الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاستبداد والفساد

عبدالله نقرش

2022 / 2 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


يفيد التاريخ السياسي للدول, بأن الاستبداد والفساد هما صفتان متلازمتان سواء كانت أحدهما سبباً أو نتيجة للأخرى , فالاستبداد يسبب وينتج الفساد. والفساد كذلك يسبب وينتج الاستبداد اي ان العلاقة بينهما علاقة حتمية "فالسلطة المطلقة (الاستبداد) هي مفسدة مطلقة" كما يقال ولربما كانت هذه العلاقة من اهم اسباب الكوارث التي حلت بالشعوب على اختلاف دولها , ولربما كانت من أهم اسباب انهيار العلاقات بين الدول ففي ظل هذه العلاقة الحتمية , تعّوم وتختلط المفاهيم , وتلتبس الدلالات , ويحاور الفهم. كما تختل الموازين وتتلاشى المعابير وعندها يزوغ الحق ويظهر الباطن , فيفسد الحكم.
فالاستبداد ينجم عن الحكم المطلق الذي تتم ممارسته اما دون وجود مؤسسات تمثيلية فاعلة ,أو لعدم وجود قيود دستورية وقوانين تحد من صلاحيات الحاكم ونتيجة لذلك تنعدم المعارضة, وتصبح ارادة الحاكم هي القانون.
اعتقد بعض الذين يبررون الاستبداد , بأن السيادة مطلقة و أنه يجب أن تجسد برمزية الدولة الممثلة بالحاكم , و بالتالي لا قانون يقيدها لأنه لا يجب أن يعلو القانون على السيادة التي هي مرجعية اصداره. ويقولون بأن بعض القادة المستبدين المستنيرين نجحوا بتحقيق التنمية لبلدانهم بسبب تمركز السلطة في أيديهم.
حدث ذلك في بعض الدول مثل اليابان ابان حكم اسرة الميجي (اواخر القرن التاسع عشر و اوائل القرن العشرين) , وحدث في بعض دول جنوب شرق اسيا (عقود النصف الثاني من القرن العشرين) , وربما يمكن اعتبار الاستبداد النازي (الثلاثينات من القرن العشرين) ومصر الناصرية (الخمسينات و الستينات من القرن العشرين), والعراق البعثية (السبعينات و الثمانينات من القرن العشرين) أمثلة على ذلك . ولربما يمكن القول بأن التجربة السوفييتية والستالينية خصوصا تقع ضمن هذه الأمثلة , ولكن اين انتهى الأمر بكل هذه التجارب : اذ تم تدمير بعضها بصورة أقرب الى الانتحار الذاتي, وانتهى البعض الاخر للتحول الديمقراطي.
لذلك قد يصح القول " بأن هناك مزايا للاستبداد غير الفاسد" في أولى مراحل بناء الدول التي عانت من أزمات وحالات تدهور واضحة أو تلك التي تريد الانتقال السريع من حالة تخلف الى حالة تقدم متسارع. لكن على شرط أن لا ينتشر الفساد في بنية النظام المستبد وأن يختار هذا النظام التحول الديمقراطي في اللحظة المناسبة قبل انتشار الفساد وقبل تضخم الأنا الحاكمة التي ستعتقد أن سلطتها ذات طبيعية الهية كسلطة الأب في العائلة أو أنها تفويض من الله بالحكم . وللأسف فان هذا لم يحدث الا في حالات نادرة, بينما يقدم التاريخ أمثلة لا حصر لها على حالات انهيار الدول والعلاقات الدولية نتيجة للاستبداد . لذلك ارتبط الاستبداد باوصاف مثل الطغيان والظلم والتعسف والمجد الشخصي للحاكم على حساب الأمة ومصالحها .
ولربما لم يجتهد القادة المستبدون الوطنيون بتحويل سلطتهم الى الديمقراطية , ليس لأنهم لم يكونوا مخلصين لأوطانهم , بل لأن الاستبداد كحالة فردية أو أقلوية (أوليجاركية) شكلت اذهانهم ومنطقهم وقناعاتهم الخاصة. فالاستبداد يقلب الحقائق في الاذهان - كما قال الكواكبي – فيسوق الانسان الى الاعتقاد بأن "طالب الحق فاجر " وتاركه مطيع, " والمشتكي المتظلم مفسد" .........( أجندة خارجية)... " والخامل المسكين صالح"... والاستبداد يجعل " النفاق سياسة" ... " والتحايل كياسة" ... "والدناءة لطفا".. " والنذالة دماثة ".."
فعندما يتحول العقل باتجاه هذا الفهم , والذي تؤكده الشواهد التاريخية والواقعية الراهنة ... يصبح الاستبداد هو الفساد بعينه.
والفساد "خطيئة وشر"بالتعريف , ولسوءه وتعدد صوره وأشكاله يتواجد أحيانا في مراكز محددة وينتشر في أحيان أخرى كالسرطان..
يتمدد في المجتمع ليشمل الفساد السياسي والاقتصادي والاداري والمالي والاجتماعي.... وربما يؤثر على كل ما يتعلق بادارة شؤون الحياة ونشاطاتها, ولهذا يشار أحيانا الى حالات فساد من نوع معين حتى في الدول الديمقراطية التي تضبط معظم الصلاحيات والمسؤوليات والمسلكيات . ولم يكن ذلك صدفة وانما لأنها ربطت بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتنمية السياسية. ذلك ان الترشيد والضبط السياسي ضرورة للادارة والضبط الاقتصادي, وهما عمليتان متكاملتان متلازمتان .
لذلك من العبث الحديث عن تنمية سياسية عقلانية واعية أو عن تنمية اقتصادية شاملة دون تلازم العمليتين معا.
فالحرية بأوجهها المختلفة كموضوع للتنمية السياسية لا بد وأن تترافق مع العدالة الاجتماعية بأوجهها المختلفة كموضوع التنمية الاقتصادية . فالمجتمع السليم والدولة الحديثة, لا تقام الا على هاتين الركيزتين كأولوية أولى وقصوى . وحتى يتحقق ذلك لابد من المنهج الديمقراطي في ادارة الدول وشؤون المجتمعات.
والمنهج الديمقراطي يبدأ قبل كل شيء من " ضرورة الحد من تعسف السلطة السياسية" واعتباره مشروعا انسانيا وليس سياسيا وحسب. بمعنى الانتهاء من كل صور وأشكال وأدوات الاستبداد والعمل بمبدأ تنظيم الحريات , وضبط السلوك السياسي عن طريق الرقابة الاستباقية والمرافقة للسلوك واللاحقة له مع المحاسبة على الخطأ والتجاوز.
فكما أن السلطة أو الصلاحية تخول بموجب قواعد تأسيس قانونية وتنظم ويعمل بها وفقا لهذه القواعد , فلا بد
ان تكون ممارستها واجراءاتها منضبطة ومتكاملة من البداية حتى النهاية. وليس من الواقعي الافتراض بأن الدقة في ذلك تلغي المرجعية الاخلاقية في التصرف . فالمسؤول لا يعتبر مسؤولا شرعيا لمجرد توفر الحق في التصرف وانما يجب أن يكون مؤهلا للحفاظ على المصلحة العامة للمجتمع, بما في ذلك الاقرار بأهمية المعايير الاخلاقية التي تحكم السلوك الخاص أو العام .
وذلك اعترافا بأن القوانين الضابطة للتصرف والسلوك لا تعتبر غالبا كافية لتغطية المساحات التي تتحرك بها نشاطات الدول والمجتمعات الحديثة. وهنا تبرز أهمية الحديث عن الفساد بصفة خاصة.
ففي عالم اليوم, وعلى مختلف المستويات , الفردية والجماعية والوطنية والدولية,يسود استعمال مفردتي للفساد corruption
والشفافية Transparency " وذلك يعني الاشارة و الاقرار من حيث المبدأ بضعف المعايير الاخلاقية التي تحكم السلوك العام أو الخاص وعلى نطاق واسع في العالم.
كما يعني وجود منافذ في التصرف لا يغطيها القانون, سيما أن النشاط الاقتصادي المعولم لا يخضع بشكل جدي وفاعل لمراكز قوى قادرة على ضبطه لا سياسيا ولا ماليا ولا اقتصاديا , لا انتاجا ولا توزيعا. واذا كان الاقتصاد الريعي يسهل عمليات الفساد والافساد تقليديا حيث تكثر عمليات الاختلاس او التبذير أو الهدر أو التنفيع أو خلافه.. الا ان الفساد بمجمله غير قابل للحصر.

لكن لو افترضنا الفساد وأشكاله وطرائقه ومجالاته قابلا للحصر لاعتبرناه يتعلق بملكية الموارد والاشياء والصلاحيات والعلاقات والتصرف بها بلا وجه حق قانوني أو أخلاقي وبما لا يتفق مع ما يعرف بالمصلحة العامة للمجتمع وقيمه المعياريه
وهذا التعريف أو التأشير الى الفساد لا يقتصر على الجانب الرسمي من مكونات الدول , وانما أيضا يتصل بالمجتمعات ككل.
فما تملكه الدول من أصول وموارد طبيعية أو مالية وما يمكن أن تتحصل عليه بصفتها دول مثل القروض والمعونات والهبات وخلافه يقع في باب الملكية العامة التي تخص كل مكونات الدولة وليس طرفا واحدا فيها, وحق التصرف بهذه الأصول والموارد وغيرها يدار تقليديا ورسميا من قبل السلطة العامة ولا يجوز الاخلال أو التعسف أو التجاوز في ممارسة هذا الحق العام.
ومن أوجه الفساد الأخرى , ما يتعلق بالعلاقات الانسانية والاجتماعية مثل الزبائنية والمحسوبية , فالزبائنية تتمثل بتبادل الخدمات بين أطراف على مستويات مختلفة من المكانة والنفوذ , بينما المحسوبية تتمثل بالمحاباة والانحياز للأقارب والاصدقاء والمعارف كما هو الحال في معظم المجتمعات , والأقل تطورا منها بشكل خاص.
واذا كان حق الامتلاك والتصرف بالموارد وخلافه بتجاوز القانون والقواعد الاخلاقية, يعتبر فسادا بائنا, ان الفساد المرتبط بالعلاقات الاجتماعية يعتبر فسادا كذلك. ولكنه فساد مموه , و كلاهما يستشريان في العالم , والدول النامية بشكل خاص, وكلاهما يؤديان الى انهيار المؤسسات والقيم.
والملاحظ أيضا أنهما يرتبطان بالادارة السياسية للدول وبالسلطة التنظيمية للمؤسسات (الادارة العامة أو الخاصة ). الامر الذي جعل السياسة في الدول التي ينتشر بها الفساد دائما أو أحيانا أكثر مصادر الاثراء شيوعا, وحتى أكثر من مجالات النشاط الاقتصادي . ومن المؤكد أن المشكلات الاقتصادية والمالية التي تعاني منها الكثيرمن الدول النامية تعود الى الفساد الذي يسود ممارسات المسؤولين والنافذين فيها, وقد لا يكون أقلها اختلاسهم لاقتطاعات العامة من المعونات والقروض الخارجية والتي بدورها أثقلت كواهل دولهم بالمديونية التي لا توجد امكانية سدادها أو الاستغناء عنها. وهو امر لا شك سيؤدي الى انفجارات لاحقة اذا لم يتم استدراك وسائل ناجعة لمعالجته, بعيدا عن الضرائب والرسوم التي تفرض على مواطني هذه الدول , وهذه بدورها ستؤدي الى افلاس المواطنين او ثورتهم , وقديما قيل لا ضرائب بلا تمثيل.
فاذا كان الامر كذلك نتساءل لماذا لايتعظ الحكام المستبدون بتجارب التاريخ؟ لأنهم على الاغلب لا يتعظون تقع دولهم تحت سطوة الاستبداد والفساد مجتمعين , وعندها يصبح مصير هذه الدول في مهب الريح . فليس الاستقرار وحده هو الذي يهدد, وانما يصل التهديد لاحتمالية بقاء هذه الدول . ذلك ان الافلاسات المتوقعة لبعض الدول لن تكون بلا نتائج خطيرة على كينونتها , وأقلها أن تتحول الى " دول فاشلة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات الطلبة في فرنسا ضد حرب غزة: هل تتسع رقعتها؟| المسائ


.. الرصيف البحري الأميركي المؤقت في غزة.. هل يغير من الواقع الإ




.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحكم في مستقبل الفورمولا؟ | #سك


.. خلافات صينية أميركية في ملفات عديدة وشائكة.. واتفاق على استم




.. جهود مكثفة لتجنب معركة رفح والتوصل لاتفاق هدنة وتبادل.. فهل