الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتلاعب والقاتل، واليسار

ياسين الحاج صالح

2022 / 2 / 27
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


تشيع في أوساط يسارية غربية نسبة ارتفاع التوتر الحالي مع روسيا إلى أمثال جو بايدن وبوريس جونسون ممن يريدون الضغط على روسيا وعزلها تدفعهم حسابات أنانية تخصهم، وليس إلى النزعات التوسعية لروسيا في أوكرانيا وعموم المجال السوفييتي السابق، والعالم. بايدن وجونسون ليسا ممن يخلون من حسابات خاصة، قومية وشخصية، لكن إرجاع المشكلة المتفجرة في أوكرانيا وحولها إلى تطلعاتهما، وليس إلى سياسة بوتين القومية التوسعية، المعادية للديمقراطية في روسيا والعالم، والداعمة لمنظمات اليمين المتطرف في أوربا، هو بمثابة زيغ في الرؤية له سوابق تدفع إلى الظن بخلل في التكوين. أشهر تلك السوابق التشكك الشيوعي في أيام الكومنترن بمقاصد الديمقراطيات الليبرالية في العشرية السابقة للحرب العالمية الثانية، واعتبار النازية مجرد تنويعة مثل غيرها من السياسات البرجوازية، واعتماد تكتيكات ضيقة من نوع طبقة ضد طبقة، تقوم بإرجاع التعبيرات السياسية المختلفة إلى ثنائية طبقية متصلبة، تضع الطبقة العاملة ضد الطبقة البرجوازية. قوضت هذه التكتيكات أرضية تحالفات محتملة على أسس ديمقراطية وتعددية، وهو ما آل إلى إضعاف الجميع أمام الهتلرية. هناك متلاعبون أنانيون بالفعل، لكن هناك قتلة فاشيون، الأولون يستغلون ويخدعون، فيما الأخيرون يستولون ويسلبون ويمكن أن يقتلوا الملايين، والتمييز بينهما من الأولويات على ما ستثبت الحرب العالمية الثانية بعد سنوات قليلة من هذا الجدال.
على أن لهذين المثالين من تاريخ أوربا المعاصر والراهن نظيران من تاريخنا القريب في لبنان وسورية. لطالما انتقد رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري على سياسته الاقتصادية الليبرالية الجديدة، التي غيرت الطابع العمراني لبيروت وأغنت شريحة ضيقة من اللبنانيين، وتوافقت مع سياسيات إقليمية عولت في حينه على "سلام عربي إسرائيلي"، وعلى منافع اقتصادية تجنى منه. هذا بينما كان ينمو في لبنان غول فتي اسمه حزب الله، أقوى منذ ذلك الوقت من الجيش اللبناني، ويجاهر بأنه ممول من إيران وموال لنظامها، ويشهر في آن راية طائفية وراية قضية عامة هي المقاومة ضد إسرائيل، دون أن يبدو أن مكاسب هذا الإشهار تعود على غير هذا التشكيل الطائفي التابع، وللحكم الأسدي الذي يشبهه في سورية. بعد حين اغتيل رفيق الحريري من قبل النظام الأمني السوري اللبناني في جريمة مروعة، سقط معه فيها أكثر من عشرين شخصاً. الغول الفتي تطور إلى غول مكتمل النمو، "أسْيد" من الدولة اللبنانية السيدة، وسيتدخل بعد سنوات في سورية المجاورة لمصلحة دولة قومية توسعية، ويقتل ويسجن ويتاجر بالمخدرات، ويوتر الأوضاع في لبنان وسورية والمنطقة لحساب مرجعيته الإيرانية. هنا أيضاً وجدت الحساسية اليسارية التقليدية نفسها إلى جانب القاتل ضد المستغِل، إلى جانب قوة اغتيال وترهيب وحرب ضد قوة استغلال وإعمار مشوه، في عدم تمييز عريق بين المستغل وبين القاتل، أو بين المتلاعب الأناني الذي يستغل الآخرين لمصلحته وبين الفاشي الأناني الذي يقتل الآخرين إن عارضوه. اليوم لبنان يعيش أوضاعاً قد تكون الأسوأ منذ نشوء كيانه الحديث بعد الحرب العالمية الأولى، وبصلة مباشرة مع وجود حزب قاتل تابع لدولة أجنبية، جعل من كاتم الصوت سلاح اغتيال ومن كتم الصوت هوية له. هذا الحزب الطائفي المسلح هو حارس النظام اللبناني اليوم، وهو من وقف ضد الانتفاضة اللبنانية في خريف 2019.
وفي تاريخ الثورة السورية لدينا مثال إضافي له الدلالة نفسها. في عامي 2013 و2014، وقت كان الجيش الحر لا يزال عنواناً جامعاً لقوى وطنية شعبية، تجمعها قضية مواجهة النظام، أخذت المجموعات السلفية الإسلامية الصاعدة، المعنية بفرض نموذجها حيثما سيطرت، تطعن فيها بوصفه حامل "راية عميّة"، و"حرامي" في الوقت نفسه. رفع الإسلاميون شعاراً مسجوعاً، يقول: الجيش الحر حرامي/ بدنا الجيش الإسلامي! لم يكن الأمر يخلو من أمثلة انتهاك واستيلاء على موارد خاصة وعامة من قبل منضوين متنوعين ضمن مظلة الجيش الحر، لكن الاعتراض هنا جاء من قبل تكوينات ذات استعداد فاشي، تستولي على المجتمع ذاته مثل الحكم الأسدي وتشكله على غرارها، وتقتل من لا يوافق نموذجها. السنوات اللاحقة للمجموعات السلفية هي سنوات تغول وفجور في الاستيلاء على موارد عامة وخاصة، فضلاً عن القتل والتغييب.
رفيق الحريري والجيش الحر، كما الحكومات الأوربية في سنوات ما بين الحربين، والأميركية والبريطانية اليوم، مستحقون للنقد والاعتراض من مواقع تحررية وثورية. لكن ما يميزهم عن كل من حزب الله والميليشيات السلفية، كما عن البوتينية اليوم والنازية بالأمس، هو أنه لا يكاد يمكن التأثير على سياسة الأخيرين. يمكن التأثير على الحريري لا على حزب الله، وعلى الجيش الحر لا على داعش والنصرة وجيش الإسلام، وعلى الديمقراطيات البرجوازية لا على هتلر والحزب النازي، وعلى حكومة جونسون وإدارة بايدن، لا على بوتين الذي يتلجلج في الكلام معه أركان نظامه بالذات
. https://www.youtube.com/watch?v=_3Z-ZoGreNI
وهو، التأثير، يحدث بالاحتجاجات الشعبية التي لا تقمع، بالأصوات الناقدة في وسائل إعلام تعددية، بالمشاورات متعددة الأطراف داخلياً ودولياً. في كل هذه الحالات ثمة ضرب من التعدد، وبالتالي الحوار الداخلي الممكن في الأطراف التي لا يمتنع التأثير عليها، أي المداولة السياسية معها، فيما لا يبدو الحال كذلك في منظمات أو سلطات أحادية الصوت ومعادية للديمقراطية. في أوج قوتهم، بدا الهتلريون والسلفيون، ويبدو البوتينيون والحزباللهيون، في سكرة تمتزج فيها العقدة بالقوة، تغنيهم عن الاستماع إلى غيرهم، ولبحث عن حلول سياسية مع الغير. لا تتغير هذه القوى بالسياسة، تتغير فقط إذا هزمت.
ويضاف إلى هذا الفارق السياسي المهم فارق أخلاقي، هو ما يمكن أن يستند إليه لتحديد الموقف الصحيح، الذي لا يقتضي بحال الوقوف إلى جانب الحريري أو الجيش الحر، ولا إلى جانب جونسون وبايدن، ولا الديمقراطيات البرجوازية قبيل الحرب العالمية الثانية. أعني النظر إلى حقول الصراع في الأمثلة المذكورة من موقع الضحايا، من موقع الأوكرانيين اليوم، والسوريين المقاومين لحكم الإبادة الأسدي، واللبنانيين المتطلعين إلى استقلال بلدهم واحتكار الدولة للعنف فيه، وللبلدان الأوربية الأصغر في أيام صعود النازية (تشيكوسلوفاكيا وبولندا...) كما للجماعات الدينية والأثنية الأكثر هشاشة في ألمانيا نفسها، وفي أوربا بأسرها.
حيال الأزمة الأوكرانية، وهي مناسبة كتابة هذه السطور، تبدو الحساسية اليسارية التقليدية في الغرب استمراراً للحساسية الشيوعية قبيل وصول النازيين للسلطة، أي مناهضة للمتلاعب المعروف وقليلة الحذر حيال الطاغية القومي المتعصب، الذي يسمم معارضيه ويعتقلهم ويعذبهم، هذا حين لا يكون بعض حملة هذه الحساسية متحمسين له بالأحرى. في ذلك ما يثير سؤالاً عن إمكانية وجود يسار يناضل ضد المتلاعب المستغل، لكن لا يغويه القاتل الجماعي في بلده أو في بلدان أخرى. قبل أوكرانيا، كانت سورية امتحاناً عرض فيه هذا الصنف من اليسار فشلاً عظيماً في الفهم وفي الإحساس وفي السياسة، تمتد جذوره في ما يبدو تكويناً راسخاً لليسار الغربي وتفكيره في الشؤون الدولية: السياسة العليا المتمركزة حول الدول، اللوثة الامبريالية التي تلحق كل القضايا بمعركة كبرى ضد الامبريالية يقررها ويخوضها (لا يخوضها في الواقع) ويحتكر تحليلها أمثالهم، مزيج من الغطرسة والجهل في شؤون البلدان والمجتمعات البعيدة، ثم عدم النظر من موقع الضحايا.
هذا التكوين فاشل. للجماعة مشكلات مع نخب بلدانهم، وقلما يستطيعون النظر إلى مشكلات بلدان أخرى من موقع يضع مشكلاتهم في بلدانهم بين قوسين، ولو مؤقتاً وبهدف الفهم. هذا يسوقهم بثبات إلى مواقع أقرب إلى القاتل، انطلاقاً من الاعتراض على المتلاعب الأناني. أما الضحايا فلا يُروْن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اذن بوتين معتدي بل فاشي ومكاننا مع الدمقراطيات الغ
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2022 / 2 / 27 - 03:47 )
مع الدمقراطيات الغربيه-ال100سنه الاخيره اثبتت الدمقراطيات الغربيه على امكانيات هائله في التطور الاقتصادي والثقافي وفي الحريات العامه وحقوق الانسان بشكل هائل وغير محدد في حينالتجربه الاستبداديه -مهما اطلقت على نفسها من صفات براقه فاءنها فشلت اقتصاديا وفشلت تماما في احترام الانسان وحقوقه واحترام كرامة وسيادة الشعوب والعدوان البوتيني وقبله الهتلري على اوكرانيا- وبولندا وجيكوسلوفاكيا مثال ناصع -نحن مع شعب اوكرانيا وحرمة سيادتها ضد عدوان هتلر الصغير بوتين تحياتي

اخر الافلام

.. احتجاجات الطلبة في فرنسا ضد حرب غزة: هل تتسع رقعتها؟| المسائ


.. الرصيف البحري الأميركي المؤقت في غزة.. هل يغير من الواقع الإ




.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحكم في مستقبل الفورمولا؟ | #سك


.. خلافات صينية أميركية في ملفات عديدة وشائكة.. واتفاق على استم




.. جهود مكثفة لتجنب معركة رفح والتوصل لاتفاق هدنة وتبادل.. فهل