الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موسم الهجرة إلى الشمال

نواف سلمان القنطار
كاتب ومترجم.

(Nawaf Kontar)

2022 / 2 / 26
الادب والفن


بدا كأنه يحاول تبرير " مناورته" الخطرة التي كادت تتسبب بوقوع حادث مرور قرب ساحة " غاغارين" المطلة على شارع " لينينسكي بروسبيكت".
 أعرف أن قيادتي سيئة، ولكنني لم أتعرض لأي حادث حتى الآن، فلا تخف.
أومأت برأسي موافقاً، دون أن أشعر برغبة في الكلام.
 شوارع موسكو مزدحمة دائماً... من الصعب العيش في هذه المدينة، أليس كذلك؟
 صحيح.
 لستَ موسكوفياً، أليس كذلك؟
 لا، لستُ موسكوفياً.
 من أين؟
 أنا عربي.
 ولكن من أي بلد؟
 من سورية.
 حقاً! ... جدتي من سورية... من حلب ... كانت تقول بأن لسورية فضلاً علينا.
لم أشأ أن أجاريه في هذا " الاستجواب" حتى لا تقودنا ذكرياته إلى حادث أخطر. لكنه مثل معظم أهل الشرق تابع حديثه وكأنه يعرفني منذ زمن بعيد، كيف لا ... و... جدَّته سورية الأصل!
تبيّن أنه أرمني من أذربيجان، اضطر للرحيل مع أسرته من هناك خلال الأحداث المأساوية التي تعرض لها الأرمن في باكو في مطلع تسعينيات القرن الماضي ... تردد في بداية الأمر ... لكن تسارع الأحداث لم يترك له مخرجاً آخر، فوجد نفسه في موسكو.
لم يكن غريباً أن يسمع أحدنا مثل هذه القصص بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولكن ما أثار دهشتي ( أو ربما استيائي) أنه كان يتحدث عن حياته بحياد أو استسلام تام ومن دون تذمر، كأنه يروي حكاية عن غيره... ربما لأنها أصبحت " قديمة"، أو لأن كل القصص تتشابه في زمن الحروب، توحدها المأساة ويلفها اليأس، ولأن الناس لا تختلف عن بعضها بعضاً عندما تُهجَّر من أوطانها وتصبح وحيدة في العراء.
 ما كنت أتصور أنني سأترك باكو يوماً، إنها وطني على الرغم من أنني أرمني ... بقيت أتردد إلى هناك طوال عامين، إلى أن أدركت أن عليّ أن أبدأ حياتي من جديد... بحثت طويلاً عن عمل ولكن بلا جدوى، فمن يرغب بتوظيف شخص في مثل سني، شارف على التقاعد؟ وهكذا... وجدت نفسي، في نهاية المطاف، أعمل سائق تكسي.
يعرف كل من عاش في موسكو خلال عقد التسعينيات بصورة خاصة، أن قطاعات واسعة من الاقتصاد انهارت بكاملها بعد أن تخلت الدولة عنها، ومن بينها قطاع خدمات مهم، مثل سيارات الأجرة، بحيث أصبح من النادر أن ترى سيارة أجرة صفراء تجوب الشوارع، أما إن وُجدت فأجرتها مرتفعة جداً لأنها تابعة لشركات خاصة.
وبما أن " يد السوق الخفية" لا يمكن أن تبقى على الحياد، وبخاصة في ظل الطلب المتزايد على سيارات الأجرة في مدينة ضخمة مثل موسكو، فقد أخذ العرض " ينتعش" من جديد، بعد أن وجد كثير من الناس في العمل كــ " تشاسنِك" مهنةً يسترزقون منها ( يُقصد هنا الشخص الذي يشتغل سائق تكسي من دون ترخيص وعلى سيارته الخاصة)، وكان هؤلاء في معظمهم من الذين أرغمتهم الصراعات والحروب الأهلية على ترك بلدانهم واللجوء إلى موسكو، أو من أبناء موسكو أنفسهم الذين لفظتهم التحولات الاقتصادية خارج سوق العمالة. ولذلك لم يكن مستغرباً في بعض الأحيان أن يقلك سائق بعيد كل البعد عن خصوصية هذه المهنة، لدرجة أنه قد لا يعرف الطرقات جيداً، أو حتى لا يعرف قيادة السيارة بالمستوى الذي يؤهله لممارسة هذه المهنة.
 عشنا في البداية عند والديّ زوجتي، وكنت أنظر إلى حالنا وأتساءل: ما حاجتنا إلى كل هذه المحن، هل يعقل أن تسعنا هذه الشقة الصغيرة بينما تضيق بنا أرض الوطن... تصور: زوجتي روسية من باكو والدتها أوكرانية، أما شقيقتها فكانت معنا في باكو وهي متزوجة من أذري ( أذربيجاني) والدته أرمنية، وبالنسبة لي فجدتي لوالدي من سورية... هل تتصور هذا الخليط العجيب؟
كنت أصغي إليه وأنا أتساءل: كم من السهل أن نعود إلى كتب التاريخ لنقرأ، ببرودة الباحث، عن صعود إمبراطوريات وأفول أخرى، وكأن أولئك الذين سبقونا بالسير على خط الزمن كانوا مجردين من الحلم والأمل، أما نحن فنعتقد أننا نملك الأفضلية أمامهم لأننا قادرون على رسم المستقبل بريشة الحاضر، وكأنهم لم يحاولوا فعل ذلك قبلنا... ولكن مع ذلك، كم من الأخطاء ارتكبنا وما زلنا نرتكب، ولا يبدو أننا قادرون على تجاوز هذه الأخطاء التي نقترفها دائماً، بحق أنفسنا وأوطاننا والبشرية.
تابع الرجل حديثه بهدوء، ولكن بتأثر:
 ليس هناك أصعب من أن تضطر لإعادة بناء حياتك على أرض غريبة، عندما تكون مسلوب الإرادة والطموح، أو عندما تشعر بأن حلمك سُرق منك، أو أن حياتك ضاعت سدى، أو بأن أحداً ما أو جماعة ما أو نظاماً ما، قد داس فوق ماضيك وحاضرك، أو بصق داخل روحك، لا لشيء، إلا ليذلك وليثبت أنه كان وسيبقى أقوى منك.
في ذلك الوقت، لم نكن نعتقد أن انهيار الإمبراطورية السوفيتية سيكون مدوياً إلى تلك الدرجة، وأن تكون له تلك التداعيات والعواقب الفظيعة، سواء بالنسبة لروسيا أو للجمهوريات السوفيتية الأخرى، وكنا نراهن على أن سقوط الأنظمة لا يعني بالضرورة انهيار الدول وتشرد شعوبها، ولكن، وللأسف الشديد، كان علينا أن ننتظر نحو عقدين من الزمن حتى نتأكد من ذلك على أرض الواقع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي