الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محترفو المعارضة

نصير عواد

2022 / 2 / 23
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


الشائع في البيئة السياسيّة المضطربة إنّ أيّة فكرة جديدة او مخالفة للسائد سيتم وضعها في خانة المعارضة، وسيحمل مصطلح "المعارضة" دلالات سلبية حتى لو كان اصحابه يمارسون أدوارا إيجابية ولديهم حجج وأدلة دامغة. في المشهد السياسيّ العراقيّ، بعد تسعة عشر عاما على سقوط الديكتاتور، لا يمكننا الحديث عن معارضة حقيقية ومنظمة، ولا الحديث عن دولة مؤسسات قادرة على تنظيم العمل السياسيّ بالبلد، وما زالت النخب العراقيّة تخوض في عملية سياسيّة من صنع الاحتلال، انتجت أحزاباً حاكمة وأخرى "معارضة" تعمل وتفكر ضمن العملية السياسيّة الطائفيّة، الأمر الذي أدى إلى نشوء وعي جديد معارض للسلطة ومتشكك بالأحزاب ورافض لصيغ الالتزام السياسيّ، يصب في خانة الفوضى والليبراليّة. المعارضون الجدد إشكاليون، ليس فقط بسبب غموضهم وغيابهم عن الواجهات الرسميّة بل كذلك بسبب موضوعاتهم وقدراتهم على إنتاج ونشر افكارهم الرافضة لكل ما هو موجود على الساحة العراقيّة من أسماء وعناوين. هذه المعارضة نشأت خارج دائرة الاملاءات الحزبية، يغلب عليها الطابع الفرديّ، عمودها الفقري من المثقفين والكتّاب والسياسييّن الذين يعارضون اليسار واليمين، المقدّس والدنيوي، ويضعون مشاكل المجتمع في مقدمة أولوياتهم، إلى جانب رغبة قوية في إعادة العراق إلى سالف عهده وعنفوانه. هذه الاستقلاليّة ساعدت "المعارض" بالبقاء وسط الصراع، والاشتغال عند الخطوط التي تفصل بين الأحزاب المتدافعة، ينشط فرديّا عند هامش خطر قد يحدد فيها موقف او كلمة مصيره. على الرغم من ان الموضوع العراقيّ هو المفضّل لدى هذا "المعارض" إلا أنه لا يالو جهدا في دعم القضية الفلسطينية، ويقف ضد الحرب الظالمة باليمن، وتمتد اهتماماته أحيانا إلى أمريكا اللاتينيّة وقضايّا العالم الملحة، وخلف كلّ ذلك تستقر فكرة ثابتة في رأسه مفادها أن كلّ ما يحدث من اضطرابات سببه الغرب الامبريالي وذيوله.
إنّ أغلب "المعارضين" موضوع مقالنا هم من مستويات علميّة وثقافيّة جيدة، لكثير منهم دراسات وكتب منشورة، ويتمتعون بقدرات على التحليل والنقد جاذبة للعامة، إضافة إلى تجارب سياسيّة خائبة مع الاحزاب التي كانوا يعملون فيها، تركت في أرواحهم جروحا لا تمحى. وهناك الكثير من الأسماء التي يمكن إيرادها ولكنها ستكون حقل ألغام. أردنا القول ان الأحزاب اليساريّة التي واجهت الحكومات السابقة، والتي قاتلت وسُجنت وشُردت، هي أساس هذه "المعارضة" وتاريخها البعيد، ولكن بعد سقوط الصنم وتصدع القيّم تحوّل كثير منهم إلى ليبرالييّن ومتطرفين وفوضوييّن وعدمييّن. صحيح ان آراء هؤلاء المعارضين تشكّل قطيعة مع السائد من أحزاب وسياسات وأسماء، ولكن في نظرة عامة على خطاباتهم سنجدها لا تخلو من والأفكار والمصطلحات التي كانت تتسلح بها تلك الأحزاب، وسنجد عند كل "معارض" بقايّا رومانسيّة ليسارية النصف الثاني من القرن الفائت. إنّ التغييرات الحادة التي حصلت بالعراق، إلى جانب التراجع البيّن للأيدولوجيّات الكلاسيكيّة، أدى إلى اختلاف "المعارضة" الجديدة عما سبقها من معارضات وتكتلات حدثت في الماضي، ولكنها في الواقع امتداد لها، وإنْ كانت بتوليفة صلدة ومعاندة، تعاني ظلم ذوي القربى، وتفتقد مساحة الحوار والتراجع التكتيكي عن مواقفها، وهو ما جعلها لا تذهب بعيدا عن الأطر التي خرجت عليها. هذه الخلفية اليساريّة والوطنيّة لـ"المعارض" ساهمت في ان يضع الشرائح الفقيرة في سلم أولوياته ويقدم نفسه كجزء منها، وان يستخدم أسلوبا مألوفا في الحوار معها من دون ان يتكلم باسمها، فلقد ساعدته خبراته السابقة في تقديم نفسه كشكل من اشكال الحضور الثقافيّ-السياسيّ القريب من هموم الناس والبعيد عن التعالي والنصح الفارغ. هذا "المعارض" قد لا يتواجد بين الناس في حياتهم اليوميّة، وقد لا يوزع المنشورات السْريّة ولا يتواجد في الصفوف الأماميّة للتظاهرات ولكن حين يعود هؤلاء إلى بيوتهم سيكونون بحاجة إلى توثيقه للأحداث وإلى رؤيته المختلفة للمشهد.
بالعراق اجتمعت الكثير من الظروف لتصنع شرائح وطنية "معارضة" تهتم لمشاكل العراق وتجيد تناولها، تعيش على هامش العملية السياسيّة التي صنعها الاحتلال، وتعاني من اخطار القتل والتشريد. شرائح غير محدّدة المعالم ولا انسجام فكري بينها. يتقاسم افرادها أفكارا تهم المجتمع، قد يلتقون عند نقطة معينة، ولكنهم لا يتفقون على بلورتها. لديهم حضور ورأي في الشارع العراقيّ، ويقدمون انفسهم على انهم وطنييّن ومنتجين للأفكار، ولكن لا تنظيم او مشروع سياسيّ عندهم يدير الصراع. لأنهم إذا فعلوا ذلك سيكونون اشبه بالأحزاب الكلاسيكيّة، وهذا ما يرفضونه ويفضلون عليه البقاء في الهامش. هم ملتزمون بما يجري على الأرض من صراعات واحداث؛ يكتبون عن الفساد في ميناء البصرة، ويتوقفون طويلا عند مقتل شاب متظاهر في ساحة التحرير، وهم في كل ذلك يدافعون عن قضية في رؤوسهم من دون انتظار للتوجيهات الفوقيّة التي تحدد الأسلوب والغرض والتوقيت. خطابهم الراديكالي يتقاطع مع الأحزاب وليس مع المواطن، يمقتون فيه الحلول الوسطيّة ويربطونها من بعيد بالضعف والانتهازيّة. إنّ الطابع النخبوي لهذه الشرائح، التي تجادل وتكتب يوم بيوم، يشير إلى انهم بؤرة جاذبة لأعداد كبيرة من المتذمرين والفقراء، لكنهم لا يستطيعون توحيد هذه الاعداد وتنظيمها في أحزاب سياسيّة او كيانات ثوريّة، وقد سبق لبعضهم ان بادر لتأسيس "حزب" ولكن سرعان ما انفرطوا وانطفأت عناوينهم في زحمة الصراعات الطائفيّة. فثقافة المعارضة شيء، وتأسيس حزب شيء آخر له ظروفه وضروراته. ناهيك عن ان المشكلة هي في احزاب السلطة المستندة إلى المال والسلاح، في حين ان المعارضين الوطنييّن، كأفراد، لا يملكون لا هذه ولا تلك. بل هم غير قادرين على التنسيق فيما بينها كــ"معارضين" لتأسيس صحيفة او موقع الكتروني كمنبر للمثقفين والمعارضين. استمروا في حالة توتر مع الذين من حولهم، وبالذات رفاقهم القدامى.
إنّ اهتمام المعارض، موضوع مقالنا، بهموم الوطن والمواطن استدعى شكلا من العلاقات الاجتماعيّة-السياسيّة، ليس بالضرورة ان تكون الأحزاب والمؤسسات الرسمية محوره، وقد تكون النشاطات الثقافيّة ووسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة المكان المفضل له، إذ لا وجود مؤثر لمعارض دون وسائط توصل أفكاره. ولكن بقيت حياة المعارض العراقيّ في خطر دائم، وانه لا وجود لمكان او منصة يمارس فيها نشاطه وتنطلق منها تحركاته، في ظل سلطة طائفيّة لا ترحب بوجوده. بعض هذه المعوقات تَكفّل الزمن بحلها، فسهولة النشر وتطور وسائل التواصل الاجتماعيّ أخرجت الجميع من عزلتهم ليقولوا ما لا يقال في فضاءات أخرى. ولكن "المعارض" بقي دائم التبرم من كل شيء بما فيها وسائل التواصل الاجتماعيّ التي تُعتبر وسيلته المفضلة. فتجده يشكو من سطحيتها وانتشار الغث والسمين فيها، وفي ذات الوقت تجده هو الأكثر تواجدا على صفحاتها، يرد على الجميع، إنْ كانوا معه او ضده، باستثناء المديح، فذلك يدغدغ نرجسيته. إنّ تبرم "المعارض" الدائم طال حتى الفعاليات الجماهيريّة المطالبة بالحقوق، إذا لم تتفق مع رؤيته. فتراه يوجه سهامه ضدها ويتصيد اخطائها يوم بيوم ويبحث عن تاريخ قادتها، بحجة النقد والتقويم، كما حدث مع تظاهرات تشرين في ساحة التحرير. إنّ تحوّل المعارضة إلى سلوك يوميّ، ضد كلّ السياسات والفعاليّات والاسماء اعطى الانطباع بان المعارضين أصحاب أقوال لا أفعال، وأنهم يعارضون من أجل المعارضة فقط، الأمر الذي أدى إلى التعامل مع شطحاتهم ولغتهم الأنيقة اشبه بالوجبات السريعة التي لا تحدث تغيير حقيقي في الموازين. في الواقع هذه "المعارضة" المليئة بالمتناقضات تنسجم مع العملية السياسيّة الخربة بالعراق، ملازمة لها كضد نوعيّ. معارضة لا تقلق فقط أحزاب السلطة، بل حتى الأحزاب اليساريّة والوطنيّة التي تعارض السلطة تنظر إليها بعدم الارتياح، ولذلك تجد الأحزاب الوطنيّة تستمع لهؤلاء المعارضين بصمت وتستثمر في أفكارهم، وتتعايش معهم اشبه بلــ "الأخوة الأعداء".
المعارضون المار ذكرهم جزء صغير من جسم المعارضة العراقيّة، فهناك اغلبية صامتة تقاطع العملية السياسيّة برمتها، وهناك أحزاب يساريّة ووطنيّة معارضة لم تساعدها الظروف السياسيّة على أخذ دورها الحقيقي، وهناك مجموعات وتيارات منافقة تعمل صباحا في مؤسسات الدولة وفي المساء تتحوّل إلى معارضة بإمكانيّات ماليّة وإعلاميّة هائلة. وعلى هامش هذه الفوضى السياسيّة يتناثر الكثير من المعارضين الذين تمتعوا بخيرات النظام السابق ثم قفزوا من مركبه الغارق، ومعارضون تقاسموا الغنائم مع النظام الحالي ثم غيروا بوصلتهم بعد تصادم المصالح والنوايا. اما في اقليم كوردستان فالحال يختلف قليلا، فواقع الحياة السياسيّة في الجبال صنع معارضيه ومؤيديه، بعد دورات متقطعة من اقتتال داخلي مرير. ظهر على أثره معارضون ومثقفون أسسوا منابرهم الإعلامية وخطابهم النقدي المعارض الذي أثر بالوعي الكوردي في تسعينيات القرن الفائت، أدى إلى نشوء تيارات وأحزاب وصلت سدة الحكم بأربيل بعد عام(2010) ولكن التزاحم على المال والنفوذ أدى إلى فوضى سياسيّة وحزبيّة عطلت التجربة الكوردية الناجحة جزئيا. أنتج ذلك شرائح اجتماعيّة يائسة، بينهم معارضون يعيشون حالة من الاستقلاليّة الفرديّة، انخرطوا كليّا بقضايا اقليمهم. حدثت تصفيات جسديّة لبعضهم، وتهديدات لآخرين غادروا الإقليم بسببها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوضاع مقلقة لتونس في حرية الصحافة


.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين: ماذا حدث في جامعة كاليفورنيا الأ




.. احتجاجات طلابية مؤيدة للفلسطينيين: هل ألقت كلمة بايدن الزيت


.. بانتظار رد حماس.. استمرار ضغوط عائلات الرهائن على حكومة الحر




.. الإكوادور: غواياكيل مرتع المافيا • فرانس 24 / FRANCE 24