الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بداية ذئب- قصة قصيرة

كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)

2022 / 2 / 27
الادب والفن


قالت: لماذا لم تأت في الصباح؟ لم أتمكن من غسيل وجهي، فلم يكن بالصنبور ماء.
قلت: تؤلمني قدماي جداً. سرت حتى الظهر مسافة شاسعة تحت الشمس اللافحة، وقبل الغروب تفيأت جزع شجرة بلا أغصان.
قالت: تركت مصباح الغرفة مضاء رغم طلوع الشمس، فقد كانت السحب كثيفة والرياح تغمس العيون في التراب.
قال: يبيعون في السوق الحَمَلَ بجنيه والذئب بمائة.
قلت: خلعت حذائي وجوربي وغمرت أصابع قدمي ببقايا بركة النور التي تجف.
قال: عرضت نفسي هناك. اشتراني أحدهم بنصف جنيه.
قالت: اضطررت لقفل زجاج النافذة عند حلول المساء، وكان المصباح مغبراً والنور باهتاً، لكن المار في الطريق يستطيع أن يراه بوضوح. . الأغاني العاطفية التي يطفح بها الراديو تلون الجدران بلون ترابي. . كان الماء بالصنبور قد بدأ سرسوباً تافهاً. وقفت أمامه أكثر من قرن لأبلل وجهي.
قلت: كان الجوع يعصف بي، تلفت حولي، لم أجد ما يؤكل غير بضع ثمرات مطموسة في التراب، سقطت من شجرة منذ ألف عام. . كان حلقي جافاً، وريقي مراً. . لم تقو أسناني على قضم أصغر تلك الثمرات حجماً. كان مذاقها ملحياً.
قال: أكملت بتسعة وتسعين ونصف، ادخرتها في ست سنوات، واشتريت ذئباً صغيراً. . كان السوق مزدحماً، والحملان كثيرة. هناك أيضاً الكثير من النعاج والكباش، بحثت في كل الأنحاء حتى وجدت ذئباً معروضاً للبيع، ساومت صاحبه طويلاً. قلت لا أملك غير هذا المبلغ، لأنني في بداية حياتي.
قلت: اضطررت لطحنها بين حجرين، وتجرعت المسحوق المختلط بالتراب. . . . على امتداد النظر وحتى خط السماء لم يكن إلا الأحجار القديمة تتخللها الرمال. . وعندما هبت رياح الغروب نقلت الرمال من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا. . تعرت بعض الأحجار وظهرت حوافها المدببة، وغرق البعض تماماً في المستنقع المتنقل، بينما الباقي في انتظار لحظة تالية يظهر فيها على السطح، أو يستقر في قاع فيض جديد.
قالت: كنت متأكدة من مجيئك. كل لحظة تمر دون أن أسمع طرقاتك على الباب، كانت تثير تعجبي أكثر مما تدفعني لليأس. ثلاث مرات أسمع طرقات. أنتفض من مكاني هناك على حافة الفراش. أندفع نحو الباب. أفتحه. يداهمني الظلام. والصمت. واللاأحد.
قال: في الطريق إلى المنزل سار بجانبي لبعض الوقت هادئاً، ثم بدأ ينهشني. . كان ذلك مؤلماً. لكنني تحملت. ينبغي أن يتم هذا على أية حال. من الأفضل لو ينتهي كل شيء سريعاً.
قالت: فكرت مراراً في الهرب من أغلال الانتظار. . أخرج للطرقات. . ربما أجدك تتسكع على الأرصفة. . تدخن سيجارة أمام أحد الفترينات. . أقف بجانبك. . يتلامس كتفي بكتفك بمحض الصدفة. أتظاهر بالانشغال بفحص المعروضات. بالبحث عن لاشيء أشتريه. يشتريني. . يقترب وجهي من وجهك، وأنا أمد عنقي لطرف الفاترينة الذي تقف مقابله. ستشعر بالتأكيد بتلاحق أنفاسي وسخونتها.
قلت: كنت قد استندت إلى جذع الشجرة الذي كانت نتوءاته تؤلم ظهري. ربما أدمته. . اكتفيت بالدوران حوله، لأجد وضعاً أفضل. كل ما استطعت التوصل إليه تبدل مواضع الوخز في ظهري. . وجدت في هذا بعض الراحة.
قالت: أمام المرآة رأيت صدري يكاد ينفر من مكمنه. يتململ. يتمرد. . أطلقت سراحه من السوتيان. بدا أمامي متوحشاً. يكاد يهاجمني. . تقدح حلمتاه شرراً. ليس للانتظار خُلق مثل هذا الصدر. . شفتاي أيضاً تستصرخان أمطار القبلات. . أما فخذاي فكانا في حالة التصاق ملول.
قال: التهم جزءاً لا بأس به مني ونحن مازلنا في الطريق. . عندما وصلنا، لم يمر وقت طويل حتى أنجز المهمة بنجاح تام. . لم يبق مني شيء، حتى بقايا الدم على أرض الغرفة لعقها بحذق ونهم.
قالت: أكثر من مرة ارتديت ملابسي وهممت بالخروج، لكنني لم أجرؤ على فتح الباب، ناهيك عن ظلام السلم الدامس. . . . خيل إلى أنني إن فعلت سأهبط عدداً لانهائياً من الدرجات الحجرية دون درابزين أستند عليه. . ربما أيضاً في الظلام الحالك أعجز عن الاهتداء إلى الباب الخارجي المفضي للطريق. قد أستمر في الهبوط حتى البدروم. . يقولون أنه ينتهي بهوة سحيقة. بلا قرار. . يقولون أيضاً أن كثيرات يرقدن هناك، وقد انغرز رميم عظامهن بين الحصى والرمال.
قال: قام بعد ذلك إلى دولاب ملابسي يجربها. من حسن الحظ أنها على قياسه تماماً. حتى الحذاء، والملابس الداخلية، كل شيء. . . . تأنق في بذلتي الجديدة، ووقف أمام المرآة. . كانت الصورة عظيمة. بل مذهلة. . نفس الملامح. والطول. والعرض، لن يشك أحد في الأمر، حتى أقرب المقربين.
قلت: عندما اختفى قرص الشمس تماماً خلف الأحجار البعيدة، ولم يبق غير صفحة السماء الغربية المبللة بالنور، والتي سرعان ما ستجففها ريح الليل القادمة من الشرق، لحظتها أدركت أن علي أن أفعل شيئاً قبل أن يحتويني الظلام.
قالت: لهذا فضلت أن أنتظر. هذا ما تعلمته وأتقنته، لذا كنت واثقة أنك سوف تأتي.
قلت: اقتلعت جزءاً من جذع الشجرة المتهالك. أوقدت في طرفه النار. . معي الآن مشكاة أخترق بها جسد الليل.
قال: أدركت ساعتها أنني عند نقطة البداية.
قالت: ها أنت أخيراً. . لكنني أدور في طوق الزمن. أتدحرج. ربما نحو الليل. ربما نحو صباح يترنح بدوار طرقات المخاض.
مرت على بعد ذلك فترة صمت وعماء، تسللت بعدها خارجاً من غرفة المرايا المتعاكسة،وتركت الباب موارباُ.
***
من مجموعة قصصية "ليلة فصح فرعونية"- الحضارة للنشر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب


.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا




.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم