الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجرذ المحاصر

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2022 / 2 / 20
الادب والفن


هواجس السيد نون
٣٤ - الحصار

ويفتح الباب ويدخل، كما تعود في أغلب الأوقات في المساء وبعد نهاية اليوم، حيث يعود إلى غرفته في الطابق التاني في أحدى ضواحي المدينة، حيث تعود أن يقضي أمسياته وحيدا، يحدق في الجدران العارية .. يحلم .. يقضي الساعات الطويلة مستلقيا على السرير، يتأمل السقف، ويتخيل النجوم والشموس والاقمار في رحلتها الأبدية عبر السقف الواطئ. جدار ابيض لامع يواجهني، ويعكس الضوء الخفيف الذي يضيء الغرفة. لو ينشق هذا الجدار للحظات حتى أتمكن من رؤية الليل والسماء السوداء والأشجار، والحديقة الصغيرة المغروسة وسط المباني العالية، المقعد الاسمنتي في الحديقة حيث تجلس كل مساء تلك العجوز، تنظر إلى الاطفال يلعبون، وتطعم الحمام وتحلم بحقول القمح واشجار التين والعنب والبرتقال. لأرى النجوم والسحب المتحركة بصمت وسط ظلمة حالكة، ولكن في هذه البقعة من العالم الجدران لا تنشق .. ولا تتشقق، إنها مستقرة .. صلبة .. عنيدة .. لاتكف عن محاصرة البشر مثل الجرذان، هنا مملكة الجرذان، لا شك في هذه الحقيقة البسيطة، نحن حاصرون من كل جانب، وفي كل مكان .. في كل مكان. ومع ذلك، الحصون ليست صلدة لما فيه الكفاية، الجدار الآخر على يساري، أتمنى لو يزداد سمكا، ليعزلني عن ضجيج الغرفة المجاورة، حيث مزيج من الموسيقى الشعبية، وصراخ مجموعة من البشر وهم يلعبون الورق حتى ساعة متأخرة من الليل، يمنعه من القراءة والنوم، ومن الراحة بعد يوم مرهق . ويتشقق رأسي .. وفي ذاكرتي صور وكلمات ومواقف، بشر يجلسون ويتحركون ويتكلمو في أماكن مختلفة ..ربما كنت بينهم، وربما لم أكن. صوت ما يسألني عن موقعي الجغرافي في العالم، فألتفت إليها قائلا  .. بالضبط في منتصف المسافة بين الشمس والبحر. ورأيت الأفق فجأة ملونا بلون برتقالي اخآذ .. وكانه حلم .. ثم تبدو أمامي على الطاولة خارطة ملونة بالدم الذي يقطر على بقية المناطق المجاورة، واغمس أصبعي في الدم أريها موقعي على الخارطة : هنا في هذه النقطة حيث كان صليب سبارتاكوس. تخبرني بانها تريد ان تذهب إلى شمال أفريقيا لتدرس هندسة المسارح القديمة، وانها تريد ان تزور كل المسارح الرومانية واليونانية هناك، لم أضحك. تختفي الصورة فجأة، ويتراءى لي ما يشبه البركان وسط البحر، نفس اللون البرتقالي الاخآذ يختلط بامواج البحر الهادرة، وبعد لحظات يتحول إلى مجرد مصباح زيتي عتيق يضيء المنطقة. وينطبق الجدار فجأة كالعادة، وتظل صورة المصباح تتأرجح للحظات على الجدار الأبيض، مصباح زيتي عتيق، أم بركان، أم حريق… ما الفرق بين الصورة والصورة ؟ كيف يمكنني أن اهرب من هذا الصوت الذي يلاحقني، صوت الريح وهي تصفر في الخارج تذكرني بكل المخاوف. صوت البركان والرعد والعاصفة، أصوات سيارات الجيش في الشارع، صوت الشرطي، صوت موظف الجمارك، والدي وهو يصرخ، صوت المرأة العجوز وهي تلاحقني، وصوت العالم بأسره، صوت دماغي وهو يتشقق لحظات الخوف المطلق، وصوت عظامي وهي تتثاءب في لحظات السأم، وأصوات أخرى لا أتذكرها. صوت هذه الأنا المزيفة المستحيلة الوجود، التي لا تكف عن الظهور والنواح. أحمل معي كومة الاوهام والمخاوف والهواجس .. مكومة في "داخلي" في ركن مظلم رطب ومرعب، احمل في داخلي كل رعب الدنيا في كل المحطات وكل نقاط االحدود، أقذف بهذا الرعب في وجه الموظفين الرسميين وغير الرسميين، والذين يكتبون في دفاترهم أو في شاشاتهم الالكترونية ارقاما وحروفا وحالات وجودية ، يبتسمون بود مصطنع، ويتمنون لي يوما سعيدا، ويقذفونني بعد ذلك مع ملفي إلى الحجيم. لقد هربت من الهواجس والاوراق والملفات والمقابلات، لأجد نفسي في حفرة مليئة حتى الحافة بالاوراق والمواعيد والمقابلات. في كل مكتب رجل أوامرأة تريد أن تعرف كل شيء عن حياتي، التفاصيل الدقيقة والافكار الغامضة والواضحة. يريدون أن يعرفوا لماذا أنا هنا، وما الذي أريد أن افعله.. لماذا كل هذا الخوف ؟؟ لقد هربت من الجحيم لأقع في جحيم أكثرعمقا وشراسة، “هربت من الغول .. طحت في سلال العقول”، كما يقول البعض.. ولكنني سأهرب ثانية، لن اذعن لكل هذه الأوراق، سأهرب، وسأجد الحل يوما ما. لا أريد أن أموت أسير هواجسي ومخاوفي الليلية، وسأجد المكان الذي أستطيع أن أنام فيه، دون أن أرى هذا الوجه القبيح للقلق، والذي يواجهني كلما نظرت في المرآة، أو فنجان القهوة الداكنة.  في بعض اللحظات من السكون الذي يتخلل فجأة كل المكان، ينهار ذلك الجدار الصواني اللعين الذي يفصلنا عن الأشياء، نتحسس لأول مرة رائحة الأعشاب الطرية، وملمس المطر الخفيفة على الوجه والجسد، ونحس احساسا عميقا بالحياة. ويتذكر الشمس …اللون البرتقالي الرائع لحظات شروق الشمس وغروبها، ويفتقد السماء والنجوم والقمر الفضي في ليالي الصيف على الشاطئ، وأصوات الحشرات الليلية. يفتقد البحر وملوحة الماء، مع حرارة الشمس التي تبعث ألما حادا في العينين، وعلى سطح الجلد المحترق، والمصبوغ بذلك اللون النحاسي. وأثناء شربه لجرعة ماء باردة، بدأ ذلك الجدار المزري في الارتفاع ثانية بطريقة شيطانية. يحس بالظلمة تغلف عينيه وجسده، ولم يعد يميز جيدا الجدار المقابل من الجدار الذي على يساره، وترتفع الموسيقى والضجيج في الغرفة المجاورة…








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن عن أدائه في المناظرة: كدت أغفو على المسرح بسبب السفر


.. فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية




.. مصدر مطلع لإكسترا نيوز: محمد جبران وزيرا للعمل وأحمد هنو وزي


.. حمزة نمرة: أعشق الموسيقى الأمازيغية ومتشوق للمشاركة بمهرجان




.. بعد حفل راغب علامة، الرئيس التونسي ينتقد مستوى المهرجانات ال