الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة انتاج الفكر والمعرفة !!

ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية

(Yasser Qtaishat)

2022 / 2 / 22
السياسة والعلاقات الدولية


لقد قضت المجتمعات العربية–وما زالت- قروناً عديدة أسيرة ظلام فكري واستبداد سياسي وتبعية خارجية عمياء، وعاشت عقوداً أسيرة كيانات محلية ضيقة محدودة. ودعمت سلطاتها الحاكمة نزعة الانتماء العقدي الذي مارست في ظله وباسمه الاستبداد المُجحف، لذا لا تحمل هذه المجتمعات رصيداً من التاريخ السياسي أو الحراك الاجتماعي الذي يهيئ لها قوى دفع ذاتي ورؤى مستقبلية وإمكانات لتحوّلٍ حضاري يماشي روح العصر.
لقد كان العصر العباسي الأول من أكثر العصور العربية والإسلامية إنتاجاً للفكر والمعرفة، فقد كان العلم مشروع دولة، حيث تبنّت الدولة العباسية استراتيجية شيوع العلم والمعرفة بين المسلمين، وأرسل الخليفة المأمون البعثات الدبلوماسية والعلميّة إلى إمبراطوية الروم، وحصل على عشرات الكتب القيّمة للحكماء والفلاسفة اليونان والغرب .
كما قام الخلفية المأمون بتوفير الدعم المباشر والمساهمة في ترجمة أغلب كتب الفلسفة والعلوم المختلفة وأسس عدداً من المكتبات العامة لنشر وتوزيع الكتب على العامة، فساهم في ذلك بإنتاج ونشر المعرفة والثقافة في بغداد وباقي المدن العربية والإسلامية، فضلاَ عن المجالس العلمية والفلسفية التي كان يعقدها الخليفة لمناقشة قضايا الدين والفكر والفلسفة باسلوب العصف الذهني والفكري .
أما اليوم، فالتراث الذي تحمله المجتمعات العربية هو تراث التشتتّ والمحليّة الضيقة والنظام الاجتماعي المنغلق وثقافة الانكفاء على الذات، وما زالت؛ رغم محاولات التغيير الظاهري لتجميل شكل الدولة من الخارج، امتدادا لنظام القبيلة أو الدولة-العشيرة، حيثُ القرار السياسي شأنٌ فردي خاص بالحاكم، وحيث المؤسسات الدستورية -إن وجدت- إنما تعتمد نهج التفويض لصاحب السلطان.
إن عقوداً طويلةٌ من ممارسة القمع والديماغوجيا (الغوغائية) عززّت من علاقات التبعية مع الخارج وقضت في المحصلة على مبادرات الشعوب وعممّت سلبيتها، وأصبحت "السلطة" هي المكوّن المثقِّف الوحيد وهي الصانعة المنتجة للوعي الاجتماعي والمحددّة لإطاره .
وأصبح المثقف تابعاً عاجزاً عن المواجهة والتحدي أو التعالي على ذاته. وأضحت "الثقافة والتعليم والفكر والمعرفة والبحث العلمي والإعلام" أدواتً لخدمة السلطة ولصوغ عقلية ونفسية المواطن "الصالح" المؤمن بفضيلة الطاعة ، فلم تموضع هدفها في بناء الإنسان حضاريا أو في إنجاز استراتيجية تنمويّة شاملة تقضي على التخلف الاجتماعي وتحررّ العقل العربي من الفكر التقليدي ، حتى لا تفلت السلطة من زمام القابضين عليها.
وبين الحداثة والتقليد وسلسلة التناقضات التي مرّت – وما زالت- بها الثقافة العربية، أصاب النظام الثقافي العربي انفصاماً سياسياً واجتماعياً عن الواقع، ساهم في ذلك فشل المنظومة التعليمية والعلميّة والمعرفية والبحثية في تحقيق الغايات الأساسية المطلوبة لنهضة المجتمعات العربية أو لبناء هوية ثقافية جديدة تمزج بين الأصالة والمعاصرة، وتُنتجُ الفكر والمعرفة والإبداع والوعي القيّمي .
وإن كان مفهوم "الأميّة" العامة قد سجّل معدلات مقبولة في العقود القليلة الماضية، فان "الإميّة الثقافية" بين المتعلّمين وحملة الشهادات الجامعية والعليا في ازدياد واضح، فالسياسات التعليمية التي اهتمت بالمنهاج –الآلية- وتجاهلت أهمية المنهج القويم –الخطة الشاملة - اقتصرت على ربط التعلّم بالتحصيل الدراسي المُحددّ بالتخصص الدقيق بعيداً عن البناء الثقافي والحضاري المتجدّد الذي يربط العملية التعليمية بمواكبة تطور العلوم والتكنولوجيا الحديثة والرقميّة، بدليل أن نسب المتعطّلين في المجتمعات العربية هم من حملة الشهادات الجامعية والدراسات العليا في الميادين العلمية والأدبية .
وفي التصنيفات العالمية المشهورة لأفضل الجامعات في العالم، وفق مؤشرات مختلفة للتعليم والبحوث العلمية ونشر المعرفة والمخرجات الأكاديمية، حصلت (14) جامعة عربية فقط ( من السعودية ومصر والأردن ولبنان والبحرين وسلطنة عُمان) على مراكز متأخرة ضمن أفضل (500) جامعة في العالم في مختلف التصنيفات العالمية عام 2016م.
وعلى صعيد نشر الثقافة والمعرفة، يعاني الانتاج المعرفي من ضعف شديد، حيث تُنتج كافة الدول العربية سنويا "كتاباً واحداً" لكل (13) ألف شخص، كما أن نسبة انتاج الوطن العربي من الأوراق البحثية العلميّة الى الانتاج العالمي، تعتبر منخفضة للغاية مقارنة بنسبة سكان الوطن العربي المقدّرة بـ (5.4%)، فيما لا تتجاوز نسبة الباحثين العرب (10%) من اجمالي الحاصلين على الشهادات العليا .
وعلى صعيد مراكز الدراسات والتفكير، فيشير تقرير "معهد لودر" المختص في متابعة وتقييم أهم مراكز الدراسات والتفكير في العالم، إلى أن أكبر عدد لمراكز التفكير في الوطن العربي موجودة في مصر وعددها (39) مركزا، ثم تأتي فلسطين بالمرتبة الثانية بعدد (34)، ثم العراق (30) مركزاً ولبنان (27) مركزاً ثم الأردن واليمن (26) مركزاً لكل منهما. علماً أن هناك الكثير من الجامعات والمراكز في المنطقة العربية لم تدرج في التصنيف نهائياً لضعفها وقلة انتاجيتها العلمية .
كما أشارت احصاءات المنظمةُ العالمية للملكية الفكرية (الويبو) لعام 2017م ، وهي إحدى وكالات الأمم المتحدة المتخصصة في الملكية الفكرية، إلى الأرقام المتواضعة التي سجلتها الدول العربية في مجال الاختراعات والملكية الفكرية، فقد تصدّرت السعودية قائمة أفضل خمس دول عربية قدّمت طلبات براءة اختراع للمنظمة بـ(378) طلباً، ثم الإمارات العربية المتحدة بـ (94) طلبا، ثم المغرب بـ (48)، ثم مصر (36) طلباً، وأخيراً دولة قطر بـ (26) طلباً.
وعلى صعيد التكنولوجيا الرقمية، فرغم وجود ملايين المستخدمين لشبكة المعلومات الرقمية "الانترنت" في الوطن العربي، والعدد في تزايد مستمر وبخاصة في المراحل العمرية الشابة، إلا ان المحتوى العربي على "الانترنت" ضعيف نسبياً، حيث كشفت شركة جوجل العالمية في دراسة لها عام 2013م أن هناك فجوة واسعة بين المحتوى العربي على الإنترنت وعدد المتحدثين باللغة العربية من مستخدمي الشبكة العالمية، فالمحتوى العربي على الإنترنت اليوم لا يتجاوز (4%) وهي نسبة ضئيلة جداً بالقياس لعدد المستخدمين الذين يستفيدون من اللغة العربية على الإنترنت والذين يصل عددهم إلى أكثر من (180) مليون مستخدم.
لقد اتسعت الفجوة المعرفية والرقمية بين البلدان العربية والعالم المتقدم ، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى أن تقانة المعلومات والاتصالات بحكم طبيعتها ذات قابلية عالية للاحتكار والدمج، وإلى ارتفاع كلفة إنشاء البنية التحتية لقنوات المعلومات فائقة السرعة ، وإلى تزايد هجرة العقول العربية إلى الخارج.
وهناك تفاوت معلوماتي شديد بين البلدان العربية نفسها، حتى تلك التي تتساوى في مستوى التنمية البشرية، وهناك عوائق تعمل على توسيع هذه الفجوة الرقمية داخل كل دولة عربية أهمها عامل اللغة الأجنبية ، وما زالت السياسات العربية التي تحاول التصدي لفجوة المعلومات تركز على البنية التحتية لقطاع الاتصالات والمعلومات والريادة الرقمية أكثر من التركيز على نشر التوعية والمعرفة والحداثة .
لا غرو أن تعاني الثقافة والمعرفة العربية من أزمة "التغريب" أو استيراد ثقافة ومعرفة الغرب ونشرها بصفتها ثقافة المدنيّة والتحضّر النموذجية ، وباتت الثقافة العربية في نظر أهلها مجرد "موروث" تقليدي ورجعي لا يمثل روح العصر ! .
إن ارتهان انتاج "الفكر والثقافة والمعرفة" العربية للأيديولوجية السياسية التي تمثّل الفرد /الحزب الحاكم في الدولة العربية، أدى لانحراف الثقافة عن مسارها الأخلاقي والقيمي في نشر الوعي وزيادة الانتاج الإبداعي بمنتهى الحرية والتحرّر، فكان النتاج الثقافي والمعرفي العربي ضعيفاً ومكبلاً بقيود السلطة والتبعيّة ومرجعيات "شيوخ السلاطين" ، الأمر الذي تعكس نتائجه الأرقام والمؤشرات أعلاه، حيثُ حالة الضعف وغياب الفعالية اللازمة لمنصات انتاج المعرفة والفكر والإبداع .
________________________________________

1. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي ، تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002م ، نيويورك ، 2002م
2. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي ، تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003م ، المطبعة الوطنية ، عمّان ، الأردن ، 2003م .
3.غليون ، برهان ، نحو تجديد العقد الاستعماري في العالم العربي ، موقع قناة الجزيرة الإلكتروني ، وجهات نظر ، 29/11/2004م ، نقلاً عن الرابط التالي :
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/2D169CBE-2C82-4271-AE8D-3A26BA9688B4.htm
4. التصنيفات العلمية والأكاديمية المشهورة هي : تصنيف "كيو أس" (QS World University)، وتصنيف شانغهاي (Shanghai)، وتصنيف التايمز (Times Higher Education) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية باريس 2024: إشكالية مراقبة الجماهير عن طر


.. عواصف في فرنسا : ما هي ظاهرة -سوبرسيل- التي أغلقت مطارات و أ




.. غزة: هل بدأت احتجاجات الطلاب بالجامعات الأمريكية تخرج عن مسا


.. الفيضانات تدمر طرقا وجسورا وتقتل ما لا يقل عن 188 شخصا في كي




.. الجيش الإسرائيلي يواصل قصف قطاع غزة ويوقع المزيد من القتلى و