الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين والديمقراطية

كاظم ناصر
(Kazem Naser)

2022 / 2 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


المعرفة الإنسانية هي نتيجة تراكمية للتجربة الإنسانية، أي إنها حصيلة تجارب الإنسان وجهوده التي أحدثت تغييرات عقلية وعلمية وتقنية واجتماعية وثقافية وفنية هائلة، ومكنته من التقدم والارتقاء التدريجي وبناء عالم حديث لا مثيل له في التاريخ الانساني.
عالمنا الحديث، وخاصة في هذا القرن، قائم على العلم والثقافة واحترام الإنسان وحقوقه. ولهذا فإن الأمم التي شجعت الإبداع المعرفي في كل مجالاته، وأقامت أنظمة ديمقراطية علمانية فصلت الدين عن الدولة، وتبنت دساتير دائمة تحدد الحقوق والواجبات السياسية للشعب والدولة، وحمت الحريات، واعترفت بالتعددية الدينية والعرقية، وفصلت السلطات الثلاثة: التنفيذية لتقود الدولة، والتشريعية لتضع القوانين وتراقب أداء الدولة، والقضائية لتحكم بين الناس بالعدل وتحل مشاكلهم طبقا لقوانين الدولة، وأقامت العدل وساوت بين الناس، وحمت المواطنين ووفرت لهم فرص التقدم والابداع، تمكنت من بناء مجتمعات حديثة مستقرة سعيدة، وأصبحت من أكثر دول العالم تقدما وازدهارا، والأمثلة على هذه الأنظمة التي غيرت مجرى تاريخ البشرية بإنجازاتها تشمل جميع الدول الديمقراطية الصناعية ومنها على سبيل المثال لا الحصر دول غرب أوروبا، اليابان، الولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا، وكندا، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية.
تاريخ أوروبا حتى العصور الوسطى يثبت بأن الدولة الدينية الأوروبية كانت فاشلة لأنها قامت على عبادة الفرد والإقطاع والظلم، وعلى تحكم الكنيسة في شؤون الناس وابتزازهم والسيطرة عليهم باسم الدين، وبدأت تنهار بظهور الحركات الفكرية التي نشطت في عصر النهضة، وكان من أهمها الحركة الإصلاحية الدينية التي بدأها الراهب" مارتن لوثر " بتعليق الرسائل الخمس والتسعين المنتقدة للهيمنة الدينية على باب كنيسة " ويتنبورغ " عام 1517 ميلادية، والتي أشعلت الثورة على تدخل قداسة بابا الفاتيكان في السياسة وسيطرة الكنيسة على الفكر والفن والإبداع، وكانت أساس إرساء النظام الديموقراطي في القارة الأوروبية وانتقاله إلى الكثير من دول العالم.
لكن هذه الثورة قادت الى حروب دينية أوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر بين الكاثوليك والبروتستانت استمرت لمدة مئة وواحد وثلاثين سنة وتحديدا بين عامي" 1517 – 1648 " شاركت فيها سويسرا، فرنسا، ألمانيا، النمسا، هولندا، إنكلترا، اسكوتلندا، إيرلندا، والدنمارك ووصل عدد ضحاياها حسب التقديرات المختلفة بين 3 إلى 11.5 مليون قتيل؛ لكنها أدت الى إقامة أنظمة ديموقراطية فصلت الدين عن الدولة وأنهت التحالف القائم بين الكنيسة وملوك أوروبا.
لا يمكن إنكار الدور الإيجابي للدين في تنظيم الحياة البشرية والعلاقات الإنسانية؛ فالأديان جميعا نصت على الحق والصدق والرحمة وعمل الخير واحترام الآخر الخ. لكنها ميّزت أتباعها عن الآخرين من حيث المصداقية والقيم الأخلاقية، وانتقد كل دين الأديان الأخرى وعمل على التقليل من مصداقيتها. هذا التناقض والاختلاف في الفكر الديني شجع الصراعات والخلافات والحروب والكراهية بين الأديان وبين أتباعها واستمر ذلك بشكل أو بآخر حتى يومنا هذا، وأثبت ان الدين والديموقراطية الحقيقية لا يتعايشان معا، لآن الدين يرفض قبول الآخر المختلف دينا وفكرا، ولا يقبل وجود أحزاب سياسية ومؤسسات مجتمع مدني علمانية، أو لا دينية فاعلة معارضة.
الدول الديكتاتورية التي فشلت في التحول إلى دول قانون ديموقراطية حتى الآن كثيرة ومن ضمنها الدول العربية التي ما زالت متخلفة علميا وثقافيا وفنيا واقتصاديا وتعاني من مشاكل اجتماعية، وتواجه حروبا وانشقاقات قد تؤدي إلى تفككها وربما اندثار بعضها. أي إن ازدياد التدين وربطه بالسياسة، ومحاولات إقامة دول دينية في أكثر من قطر عربي خلال الخمسين سنة الماضية فشلت، وأدت إلى تنامي العصبيات والنعرات والانقسامات الدينية والطائفية، وإلى حروب دموية مدمرة، وإلى تفاقم الظلم والجهل والتخلف والفقر والذل والمزيد من التفكك والانحطاط الاجتماعي.
الأديان جزء من تاريخ الأمم وبنيتها الاجتماعية وثقافاتها ولها احترامها، والأوطان ملك للمواطنين جميعا بالتساوي وليست ملكا للأديان. ولهذا فإن الوطن العربي لا يمكن أن يزدهر ويتقدم إلا بإقامة ديمقراطيات حقيقيه تحترم التعددية الدينية، وتترك الباب مفتوحا للفكر الحر وحرية التعبير والإبداع في العلوم والفنون والآداب، وتفصل الدين عن السياسة لأن السياسة بتعقيداتها ومناوراتها وأخلاقياتها المصلحية النفعية تلوث قيم الدين وتبعده عن القيام بدوره الروحاني والاجتماعي النبيل؛ عندئذ من الممكن أن يتغير عالمنا العربي وتزداد فرصنا في الوحدة وحل مشاكلنا والتفاعل مع العالم والتأثير والتأثر بعلومه وثقافاته وقيمه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصف إسرائيلي متواصل على غزة وحصيلة القتلى الفلسطينيين تتجاوز


.. إسبانيا: في فوينلابرادا.. شرطة -رائدة- تنسج علاقات ثقة مع ال




.. من تبريز.. بدأت مراسم تشييع الرئيس الإيراني رئيسي ورفاقه


.. أزمة دبلوماسية -تتعمق- بين إسبانيا والأرجنتين




.. ليفربول يؤكد تعيين الهولندي آرني سلوت مدربا جديدا له