الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مباحث في الاستخبارات (312) التحليل التشخيصي والتحليل التوجيهي

بشير الوندي

2022 / 2 / 21
الارهاب, الحرب والسلام



مدخل
-------------
تناولنا في مبحثين مستقلين سابقين نوعين من التحليل الاستخباري هما التحليل الوصفي والتحليل التنبؤي , ولأن تحليل البيانات والمعطيات الاستخبارية هي سلسلة واحدة من اربعة انواع من التحليل , فكان لابد من تناول النوعين المتبقيين , مع الاقرار هنا بانه كان يفترض بنا ان نتناولهما بحسب تسلسلهما الصحيح لان التحليل يستخدم الادوات الاربع بالتسلسل المنطقي لذا اقتضى التنويه , وسنتناول هنا التحليل التشخيصي والتحليل التوجيهي او الارشادي , كما سنضع التحليلات الاربع وفق منطقية تسلسلهما ازالة لأي لبس .
---------------------------
التحليل الاستخباري
---------------------------
التحليل الاستخباري هو بمثابة مجهر توضع فيه المعلومة تحت المعاينة لكشف مافيها من زيف او حقائق , وتبيان ماتحويه من اشارات لمخاطر كبيرة او صغيرة , باسلوب علمي منطقي يدرأ المخاطر ويفشل مخططات العدو , ولايأتي التحليل الاستخباري بشكل اعتباطي او على يد شخوص مغرورين, وانما يأتي من خلال دراسات وسبر لعقلية العدو ورصد لكافة تحركاته واكتشاف لحيله ومناوراته .
ان التحليل هو عملية اخضاع المعطيات والبيانات والمعلومات الاولية والوثائق للدراسة والتدقيق , وبناء الفرضيات وفقها بطرق متعددة؛ لاستخلاص معلومات ورؤى واضحة تتيح اتّخاذ قرارات بناءً على معطيات منطقية بدقة عالية , ويتم ذلك من خلال عملية فحص بغية العثور على الانماط والاستنتاجات حول المعلومات , وهناك, كما ذكرنا سابقاً, أربعة أنواع رئيسة من التحليل كل منها مرتبط بالآخر وتعتمد على بعضها البعض, وهي :
1 التحليل الوصفي (De-script-ive Analytics)
2 التحليل التشخيصي (Diagnostic Analytics)
3 التحليل التنبؤي (Predictive Analytics)
4 التحليل التوجيهي (Pre-script-ive Analytics)
يتناول التحليل الوصفي الاجابة عن السؤال (مالذي يحدث؟ ) حيث يعطي صورة شاملة ودقيقة وموثوقة عن الحدث المطلوب تحليله , وتتركز قيمته و تعتمد على توفر البيانات ودقتها , فوظيفته الاساسية تتمثل بتحليل كافة المعلومات الموجودة؛ لمعرفة المشكلة او الحدث , وهو يمثل نقطة الانطلاق لأي عملية تحليلية تالية حيث يجمع وينقّي المعلومات من مصادر مختلفة ويعالجها ويفسرها ويحولها لرؤى , الا انه لايجيبنا عن التنبؤ بالاحداث المستقبلية ولا بالاسباب , فهو المهيء لباقي التحليلات لتقوم بتحليل المشكلة القائمة , حيث يأتي الدور على اهم نوع من الانواه الاربعة بان يقوم بدوره , الا وهو التحليل التشخيصي.
----------------------------
التحليل التشخيصي
----------------------------
يعتبر التحليل التشخيصي من اخطر انواع التحليل الاربعة وهو عمودها الفقري في الوصول الى النتائج , حيث ترتبط سمعة اي جهاز تحليلي استخباري بمدى حيوية هذا النوع من التحليل والعاملين فيه .
ان التحليل التشخيصي هو الكفيل بالاجابة عن السؤال ( لماذا يحدث؟ ) وهو من يتكقل بالوصول الى الاسباب الجذرية وهو الذي يحدد النتائج والاحتمالات والاتجاهات لأي حدث, وهو بذلك الاكثر تفصيلاً وتفاعلية من التحليل السابق له والتحليلين التاليين وهو الممهد لهما .
ان التحليل التشخيصي منوط به كشف الانماط ومناقشة الفرضيات وترجيحها فهو يفحص البيانات والمعطيات والمعلومات بشكل أعمق لمحاولة فهم الأسباب التي أدت إلى حدوث حدث أو سلوك معين، والكشف عن الروابط الغامضة من خلال فرز جميع المعلومات وفلترتها , ومن ثمَّ فإنَّ قيمته تعتمد على الفهم جيداً وعلى قدرات المحلل.
ان التحليل التشخيصي يستخدم تقنيات استخراج البيانات واستنتاج الروابط بينها لمعرفة أسباب نتائج التحليلات الوصفية , ويتيح النظر بالنتائج السابقة للاحداث المتشابهة والمماثلة لتحليل المشكلة محل النظر, فإذا وصلت مشكلة جديدة في عملية البحث اثناء عملك يمكنك النظر في هذا التحليل للعثور على أنماط مماثلة لهذه المشكلة وبالتالى ستستطيع حلها وقد يكون لديك فرص لاستخدام المشاكل المماثلة فى ايجاد حلول للمشاكل الجديدة , فقبل التحليل التشخيصي ، لا يوجد حتى الآن أية فكرة عن نمطية العلاقة بين المعطيات و المتغيرات ولكن مابعد التحليل الاستكشافي ( التشخيصي )يجب ان يتم العثور على علاقات و إنشاء فرضيات وحلول لمشاكل محددة من خلال اكتساب فهم سياقي راسخ لسبب حدوث شيء ما , فإذا كنت تعرف سبب حدوث شيء ما وكيفية حدوثه ، فستتمكن من تحديد الطرق الدقيقة لمعالجة المشكلة أو التحدي بعد ايجاد وفحص الفرضيات الرئيسة وفحص جودة المعلومات وتتبع مؤشرات أو علامات التغيّر وتحليل الفرضيات المُتنافسة .
----------------------------------------
مثال على التحليل التشخيصي
----------------------------------------
في مجال الطب , قد يكون لارتفاع درجة الحرارة قيمة كبيرة في إخبار الطبيب بأن الشخص الذي امامه مريض ، ولكن وصف ارتفاع درجة الحرارة هنا قيمته قليلة نسبيًا في تحديد المرض الذي يعاني منه المريض, نظرًا لأن درجة الحرارة المرتفعة تتوافق مع العديد من الفرضيات المحتملة حول مرض المريض فتكون المعلومة الوصفية لارتفاع درجة الحرارة ذات قيمة تشخيصية محدودة في تحديد المرض (تشخيص الفرضية الأكثر احتمالية), هنا يحتاج الطبيب الى التشخيص الدقيق من خلال تجريب عدة فرضيات ويقاطع اعراضها للوصول الى التشخيص الدقيق للمرض.
كذلك الامر في الاستخبارات , حيث يكون الدليل التحليلي الوصفي تشخيصيًا عندما يؤثر على حكم المحلل على الاحتمال النسبي للفرضيات المختلفة المتعارضة , فإذا كان عنصر من الأدلة يبدو متسقًا مع جميع الفرضيات رغم اختلاف اتجاهاتها ، فقد لا يكون له قيمة تشخيصية على الإطلاق.
في يونيو عام 1993 , أصدر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون تعليمات بتوجيه ضربات جوية لمقر المخابرات العراقية ردا على محاولة لاغتيال سلفه جورج بوش الأب قبل هذا في الكويت , وهنا عملت الCIA المصفوفة الافتراضية التي تتناول النوايا العراقية في الرد على الضربة , وكانت هنالك ثلاث فرضيات :
الاولى : صدام لن يرد انتقاماً للضربة .
الثانية : ان يقوم صدام بدعم آخرين للقيام بعمليات ارهابية ضد المصالح الامريكية في الخارج.
الثالثة : ان صدام سيخطط للرد بضربات قوية ضد مواقع استخبارية امريكية .
فقامت على تلك الفرضيات الثلاثة ستة معطيات او معلومات وتحليلات وصفية :
1- خطاب صدام الجماهيري اثر الضربة لم يتطرق للرد.
2- لم يرد صدام بهجوم ارهابي انتقامي سابقاً ابان حرب الخليج 1991.
3- صدام سيخشى من ان يستفز الامريكان كي لا يقوموا بضربات اخرى.
4- من المرجح أن تتم ملاحظة زيادة وتيرة البث الإذاعي العراقي أو طوله إذا كان العراقيون يخططون للانتقام , مما لو لم يفعلوا ذلك .
5- صدرت تعليمات للسفارات العراقية في العالم تتحدث عن زيادة الإجراءات الأمنية.
6- على افتراض أن عدم انتقامه , فسيكون فقدان ماء وجه صدام امرغير مقبول بالنسبة له.
هنا قامت الاستخبارات الامريكية بدراسة كل تحليل وصفي من التحليلات الستة ومدى مطابقته مع الفرضيات الثلاث , وهذا هو لب التحليل التشخيصي , فتبين في التحليل التشخيصي اسقاط قيمة الوصف رقم 1 حول خطاب صدام , لانه سيكون كارتفاع درجة حرارة المريض يمكن ان يوحي بكل شيء وليست له خصوصية ليرجح فرضية امام اخرى , فصدام غير صادق وقد يهدد ولايفعل , وقد لايهدد ويفعل , وهذا يعني ان الدليل الوصفي المعلوماتي حين ينطبق على عدة فرضيات متناقضة يجري اسقاط قيمته في التحليل التشخيصي.
اما المعطى رقم 2 , 3 فيشيران الى ترجيح عدم الرد لكنهما ليسا قويين , المعطى 4 فيشير الى الرد لكنه ضعيف ولايكفي لوحده مالم يوجد مايقويه , اما المعطى رقم 5 فيرجح رد صدام لكنه قد يرجح الحذر وعدم الرد , اما التحليل التشخيصي للمعطى 6 حول حفظ ماء وجه صدام , فيكون من الناحية التشخيصية مؤشر قوي الى انه سيرد , لانه لاينسجم مع الفرضية الاولى بشكل كبير .
طبعاً , لايقف الامر في التحليل التشخيصي عند هذا التحليل الاولي والا لكان خاطئاً (فصدام لم يرد بالفعل ) , وانما يتعداه الى تطبيقات اخرى تناقش الاجابة على سؤال آخر وهو : اذا كانت هذه الفرضية التي تم استنتاجها بالتحليل التشخيصي صحيحة, فما هو احتمال أن أرى هذا الدليل العملي عليها وكيف واين ساراه , وغير ذلك مما لامجال لتفصيله من قبيل : اهمية الصياغة الدقيقة للفرضيات , وهو أمر بالغ الأهمية للاستنتاجات التي يمكن للمرء أن يستخلصها من التحليل عند هذه النقطة ، وسيكون من المناسب غالبًا إعادة النظر في الفرضيات وإعادة صياغتها , وهل هناك فرضيات يجب إضافتها (في المثال السابق هل هنالك فرضية رابعة ام لا ؟) ، أو تمييزات أكثر دقة يجب القيام بها من أجل النظر في جميع البدائل المهمة؟ إذا كان هناك القليل من الأدلة التي تساعد على التمييز بين فرضيتين ، فهل يجب دمجهما في فرضية واحدة؟ وكذلك , في المثال السابق, هل ان التفكير في الفرضيات الثلاث التي رجح البعض منها والذي لم يرجح , ياترى هل تأثرت بعوامل لم يتم تضمينها في قائمة الأدلة الوصفية الستة؟ وهل هنالك معطيات وصفية جرى اهمالها ؟.
وهنا يتبين لنا مدى عمق التحليل التشخيصي واهميته , وحين يتم تشريح المشكلة وبحث اسبابها , سيتاح دور التحليل التنبؤي ليدلو بدلوه وفق ماتم من تشخيص , ليتنبأ بما يرجح انه سيحدث مستقبلاً .
وبالطبع , فان التحليل الاقتصادي قد يسهل فيه التنبؤ , من قبيل ان الشركة قد حققت زيادة في الانتاج بلغت 20% في الاعوام السابقة , وان الظروف تتحسن اكثر , فيكون من السهل التنبؤ ان الزيادة ستتحرك الى 22% او 25%, اما في التحليل الاستخباري فإن المدخلات والتغيرات كثيرة مما يجعل التنبؤ امراً صعباً ,
وبعد استنفاد اطوار التحليل الثلاث , الوصفي والتشخيصي والتنبؤي , يأتي الدور على التحليل التوجيهي الكفيل بالاجابة على السؤال الكبير والختامي (ماذا نفعل؟) بالتزامن مع (ماذا سيفعل العدو؟).
------------------------
التحليل التوجيهي
------------------------
التحليل التوجيهي: هو آخر مراحل التحليل الاربع والذي يحسن من دقة التنبؤ, ويؤدي الى تحسين اتخاذ القرار , حيث يحدد الخطوات المستقبلية من خلال حساب النتائج المتوقعة المرتبطة بخيارات القرار, فهو يُجيب على سؤال: ما الذي يجب علي عمله؟ يطبق نماذج لتحليل عدة خيارات بطريقة What-if (ماذا- لو)، ويمكننا من العثور على استنتاجات مختلفة من نفس البيانات .
ويعتبر هذا التحليل الحد النهائي لقدرات التحليل ، حيث أنه لا يكتفي بالتوقّع أو التنبؤ بل يقترح الخيارات للإستفادة من النتائج السابقة، وتحديد الطرق والأساليب الواجب اتخاذها في حال حدوث مشكلة , ويجمع التحليل التوجيهي (الإرشادي) بين العديد من التحليلات السابقة لتحديد الإجراء الذي يجب اتخاذه في مشكلة أو قرار ما.
--------------------
مثالان جامعان
--------------------
لتقريب الامر في عمل التحليلات الاربعة وكيف تعمل بتراتبية نرى في مثال حرب الخليج : ان التحليل الوصفي لحرب الخليج عام 1991 يساعد في استخراج المعارف من البيانات وتحليلها, ويتم إيجاد الأنماط أو الاستراتيجيات التي أسهمت في فوز الجهة الرابحة ثم ياتي التحليل التشخيصي (السببي) ليجيب عن( لماذا حدث هذا الأمر؟) بهذا الشكل , أما التحليل التنبؤي فسيتوقع الأحداث التي يمكن أن تحدث في المستقبل, مثلًا، يمكن تحليل البيانات من مصادر مختلفة: المدوّنات، وسائل التواصل الاجتماعي، الجرائد الإلكترونية وغيرها لتخمين حصول عمل إرهابي مضاد , هنا ياتي التحليل التوجيهي ليهدف إلى إيجاد مقترحات في شأن موجبات العمل في بعض الحالات، مثل الخطوات التي يجب اتخاذها لتفادي حدوث عمل إرهابي.
مثال آخر :عندما سقطت الموصل , توافرت معلومات وصفية كثيرة جداً ليتم تقييمها ثم تركيب المعلومات بشكل منسجم ثم التوصيف والتشريح عن من هم داعش ؟ ماهي اعدادهم وسلاحهم وانتشارهم , ثم ياتي دور التعليل السببي التشخيصي عن لماذا سقطت الموصل؟ وكيف ؟واين كانت الاخطاء ونقاط الضعف ؟ ثم ياتي التنبؤ والتوجيه سوية لوضع تصور لرؤية العدو واهدافه والى اين يريد وماهي اهدافه؟ بعدها يقوم التحليل التوجيهي بانذار القوات العسكرية مثلاً لكي تضع الاولوية في المحور الفلاني ثم الفلاني وان هدف داعش لاحقا هي المنطقة كذا اولا وكذا ثانيا وثالثاً , ثم يقوم التحليل (مستعيناً بأذرع المعلومات) برصد حركة وتصرفات واعمال ومستجدات العدو اليومية في كل القواطع ضمن جدوله , لمعرفة مؤشرات وميدان العدو , واخيراُ يشرع التحليل بتقديم التقارير والايضاحات والفرضيات والاحتمالات بشكل مستمر الى صانعي القرار وقادة المؤسسة الامنية والعسكرية .
------------
خلاصة
------------
ان التحليل الاستخباري كما هو الحال في التحليلات الاقتصادية والتجارية على اربعة اشكال وهي في حقيقتها اربعة مراحل كل منها يكمل مايليها , وهي تحليلات تتيح للجهاز الاستخباري وصف ماحدث وتحديد اسبابه والبناء عليه بتوقع ماسيحدث والاجابة عن السؤال الاخير وهو مالذي يجب فعله , وبالنتيجة سيتاح للجهاز الاستخباري ان يتمكن من تزويد جهات القرار باهم المخاطر وادق الاحتمالات والاقتراحات فيما يجب عمله , وهو تكامل مثالي بين صاحب القرار وصاحب المعلومة ومحللها , والله الموفق.
للمزيد انظر :
انواع التحليل د.حمود الدوسري
البيانات الضخمة في الاستخبارات العسكرية – موقع الدفاع الوطني اللبناني – العدد 100 - نيسان 2017
مباحث في الاستخبارات (84) آليات التحليل الاستخباري
مباحث في الاستخبارات (308) التحليل الوصفي
فسيولوجية التحليل الاستخباري – ريتشارد هيور








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بهجمات متبادلة.. تضرر مصفاة نفط روسية ومنشآت طاقة أوكرانية|


.. الأردن يجدد رفضه محاولات الزج به في الصراع بين إسرائيل وإيرا




.. كيف يعيش ربع سكان -الشرق الأوسط- تحت سيطرة المليشيات المسلحة


.. “قتل في بث مباشر-.. جريمة صادمة لطفل تُثير الجدل والخوف في م




.. تأجيل زيارة أردوغان إلى واشنطن.. ما الأسباب الفعلية لهذه الخ