الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايات من السجن....حقوق الإنسان وسيارات (اللوري)!!

خلف الناصر
(Khalaf Anasser)

2022 / 2 / 22
حقوق الانسان


قبل أيام قليلة كنت ـ كعادتي ـ ابحث في المحطات الفضائية عن الاخبار الطازجة، واثنائها ـ وبالصدفة البحتةـ لمحت على احدى المحطات سيارة نقل كبيرة (لوري) حُولت لما يشبه سيارة نقل ركاب، بعد ما حورت ووضعت لها جدران وسقف حديدي ونافذة واحدة صغيرة مستطيلة الشكل لا يزيد طولها عن 30 سم وعرضها عن 20 سم، وهي مملوءة إلى آخرها بشباب بعمر الورد ومعهم بعض الفتيات وحتى البعض من كبار السن، ويبدو عليهم جميعهم التعب والضجر والعرق يتصبب من اجسادهم بغزارة، وقد اخذ العطش والتعب ـ كما يبدون في الفيلم ـ كل قوتهم ونشاطهم وقدرتم على اكمال الطريق حتى نهايته المتوجه إليها، وأخذ البعض منهم يفقدون وعيهم تدريجياً!
وكان بصحبتهم بعض من الشرطة قاموا بإغلاق باب السيارة عليهم من الداخل والخارج باحكام، وكانوا متحفزين بأسلحتهم الرشاشة وعلى اهبه الاستعداد لأي طارئ قد يحدث من أحدهم، ويراقبونهم بقلق وحذر شديديين!
وقد تبين لي فيما بعد بأن هذا الذي تعرضه هذه المحطة الفضائية العربية هو فيلم عربي لم أعرف اسمه ولا قصته كما إني لم أشهده من بدايته ، ولا لأي سبب وضع هئولاء البشر في هذه السيارة الحديدية، التي كانت تسير بهم بين المطبات دون رحمة أو التفات لأناتهم وعويلهم وصراخهم!!
وقد شدني هذا الفيلم إليه كثيراً رغم إني لم أر منه إلا مشهده هذا، فتابعته بشغف وانفعال حتى نهايته، التي كانت غير معروفة بالضبط!
*****
لقد اعادتي مشاهد هذا الفيلم إلى صيف عام 1976عندها كنا معتقلين في "معتقل الفضيلية" المعروف، والذي كان في الأصل (اصطبلاً) للخيول الملكية، وللوصي على عرش العراق (عبد الإله بن علي الهاشمي) الذي قتل اثناء انفعالات الجماهير وفرحها بـ (ثورة 14 تموز/يوليو عام 1958).
وهذا الاصطبل هو الذي حول إلى معتقلٍ ،أي، معتقل الفضيلية هذا، هو واحد من معتقلات وسجون (نظام البعث اليميني) المنتشرة في العراق!

ففي ذلك العام (1976) شاعت بين المعتقلين شائعة ضعيفة في البداية، لكنها فيما بعد أصبحت شبه مؤكدة تقول:
بأن هناك لجنة من "منظمة العفو الدولية/ لحقوق الانسان" ستزور معتقل الفضيلية قريباً، بناء على تقارير وصلتها من جهات عديدة عن الحالة المزرية واللاإنسانية للمعتقلين السياسيين الذين يعيشون في ذلك المعتقل! فقد كانوا يتكدسون فيه بالمئات، وهم يمثلون جميع مكونات الحركة الوطنية العراقية: من القوميين والشيوعيين والاسلاميين، رغم أن الشيوعيين قد دخلوا مع النظام وحزبه في جبهة واحدة اسموها بــ " الجبهة الوطنية والقومية التقدمية " لكنهم انقلبوا على بعضهم، فزج النظام حلفائه في سجونه كالآخرين!
وكان يعيش مع هؤلاء المعتقلين السياسيين البعض من المعتقلين لأسباب جنائية نكاية بالمعتقلين السياسيين لأذلالهم، واعتبارهم من نفس صنف وفصيلة هئولاء السراق واللصوص والمجرمين والقتلة، ويقومون بإجبارهم على العيش معهم سوية جنباً إلى جنب!
*****
فبعد تأكد السلطة من قدوم لجنة من "منظمة العفو الدولية لحقوق الانسان" إلى معتقلنا هذا، أجرى المسؤولون فيه تحقيقاً مع بعض السجناء المعروفين بصلاتهم بأطراف يمكنها أن توصل مثل تلك التقارير إلى المنظمات الدولية، عسى أن يعثروا من خلالهم على خيط يوصلهم إلى أولئك الذين أوصلوا تلك التقارير إلى منظمة العفو الدولية لكن دون جدوى.. وبعد يأسهم من نتيجة تحقيقاتهم، اتجهوا مرغمين إلى ترتيب وتنظيم وتنظيف المعتقل وجعله بصورة لائقة تتوافق مع الشروط والمعاير التي تطبقها تلك المنظمة الأممية ، وكذلك اجبار المعتقلين على جلب أفرشة جديدة لامعة إليهم بواسطة أهاليهم ـ وفي العادة أن كل معتقل يجلب فراشه من بيته ـ وكان المعتقلون في هذا المعتقل ينامون على الأرض متلاصقين دون أسرة!

لقد كان معتقل الفضيلية كبيراً وواسعاً، وهو في الأصل مقسوم إلى قسمين:
قسم صغير: كان مخصصاً سابقاً لمسؤولي إدارة (الاصطبل الملكي)..
وقسم كبير: كان مخصصاً للخيول الملكية ورعايتها وتدريبها...........
لكن، ورغم كبر وسعة هذه المعتقل، إلا أنه كان دائماً مكتظا اكتظاظاً شديداً بالمعتقلين، وهذه مشكلة أخرى واجهتها إداراته وربما مسؤولو النظام الكبار انفسهم .... فما الحل؟؟

فكان حلهم العبقري الذي اهتدوا إليه (نسخة طبق الأصل) من ذلك الفيلم الذي حدثتكم عنه، وبنفس صورته وحكايته وسيارته تقريباً !
فمع بزوغ فجر يوم قدوم لجنة منظمة العفو الدولية إلى معتقلنا، اصطفت سيارات كبيرة (لوريات) أمام باب المعتقل ـ كنا نسمع هديرها دون أن نراها ـ وحشروا فيها جميع المعتقلين الزائدين عن العدد المطلوب وفق معاير تلك المنظمة الأممية، ولما يجب أن يستوعبه عدد معتقلي معتقلنا ذك!
وسارت بنا السيارات دون أن نعرف بالضبط لماذا وضعنا فيها وإلى أين ستتجه بنا، أإلى الاعدام أم إلى الموت أم إلى المسالخ البشرية الكثيرة المنتشرة في عموم محافظات العراق، ومثل تلك الوسائل البشعة كانت أموراً شائعة وعادية أنذك، لكنا عرفنا فيما بعد حكاية معاير تلك المنظمة الأممية!

كانت السيارة التي أقلتني مع آخرين صورة (طبق الأصل) ـ لسيارة الفيلم وربما لحكايته أيضاً ـ لكنها بدل البدن الحديدي لسيارة الفيلم وضعوا لسيارتنا (چادراً/شادر) ليس له شبابيك إلا من (خرم صغير) صنعه الزمن، وبفعل التقادم وربما كان رحمة إلهية بنا.. كنا جميعاً نتناوب ـ وفي بعض الأحيان نتقاتل ـ الواحد تلو الآخر لأجل نظرة واحدة من خلاله ، ولنرى ـ بعد سنين طويلة ـ ماذا خلق الله وراء جدران ذلك (الچادر/ الشادر) الذي يفصلنا عن العالم الخارجي؟؟
لقد عجبنا بأن لا زالت هناك اناس تعمل وتضحك وتمشي في شوارع بغداد وتأكل وتشرب وربما.....، وكأن شيئاً لم يحدث لبعض العراقيين الآخرين، والأمر من هذا أنهم لم ير سيارتنا التي تقلنا مرغمين، وتجوب بنا شوارع (بغدادهم) الجميلة!
بغداد تلك الأرملة الجميلة اللعوب المُفْتًرَسةُ، التي تناوب على افتراسها:
هولاكو وأعقابه الإليخانيون ودولتي الخروف الأبيض والخروف الأسود، وبعدهم الإيرانيون والعثمانيون والانجليز وصدام حسين وبريمر ونسله الشريف من (مزدوجي الجنسية) القادمين من وراء الحدود ومسلحوهم، الذين افترسوا العباد والبلاد وحولوهما إلى حصص وغنائم لكل منهم ـ من الرئيس إلى الفراش ـ فيها حصة معلومة ......الخ ولكل ممثل ـ زوراً ـ لمكون من المكونات التي اخترعوها فيها وظيفة مضمونة!!

وصدق الجواهري حيين قال في بغداد:
(بـــغـــداد)
يا دارة المجد ودارَ السلامْ
بغداد يا عِقـْداً فريدَ النظامْ
يا أمَّ نهرَيْن استفاضا دما
ونعمة من عهدِ سام وحامْ
من عهدِ سسنحاريب ..........
*****
لقد سارت بنا سيارتنا العتيدة في بغداد طولاً وعرضاً نهاراً كاملاً، دون أن نعرف في تلك الساعات الطويلة المملة في أي منطقة نحن منها.. سارت بنا سيارتنا نهاراً كاملاً، ونحن دون طعام ودون ماء في صيف تموز الحارق أو آب اللهاب، وكان كل منا ينضح عرقاً وضيقاً وغضباً يتفجر في داخله، وفي كل شريان ووريد تنبض به دقات قلوبنا!!

وصلنا إلى معتقلنا (العزيز) بعد أن مرت "عاصفة منظمة العفو الدولية" راضية ـ بالغش والخديعة وربما بالرشوة ـ عن النظام وأفعاله، ومكذبة لكل التقارير التي وصلتها عنه وعنا، مصدقة الجلاد ومكذبة للضحية!!

وبعد حلول الليل وصلنا متهالكين ومتعبين وكارهين لأنفسنا وللعالم بأسره متمنيين انفجاره وزواله ـ بعد أن كذبنا وصدق جلادنا ـ لم نأكل شيئاً عندما وصلنا المعتقل وشربنا الماء وحده ونمنا كالأموات إلى صباح اليوم التالي، وصحونا على صوت من يدعونا إلى تجمع في ساحة الاصطبل الكبيرة، ووجدنا مسؤول المعتقل يعتلي دكة اسمنتية تتوسط ساحة المعتقل وهو يوبخنا بأبشع الكلمات وأوسخ الألفاظ، ويبلغنا: أن "لا فائدة من التقارير.. فحياتكم هنا وقبوركم هنا أيضاً "!!
*****
فعدنا كما كنا، نعد الأيام والساعات والدقائق في سنين طويلة قاتلة مملة لا نهاية لها، حتى تركنا في النهاية العد والحساب اللذان لا فائدة ترجى منهما، وعدنا نجتر أيامنا كما اجتررناها في الماضي سنين بعد سنين طويلة، ننام ونصحوا على آمالنا المستهلكة ذاتها، إلى أن صحونا في أحد الأيام على هدير (اللوريات) ذاتها مرة جديدة، وعلى صوت مسؤول المعتقل يدعونا إلى جمع اغراضنا كلها والصعود إلى تلك السيارات، نفذنا الأمر وسارت بنا من جديد كما سارت بنا من قبل، دون أن نعرف لماذا وإلى أين ستتجه بنا.. وبعد وقت ليس بالقليل توقفت في مكان لا نعرف ما هو وأين هو، وهذه المرة جميعنا وليس البعض منا ؟
وبعد فتح اغطية السيارات عرفنا أننا في سجن "أبو غريب" العام في (قسم الثقيلة)، ومنه إلى "الشعبة الخاصة" فيه!

وعرفنا فيما بعد أن نقلتنا هذه المرة واخلاء معتقل الفضيلية منا، كانت لأجل تمثيل مسلسل تلفزيوني فيه.. وهو مسلسل:

[ لـــن يــنــتــكــس الــولــيــــــــد]
ليحكوا فيه قصة مختلقة عن (البعث اليميني) ونضالاته وعذاباته الملفقة، ورجاله (السوبرمان) المتفوقون!!!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأول مرة منذ بدء الحرب.. الأونروا توزع الدقيق على سكان شمال


.. شهادة محرر بعد تعرضه للتعذيب خلال 60 يوم في سجون الاحتلال




.. تنامي الغضب من وجود اللاجئين السوريين في لبنان | الأخبار


.. بقيمة مليار يورو... «الأوروبي» يعتزم إبرام اتفاق مع لبنان لم




.. توطين اللاجئين السوريين في لبنان .. المال الأوروبي يتدفق | #