الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من بئر ريان إلى بئر يوسف .. أمة .. في بئر

الصديق بودوارة

2022 / 2 / 18
الادب والفن


(( أختارُ يوماً غائماً لأمرّ بالبئر القديمة.
ربّما امتلأت سماءً.
ربّما فاضت عن المعنى وعن ..
أمثولة الراعي.
سأشرب حفنةً من مائها.
وأقول للموتى حواليها:
سلاماً، أيّها الباقون . ))

إنه "محمود درويش" لا يخرج عن النص العربي العتيد، فالخروج عن النصوص العميقة في بلاد الشرق محض مغامرة لن تؤدي بك إلا إلى المزيد من غيابات الجب. ولك أن تحاول، وسوف تخبرنا إذا لم تمت بنتيجة ما آلت إليه المحاولة.
إنه لا يرى حول "منبع الحياة" سوى الموتى، ويبادرهم بعبارته السحرية : سلاماً أيها الباقون. فالموت هنا هو الباقي، وما على الحياة سوى أن تحزم متاعها وترحل.
الغريب في موضوع البئر هو ذلك التناقض المريع بين المعنى والاسقاط، فالبئر بطبيعتها هي حبل نجاة البدوي من الموت، فيها يكمن سائل الحياة، وداخل رحمها وعدٌ أكيد بالتجدد، وفي ماءها العذب رسالة للبذور على السطح بأن لها موعد مع الازدهار والخضرة ومع المزيد من تحدي الضمور ومحاربة الإنزواء .

هذه هي رسالة البئر الحقيقية، ولكن، كيف انبعثت إذاً كل هذه الصور السلبية للبئر كونها رمزاً للموت؟ ألا يناقض المعنى هنا مضمون الاسقاط؟ للمزيد من استيعاب هذه الفكرة الشائكة دعونا نستعرض مزيداً من الآبار لأن بئر "محمود درويش وحدها لم تعد تكفي .
بئر يوسف :
(( قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ (14). ))

هاهم أخوة يوسف يتآمرون به، يسرقونه من أبيهم وعداً حلواً وأمنية معسولة، ويلقون به في غيابت بئر، ويتهمون به الذئب، ثم ينصرفون وكأن شيئاً لم يحدث. الذئب هنا كان الشماعة التي علق عليها الجناة أخطاءهم، فهل مازلنا في أمس الحاجة إلى الذئب كما كان أخوة يوسف في أمس الحاجة إليه ؟

إن البئر هنا يواصل ( أو تواصل ) تخبطها في الازدواج بين معنيين متناقضين، الأول ظلامي منذر بالخوف والموت، والثاني متفائل يبشر بالارتواء بعد ظمأ طويل، وهاهم أخوة يوسف يختارونها مكاناً لإخفاء فعل فاضح لا يجدر به الظهور، فالأفعال الفاضحة هي الأكثر احتياجاً إلى عدم الفضح، وهل هناك أكثر احتياجاً إلى الاختفاء من مواراة طفلٍ في حفرة ؟ إنك تحتاج في هذه الحالة إلى هوة تدس رأسها عميقاً في الأسفل، وهل هناك كائن يدس رأسه على هذا النحو أفضل من بئر ؟

البئر في اللغة :
حتى في اللغة، ثمة تناقض لا يبدو مفهوماً للوهلة الأولى، فالبئر في اللغة مفردة مؤنثة، إنها في موضع : (( حفرة عميقة يُستخرج منها الماء أو النفط. ))، وهي في موضع آخر : (( بئر حفرتها ( وليس حفرته ) مياه الرشح. ))، وفي موضعٍ آخر : (( هي ( وليس هو ) بئر تنتهي إلى مجرى مائي تحت الأرض.))، وفي موضع غيره : (( بئر فوهاء، أي واسعة الفم.))، وفي مواضع غير ذلك كله هي : (( حفرة، أو حفرة يتفجر منها الماء، أو هي الحفرة العميقة في الأرض يستقى منها الماء.))
إن البئر كائن مؤنث إذن، هكذا حكمت بهويته اللغة، ويجوز له بمفهوم هذا الزمن أن يتحصل على رقم وطني يبدأ بما تبدأ به الأرقام الوطنية للإناث، ويصبح واجياً علينا بعد ذلك أن نتوقف عن تذكير البئر، وأن نلتزم بتأنيثه كما هو أهل له، ولكن، لماذا يؤنث العرب البئر ثم يلصقون به تهمة الكآبة وشبهة الموت، أليست الأنثى مصدراً للولادة وتجدد الحياة وانبعاث الوجود؟
هذا بالضبط ما تنص عليه وظيفة الماء بشهادة النص الديني :
(( أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَٰهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ. ))
إن الماء رسول حياة قادمة، وكذلك يجب أن يكون وعائه الطبيعي، البئر، فلماذا انزلق المسار بهذه الطبيعة نحو إطار لم يعد يوحي لنا إلا بالنفي والسجن والظلام ؟
هل أنثت اللغة البئر لكي تنفي عن الذكر تهمة الكآبة والسلبية؟ ففضلت أن تبوء الأنثى وحدها بهذا المصير؟

بئر الحُطيئة :
(( ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ .. زغبُ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ.
ألقيت كاسبَهم في قعر مُظلمة .. فاغفر، عليك سلام الله يا عمر. ))
إنه "الحطيئة"، أبو مليكة جرول بن مالك، وهو يستجدي الخليفة الراشد "عمر بن الخطاب" ليخرجه من محبسه، ويدل البيت الأخير على أن العرب عرفت قديماً سجن المخطئين أو المعارضين في الأبار المهجور، فهاهو الحطيئة يشكو أنه ألقى به في " قعر مظلمة"، أي قاع بئر مظلمةـ وهو هنا لا يخرج عن قواعد اللغة في تأنيث البئر التي أشرنا إليها في الأعلى .
إنه يتجاوز الحدود بهجاءه المقذع للزبرقان التميمي، بعد أن رماه بأبيات أوجعته فشكاه إلى خليفة رسول الله قائلاً:
يا عمر، لقد هجاني بقوله :
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها .. واقعـدْ فإنّك أنـت الطاعمُ الكاسي
فقال عمر: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة. فقال الزبرقان : أو لا تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس؟ والله يا أمير المؤمنين ما هُجيت ببيت قط أشد عليَّ منه. وإلى هذا الحد كان لابد من استدعاء خبير ليفصل في الأمر، فكان رأي "حسان بن ثابت" قاطعاً بهذا الخصوص، مؤكداً أنه هجاء مقذع شديد، فأمر عمر بحبسه في قاع البئر. فحُبس فيها حتى استعطف بهذه الأبيات، فأخرجه منها "عمر"، ويقال إنه اشترى منها أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم .
من يشتري أعراضنا من هجاء هذه الأيام لنا بثلاثة آلاف ؟

بئر الهندوس المدرج :
إن التراث الانساني لا يسكت بخصوص الآبار، لديه هو الآخر ما يقول بشأنها، هو الآخر يمارس معها فعل تنمر غريب، فهاهي الملكة "روداديفي" تقوم بتشييده في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي كذكرى لزوجها الذي قتله المسلمون، وما إن اكتمل بناؤه حتى قفزت إلى غياهبه لتلقى حتفها، فيتحول البئر بدوره من رمز للولادة إلى فعلٍ للموت. فهل يصر البشر دائماً على قلب المعايير بهذه الطريقة .

بئر مرعي الهلالي :
في السيرة الهلالية المذهلة، ثمة بئر أيضاً، إنه ذلك البئر الذي حولته السيرة الشعبية بدورها من مصدر حياة إلى مقبرة لبطلٍ من أبطال الرواية الليبية للسيرة الهلالية، ( الرواية المصرية والخليجية لا يموت فيها مرعي الهلالي ) إنه ينزل إلى غياهب الجب ليسقي خاله وإبله، لكن الحية تكمن له في قاع البئر وتلدغه لتنهي حياة آخر ابن من أبناء "شيحة" شقيقة "أبي زيد الهلالي" بطل ابطال سيرة بني هلال. السيرة التي تصور هذا المشهد في أبيات نبؤة تبعث على الاعجاب والخوف معاً، عندما يستطلع "يحيى" شقيقه أحجار "التاقزة" فتخبره بالغيب بشعاً لا يجامل ولا يعرف المهادنة :
(( نوضوا يا رفاقا لا فرّق الله بينكم .. رحتو على سوق الربا والتلايف
مافيكم من يموت بالحديد الا انا .. على ايدين عبيداً ما يعتنوا بالوصايف
ويونس حازاته احضرية في راس قصر .. عالي بالرواشين هايف
ومرعي كلاته هامةً في ذيل بيرها .. منها يا نجاة كل خايف . ))
من جديد، هاهي السيرة الهلالية تضم الذاكرة الشعبية إلى قائمة المتنمرين بالبئر، وتجعله نهايةً لأحد أبطالها، إلى أن الواحد منا يتساءل والحيرة تستبد به : هل كانت الآبار تسقي الناس في ذلك الزمن أم كانت تدفنهم بكامل العطش ؟

بئر ريان الحزين :
هو أحدثها عمراً، لكنه لم يحد عن خطة سيرها قيد أنملة، لقد تحول بدوره من وعدٍ بالزراعة والارتواء والتخلص من العطش، إلى مقبرة بشعة لطفل جميل، إن ظلام القعر المريب هنا يبتلع ابتسامة واعدة كانت تحلم بالمزيد من الحياة، لماذا تغدر بنا الآبار على هذا النحو ؟
هل يمكن تجاوز الأمر ؟ :
في الواقع لا يمكن على الاطلاق، لا يمكن تجاوز الأمر، إن إخوة يوسف يلقون به في البئر، وهاهم إخوة يوسف ينهضون من جديد ليلقوا بغيره. لا يمكن تجاوز الأمر، هناك الكثير من إخوة يوسف على استعداد دائم ليلقوا بنا في أول بئر يصادفهم. المهم أن هناك إخوة يوسف، وأن هناك بئراً، وأن هناك من يلقى بنا دائماً في ظلام البئر.
في الواقع لا يمكن تجاوز الأمر، ولا أن نغفل الرمزية في كل هذه القصص التي تمتد عبر آلاف السنين، وتكرر نفسها بلا توقف، من بئر يوسف في قصص الأنبياء، إلى بئر مرعي في السيرة الهلالية، مروراً ببئر الهندوس إلى بئر الحطيئة، ونهاية ببئر "ريان" في هذا الأسبوع. وكأن حياتنا سيرة موجعة لمجموعة اسطورية من الآبار.

أخوة يوسف لم يموتوا بعد :
الاستبداد بئر، وثقافة الكراهية بئر، والتخلف بئر، واحتكار المعرفة بئر، والحجر على الرأي بئر، والقهر بئر، والظلم بئر، والاختلاس بئر، والتنمر بئر، والفساد هو البئر الأكبر دائماً .
آبار بلا عدد، هي دائماً القاتل، ونحن دائماً الضحية. لا يمكن أن نتجاوز الأمر، دائما هناك بئر، ودائماً هناك إخوة يوسف، الرمز هنا اكبر من مجرد كونه حدث بعيد، إن إخوة يوسف في بئر "ريان" هو الإهمال، هو الدولة العميقة التي تتمدد على صدور الناس من المحيط الى الخليج، دولة لا مبالية، وزراؤها يرون الشعوب خدما لهم، ولا يهم بعد ذلك إن سقط خادم في قاع بئر. وأخوة يوسف في بئر "الحطيئة" هو الخروج عن قواعد الدولة الجديدة التي تأمر بالستر والكف عن محارم الناس. وأخوة يوسف في بئر "مرعي الهلالي" هو العطش، أو هو الانصياع المسحور إلى نبؤة التاقزة، المسحورة أيضاً. لا يمكن تجاوز الأمر، نحن هم ضحايا البئر. يلقي بنا إخوة يوسف في كل زمن في بئر، منذ ما قبل التاريخ إلى ساعة قراءتكم لهذا المقال، فلا تفرحوا كثيرا إن خرج أحدكم من بئره. ثمة آبار أخرى تنتظر كل واحد منا، انتِ، بحجة انك بنت لا حقوق لك إلا في التزام الصمت والموت قهراً إلى نهاية العمر. وأنت، بحجة انك مواطن، مجرد رقم وطني، لا يفتح فمه في العادة إلا لكي يتثاءب .
لا يمكن تجاوز الأمر، فإخوة يوسف مازالوا هنا. والآبار بلا عدد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح