الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبوذية الغناء وصوفية العشق

سعد محمد موسى

2022 / 2 / 22
الادب والفن


لقد كان رواد الأغنية الريفية العراقية يتسمون بالعفوية والبساطة والتواضع، ولم يفكروا يوماً بالشهرة والثراء في توظيف أو استغلال غنائهم لأغراض تجارية، بقدر ما كانوا أقرب الى سدان الحزن في معابد الغناء السومري، وهم ينشدون عذابات الناس المقرونة بالقهر الاجتماعي والسياسي، وكذلك يرتلون ويصفون عذوبة وسحر الطبيعة وتلقائية الحياة، لا سيما في فراديس الاهوار حين يصدحون بهيامهم ولوعتهم وحبهم العذري لحبيباتهم بشدوهم الشجيّ وترانيمهم المرهفة، التي تتسلل من وراء أجمات القصب أو المنسابة من أعماق سكينة البساتين، ببوح قصائد الأبوذية والدارمي بقلوب مكلومة تناجي القمر في جلسات العشاق فوق مسنايات الانهار وعلى أطراف الاهوار وقد اقترن الحزن في وجودهم وفي فطرتهم منذ "نواعي انكيدو، ونواح كلكامش، وعذابات ديموزي" وحتى طقوس العشق لديهم كانت مجبولة بالاشجان واللوعة والحرمان والعتاب حتى بات الحزن ملح حياتهم وتعويذتهم الروحية، وصلصال خليقتهم، يهيمون به حد العبادة مثل المتصوفة والدراويش ويضربون عن تناول الطعام حتى توهن أجسادهم بسبب ضراوة العشق وفراق المحبوب، لا سيما حين تذوي أمنياتهم ويأفل حلم الاقتران بالحبيبة، فيكون العرس بعيد المنال بعد أن تساق الحبيبة قسراً الى وصايا وفرمانات الأهل والقبيلة، سواء بافضلية ووجوب زواجها بابن العم أو تزويجها الى أحد وجهاء وسادات العشيرة أو يكون الرفض بسبب الفروقات الطبقية وتفاوت الانساب وعداوات القبائل لوجود الثآرات أو الاختلافات الطائفية والدينية والعرقية وكذلك في استخدام النساء كقرابين مستعبدة في زيجات (الديّة والفصلية).
وما أكثر حكايات الوجع وأسى الحب وسعير الفراق في حياة الشعراء والمطربين، التي تنتهي غالباً بموت العاشق مكلوماً أو أن يبقى بعضهم يعيش بأحزانه ومكابداته فتتجلى تلك الآلام بأسمى مراتبها في وجع وعذابات الغناء الذي يقترب من النحيب والنواح.
لقد توارث مطربوا الجنوب الحزن المقدس من أسلافهم حين ينشد مغني (الگالا) منتحباً ومرتلاً "صراخو.. وزماروا.. وشير" الى شطحات منشد الوجع (حسن ناصرية) حين يشط عن مألوف وقواعد الأبوذية بنحيبه الذي أوصله بعفوية الشجن ونزيف الأسى الى غناء يشوبه النشيج سميّ بطور الشطيت!!
(الأغنية الأخيرة فوق ناصية القلب)
حين لمح (منشد الوجع- حسن ناصرية) عيون الفتاة الجميلة (ظبية) من وراءِ أطراف عباءتها وهي تهم بعبور ناصية الرصيف متجهة نحو الجسر، شعر حينها إن هنالك ثمة شوق ودهشة داهمته وتأججت في أعماقه وهو يتأمل خطواتها الفاتنة بخلخالها الفضي الذي يزين كاحلها، أثناء جلوسه في المقهى التي إعتاد إرتيادها.
ثم إِستفاق من إغفاءته وحلمه القصير لدى عبور الفتاة، فنهض متعقباً خطاها، حتى عرف أين تقع دارها وعلم أيضاً إنها أبنة لأحد كبار موظفيّ الدولة في تلك الناحية.
هام الفتى المتيم بعد أن أصابه داء العشق وبقيّ يجوب في سوق (سويج الدچة) ويحوم حول دار الفتاة وسعير الشوق يتعاظم مثل جمر يتشظى في حشاشة قلبه، وكان المبتلي يواسي ذاته بارتجال الشعر وينوح بوجع غناء الأبوذية.
ذات صباح التقت عيون الولهان بعيون المليحة ظبية في سوق القماشين، فتماهت النظرات في حوار وتجاذب، تجرأ حينها العاشق متلعثماً بمفردات تعارف، ثم غادرت الفتاة خائفة ومسرعة خشية أن يراها أحد.
وبعد اللقاء الأول والسريع علم العاشق أن الفتاة وأهلها عازمون على مغادرة الناحية خلال اليومين المقبلين والانتقال الى مركز مدينة الناصرية بعد أن نقل منصب الأب الاداري الى هناك.
لم يطاوعه قلبه البقاء بعيداً عن معبودته فشد الرحال وودع أمه وتركها في سويج الدچة وحط به الرحال في مدينة الناصرية.. فأقام بها سرادق عشقه.. هنالك فوق ناصية شارع في قلب المدينة مقابل دارها وقريباً من ضفاف نهر الفرات، أختار عمل بيع اللبن البارد على المارة ليرتزق منه أيضاً، وأقام سكناه في إحدى خانات تخزين الحبوب في سوق المدينة.
علمت ظبية بقدومه الى المدينة بعد عذاب الفراق والرحيل فسعدت بالاخبار .. وكانت تنتهز أي فرصة كي تطل من وراء الباب حتى تكتحل رموشها بمشاهدة حبيبها وتستمع الى تراتيل عشقه ونزيف فؤاده المكلوم، وهو يشدو بالغناء العذب الذي يوقف المارة حوله وهم يستمعون الى مطرب بائع اللبن.
وأحياناً تتسلل خلسة خارج البيت تقترب من عربته حين يكون لوحده وتلقي على وجه السرعة رسالة ترفق معها وردة جوري تقطفها من حديقة دارهم.
وفي أوج شوقه ولوعته صدح المطرب بطور جديد في الغناء أكتشفه بتلقائية أحاسيسه الموغلة بعشق فتاته وكان بمثابة هدية لها... وهو طور الشطيت وأطلق المقربون فيما بعد على المطرب نعت (مفطورة) كنية بما يعانيه من عذابات العشق وشجن الغناء الذي يفطر القلب!!
كان الفتى المغرم يعرف أن مشروع خطبته من ظبية صعب لأن والدها المتعالي والمتغطرس، لن يقبل أن يزوجها من بائع لبن ومطرب فقير.
في يوم منحوس عثر أْهل الفتاة على رسالة غرامية من المغنيّ، وبوشاية من أحد العذال وصلت الرسالة الى الأب القاسي وبعد أن قرأها غضب ومزق الرسالة وحلت حينها مشكلة كبيرة في الدار.. حتى عاقب أبنته وأمرها بعدم مغادرة الدار وكذلك بلغ حاشيته بان يطردوا بائع اللبن ويبعدوه مع عربته عن الدار.
تعاظم شجن العاشق وأينعت ثمار الأسى في شجرة قلبه المكلوم ولم يعد يكترث بالطلبات المتكررة من عروض لمكاتب تسجيل لأغانيه على اسطوانات في العاصمة بغداد فلم يكن مفطورة مهتماً بالشهرة لان الغناء لديه بمثابة قدسية وجدانية ومناجاة للذات ومواساتها وصلاة عشق صوفية.
وذات صباح أوصلت إحدى صديقات ظبية برسالة منها ودنت منه والقت بها قرب العربة فتناولها بشغف ولهفة وباصابع مرتجفة فتح الرسالة على وجه السرعة بينما قلبه كان يهدر مثل شلال، وكانت فحوى الرسالة :اذا كنت تحبني أرجوك اذهب الى بغداد وقم بتسجيل اسطوانتك الغنائية - حبيبتك ظبية.
-ابتسم العاشق وكان يردد مع نفسه : سأفعل أي شيء من أجلك يا متيّمتي!!
في اليوم الأخر سافر المغنيّ الى بغداد وكان ذلك في خريف عام 1926 بعد أن تعاقدت معه شركة تسجيل الاسطوانات (بيضافون كومباني) ليقوم بتسجيل أولى أغانيه في بغداد بطور شطيت والذي يقترب من ذائقة المدينة ويجمع ما بين سحر بساتين الريف والاهوار وصدى الجبال أيضاً.
وبعد أسبوعين صبرها منشد الشطيت على مضض قضاها في العاصمة بعيداً عن محراب عشقه، ثم عاد بعدها الى الناصرية محملاً باشواق وهدايا الى حبيبته والى أمه أيضاً.
(لقاء أخير على ضفاف الفرات تحت نخلة تعتقت أعذاقها بضوء القمر)
بعيداً عن عيون المدينة لمس العاشق كف فتاته المخضب بالحناء وتردد في البدء بتقبيل شفتيها المتغاويتين بالديرم، لكن العاشقان ودون إرادة أو شعور بالخوف التقت شفتاهما وتعانقوا بلهفة لقاء قصير عبر مثل الحلم أو غيمة تائهة، بعدها غادرت ظبية الى دارها متعثرة بخطاها.
بقي المغنيّ على ضفاف الفرات يصدح باجمل قصائده برفقة القمر الذي استأنس برفقة العاشق هذه الليلة.
ثم رجع في الهزيع الاخير من الليل الى الخان، إستلقى على فراشه وهو يتخيل معشوقته تتسلل الى غرفته بفستان الزفاف الناصع البياض وبمحياها المبتهج وهي توقد البخور وتشعل الشموع وتمنحه روحها وقلبها وجسدها.
في مساء حزين التقى المغنيّ بطارش ٍ قادم من ناحية سويج الدچة وجاءه بنبأ مرض أمه التي طلبت رؤيته
غادر مفطورة متوجهاً الى دار أمه التي كانت في انتظاره طريحة الفراش تهالك فوق وسادتها موجوعاً وباكياً وهو يقبل كفيها، نظرت الام بحسرة ٍ الى ولدها قبل رحيلها وهي تشعر بحزنه العميق وجسده الذي بات يذبل كقصبة بردي شح عنها الماء، وفي اليوم الآخر رحلت أمه مخلفتاً في روحه جرحاً وهماً كبيراً.
ثم رجع الى الناصرية بخطى توشمها العذابات مر على عتبة بيت ظبية فرأى الدار فارغة وموحشة فأخبره باعة الرصيف بان أهل الدار قد غادروا المدينة. البعض قال انهم ارتحلوا الى قضاء (الفاو في البصرة) وبعضهم من قال انهم رحلوا الى العاصمة بغداد!!؟؟
لكنه علم في الاخير ان أهلها ارتحلوا الى الفاو فكان ينزف بطور الشطيت ويكرر بمقطع كان يلازم أغانيه ويتجلى فيه شعور الحسرة والفقدان .. بالفاو.. بالفاو.. ذباني زماني!!
ما أصعب أن يفقد العاشق حبيبته وأمه في وقت واحد وكيف لقلبٍ أن يتحمل كل هذا المصاب، حتى بات العاشق عليلاً واهناً مضرباً عن الطعام يطوف ويهذي حول دار حبيبته الغائبة وينام الليل على مسنايات الفرات.
وذات مساء موحش تجمع المارة على جسد ناحل كان مسجى فوق عتبة دار الحبيب المهجورة، في إغفاءت الرحيل الاخيرة !!
شعر الناس بالشفقة والتعاطف فحملوه وغسلوا جسده وكفنوه ووضعوه في نعش وبعد صلاة الفجر نقلوه في قارب من ضفاف نهر الفرات قاصدين النجف حيث مثواه الأخير في رمال مقبرة السلام وأمه التي كانت في انتظاره.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث