريكا أو الخليج..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت