الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار البصرة الذي تكرهه الزوجات!

ملهم الملائكة
(Mulham Al Malaika)

2022 / 2 / 27
الارهاب, الحرب والسلام


القطار الذي أنشأه البريطانيون في العراق بعد "استعماره" بقي بخطوطه الحديد يخدم العراقيين حتى اليوم، ومنذ انتقال الفرقة الثامنة بشكل نهائي إلى قاطع البصرة، بتُّ أعود من اجازتي إلى مقر اللواء غالباً بالقطار، وفي القطار قصص.

المحطات دائما مساحات الفراق واللقاء، فهي مسارح لوداعات حزينة ولقاءات مفرحة لا نهاية لها، حيث الأهل يودعون بنيهم المسافرين لرحلات الدراسة خارج البلد، والأهل والأقرباء يودعون العرسان الذاهبين إلى رحلات شهر العسل في الموصل أيام الربيع والصيف، وفي البصرة أيام الخريف والشتاء، فالبصرة مشتى العراق المجهول. وفي الحرب أضيف لهذا الموروث أنّ قطار البصرة، يأخذ العسكر إلى جبهات القتال الجنوبية. الرحلة تبدأ في الثامنة ليلاً، ويصل القطار البصرة في السابعة صباحاً، أي 11 ساعة ونحن في نهاية القرن العشرين!
الرحلات كانت مجانية، وأحجزُ في العادة سريراً في إحدى المقصورات هاتفياً من البيت. المقصورات مريحة عموما ونظيفة ومرتبة، وهي مقسّمة إلى قسمين، قسم للضباط الأعوان، وفي كل منها سريران متعامدان فوق بعضهما، كما يمكن دمج مقصورتين متلاصقتين في دعوة عشاء وسمر لأربعة أشخاص، يمكن بعدها فصل المقصورتين لتوفير منام مريح لشخصين. أما القسم الآخر فكان للضباط القادة (من رتبة مقدم فصاعداً) بسرير منفرد وخدمات غرفة كاملة.
ليلة نهاية الإجازة، كانت حزناً لا ينتهي في البيت، وينفرج هذا الحزن بتأملاتي في المحطة العالمية ببغداد. جو المحطة، ينقلني دائما إلى عالم نتشوّق له، إلى محطات القطارات في لندن وبرلين وباريس وروما، حيث تقف الحبيبات، صوفيا لورين، أودري هيبورن، رومي شنايدر، وهنّ يودعن أحبتهن، ألان ديلون، شين كونوري، كيرك دوغلاس العتيق الباقي. في زوايا المحطات المظلمة يتبادل العاشقون قبلات وداعٍ اختلط فيها الحب بالدمع الحزين. وقاطرات الديزل تنفث بشدة بخار الرحيل الجميل الذي يغمر المودعين والمستقبلين والمسافرين على أرصفة المحطات الرمادية. كل هذا كان ينسيني لوهلة كآبة رحلتي التي لا يستبعد قط أن تكون الأخيرة، ففي جبهة الحرب، يصبح الموت مسألة يومية، وقد يتدنى دونها العوق، فيفقد الإنسان أحد أعضائه أو تنطفي فيه إحدى حواسه، أو تتعطل في جسده إحدى الوظائف، وإن تاهت البوصلة، فالأسر ليس نهاية غريبة لسفوح المعارك الموحشات، فهي الحرب ولن تكون قط نزهة.
وكانت زوجتي تشايعني أحياناً إلى رصيف المحطة لتودعني، بعناق وقبلة طويلة على سلم القطار قبل أن يقلع في طريقه إلى الجبهات، وتمازحني بطرافة طفولة ضائعة قائلة:
"خذني معك، ضعني في الحقيبة، وخذني معك، ودعني أقضي كل الأيام الأربعة وعشرين مختبئة في ملجئك، وعليك أن تؤمن لي الطعام والماء".
ونستذكر بصمتٍ محموم معاً تلك اللحظة الجميلة التي شاهدناها في أفلامٍ عن محطات العواصم الغربية إبان حروب عتيقة لم نعرفها سوى على الشاشات، وها نحن نعيش أبشع صفحاتها. مجرد الحلم بالوصول إلى تلك العواصم بات صعباً، فالحرب تأبى أن ترفع أوزارها.
ويقلع القطار، وحال أن يغادر المسيب والمحمودية متجهاً نحو الجنوب، أسارع لأقاسم رفيق الدرب وزميل الكابينة عشاءنا والكحول المرافق له كيفما كان، ولم يصدف أن التقيت ضابطاً يرفض الكحول، والأطباء كانوا دائماً أجمل رفاق السفر، فهم مثقفون منفتحون على العالم، ويمكن معهم أن ينسى المرء أنّه ذاهب إلى موت محتمل بشدة.
ذات ليلة من أواخر خريف عام 1984، عدت من إجازتي الدورية بقطار البصرة، وودعني المطر على رصيف المحطة العالمية، وكنت مع نفسي أسرح بخيال أن يسرقني القطار وهو ماضٍ بلا هوادة عبر الحدود جنوباً إلى الكويت، ومنها طائراً بلا توقف حتى ضفاف أوروبا الباردة الجميلة، لكنّ ذاك كان وهمي، أما في الحقيقة فقد شاركني الكابينة ملازم أول طبيب، ودعته زوجته على رصيف المحطة، ولحظت بطرف عيني عناقهما الجميل، وسررت أيما سرور حين تشاركنا كابينة السفر.
وما إن انطلق القطار في رحلته الليلة، حتى سألني شريك الكابينة أيّ سرير أفضل، وتركت له الخيار، مؤكداً أن لا فرق عندي، فسارع يخبرني أنّه سيستلقي على السرير العلوي لأنه أطول قامة مني وبوسعه التسلق بسهولة، وسيترك لي السرير الأرضي، فسارعت افتح السرير الأرضي لأكشف عن مساحة لحفظ الأمتعة مخفية تحت السرير يجهل أغلب المسافرين وجودها، ودعوته أن نضع حقائبنا هناك، بعد أن نهيئ مائدة السهرة! فسألني بحياء ظاهر هل تشمل سهرتنا المحرمات المحبوبة، وأدركت ما يرمي إليه، فأخرجت من حقيبتي نصف زجاجة ويسكي، ترافقني عادة في رحلة العودة، وأتم غالبا كأساً أخيراً منها في ملجأي في الليلة التالية لوصولي. انفرجت أسارير رفيق الرحلة الطويلة، وسارع يخرج من حقيبته، نصف زجاجة ويسكي من نوع آخر، وتبارينا في وضع أطباق العشاء والمقبلات التي أعدتها الزوجات الصابرات في منازلهن، فباتت أمامنا مائدة عامرة منوعة. وقرعنا الأنخاب، ودار الحديث دائماً بعيداً عن الحرب والثكنات والخنادق، فكانت أشبه برحلة في أطياف الأحلام، وسارعت أريه كتبي التي اصطفيتها للقراءة، فيما عرض عليّ كتبه التي جاء بها إلى وحدته للقراءة، ولم تكن مفاجأة أنّ كتبنا كانت إنكليزية بالكامل.
نحو الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، بدأ النعاس والتعب يدبّ إلى أجفاننا، فيما القطار يمضي قدماً نحو الجنوب، واقترحت أن ننام ما تبقى من الليل لنصل واعين إلى وحداتنا، فضحك وبدأ ينظف المائدة وأنا أساعده، ثم خلعنا قيافتينا، وبقينا بالملابس الداخلية الطويلة التي كان الجميع يستخدمونها كبيجاما للنوم، ودخلنا لننام في أسرتنا.
لا أدري متى غفوت، ولكنّ انفجاراً كبيراً اتبعه رشقات اطلاقات من اسلحة رشاشة، ايقظني وايقظ كل ركاب القطار، قفزت إلى النافذة أنظر ما جرى، فكانت العتمة لا تشي بشيء خارج القطار، نظرت إلى الساعة، فوجدتها الثالثة والنصف صباحاً، وكان القطار قد بدأ يتباطأ في مسيره ثم يتهادى حتى توقف، وطاف في الممرات رجال يركضون وأصوات عالية، أطللت ورفيق كابينتي على الممر، فوجدنا عنصراً من الانضباط العسكري بيده بندقية، ويبدو عليه التوتر، فسألناه عما جرى، ليجيب باقتضاب، أحدهم أطلق قنبلة على إحدى العربات. فسارعت أساله وما هي رشقات الرصاص، أجابني، أنّ احدهم قد رمى رشقات رصاص على العربات. نظرنا من نافذة الممر، فإذا القطار واقف وسط البردي والقصب، ومياه الهور تساحل جهته اليمنى! نحن واقفون في وسط الهور، سارعت أكلم الانضباط بلغة آمرة: " انضباط، اخبر مسؤول الأمن أنّ القطار يجب أن يتحرك فوراً، نحن الآن هدف واهن لأيّ مهاجم، لا نعلم من رمانا، لكنه عدو بلا شك. أسرع وأوصلني لمسؤول أمن القطار! ارتبك الانضباط، وهو يدرك لأول مرة أنّ وقوف القطار قد جعلنا جميعاً هدفاً سهلاً! وسرعان ما تصاعد صوت عالٍ قادم من مقدمة القطار يوجه سائق القطار والقائمين على الأمن وهو يصرخ "تحرك، تحرك بسرعة يا ولد، لا تبقّ واقفاً، على الجميع اطفاء أنوار العربات والممرات، اطفي الأنوار بسرعة، الأخوة الضباط، رجاء تهيأوا بمسدساتكم، فقد نواجه هجوماً"! سارعنا نطفي النور، واطفأ الانضباط نور الممر ثم ركض باتجاه مصدر الصوت، وعرفت من لهجته أنّه أحد الضباط القادة، وكان يوجه أوامر سريعة للحركة. بعد نحو 10 دقائق تحرك القطار ثانية، بسرعة محدودة، ثم بدأ يحث الحركة سراعاً، وهي عادة في منطقة الأهوار محدودة بسبب ضيق الطريق، وظلمته، وليونة الأرض تحت السكة الحديد.
ولمدة نحو نصف ساعة، بقيَ الوضع متوتراً تماماً والجميع بانتظار هجوم في أيّ لحظة، ولم يتضح على الفور حقيقة ما جرى، وما حجم الإصابات. بعد نحو نصف ساعة أخرى، عاد الضابط الذي كان يسافر في الكابينة الملاصقة لنا، وهو برتبة رائد ويشغل منصب آمر سرية انضباط الفيلق الثالث، وكنت قد تعرفت عليه في إحدى المأموريات إلى الفيلق، ولاقاني بوجه متوتر، فسألته عما جرى، وهل توجد اصابات، قال متساخراً: "لا إصابات، لكنّ المهاجمين استهدفوا العربة المعدة للضباط الأمراء بقذيفة آر بي جي 7، وكانت العربة لحسن الحظ فارغة، حيث لم يسافر أيّ منهم هذا اليوم، وقد اخترقت القذيفة نافذة المقصورة، وانفجرت لتحرق بعض قطع الأثاث فيها، فيما سارع أفراد الطاقم والأمن والانضباط إلى إطفاء الحريق. سلامات حتى الآن، رشقات الرصاص أصابت نفس العربة، والعربة التي تلتها والتي بعدها، ومن حسن الحظ أنّ أحداً لم يكن في الممر خلال الرمي، لأنّ الرصاصات كلها جاءت من جهة اليمين واستقرت في ممر القطار. إنها على الأغلب هجمة فرارية (الهاربون من الخدمة العسكرية وكانوا يتحصنون في هور الجبايش).
بقينا متهيئين بملابسنا الكاملة وبمسدساتنا، حتى غادر القطار الهور، نحو الساعة الرابعة والنصف فجراً، فأضيئت الأنوار وعدنا نحاول النوم بعد تلك الواقعة المثيرة، وأطفأنا النور، واستلقينا وبتنا نتكلم ونبدي الرأي فيما جرى، حتى وصل القطار إلى ميناء المعقل وبدأ يتثاقل في سيره، حتى توقف. ترجل الجميع مسرعين ليروا مكان الإصابة، فكانت المقطورة الثالثة بعد الماكنة، تسبقها فقط مقطورتا الضيافة والمطعم. زجاجة نافذة كاملة تناثرت محطمة وسط المقطورة، والرصاص قد ثقّب الزجاج وجدران نفس المقطورة. من هاجم هذا الهدف كان يتوقع أنّ ضابطاً مهماً يسافر فيه، لكنّ مصادفة من نوع ما خيبت هجومهم. ربما قرر الضابط المعنيّ في اللحظة الأخيرة ألا يسافر، أو أنه قد سافر مبكراً ولم يلغ الحجز، فبقيت العربة فارغة محجوزة باسمه!
ودعت رفيق رحلتي، وعثرت على سيارة الرعيل السلكي شاحنة المرسيدس الجديدة 2 طن تنتظرني، فركبت إلى جانب السائق ومضينا قدماً إلى مقر اللواء. بعد نحو أسبوعين، نفّذت قوات من الحرس الجمهوري عملية واسعة على المتمردين في الهور فيما نفذت وحدات الجهد المدني ووحدات ساندة لها عملية حرق القصب، وتنظيف هور الجبايش حول مسار سكة القطار، فيما انشغلت طائرات الهليكوبتر "السمتية" من نوع غزال برمي أهداف عديدة في الهور، واستمر الهجوم على مدى أكثر من أسبوع.
فصل من كتاب / حين مشينا للحرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو: هل تستطيع أوروبا تجهيز نفسها بدرع مضاد للصواريخ؟ • فر


.. قتيلان برصاص الجيش الإسرائيلي قرب جنين في الضفة الغربية




.. روسيا.. السلطات تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة| #ا


.. محمد هلسة: نتنياهو يطيل الحرب لمحاولة التملص من الأطواق التي




.. وصول 3 مصابين لمستشفى غزة الأوروبي إثر انفجار ذخائر من مخلفا