الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
تعدد الساردين في رواية( بين حياتين) للكاتبة عبير خالديحيي بقلم أ.د محمد عبد الحميد خليفة
عبير خالد يحيي
2022 / 2 / 23الادب والفن
لا يعيش المرء في عمره المقدر له حياة واحدة بل حيوات متصلة تحت أثر التحول الذي يفرض على الإنسان فرضا من الخارج أو ينبع من داخله في حياة عامة ملؤها التغير والتبدل والتحول.
وعلى مدى واحد وعشرين فصلا حاولت الكاتبة عبير خالد أن تقدم لنا تجربة سردية يتقاطع فيها الاجتماعي مع النفسي، بالقدر الذي يتقاطع فيه الخيالي مع الواقعي والسير ذاتي.
غالية تلك المرأة ابنة طرطوس السورية التي تكتشف أن ابنتها نور الصغيرة يصاحبها في خيالها رفيق خيالي تخاطبه وترتبط وجوديًّا به، وعندما أخبرت أمها جدة الصغيرة، فاجأتها أنها كانت مثلها عندما كانت في سنها، تصادق هي الأخرى رفيقا خياليا هو عصام، وقد اهتمت غالية بمرجعية هذه الظاهرة النفسية لدى أطباء النفس عبر جوجل. لكن ليست هذه هي الحكاية التي أغرتنا بها الساردة والتي كان ممكنا أن تخلق منها سردا وحكايات تغوص بنا معها إلى سراديب النفس الإنسانية. وإنما تتجه بنا الساردة عبر فصول الرواية إلى حكاية غالية وحياتها التي انقسمت حياتين طفولة مع أمها وأخيها ومدرستها وأصدقائها صغيرة، وزوجة تلقفت أولى لكمات الحياة من قهر زوجها ونزقه وأمه معه ليتفننوا جميعا في قهرها زوجة وطبيبة، لتجد نفسها تتلقى العلاج النفسي فقط لأنها تعيش مع مرضى نفسيين، ثم تهرب من سلطته وأمه وحالة الانفلات الأمني التي داهمت سوريا إبان ثورة الربيع العربي بها إلى لبنان بصحبة نور أملها الوحيد في مواصلة الحياة حتى تستكمل نور تعليمها الجامعي بالجامعة الأمريكية بلبنان وتتعرف هنالك بسامي الذي تعرف فيما بعد أنه قد ولد يوم ولادة نور وبذات المشفى ، حيث تنكرت أمه له ورفضت أن تمنحه أمومتها واسمها فلم يكن زوجها وحماتها أحسن حالا من زوج غالية وحماتها، فكلتاهما نالوا ألوانا من القهر والتعذيب النفسي والمادي وكان صدر زوج أبيه أحن إليه من صدر أمه التي اختارت أن تمنح أمومتها لابن أختها قاطعة كل سبيل بماضيها، زوجها وابنها سامي.أما غالية فتكتشف هنالك عبر شبكة التواصل الاجتماعي رجلا نبيلا قيده الله لاستنقاظها من مهاوي السقوط والتحطم النفسي ليبعث فيها الامل من جديد ويعلمها فن الحياة ، لتبدأ حياتها أديبة واعدة بفضل معلمها ومرشدها، في الوقت الذي اختاره زوجها مصطفى أن يتزوج بأخرى في عمر ابنته ويهاجر بعيدًا.
وقبل أن ننتقل إلى التقنيات التي استخدمتها الكاتبة في تقديم حكايتها نشير إلى قضية المرأة التي احتلت جانبا مهما في روايتها ننتقل فيها من خاص ما حكته إلى عام حال المرأة في بلداننا العربية، فاللافت في الرواية هو صورة المرأة المقهورة التي تضافرت سلطات اجتماعية متمثلة في التقاليد الشرقية والدينية والذكورية في كبح صيرورتها نحو تأكيد وجودها، فلقد درجت الرواية الحديثة على ذكر ذلك القهر الممارس عليها الذي ينتهز جهلها وضعفها الأنثوي وقلة حيلتها ومحدودية ثقافتها فالكاتبة _في ظني_ في هذه الرواية قد قدمت جديدا فالمرأة المقهورة هنا بهذه السلطات المذكورة لم تشفع لها ثقافتها ولا تعليمها في ممارسة القهر عليها من حماتها أو زوجها أو مجتمعها، فغالية طبيبة ومثقفة، وأم سامي كانت هي الأخرى مهندسة عاملة ومع ذلك وقعتا أسيرتين لهذا القهر الذي شوّه نفس غالية كما شوّه وجه أم سامي، وهنا فإن الكاتبة تؤكد مدى الظلم الواقع على المرأة العربية مؤكدة انتصار الذكورية والقهر الاجتماعي على محاولات التحرر في زمن ينادي بحقوق المرأة, إنها هنا تثبت فشل الوعي المدني الجديد وتهافته أمام تجذّر الجهل واستعصاء التقاليد المتوارثة ععلى التغيير والتطور.
**
ربما تكون هذه هي الحكاية في متنها، غير أن اللافت فيها هو مبناها، وقد استطاعت الكاتبة أن تبني حكايتها بناء لافتا كثفته على التعدد والتنوع في الأصوات الساردة فجاءت رواية تعدد ساردوها، فهناك السارد العليم الذي يحكي جل فصول الرواية عن غالية وأمها وابنتها بل ورفيقها الخيالي ومعلمها. كقوله في بداية الفصل الثاني (رسائل الماضي) :
( أمّا صديق غالية الخيالي، فطفل عمره تسع سنوات، مليح الوجه، أبيض البشرة، خدوده مشرّبة بحمرة خفيفة, أنف طويل يبدأ مستدقًّا ينزل من جبهة عريضة, يبرز باستقامة منحدرًا بلا تحدّب لينتهي بأنَفَة فوق فم رقيق الشفاه)
كما تأتي بعض فصول الرواية تولى السرد فيها رفيقها الخيالي عصام كما في الفصل السادس ( أيام عذرية) :
تتراكب على ظهري عقارب الزمن وأنا منغمس في فضاء أيامها, أقرأ في ملف ذكرياتها, لأقف على ما لم أعايشه من أيامها, ملجومًا عن مباشرة سؤالها, مكتفيًا بما تجود به ذاتها, محترمًا خصوصيّتها, بعض الذكريات المدونة تكشف الكثير من أغوار الذات, وعن هذه الأغوار كنت أبحث...
وجدتُها تتحدّث عن جدّتها بنصّ طويل جدّا, استغربت عنوان النّصّ ( أيّام عذريّة).
، ثم تفسح الكاتبة لنور ابنتها أن تتناوب في سردها عن أمها غالية وجدتها كما في الفصل الرابع عشر ( هواجس):
(كان مجيء أمّي إلى بيروت رحمة كبيرة, حمدتُ الله عليها كثيرًا, أن أعود إلى حضنها, أنعم بحنانها, وأنتعش بأنفاسها, أطمئن أنّها خارج نطاق الوحدة المقيتة التي كانت تخاف منها كثيرًا, كانت خالتي سما قد استأجرت لنا شقّة مجاورة لشقّتها, قامت بتوضيبها على أكمل وجه, استقبلنا فيها أمّي غالية, الغالية التي سرق منها الإنهاك نضارة وجهها, الأربعينيّة التي كانت عصيّة على الانكسار, ما زادتها الخطوب إلا حبًّا بالعطاء, تقيس السعادة بمكيال البذل والسخاء, لا أشكّ ولا للحظة أنّها تدفع في سبيل سعادتي حياتها, لو قايضها الموت عليها)
ويحظى سامي هو الآخر في الفصل الخامس عشر بمساحة سردية لا بأس بها يحكي فيها مأساته مع أمه وأبيه، ولم تنس الكاتبة أن تمنح مساحة أخرى للجدة أم غالية أن تحكي فيه ماكان من ظاهرة الرفيق الخيالي لغالية حين كانت صغيرة وذلك عبر يومياتها التي دونتها وأتيح لغالية حينما كبرت أن تقرأها، وتختم الكاتبة في الفصل الأخير حال التعدد في بناء أشبه بالميتاسرد يتحدث السارد العليم الذي يتماهى مع معلمها مشتبكا مع صوت رفيقها الخيالي وصوت غالية ذاتها.
(-"هل لي أن أكشف لكم عن السارد العليم؟ "
-"أنا السارد العليم, أنا .. عصام".
-" لا, ليس أنتَ بل أنا".
-"بل أنا عصام, رأتْني غالية فيك حينما تلبّستُك".
-" أنت آذيتَ غالية, وأنا لا يتلبّسني مخاتل مثلك". ...
أما أنا, فحياتي الجديدة رسالة متروكة في صندوق البريد, أطّرتُها في صورة, علّقتها على ناصيتي, حروفها تتراقص فرحًا مع كلّ إنجاز أعيشه في الحياة التي فزت بها عندما انتشلتني يد سمحاء من عنق الزجاجة, من قبري الذي دفنتُ فيه يأسي وبؤسي, قال لي أنّه يبحث عنّي منذ عشر سنوات, ليعطيني خلاصة علمه, وكلّ ما في عقله, لكن عليّ أولًا أن أعود إلى الحياة, فالميت لا يحتاج علمًا, وعليّ، أن أؤمن بنفسي, أمانة الله عندي, وعليها سيحاسبني الله, ومضيت معه أتعلّم فن الحياة... )
إن هذا التنوع أكسب الرواية دينامية وذلك لاختلاف الساردين جعلها بمنأى عن الملل الذي يلحق بعض الروايات ذات السرد الأحادي.
ظاهرة أخرى تعكسها لغة السرد وهي الشعرية التي أتاحت للسارد التعبير الاستعاري عن الحالات والمواقف ذات التأثير البالغ في حياة بطلة الرواية غالية وقد حكمت هذه اللغة الجمالية الرواية إلى حد وجود قطعة سردية أشبه بقصيدة النثر صدرت بها الفصل السادس عشر (زوبعة):
(مأسورون عند سجون المتعبين..
تتكسّر حيواتنا بين أعراض أمراض
محظوظون إذما تخطّونا..
تنجو خيالاتنا من شره سطوتهم..
فشلوا في اقتناص أعضائنا النبيلة
زعموا أنّها مِرارٌ عفِن !
لا تستحق اللَّوك !
شاهت الوجوه..
أكلت خلايانا الزائدة..
ترقّعت جلودُنا
أما كفاهم ما نهشوه؟
ما عاد في الجراب ألعابٌ يا حاوي
فُضّ المزاد ..
ونفذتْ كلّ الأنتيكات..
لم يبقَ من القهوة إلّا رشفة
تقابل –عند المفلسين- كلّ الرشفات المغتصَبة
لم يبقَ إلّا شهقة ..
فيها خلاص..
فيها انتصار..
نضنّ بها على السجّان. )
, وهنا أُؤكد أن الرواية قد ابتنتها المؤلفة على تعدد الساردين لا تعدد الأصوات كما يبدو للبعض إذ التعدد الصوتي البوليفوني كما وضعه باختين يقتضي لونا من الأسلبة اللغوية, حيث تكشف لغة السارد عن شخصيته وثقافته, أماهنا فتكاد تكون لغة السرد واحدة بشعريّتها رغم اختلاف الساردين.
وقد حاولت الكاتبة دعم خطابها الروائي بالبعد المعلوماتي وهو لون كثر انتشاره في الرواية الحديثة، غير أن هذا التناول يوشك أن يوقع صاحبه في فخ التزيّد على الجسد السردي بقدر ما يلقي أضواء كاشفة خلف كواليس الحكاية، وقد جانبها الصواب في بعض المواضع بقدر ما أصابت في مواضع أخرى ، فمن الذي جانبها الصواب فيه، حشر السرد الحكائي بمقاطع عن حرب أكتوبر ٧٣ في السرد والحوار معا، في ذات الوقت أصابت في إلقاء الضوء معلوماتيا على البعض من جوانب الحياة الاجتماعية ذات الصبغة المحلية السورية.
**
وأخيرًا فإن عنوان( بين حياتين) الذي اختارته عنوانا للرواية برمتها يتسع إلى دوائر ثلاث، فغالية تحيا حياتين متناقضتين، مقهورة اجتماعيا, إلى أن وجدت مخلصها الذي بشرها بحياة جديدة. الأمر نفسه لدى أم سامي التي عاشت حياتين أولاهما تحت قهر الحماة والزوج، والثانية بعد ولادتها وإعطائها ظهرها لأسرتها كاملا وسفرها لتبدأ حياة جديدة في إيطاليا. وثورة الربيع العربي التي اشتعلت بالوطن العربي وسوريا على وجه الخصوص قد تكون هي الأخرى فاصلا بين عهدين وحياتين بالمجتمع في مواجهة السلطة. كما تتسع الدائرة الثالثة لدلالة العنوان لتكشف بدورها تواصلا بين حياتين لغالية واقعية معيشة , وافتراضية موازية مع رفيق خيالي متوهم. إن هاتين الحياتين في مستوياتها الثلاث تشكل ثلاث ثنائيات متعارضة حاولت الكاتبة أن تجمع بينهما لكشف حجم المفارقة التي يعيشها الإنسان وتحكم وجوده.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف
.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص
.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة
.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس