الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصين والولايات المتحدة .. إدارة التنافس والصراع (1)

ياسر قطيشات
باحث وخبير في السياسة والعلاقات الدولية

(Yasser Qtaishat)

2022 / 2 / 23
السياسة والعلاقات الدولية


استهلال

تُمثّلُ العلاقات الصينية – الأمريكية حالةٌ خاصةٌ ونمطاً فريداً من العلاقات الثنائية؛ إذ تجمع بين كافة عناصر التنافر والتنافس والتعاون، حيث تشهد احياناً تعاونٌ استراتيجي وتبادلاً تجارياً يصل حد التكامل الثنائي، وأحياناً أخرى تصل حد النزاع والخصام، بدرجات متفاوتة، وهذا طبيعي في ظل تنافس الطرفان في ميادين التجارة والاقتصاد والسياسة والتنمية والاستقطاب الإقليمي والدولي.
وقد تتأرجح علاقتهما في منتصف الطريق بين الاندماج وحافة الهاوية ، أو التهديد بشن "حرب تجارية" متبادلة، انتقاماً من سياسات أو اجراءات يتخذها طرفاً تجاه الآخر، خاصة في المجالين التجاري والأمني، بخصوص الخلاف في بحر الصين الجنوبي والشرقي وشبة الجزيرة الكورية وأمن المحيط الهادئ، ومع ذلك فان العلاقة بين الصين والولايات المتحدة توصف بأنها العلاقة "الأكثر أهمية في العالم" أو علاقة " الاثنين الكبار" "G2" في النظام الدولي؛ والتي تُطلق عليهما حصراً .
ولا شك أن وضع الصين اليوم كأبرز وأهم قوة صاعدة في العالم، تشهد نمواً متسارعاً في التجارة والاقتصاد والتكنولوجيا والتسلّح ، وتحقق أرقاماً مذهلة في التنمية والإصلاح والتوسّع والانتشار الدولي، وتصنّف في المرتبة الثانية كأقوى اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية، مقابل القطب الأمريكي الأوّحد المهيمن على توازن القوى الدولي، أثار حفيظة المنافس الأمريكي وشكّل له خوفاً متزايداً منذ ثلاثة عقود، على الأقل، وانشغلت مراكز صنع القرار والأبحاث الأمريكية لوضع الخطط والاستراتيجيات الكبرى لاحتواء الصين وإبقائها تحت المظلة الأمريكية للحيلولة دون صعودها بقوة للتربّع على عرش النظام الدولي.
حيث يتوقع خبراء الاقتصاد أن يحتل الاقتصاد الصيني المركز الأول في العالم عام 2022، بعد أن أزاح بسهولة كلاً من اليابان وألمانيا عن المركزين الثاني والثالث على التوالي، ويستعد قريباً لإزاحة الاقتصاد الأمريكي عن المركز الأول، ويؤشر البعض على صحة ذلك باعتبار الصين أكثر دول العالم كثافة سكانية تحقق نمواً مرتفعاً بنسبة (10%)، وتعتبر أكبر مصدر للولايات المتحدة، فضلاً عن كونها المدين الثاني للولايات المتحدة، وبفائض تبادل تجاري مع واشنطن وصل الى أكثر من (375) مليار دولار لصالح بكين في عام 2017م( ).
ووفق بيانات صندوق النقد الدولي فان معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي في الصين قد بلغ (6.7%) في عام 2016م مقارنة بـ (1.6%) للولايات المتحدة ، كما يتوقع أن يبلغ معدل النمو في الصين عام 2022م نحو (5.7%) ، مقارنة بنحو (1.7%) في الولايات المتحدة ، وهذه الأرقام تؤكد أن الاقتصاد الصيني يعززّ مكانته على عرش الاقتصاد العالمي في ظل استقرار مالي ومعدلات تضخم تقل عن (3%) مقارنة بالولايات المتحدة التي تشهد تراجعاً لمعدلات النمو وارتفاعاً في مؤشرات التضخّم( ).
ورغم مرور أكثر من أربعة عقود ونصف على تطبيع العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، الا إن علاقتهما ما زالت "معقّدة" للغاية، ويكتنفها التنافس في كل المجالات، خاصة في المجال التجاري، موضوع هذا التقرير البحثي، حيث سجّل التبادل التجاري بينهما في عام 2017م أكثر من نصف تريليون دولار، كما يميل الفائض التجاري لصالح الصين منذ ثلاثة عقود ، فيما تتكبّد الولايات المتحدة خسائر بالمليارات بسبب السياسات الاقتصادية والتجارية الصينية، الأمر الذي طالما أعاق استقرار وديمومة العلاقات بينهما ، فتنسحب الخلافات التجارية الى ميدان السياسة والشعارات الانتخابية التي يطلقها كل رئيس جديد للبيت الأبيض.
ومنذ مطلع الألفية الثالثة، ازدادت الخلافات التجارية بين الطرفين، خاصة من طرف الإدارة الأمريكية، حتى وصلت الى مرحلة اعلان "الحرب التجارية" على الصين باستخدام أسلحة الرسوم الجمركية والضرائب على السلع والمنتجات والشركات الصينية، حيث تتهم واشنطن بكين بأن سياستها التجارية غير العادلة وقرصنة حقوق الملكية الفكرية للعلامات التجارية الأمريكية، وإغلاق السوق الصيني أمام الواردات الأمريكية، وانخفاض عملة "اليوان" الصينية .. الخ كلها أسباب ساهمت في عجز الميزان التجاري الأمريكي .

لمحة تاريخية :
بدأت العلاقات الصينية الأمريكية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتحديداً إثر توقيع معاهدة "وانجيا Wanghia" بين الطرفين عام 1844م والتي بموجبها منحت الصين الولايات المتحدة الأمريكية امتيازات تجارية واقتصادية كبيرة أسوة ببريطانيا وباقي الدول الأوروبية، ومنذ ذلك الوقت أصبحت العلاقات بين الجانبين تشهد شداً وحذب، صراع وتعاون متباين، وأحياناً متناقض.
بعد قرنٍ من العلاقات المتباينة وتحديداً في عام 1949م وبعد سقوط نظام الامبراطورية في الصين وتأسيس جمهورية الصين الشعبية بزعامة الشيوعيين تحت قيادة "ماوتسي تونغ"، انتهجت سياسة العزلة الذاتية لترتيب البيت الداخلي، رغم تدخلها العسكري في الحرب بين الكوريتين خلال الفترة 1950-1953م، كما تحالفت مع الاتحاد السوفيتي ضد الامتداد الأمريكي في الاقليم، فانعكست تلك التطورات سلباً على العلاقات الصينية الأمريكية ، حيث فرضت الأخيرة الحظر على التجارة مع الصين .
وخلال الفترة (1959-1963) تفككّ التحالف بين الصين والاتحاد السوفيتي، فأصبحت العلاقة في توازن متنافر بين ثلاثي الأضلاع (الصين والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة) وظلت الصين تعارض النفوذ والتدخل السوفيتي والأمريكي في دول العالم الثالث، وبقيت العلاقات في توترٍ مستمرٍ بسبب الأزمات الإقليمية خاصة : أزمة مضيق تايوان الأولى عام 1954م، وانتفاضة التيبت عام 1959م، والتجربة النووية التي أجرتها بكين عام 1964م.
بدأت اللقاءات السرية بين الطرفين بداية العقد السابع من القرن المنصرم، حيث شعر الطرفان، خاصة الولايات المتحدة، بضرورة تجاوز الخلافات السياسية لوضع حدٍ للنزاعات والاضطرابات في الاقليم، لاسيما نزيف الحرب في الهند الصينية والحرب الهندية الصينية وصراع الكوريتين وحرب فيتنام، نتيجة ذلك قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كسينجر بزيارة تاريخية الى الصين عام 1972م واجتمع خلالها بالرئيس الصيني "ماوتسي تونغ"، فكانت الزيارة الخطوة الرسمية الأولى لإرساء التفاهم والسلام بين الطرفين بعد أكثر من عشرين عام من الخصام والقطيعة .
وصدر عن الاجتماع "بيان شنغهاى" الرسمي ؛ والذي تعهد خلاله الطرفان "بالعمل من أجل تطبيع العلاقات بينهما" إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث آنذاك، بسبب الظروف الداخلية في كلا البلدين : فضيحة "ووترجيت" الأمريكية ووفاة "ماوتسي تونغ" وتحديّات اقليمية أخرى، وبقي الحال كذلك حتى تولى الرئيس الأمريكي كارتر رئاسة البيت الأبيض عام 1978م، فأرسل مستشار الأمن القومي "بريجنسكي" للصين بهدف المضي قدما في تطوير العلاقات ، فتم الاتفاق على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين البلدين اعتبارا من يناير/كانون الثاني 1979م، وسحب الولايات المتحدة لقواتها العسكرية من تايوان ووقف العمل باتفاقية الدفاع المشترك وتقطع علاقاتها معها .
وكانت نقطة التحوّل في العلاقات السياسية بين الطرفين، إثر اعتراف الرئيس الأمريكي الأسبق "جيمي كارتر" عام 1979م تبنيه شعار سياسة "الصين الواحدة" الذي ترفعه الصين منذ منتصف القرن الماضي، بصفتها -جمهورية الصين الشعبية- هي الجهة الرسمية الوحيدة المخول بتمثيل الصين في المحافل الدولية ، وأن "تايون" جزء من سيادة الصين الأم، لذلك قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع تايون، لإقامة وتقوية علاقاتها السياسية والاقتصادية مع جمهورية الصين الشعبية .
وقام الزعيم الصيني "دنغ شياو بنغ" بزيارة شهيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1979م، بهدف الاستفادة من التكنولوجيا الغربية وعقد صفقات تجارية بينهما، فتم توقيع بيان تعاون ثنائي بين البلدين عام 1982م أهم ما ورد فيه وعد أمريكي بتحقيق السلام في مضيق تايوان وتخفيض الدعم العسكري وسابق التسلح، ثم توالت الزيارات بين البلدين، بهدف ارساء قواعد قوية في المجالات الاقتصادية والتجارية، وتم خلال هذه الزيارة توقيع اتفاقية الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
لقد ظلت الصين واحدة من أهم قضايا الحملات الانتخابية للرئاسية الأمريكية منذ عام 1980م، فكانت الصين محور اهتمام كل المرشحين للبيت الأبيض، ولطالما كانت "اللغة الحادة" هي شعار المرشحين بهدف "دغدغة" مشاعر الناخب الأمريكي، خاصة في قضايا التجارة وحقوق الانسان، ثم ما تلبث أن تدخل العلاقات في طور التقدم والبناء، فما من رئيس أمريكي انتقد سياسة سلفه حتى اضطر لتنمية علاقات بلاده مع الصين، خاصة في مجالات الاستثمار والتجارة .
لذلك؛ وخلال الفترة (1982-1989م) أخذت العلاقة بين الجانبين شكلاً من التعاون الاستراتيجي، وعمدت الصين الى سياسة الانفتاح والإصلاح بهدف العمل على نقل التكنولوجيا الأمريكية والغربية اليها، فيما سعت الولايات المتحدة للاستثمار بالسوق الصيني الذي يشهد نمواً سريعاً، الأمر الذي شكّل فرصة لتلاقِ المصالح المشتركة بينهما .
وإثر أحداث ساحة "تيان آن مين" عام 1989م( )، اتخذت الولايات المتحدة سلسلة اجراءات عقابية ضد الصين، من بينها وقف الصفقات العسكرية والتجارية بين البلدين، وأدانت الصين التدخل الأمريكي في شؤونها الداخلية، فدخلت العلاقات في فترة جمود وركود بحجة الدفاع عن "حقوق الإنسان" من المنظور الأمريكي.
وفي عهد الرئيس الأمريكي "بيل كلينتون" خلال فترتي الرئاسة (1993-2001م) تحسنت العلاقات التجارية والاستثمارية بين الطرفين، وتمّ منح الصين أفضلية التجارة وساعدتها في الانضمام لمنظمة التجارة العالمية عام 2001م.
ورغم اعتراض الصين على السياسات الأمريكية في العالم، خاصة في الشرق الأوسط ، بعد أحداث 11 سبتمبر عام 2001م، ورفض الصين للحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق عام 2003م وكل ما تلا ذلك من سياسات أمريكية "استباقية" تحت مسمى "مكافحة الارهاب"، رغم كل ذلك لم تتأثر العلاقات السياسية والتجارية بين الطرفين بشكل ملحوظ، حيث استمرّ التعاون والتنسيق بينهما في مختلف المجالات، خاصة التبادل التجاري .
وتعاونت الصين إلى حد كبير مع الولايات المتحدة للمساعدة على تخفيف آثار الأزمة المالية الكبرى عام 2008م، فقامت بإطلاق إطلاق حزمة من الحوافز الاقتصادية الضخمة للحفاظ على النمو الاقتصادي فيها، وتنامى وضع الصين الاستراتيجي بقوة خلال العقد الأول من الألفية الثانية.
وفي عام 2009م زار الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" الصين، وتم تدشين مرحلة جديدة من المصالح الأساسية بين الطرفين، فيما قام الرئيس الصينى "هو جين تاو" بزيارة الولايات المتحدة في عام 2011م وتم توقيع عقود لتعزيز الاستثمارات بين الطرفين، الأمر الذي أدى إلى تحسين المناخ بينهما وساهم في تحقيق فهم أفضل لطبيعة السياسات التجارية التى ينتهجها كل جانب.
ورغم تشابك وتداخل المنعطفات في العلاقات الصينية الأمريكية، ورغم ما تشهده العلاقات السياسية والاقتصادية، في عهد الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" منذ عام 2016 وحتى اليوم من "تداعيات سلبية" إثر "الحرب التجارية" التي أطلقتها الولايات المتحدة ضد الصادرات الصينية، وردت عليها الأخيرةُ بالمثل، إلا أن العلاقات بين الجانبين حافظت على درجة مقبولة من الاستقرار العام، وحققت تقدماً ملحوظاً خلال الألفية الجديد، خاصة في الجوانب التجارية والاقتصادية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟


.. ماكرون يثير الجدل بالحديث عن إرسال قوات إلى أوكرانيا | #غرفة




.. في انتظار الرد على مقترح وقف إطلاق النار.. جهود لتعزيز فرص ا


.. هنية: وفد حماس يتوجه إلى مصر قريبا لاستكمال المباحثات




.. البيت الأبيض يقترح قانونا يجرم وصف إسرائيل بالدولة العنصرية