الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التطبيع وتبيئة إسرائيل

ارام كيوان

2022 / 2 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


التطبيع وتبيئة اسرائيل

كثير من الأفكار الواردة في المقال أدين بها لرفيقي وصديقي الدكتور شريف يونس.
**

كادت قلوب الجميع أن تجتمع على شعورٍ واحد، وآرائهم تتوحد على رأيٍ واحد عندما رأوا من هي الدّول "المطبعة حديثًا" مع إسرائيل (المغرب والإمارات والسودان والبحرين) وأكثر مقولة قيلت هي: "هذه الدّول مطبعة كل عمرها من تحت الطاولة".

وتصديقًا لهذه المقولة نشير إلى العلاقة التاريخيّة بين المغرب وإسرائيل، وهي علاقات متينة جدًا منذ عقود، وهنا أذكر حادثة تعود لعام 1965، تصفية البطل المهدي بن بركة المعارض الاشتراكيّ للملك والنظام المغربي، الّذي تم اختطافه في باريس وتصفيته بعملية مشتركة بين المخابرات المغربية والموساد، وما تزال تفاصيل هذه العملية المخابراتية غير معلنة حتى اليوم. ومما يذكر أنّه في عام 1966 أعدت صحيفة اسرائيلية -"هشوفعون"- عمودًا رئيسيًا عنوانه: "اسرائيليون في قضية بن بركة" وقامت أجهزة الأمن متمثلة بالشرطة والشاباك بمنع نشر أي معلومة عن الموضوع.

سابقًا كانت الدّول العربيّة تطبع مع إسرائيل تسليمًا بالأمر الواقع وتطلعًا لعلاقات مميزة مع أمريكا والغرب، كالتطبيع المصريّ في عهد أنور السادات، السادات من جهة سلَّم بالأمر الواقع ومن جهة أخرى أراد علاقات صداقة وتحالُف مع الولايات المتحدة والغرب فطردَ المستشارين والعساكر السوفييت وسلَّطَ الإخوان وسائر الصحوات على اليساريين والناصريين.

أما التطبيع الحاليّ فهو مرحلة مختلفة تتجاوز التسليم بالأمر الواقع، التطبيع الحاليّ هدفه تَبيئة إسرائيل، أي جعلها جزءً من البيئة الحضارية للمنطقة، وهذا ما لم يقدر عليه التطبيع السابق، حيث أن جوهر فكرة القبول بدّولة من الدّول هو الإقرار بمشروعية وجودها.

في التطبيع السابق لم يحدث أي تحول فكري عند الشعوب يجعلها تقرّ بمشروعية إسرائيل وعلى المستوى الشعبيّ كانَ رفضًا عارمًا للتطبيع من أساسِهِ.

ما هي مشروعية الدول؟
كل دولة في العالم قائمة بحكم الأمر الواقع، هذا صحيح. ولكن لا أحد يملك مشكلة مع قيام دولة لأنّه لا يشكّك بمشروعيتها؛ وما نقصده بمشروعيتها هو الأُسُس الفكرية الّتي تعطي الدّولة "حق" وجودها في وعي الناس، وغالبًا ما تكون هذه الأُسُس الفكرية عبارة عن تأويلٍ للماضي بصيغة الحاضر، وتصوير الحاضر كنتيجة نهائية لتراكم أحداث من الماضي كل هدفها الوصول إلى الدولة الحالية. ومن هناك تعطي كل أمة لنفسها "قوانينًا" تاريخية تعطيها الحق في الوجود وصفات مميّزة تّتصوّرها لنفسها.

في حالة إسرائيل يمكننا أن نُجمِل مشروعية اسرائيل بأمرين:
- الإرث اليهوديّ التوراتي.
- اضطهاد اليهود في أوروبا.

كلا الأمرين غير مقبولين عند السواد الأعظم من سكان المنطقة، فمن جهة التراث التوراتي حول أرض الأجداد مرفوض عند سكان هذه المنطقة لأسبابٍ شتى. وبالنسبة لاضطهاد اليهود في أوروبا، فحتى أكبر المتعاطفين والمتضامنين مع مآسي الماضي الّتي مرّ بها اليهود في أوروبا يقول في قرارة نفسه: "لماذا أنا من تحملت خطيئة ما فعله الأوروبيون؟! ليعتذر الأوروبيون لليهود ويقيموا لهم دولة في بافاريا". هكذا فإنَّ فكرة المشروعية في وعي الجماهير تلعب دورًا حاسمًا. وكمثالٍ لا يبقِ مجالًا لعدم الفهم نذكر بما اقترفته بريطانيا العظمى، كانَت بريطانيا هي صاحبة وعد بلفور ولديها تاريخ استعماري طويل حافل بالجرائم والفظاعات ولكن لا تجد أحدًا يملك مشكلة مع وجود بريطانيا حتى عند أكثر الشعوب الّتي ذاقت الويل من بريطانيا، لأن فكرة عدم وجود مشروعية لوجود بريطانيا ليسَت موجودة في وعي الشعوب.

في التطبيع الجديد نرى عملية تبيئة شعبيّة
لإسرائيل وليسَ مجرد تطبيعٍ بين سلطتين سياسيتين لديهما مصالح مشتركة، وهذا بشكل خاص واضحٌ وجلي في التطبيع مع الإمارات أكثر من غيرها.

لتسارع عملية التبيئة هذه عدة أسبابٍ ولكن في التحليل الأخير يكون السبب هو أنَّ القضية الفلسطينيّة لم تعد قضية القضايا في المنطقة. كل دولة منهمكة بمشاكلها وصراعاتها الإقليمية.

بسبب الخريف العربيّ بلغت صراعات المحاور أعلى مراحلها وبقيت فلسطين خارج المعادلة، محور إيران الّذي يحمل راية المقاومة والعداء لإسرائيل يعيش صراعًا مع الخليج ويعتبره تهديدًا حقيقيًا لبقاء هذه الأنظمة؛ إيران دولة نشيطة ومنتشرة إقليميًا ولولا الإسناد الأمريكيّ لهذه الأنظمة لربما أسقطتها إيران منذ سنوات.

أهداف ايران المعلنة هي اقتلاع إسرائيل وتلك الأنظمة وتأليب الشعوب ضدها، ولكن ما ترتب على سياساتها إقليميًا تطبيعٌ وتحالف معلن بين إسرائيل وتلك الأنظمة، تطبيعٌ قائم على مبدأ (win-win). إسرائيل حليفٌ قوي عسكريًا وتكنولوجيًا ولديه علاقات مميزة مع الولايات المتحدة، تستفيد هذه الأنظمة من التكنولوجيا والسلاح الاسرائيليّ في صراعها مع إيران وتأخذ إسرائيل بالمقابل اعترافًا يتجاوز الاعتراف الرسميّ فقط، وهذا يساعدها على محاولة تصفية القضية الفلسطينية تمامًا.

عرقلة المفاوضات والمماطلةُ مع الطرف الفلسطينيّ كانَت سياسية نتنياهو، وبربطٍ سريع مع فكرة المشروعية وكيف تكون عاملًا مهمًا في قبول ورفض التطبيع، أذكر حادثة (بالأحرى مناورة) من نتنياهو: طلب نتنياهو من الرئيس أبو مازن الاعتراف باسرائيل "دّولة يهودية" ما وضَع الرئيس أبو مازن في موقفٍ محرج، نتنياهو يعرف مدى حساسية اعتراف من هذا النوع عند الفلسطينيّين، هكذا اعتراف ليسَ مجرد تسليمٍ بالأمر الواقع بل إقرارًا بمشروعيته أيضًا.

عودة للعلاقة بين إسرائيل والأنظمة العربية، نلاحظ: ليسَ قرب تلك الأنظمة من إسرائيل فقط بل ومن اليمين الإسرائيليّ بشكلٍ خاص، فما السبب؟ في تقديري هناكَ سببان أساسيان لقرب الأنظمة النفطيّة من اليمين الإسرائيليّ:

1. معاداة اليمين لل"دولنة" (ממלכתיות):
طوال حقبة نتنياهو شَنَّ اليمين حربًا شعواءً على جهاز الدّولة في إسرائيل من الإعلام والقضاء والشرطة، وعمل على إضعافهم كي تكون تحركاته السياسية وفساده الماليّ فوق المساءلة والرقابة، وكان يطرب للتطبيل له ووصفه ب"ملك إسرائيل" وكانت الساتيرا الإسرائيليّة تجد مادةً دسمةً في تدخلات زوجته سارة بتعيين الساسة والقائمة الانتخابية لحزبه. في هذا الجانب اليمين الإسرائيليّ يشبه الأنظمة النفطية الّتي تديرها عائلاتٌ فوق المساءلة والقانون والرقابة.

2. جمهور اليمين:
جمهور اليمين بأغلبيته الساحقة هم من اليهود الشرقيين القادمين من الدول العربية، وليسَ فقط أنَّ هذا الجمهور لا يشبه الأشكناز وحافظ على معظم عاداته الّتي جاء بها من الدّول العربية، بل أكثر من ذلك، الدّولة والقيادة الاسرائيليّة رفضت استيعابهم ضمن الثقافة السائدة ووصفوهم بأبشع الأوصاف من على لسان قادة الحركة الصهيونيّة. بن غوريون: "اليهود من اليمن، اليهود المغاربة، العراقيون، الأكراد وكل هؤلاء الشباب قسم منهم شبه بريين. يجب أن تربي الشاب القادم من هذه الدول كيف يجلس على الكرسي مثل البشر" (لاقتباسات أكثر حول نفس الموضوع ممكن العودة لخطاب الرفيق عوفر كسيف في الكنيسيت).

حتى لا أُفهَمَ خطأً أنا لا أقول أنَّ الليكود يأخذ هؤلاء المضطهدين معه إلى سدة الحكم، إنما يستميلهم في إطار صراع نخب. ولكن حتى هذه الاستمالة تلعب دورًا في إدخال الشرقيين كمكونٍ ثقافيّ قوي ضمنَ الثقافة الإسرائيلية، وأَفضل للأنظمة النفطية أن تمارس نشاطها في إسرائيل في بيئة ثقافية كهذه لا يسيطر فيها فقط المكون الغربيّ الأوروبيّ بل يحتوي على جانبٍ ثقافي يشبه التخلف الثقافيّ لهذه الأنظمة.

لعملية تبيئة إسرائيل المتسارعة تأثيرات في الداخل الفلسطينيّ أيضًا، فأكثر نقاش احتدم في السنوات الأخيرة هو "مسألة الهوية" وبات موضوعًا صاخبًا عند كل الأطراف. المحافظة على الهوية الفلسطينية كالقبض على الجمر ومنع أي "تلويثات" لها أصبح بحد ذاته عملًا نضاليًا وسموًا فكريًا وأخلاقيًا في نظر صاحبه وأداته للحكم على الآخرين؛ فمحور معظم النقاشات والمزايدات قائمٌ على مبدأ "أنا وطني محافظ على الهوية أكثر من غيري" وليسَ منافسة في الأمور العملية والميادين النضاليّة كما في السابق.

وفي الضفة الأخرى هناك الحركات ذات النشاة الغير وطنية تاريخيًا والّتي سلمت اليوم بعملية تبيئة إسرائيل كقدرٍ لا يُناقش، وأخص بالذكر الحركة الإسلاميّة الصهيونية الجنوبية ومنصور عباس. نهج منصور عباس ليس جديدًا وبذوره موجودة عند المؤسس عبدالله نمر درويش، مع فارق أنَّ الظروف لم تكن مواتيةً ليفعل عبدالله نمر درويش ما فعله منصور عباس، بهذا المنطق قلت مرة أنَّ منصور عباس هو عبدالله نمر درويش في أعلى مراحله. وبالمجمل هذا النهج قائم على تحويل الأحزاب العربية إلى جماعات مصلحة سياسية داخل النظام الإسرائيليّ بدل حركات وطنية تناضل لانتزاع الحقوق الجماعية وإحداث تغييرٍ جذريٍ، وتكتفي ب"المكاسب" المتوفرة من داخل النظام الإسرائيليّ، وهذه "المكاسب" لا تساوي عفطة عنز.

لا أعلم إلى أين تتجه عملية تبيئة اسرائيل ولكن هذه العملية تترافَق مع توحشٍ واضح للدّولة وأجهزتها بسبب شعورها بفقدان السيطرة الداخلية بعد حقبة نتنياهو والأضرار الّتي ألحقها بأجهزة الدّولة.

هذه المرحلة صعبةٌ جدًا على الشعب الفلسطينيّ وتحتاج إلى كثيرٍ من الثبات والعمل والمثابرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هدنة غزة وصفقة تبادل.. تعثر قد ينذر بانفجار| #غرفة_الأخبار


.. إيران والمنطقة.. الاختيار بين الاندماج أو العزلة| #غرفة_الأخ




.. نتنياهو: اجتياح رفح سيتم قريبا سواء تم التوصل لاتفاق أم لا


.. بلينكن يعلن موعد جاهزية -الرصيف العائم- في غزة




.. بن غفير: نتنياهو وعدني بأن إسرائيل ستدخل رفح وأن الحرب لن تن