الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن أبي وفلسطين والقراءة والكتابة

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2022 / 2 / 17
سيرة ذاتية


رحل أبي قبل أيام عن الدنيا وأهلها وقد ناهز التسعين عاماً، فهو أكبر من ميخائل غورباتشوف المولود عام 1931بسنة، حيث ولد عام 1930في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية. رحل ولم نره من خمس سنوات ولم نحضر جنازته، رحمه الله على كل حال. الصورة الأخيرة الباقية في ذاكرتي عن أبي يجلس في حديقة منزلي في "حيّ البيطرة" بمدينة إدلب، قبل ساعات من رحلة رحيل أسرتي الصغيرة في خريف عام 2016 إلى ديار أكثر أمناً في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة.

كان يتعكَّز علينا وعلى عكَّازه، برحيلنا عن ديارنا صار وحيداً مع عكَّازه الخشبي. فكَّرنا في أن يُرافقنا في رحلة الرحيل تلك -لأنه كان يرتعب من قصف الطائرات- لكن المهرِّب استهجن الأمر، ورفض بشدة أن يُرافقنا هذا "الختيار" إذ كان في السابعة والثمانين من عمره، وخيراً فعلنا، لأنها كانت بالفعل رحلة شاقة ذات أهوال لا يمكنه الصمود أمام عثرات طريقها ووعورة مسالكها وطول دربها. كان يوماً أطول من قرن، على حدِّ تعبير الكاتب القرغيزي جنكيز أيتماتوف، في روايته "ويطول اليوم أكثر من قرن" لذلك، بقي في منزله مع مَن بقي من أخوتي وأخواتي.

في ذلك المساء الخريفي الحزين قبل الرحيل بيوم واحد، قلتُ لأبي: اليوم أنهيت قراءة رواية "زمن الخيول البيضاء" للشاعر والروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله، وفيها تحدث عن واحدة من عادات مؤدبة، ولكنها مكلفة، والتي يُعلن فيها الشباب، في كثير من قرى منطقة بحيرة طبريا في شمال فلسطين زمن الخيول البيضاء، أنهم لم يعودوا قادرين على احتمال العزوبية أكثر مما احتملوها، فيلجؤون إلى حيلة تكسير صحون البلور الصيني في مطابخ أمهاتهم.

حيث نُصادف بطل الرواية عمر في مطبخ البيت يمسك أحد الصحون ويكسره، تسمع أمه تهشُّم الصحن، فتقول: انكسر الشر. أمسك بالثاني وكسره. فقالت أمه: انكسر الشر كمان مرة. والتفتت إليه تسأله: ما بك هذا اليوم؟ وقبل أن تتم سؤالها، كان واحدٌ آخر من عدة صحون صينية مُورَّدة يتناثر شظايا على الأرض. رأته يرفع صحناً جديداً، فصرخت: الحق يا حاج ابنك قبل أن يُكسِّر لنا البيت.

قال أبي: سأحكي لك عن واقعة حدثت أمامي عندما كنتُ شاباً في شتاء عام 1948، وفيها الكثير من صحون البلور المكسَّرة. كنا أمام البيدر الذي يقع غرب القشلة العسكرية التي تركتها فرنسا لنا بعد رحيلها عن المدينة، ثم أُزيلت في نهاية سبعينيات القرن العشرين، وبُني مكانها مبنى محافظة إدلب. كنا نتصيد شمس الشتاء في المدخل القبلي لزقاق حمام الميري، وأهلنا من الرجال يجلسون على سطح معصرة الزيتون يتشمسون تحت شمس عصر ذلك اليوم. فجأة، سمعنا هدير محركات ثلاث شاحنات تسير خلف بعضها وتدخل ساحة البيدر الفسيحة وتصطف على نسق واحد، وحين توقفت محركاتها عن الهدير، بدأ الرجال يتساقطون من صناديق تلك الشاحنات إلى الأرض، والنساء ينزلن على مهل من سلالم حديد معلقة في خواصر الشاحنات.

كنا نتفرج من بعيد على هذا المشهد الغريب والجديد على بلدة إدلب الصغيرة تلك الأيام. مَن هؤلاء؟ هل هم غجر؟ ومن أين جاؤوا؟ وهل سيحطون رحالهم على بيدرنا؟ أسئلة كثيرة راودتنا، وزاد فضولنا حين سمعناهم يتخاطبون بلهجة غريبة لم نسمعها من قبل. هؤلاء عرب، لكنّ لهجتهم غير مألوفة. ثمَّ راحوا يفرغون الشاحنات من أغراض غريبة هي الأخرى، فرش صوف، لحف، صناديق خشبية مغلقة، مواعين طبيخ، جرار ماء. رمى أحد الرجال صندوقاً خشبياً على الأرض، فسمعنا صوت تكسير صحون البلور، ومن ثمّ سمعنا عويل امرأة شابة، ففهمنا أن الأمر حدث بالخطأ، فقد ظنَّ الرجل أن في الصندوق برتقالاً أحضروه معهم من حيفا.

بعد فترة قصيرة من دخول الشاحنات ساحة بيدرنا، صاح أهلنا من الرجال: يا شباب، ليذهب أحدكم ويستطلع الأمر. ذهبنا إليهم، وكانت المفاجأة الكبرى. تبيَّن أن هؤلاء عائلات عربية من أهل فلسطين، هجَّرهم اليهود من ديارهم، وها هم هُنا في بلدة إدلب الصغيرة في الشمال السوري لا يعرفون أحداً، ولا يعرفهم أحد. كانت مفاتيح بيوتهم في فلسطين معهم، وها هي معهم إلى اليوم، بعد أكثر من سبعين عاماً من تشردهم في بلاد الله الواسعة.

قالوا لنا يومها: نحن ضيوف عندكم "كم يوم" ونعود إلى بيوتنا وبيارات برتقالنا في فلسطين. ستعود هذه الشاحنات عمَّا قريب لتعيدنا إلى بيوتنا. ولكنهم لم يعودوا قَطّ إلى فلسطين. عاشوا بيننا، تزوج شبابهم، خلّفوا، ثمَّ تزوج أحفادهم، وبقيت مفاتيح بيوتهم في فلسطين معهم ذكرى لأولادهم. وما زال أولادهم في مدينة إدلب في انتظار تلك الشاحنات الفلسطينية التي ستعود عمَّا قريب وتأخذهم إلى ديارهم.

قلتُ لأبي: أنت عشت النكبة الفلسطينية من أيامها الأولى، والآن نحن في نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فهل تجد مخرجاً، أما من حلِّ يلوح في الأفق؟

قال أبي: أعرف أنك تميل إلى أفكار ما طرحة الراحل جورج حبش والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وها هي أعداد مجلة "الهدف" التي أسسها غسان كنفاني بالمئات في مكتبتك، ولكن مع كل خبرتي السياسية وعملي في الحزب الشيوعي السوري أيام القائد الأسطوري خالد بكداش إلا أنني أترك الحديث في هذه القضية إلى يوم آخر.

أما عن الحادثة التي أجبرت والدي على تعلُّم القراءة والكتابة فتعود إلى عام 1949 عندما ذهب لخدمة العلم -العسكرية- في دمشق العاصمة السورية، وكان الجيش السوري في طور التكوين تلك الأيام. وبعد الانتهاء من دورة "الأغرار" طُلب من الجنود في ساحة المعسكر أن يتوزعوا في مجموعتين: من يعرف القراءة والكتابة في المجموعة الأولى، ومن لا يُحسن القراءة والكتابة في المجموعة الثانية.. فماذا فعل أبي يا سادتي؟ انتظم مع المجموعة الأولى التي تُحسن القراءة والكتابة!

اصطفَّ جنود المجموعة الأولى في رتل أمام ضابط يجلس خلف طاولة عليها جرائد ومجلات. كان أبي في آخر الرتل تقريباً، وكان الطقس بارداً، فرفع قبة معطفه العسكري حتى غطت رقبته ونصف وجهه. يتقدَّم الرتل على مهل، يقرأ المُتقدم ما تيسر من سطور الجريدة، ومن ثمَّ يفرزه الضابط إلى تشكيل ما في الجيش. وحين صار أبي وجهاً لوجه مع الضابط نظر هذا الأخير إلى الشاب الواقف أمامه والغاطس وجهه في قبة معطفه، فسأله:

- ما اسمك؟
أجاب:
- راشد دحنون.
- من أين أنتَ يا راشد؟
أجاب:
- من مدينة إدلب في الشمال السوري.
قال الضابط:
- خذ، هذه مهمتك، ستعمل مراسلاً حربياً بين القيادة والأركان!

وهذا ما كان. عمل أول الأمر دورة تدريبية على دراجة نارية "موتور" بثلاث عجلات - من تلك التي تظهر في الأفلام التي تحكي عن الحرب العالمية الثانية - ومن ثمَّ صار مراسلاً حربياً بين قيادة الجيش وأركانه في دمشق، وكان أميَّاً لا يقرأ ولا يكتب.

كان في شبابه وسيماً -وبقي في نظري كذلك- يحب الموسيقى ويُحسن الغناء، ولديه مكتبة موسيقية معتبرة فيها الرباعي الحلبي المُتميز: محمد أبو سلمو، محمد خيري، مصطفى ماهر، صباح فخري، فتقدَّم في تلك الأيام إلى إحدى مسابقات الغناء في إذاعة دمشق وفاز مع الفنان السوري من مدينة حماة على نهر العاصي "نجيب السراج" في هذه المسابقة. عُيِّن نجيب السراج مطرباً في إذاعة دمشق وصار معروفاً للقاصي والداني.

رفض جدي عثمان دحنون أن يعمل ابنه مغنياً! -أصلحك الله يا جدي- المهم، نعود إلى مراسلات القيادة والأركان. كيف سارت أمور مراسلاته؟ كان يسأل دائماً، ويحفظ في الذاكرة هذا "الظَّرْف" الكبير الأصفر لمن والصغير الأبيض لمن. تدبَّر أمره في البداية، ولكن الأمور تعقدت مع كثرة البريد بين القيادة والأركان ... ما العمل يا أبي؟

في تلك الأيام كان أهل الصناعة في سورية على دراية وفطنة، فكان معمل "ناشد أخوان" يُنتج "كرميلة" مشهورة في أنحاء سورية كلها، ما زالت نكهة طعمها في الأفواه تحفظها الذاكرة من تلك الأيام، و"الكرميلة" لمن لا يعرف هي "سكاكر العيد" وكانوا يُغلفونها بورق ملوَّن كتبت عليه أحرف الأبجدية العربية بأشكالها الثلاثة، الحرف في أول الكلمة وفي وسطها وفي آخرها. اشترى راشد دحنون "كيلو" من تلك "الكرميلة" وراح "يتَحلَّى" بالسكاكر ويتسلى، ويتلهى، بحفظ حروف الأبجدية مستعيناً بالسابلة في لفظ الحروف.

حتى جاء اليوم الذي أتقن فيه راشد دحنون حفظ أحرف اللغة العربية وربط الأحرف والكلمات بعضها ببعض بعد جهد ومثابرة. كانت الحاجة إلى التعلّم تدفعه دفعاً، تعلَّم القراءة والكتابة وأتقنها بصورة جيدة في أول أيام عيد الأضحى عام 1950، واستغنى عن مرّ السؤال، وصار يقرأ مجلات وجرائد الأحزاب الشيوعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فولفو تطلق سيارتها الكهربائية اي اكس 30 الجديدة | عالم السرع


.. مصر ..خشية من عملية في رفح وتوسط من أجل هدنة محتملة • فرانس




.. مظاهرات أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية تطالب الحكومة بإتم


.. رصيف بحري لإيصال المساعدات لسكان قطاع غزة | #غرفة_الأخبار




.. استشهاد عائلة كاملة في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي الس