الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المصادر الأصلية للقرآن- وليم سان كلير تيسدال - الترجمة الكاملة - عبدالجواد سيد

عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)

2022 / 3 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


المصادر الأصلية للقرآن
الملاحم الوثنية والأساطير
وليم سان كلير تيسدال
ترجمة/ عبدالجواد سيد

This is the Arabic translation of Willian St.Clair Tisdal book, The Original Sources Of The Quran,
First published in 1905
Abdelgawad Sayed














الإهداء
إلى ذكرى وليم سان كلير تيسدال


















المحتويات:
مقدمة المؤلف
مقدمة المترجم
1-المصادر الأصلية للقرآن
2- مؤثرات المعتقدات العربية القديمة
3- مؤثرات الصابئة واليهود
4- مؤثرات المسيحية
5- مؤثرات الزرادشتية
6- مؤثرات الحنيفية
الخلاصة












مقدمة المؤلف
إن هذا العمل ، الذى نقدمه هنا ، لدارس علم الأديان المقارن ، هو نتاج لسنوات عديدة من دراسة الأديان الشرقية ، القديم منها والحديث، وبإستثناء الفصل الرابع ، الذى أخذت فيه كثيراً عن عمل الحاخام إبراهام غيغر، ماذا أخذ محمد عن اليهودية؟ ، فإننى لست مدينا ، بدرجة كبيرة ، لأى مصدر آخر عمل فى نفس المجال ، وأينما كنت مدركاً لأى دين آخر، فقد إعترفت بذلك خلال النص أو فى هامش الملاحظات.
إن أى دراسة للمصادر التى نشأ منها الإسلام، لن يكون لها قيمة، إلا إذا إرتكزت على دراسة شخصية كاملة للسجلات القديمة المتعددة المشار إليها ، والتى يمكننى أن أدعى ، وبكل أمانة ، أننى قد قمت بها فعلاً. إن كل الترجمات التى قدمتها هنا، من أى لغة، هى من عملى الخاص، وذلك بإستثناء فقرة أو فقرتين من اللغة الصينية ، وهى اللغة التى لم أدرسها تماماً. إن كل الترجمات الأخرى ، التى قمت بها هنا هى حرفية تماماً، حيث قد لاتبدو جيدة فى بعض الأحيان، ولكن قد بدا لى أنه من الضرورى أن أكون دقيقاً ، بحيث أضع القارئ فى موقف يمكنه من أن يحكم بنفسه على صحة ، أو عدم صحة ، آرائى ، وفى كل حالة ، فقد ذكرت إشارات عن الأعمال التى توجد بها الفقرات المترجمة فى لغتها الأصلية.
ولقد إستخدمت نظاماً دقيقاً لترجمة الأسماء العربية ترجمة تفسيرية/صوتية ، بإستثناء حالة مدينتى مكة والمدينة، حيث أنه إستثناء لايحتاج لشرح بالنسبة للعلماء العرب. ولقد ظهر عمل آخر لى فى نفس الموضوع باللغة الفارسية سنة 1900 تحت عنوان( يانبى الإسلام )، ولقد تمت مراجعة هذا العمل بشكل جيد بواسطة ذلك المفكر المقاتل، السير وليم موير، والذى يدين له كل دارسى الإسلام بسبب أعماله القيمة فى تاريخ محمد وخلفائه. وقد تُرجم الكتاب إلى العربية والأوردية، كما قام السير وليم موير بنشر مختصر للكتاب الصغير أيضاً. إن هذا العمل هو نتاج دراسة طويلة، ولقد كُتب بناء على دعوة كثير من الأصدقاء ، الذين رغبوا فى معالجة كلية للموضوع من خلال رؤية إنجليزية ، والتى لم تبدو جيدة عندما عالجت الموضوع أولاً بلسان شرقى ، ومن ثم ، من وجهة نظر شرقية.
وليام سان كلير تيسدال
القرن التاسع عشر - ديسمبر 1900






مقدمة المترجم
فى إبريل 2016 نشرت دراستى القصيرة عن أساطير العهد القديم وأصل الإسلام ، بناء على قناعة تامة بأن الإسلام هو مجرد محاكاة لتجربة شعب إسرائيل الدينية والسياسية، وأنه قد إستمد كل أصوله الفكرية والسياسية من هذه التجربة، وذلك من خلال الإحتكاك المباشر، الذى حدث بين القبائل العبرية والقبائل العربية بعد تدمير الرومان لأورشليم سنة 70م، وهجرة القبائل العبرية إلى منطقة الحجاز والجزيرة العربية فى إطار التفاعل العام الذى كان يحدث بين الشعوب السامية التى سكنت الجزيرة العربية فى العصور القديمة. ولقد كانت الدراسة عبارة عن دراسة مقارنة سريعة بين أقاصيص القرآن والتوراة ، وبين شرائع الإسلام واليهودية ، وحتى بين موسى ومحمد فى هدفهما الأساسى فى توحيد القبائل فى دولة وغزو المناطق المجاورة ، وقد جاءت الدراسة مختصرة مقنعة ، مع ذلك ، لمعظم من قرأها، وقد ضمنتها بعد ذلك مع مجموعة أخرى من الدراسات ذات العلاقة فى كتاب (أساطير الدين والسياسة)، الذى إستطعت نشره فى مصر سنة 2017 ، دون أن أستطيع توزيعه ، وفى حدود نفس التوقيت شاءت الصدفة أن أعثر على كتاب المؤرخ البريطانى الراحل ، وليام سان كلير تيسدال ، وهو كتاب قديم حديث نشر فى أكثر من 20 طبعة منذ 1905 حتى اليوم . ويقدم الكتاب رؤية موسعة عن أصول الإسلام الفكرية ، دون الخوض فى دوافعه السياسية تفصيلاً ، فلم تكن التوراة وتلمودها ومدراشها فقط هى من نقل عنها محمد ، ولكن كان هناك مصادر ومعتقدات وأساطير جانبية أخرى، عربية وصابئية ومسيحية وزرادشتية وحنيفية ، أكملت صورة الوعى الجمعى الأسطورى للعصور القديمة ، الذى نقل عنه محمد نقلاً حرفياً ، لذلك قررت ترجمة الكتاب ، وبدأت فعلاً فى نشر مقتطفات منه على الحوار المتمدن ، على سبيل الإضافة إلى كتابى أساطير الدين والسياسة ، فرغم الدافع الدينى ، وليس العلمى ، الذى إنطلق منه تيسدال فى نقده للقرآن والعقيدة المحمدية، فقد أورد فى الواقع تفاصيل ومتناقضات كثيرة تستحق التنويه ، ليس فقط عن أساطير القرآن ، ولكن عن كل أساطير الشرق الأوسط ، ودياناته الكبرى قبل الإسلام ، اليهودية والمسيحية والزرادشتية ، ولقد إستغرقت ترجمة الكتاب زمناً ، بسبب إنشغالى بأعمال أخرى، لكنها تمت أخيراً، ويسعدنى نشرها اليوم كاملة ، راجياً أن يجد القارئ فيها مايفيد ، ويعمق مجرى البحث عن الحقيقة، ويكشف عن ضخامة وسذاجة الوعى الجمعى الأسطورى لإنسان العصور القديمة ، والذى ظل يتنقل من زمان إلى زمان ، حتى وصل إلى العصور الحديثة فأثقل روحها وضميرها، فأصبحت تستنجد بنا اليوم ، ببترهذا الموروث الفكرى البدائى بتراً نهائياً ، حتى تكسر قيودها وتتحرر من كل ذلك التراث الإبراهيمى الخرافى العنيف، وتعبر إلى أنوار العصر الحديث.
عبدالجواد سيد
جاكرتا/ 1-3- 2022



1-المصادر الأصلية للقرآن - مقدمة
لاشك أن هناك قدر كبير من الحقيقة فى القول المأثور عن الفيلسوف الإغريقى القديم ، ديموقريطس ، بأن لاشئ يأتى من فراغ ، والإسلام ، عقيدة محمد كما يسميها معتنقوها ، بالتأكيد ليس إستثناءً من هذه القاعدة. إن الدور الهام الذى لعبه هذا الدين ، سواء خيراً أو شراً ، فى تاريخ الجنس البشرى ، والتأثير الكبير الذى مازال يمارسه فى كثير من البلاد الشرقية ، قد جعل الإستقصاء عن أصوله ، سواء من منطلق دينى ، أو تاريخى ، أو مجرد منطلق فلسفى ، إهتمام مشترك للجميع ، وذلك بإعتباره ، واحداً من أهم الحركات فى تاريخ الجنس البشرى. إن مجهودات كل هؤلاء الكتاب ، شبرنجر وويل فى ألمانيا ، والسير وليم موير فى إنجلترا ، قد مكنتنا من معرفة كل مانحتاج معرفته عن حياة وشخصية محمد ، وتاريخ العالم المحمدى ، ومن ثم فإننا لانحتاج لمعالجة هذه الموضوعات هنا.
إنه من المعروف أن أتباع محمد يؤمنون بانهم يستمدون عقيدتهم من محمد نفسه مباشرة، وأنهم يؤكدون على أنه كان آخر الأنبياء العظام ، وأن عقيدتهم ترتكز على القرآن، الذى يحتوى على الوحى الإلهى، الذى أوكل إلى النبى تبليغه إلى الإنسان، بالإضافة إلى أحاديثه، التى تحتل لديهم أهمية كبيرة، والمنقولة شفوياً عبر الأجيال، من خلال سلسلة طويلة من أتباعه، والتى سجلت فى وقت لاحق . إن هذين المصدرين مجتمعين ، القرآن والأحاديث ، يشكلان أساس الإسلام ، كما يعزى بكثير من الأهمية لمفسرى القرآن الأوائل، وإستنتاجاتهم الفقهية. ولكنا، وفى بحثنا عن أصل المعتقدات والمماراسات الإسلامية، غير معنيين بهذه الأخيرة، إلا فيما يتعلق بإلقائها الضوء على مايؤمن به المسلمون فعلاً، وحتى الأحاديث نفسها ، فهى تحتل مكاناً ثانوياً فى بحثنا هذا ، حيث أنها ، ومن وجهة النظر الأوربية على الأقل، غير مؤكدة المصدر، كذلك فإن الفرق المختلفة لعقيدة محمد ، تقبل بمجموعات مختلفة من هذه الأحاديث(1) ، وحتى جامعو هذه الأحاديث أنفسهم ، يعترفون أن كثيراً من الأحاديث التى جمعوها ، غير مؤكدة المصدر. ولكن وحيث أن معظم الأحاديث ، تشير بين الحين والآخر إلى اٌقوال وأفعال محمد، فسوف نشير إليها فقط ، فى الحالات التى تساهم بها فى شرح أو تفسير بعض النقاط الغامضة فى القرآن. فعلى سبيل المثال ، فإن السورة الخامسة عشرة من القرآن ، التى تسمى سورة قاف ، والمشار إليها بالحرف العربى لذلك الإسم ، حرف القاف ، يصبح من الصعب التأكد من معناها بدون الرجوع إلى الأحاديث ، التى تفسر لنا المعتقدات المتعلقة بجبل قاف(2) ، والتى أصبح إسم السورة يشير إليه. ومرة أخرى فى حالة السورة رقم 17 المعنونة بالإسراء، فنحن نقرأ فى الآية الأولى كلمات تقول ، سبحان الذى أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فهنا أيضاً يبدو من الطبيعى أن نلجأ إلى الأحاديث لنعرف المقصود من الآية ، حيث يمكننا أن نعرف كل مايعرفه علماء المسلمين على وجه اليقين فيما يخص الرحلة المقصودة ، والتى تسمى بشكل عام ، بالإسراء والمعراج.
أما فيما يتعلق بمعالجة تعاليم وطقوس الإسلام ، فسوف نتبنى قاعدة أن لانشغل أنفسنا إلا بالطقوس والممارسات ، التى يحتويها القرآن نفسه ، ضمنياً أو ظاهرياً ، أو المذكورة فى الأحاديث المقبولة عالميا من جمهرة الفرق المحمدية ، وذلك بإستثناء محمديى الهند الجدد ، والذين لايعتبروا مسلمين ، من قبل باقى الفرق المحمدية.
وقد يبدو من المناسب الإشارة إلى حقيقة أنه ، بالرغم من إفتراض وجود درجة من الإلهام فى هذه الأحاديث الصحيحة ، فإن مصداقيتها تختلف كثيراً عن مصداقية القرآن ، حيث تأتى فى المرتبة التالية له. ويمكن الإستدلال على ذلك من إختلاف أسلوب الكلام لهذين الشكلين من الوحى، فقد وضع القرآن فى شكل وحى متلى على محمد ، بينما وضعت الأحاديث فى شكل وحى ( منقول عن محمد ) حيث يعتبر القرآن وحده بمثابة النطق المباشر عن الخالق، ومن ثم فقد وضعت القاعدة ، بأن أى حديث ، ومهما كان موثقاً توثيقاً جيداً ، فلابد من رفضه إذا ماتعارض مع آية واحدة من القرآن. إن هذه القاعدة هى قاعدة هامة يجب مراعاتها فى معالجة المسائل المتعلقة بدين محمد، إنها تجعل من غير الضرورى أن نورط أنفسنا فى متاهات الجدل المتعلقة بصحة، أو عدم صحة، الأحاديث وإنه من الضرورى لهدفنا الحالى أن نلاحظ أنها ، وفى شكلها المكتوب ، قد وضعت بعد القرآن زمنياً.
وفيما يخص تاريخ القرآن، المقبول بواسطة جمهرة المسلمين فى كل مكان ، فإن لدينا معلومات مرضية كافية. إن بعض سور القرآن إحتفظ بها بعض نساخ محمد الكثيرين على أى مادة متوفرة ، كما تليت أول مرة، حيث كانت معرفة الكتابة منتشرة بين المكيين فى زمنه ، فكما نعرف ، أن بعض المكيين ، وعندما كانوا يقعوا أسرى ، كانوا يحصلون على حريتهم من خلال تعليم بعض أهل المدينة الكتابة. وسواء كان القرآن يسجل فوراً أولا ، فقد كان يحفظ فى الذاكرة فوراً، ويتلى فى وقت الصلوات العامة ، ومناسبات أخرى. وأثناء حياة محمد ، كان هناك رجوع دائم إليه ، فى حالة ظهور أى شك ، يتعلق بالمعنى الصحيح لأى عبارة قرآنية ، وتذكر الأحاديث أن بعض السور أو الآيات قد حُفظت فى شكل كتابى فى منازل زوجات محمد أثناء حياته ، وأن بعضها قد فقد، ولم يعثر عليه أبداً. ومن وقت لآخر ، كان النبى يأمر بإدخال بعض الآيات الموحى بها الجديدة فى بعض السور القديمة ، التى كان شكلها قد تأسس بالفعل ، وكذلك عنوانها الذى ظلت تحتفظ به، حيث يبدو أنه لم يكن هناك نظام للكيفية التى يجب أن تنظم بها هذه السور، وقد شكل كل منها كلاً مستقلاً ، كبيراً كان أو صغيراً . لم تكن مهمة حفظ السورعن ظهر قلب نتيجة الحب الشديد من قبل أتباع محمد فقط ، لكنها كانت قد أصبحت مصدراً للشرف والفائدة أيضاً ، لإن هؤلاء القادرين على تلاوة الجزء الأكبر من الآيات لم يكونوا ، فى التاريخ المبكر جداً ، مستحقين فقط لمنصب الإمام أو القائد فى الصلوات العامة ، بل كانوا أيضاً مستحقين لقدر أكبر من الغنائم.
وكما نعرف من البخارى، فقد نظم القرآن معاً فى وحدة واحدة، بعد سنة واحدة من وفاة محمد ، بواسطة زيد بن ثابت ، أحد أصدقاء وحواريى محمد ، وذلك بناء على أوامر أبى بكر. كان سبب تلك الخطوة ، أن عمر بن الخطاب قد خشى من أن سقوط كثير من حفظة القرآن قتلى فى معركة اليمامة (حوالى سنة 12 هـ) قد يعرض الوحى الإلهى ، أو جزء منه ، للفقدان ، ومن ثم فقد حث الخليفة(3) بقوة على الأمر بجمع سور القرآن المتناثرة ، وحفظها مكتوبة فى شكل صحيح . وقد شعر زيد بالتردد فى فعل مالم يفعله النبى نفسه، لكنه فى النهاية أذعن لأمر أبى بكر.(4) وكما روى عن ذلك بنفسه ( لقد قال لى أبوبكر، أنت أيها الشاب المثقف، نحن لانصدق أنك لاترغب فى تسجيل وحى رسول الله، هيا إبحث عن القرآن وإجمعه). لقد كان أسهل على لو أمرونى بتحريك جبل ، بدلاً من جمع القرآن. لم يتوقف أبوبكر عن حثى على جمعه حتى شرح الله صدرى، لأدراك كيف شرح صدريهما أنفسهما لأمرى. وبناء على ذلك فقد قمت بالبحث عن سور القرآن، سواء على غصن نخيل ، أو على حجر أبيض ، أو فى صدور الرجال، حتى وجدت خاتمته فى سورة التوبة عند إبن خزيمة الأنصارى فقط ، وليس عند أحد غيره.
ومن عبارة(جمع القرآن) يبدو واضحاً ان الكتاب لم يكن قد جُمع فى وحدة واحدة قبل ذلك. لقد كان من الطبيعى أن يمنع تقديس زيد لسيده إضافة أو حذف أى شئ من السور، التى تلاها عليه العديد من الأشخاص من الذاكرة والتى ، وفى كثير من الحالات ، وجدت مكتوبة على كثير من مواد الكتابة التى كانت مستخدمة عندئذ. إن حقيقة أن بعض الملابسات الأكثر دحضاً لزعم محمد فى أنه رسول من الله مازلت توجد فى القرآن ، هى دليل قاطع على الدقة الشديدة ، التى أنجز بها زيد المهمة التى أوكلت إليه. وسواء كان من الممكن له ، فى ذلك الوقت ، أن يتلاعب بالنص خلال سنة أو سنتين ، أم لا، فقد أنجز العمل، وسجل كل السور، وبشكل منفصل ، سورة على كل صحيفة. ويبدو أن هناك سبب وجيه للإعتقاد بأن ترتيب السور الحالية ، يعود إلى ذلك التاريخ، ولكن من الصعب الجزم بالنظام الذى أرتكزت إليه، بإستثناء أن سورة الفتح قد وضعت أولاً كنوع من التقديم للكتاب، وذلك لإنها كانت قد أصبحت مستخدمة على نطاق واسع فى الصلوات آنذاك ، ولذا فقد كانت معروفة أكثر. أما باقى السور فقد رتبت على أساس وضع السور الطويلة أولاً ، ثم تأتى السور الأقصر فى نهاية الكتاب. إن هذا تقريباً هو ترتيبها العكسى فى التاريخ. إن التاريخ يمكننا من معرفة فى أى نظام وأى ظروف قد تليت السور، أو بعضها ، ولكن وفيما يخص بحثنا هذا، فنحن لسنا معنيين بهذه المسألة تماماً، رغم أهميتها لدراسة التطور الصاعد للدين ، وكما أخذ يتشكل فى عقل محمد(5).
وبعدما أتم زيد عمله، سلم النص المكتوب بالخط الكوفى إلى أبى بكر، والذى حفظه بعناية تامة حتى وفاته، حيث إنتقل من بعده إلى عناية عمر بن الخطاب ، ثم ، وبعد وفاته ، إلى إبنته حفصة، إحدى زوجات محمد ، وبعد ذلك تم كتابة نسخ أخرى، سواء من نسخة زيد، أو من المصادر الأصلية التى إعتمد عليها زيد. وبمرور الوقت ، بدأت الأخطاء ، أو التغييرات ، تتسلل إلى نص القرآن ، كما كان يتلى ، وربما أيضاً ، إلى النسخ الأصلية ، حيث يبدو أن أبوبكر لم يقم بعمل نسخ مصدقة من نسخة زيد الأصلية ،ولذا فقد كان من غير الممكن تجنب الإتجاه الطبيعى للتغيير ، سواء المقصود أو غير المقصود ، والذى كان القرآن عرضة له ، مثله مثل أى عمل آخر، تتناقله الأجيال شفوياً ، ففى ذلك الوقت كان هناك لهجات عربية مختلفة، وكان من الطبيعى أن يكون هناك إتجاه ، فى المقام الأول ، لتفسير بعض الكلمات وفى المقام الثانى، للسماح لهذه اللهجات ، بأن تجد لها مكاناً فى الآيات المتلوة، ولقد سبب هذا كثيراً من الإضطراب والتشوش فى عقول المسلمين الأتقياء، وفى النهاية، وعندما كان عثمان منهمكاً فى غزو أرمينيا وأزربيجان ، حذره الصحابى حذيفة بن اليمان من خطر تعرض النص الأصلى للتشوه الشديد بهذه الطريقة ،(6) ويخبرنا البخارى أن حذيفة قال لعثمان (ياأمير الؤمنين ، إمنع هؤلاء الناس قبل أن يختلفوا مع بعضهم البعض حول الكتاب، كما حدث لليهود والمسيحيين) ، وبناء على ذلك ، فقد أرسل الخليفة إلى حفصة كى تسلمه النسخة الأصلية ، من أجل نسخها ، واعداً بإعادتها إليها ، بعد أن يقوم بذلك.
عهد عثمان إلى زيد ، مع ثلاثة آخرين من قريش ، قبيلة محمد ، بإخراج نسخة منقحة من الكتاب ، هذا على الأقل ماعبرت عنه لغته وهو يقول للقرشيين الثلاثة( أينما إختلفتم ، أنتم وزيد بن ثابت ، فى مرجعية أى جزء من القرآن ، إكتبوه باللهجة القرشية، فقد أوحى به بلهجتهم). وقد عرفنا أن النسخة المنقحة الجديدة قد نًسخت من النص الأصلى، أو معظمها على الأقل ، ولكن الكلمات التى إقتبسناها هنا تؤكد أن بعض التغييرات ، لابد قد حدثت ، ولو بحسن نية، و من أجل المحافظة على اللهجة المكية بشكل أساسى. ودليل آخر على أن بعض التغيير قد حدث ، توضحه لنا الرواية بأن زيد قد أعاد جمع آية ، لم تتضمن فى النص الأول ، والتى كان قد سمع بنفسه محمد يتلوها، ومع ذلك ، فلم يغامر بتضمينها ، بمجرد مرجعيته وحده ، ولكن بحث حتى وجد رجلاً آخر قادراً على تلاوتها من الذاكرة، وفقط عندما حدث ذلك ، فقد تم تضمين الآية فى سورة الأحزاب رقم 23( من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدلوا تبديلاً) ثم أعاد عثمان الأوراق إلى حفصة(7)، وأرسل إلى كل الأقاليم نموذجاً ، مما نسخوه ، وأمر بحرق كل ماعدا ذلك من أوراق أو أسفار .
وقد يبدو لنا ذلك الإجراء الأخير تعسفياً(8) ، لكنه قد نجح فى الحفاظ على نص القرآن منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم ، فى شكل واحد ، فى جميع الأراضى المحمدية، وحتى نسخة حفصة ، وهى النسخة الوحيدة التى كان يمكن أن تحتوى على بعض الإختلافات الهامة ، عن نسخة عثمان ، فقد تم إحراقها فى عهد مروان. إن إختلافات القراءة القليلة للغاية، والتى أظهرها البحث الدقيق، فى نسخ القرآن الموجود الآن ، تنحصر كلها تقريباً فى موضع علامات التشكيل ، والتى تميز الحروف عن بعضها البعض، وهذه الحروف ليس لها علامات مميزة فى الأبجدية الكوفية القديمة(9). وبناء على ذلك فإننا مدفوعين لإستنتاج أننا مازلنا نملك النص القرآنى كما تركه محمد ، ومن ثم فإنه يمكن لنا ، وبثقة تامة فى صحة النص ، أن نشرع فى دراسة الكتاب، حتى نتعرف على تعاليمه، ومن أين إشتق رواياته ومعتقداته، التى إحتواها وفُسرت ووسعت فى الأحاديث ، والتى تشكل دين محمد.
إنه من الصواب فى المقام الأول، ونحن بصدد مناقشة أصل الإسلام ، أن ندرس الآراء المعنية بالموضوع ، التى قال بها فقهاء الإسلام الأوائل ، وأن نرى إذا ماكانت هذه الآراء مؤيدة بتأكيدات من القرآن نفسه ، ثم نشرع فى الإستفسار عن السؤال ، فى إذا ماكان يمكن لنا أن نقبل هذه الآراء على أنها التفسير الصحيح للحقائق . إنه من المعروف جيداً أن علماء الإسلام قد أكدوا دائماً على أن القرآن هو كلمة الله نفسه، والتى أمر بنقشها على اللوح المحفوظ فى السماء، بزمن طويل قبل خلق العالم ، رغم أنه فى عهد الخليفة المأمون(198-218هـ/813-833م) وبعده، قد كان هناك جدل حاد بين هؤلاء الذين تمسكوا بفكرة خلود القرآن ، وهؤلاء الذين تمسكوا بفكرة خلقه، وهو جدل لسنا فى حاجة للخوض فيه ، فقد إتفق معظم المسلمين على أن الكتاب ليس من تصنيف محمد ، ولا من تصنيف أى كائن بشرى آخر، وأنه من عمل الله بالكامل ، وأن محمداً لم يكن سوى رسول فى ذلك ، إنحصر واجبه فى تلقى الكتاب المقدس ، وتوصيله للناس. ويخبرنا التاريخ أن الكتاب قد أًنزل فى ليلة محددة من السماء العليا إلى السماء السفلى بواسطة الملاك جبرائيل(10) ، والذى أخذ بعد ذلك فى وضع الآيات والسور تدريجياً فى عقل ولسان محمد، وعلى هذا فليس هناك شئ إنسانى فى القرآن على الإطلاق ، إنه إلهياً بالكامل.
وكى يدرك قارئنا أن هذه هى الرؤية المحمدية التقليدية للموضوع ،(11) فسوف نقتبس هنا فقرتين من مقدمة الكاتب العربى الشهير إبن خلدون(وعلى هذا فلتعلموا، أن القرآن قد نزل بلغة العرب، على أساليب بلاغتهم ، وكانوا كلهم يفهمونه ، ويعلمون معانيه من مفرداته وتراكيبه ، وكان ينزل جملاً جملاً وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع) وبعض هذه الآيات تحتوى على مقالات عن الإيمان ، وبعضها على وصايا السلوك). (12) وفى فقرة أخرى يقول نفس الكاتب (ويدلك هذا كله ، على أن القرآن بين الكتب الإلهية ، إنما تلقاه نبينا صلوات الله وسلامه عليه ، كما هو بكلماته وتراكيبه، بخلاف التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب السماوية ،فإن الأنبياء يتلقونها فى حال الوحى معانى ، ويعبرون عنها بعد رجوعهم إلى الحالة البشرية بكلامهم المعتاد ولذلك لم يكن فيها أى إعجاز).
إن هذا يعنى، أن علماء الإسلام ، بينما يعترفون بالأنبياء الذين أتوا قبل محمد حاملين رسالات من الله للإنسان ، فإنهم يصرون على أن وحى القرآن يختلف عن وحى كتبهم المقدسة ، الإنجيل والتوراة على سبيل المثال ، ليس فقط فى الدرجة ولكن فى النوع أيضاً ، فقد سمع محمد وحى القرآن يتلوه عليه جبريل من اللوح المحفوظ ، فردده خلفه كما هو ، لكن باقى الأنبياء قد إستقبلوا من الله أفكاراً ، بشكل أو بآخر ، ثم حولوها إلى كلمات بلغتهم الخاصة، ومن ثم فلا يمكن إدعاء أنها من مصدر غير بشرى، وعلى ذلك فقد إعتبرت العربية لغة السماء والملائكة، وكلمة الله نفسه. وبذلك فإن كل الكلمات والمجازات والتأملات والروايات، ونموذج الكتابة ، كلها من أصل إلهى.
ولايوجد شك، فى أن هذه الرؤية ، تتطابق تماماً مع روايات القرآن نفسه، فمقولة الأصل الإلهى ، يعبر عنها بمقولة (أم الكتاب) فى الآية 39 من سورة الرعد (يمحو الله مايشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) . ومرة أخرى وأخرى نجد مثل هذه التأكيدات فى القرآن (بل هو قرآن مجيد، فى لوح محفوظ ) ، كما هو مذكور فى الآيات رقم 21-22 من سورة البروج . إن كلمة القرآن نفسها تشير إلى ذلك ، حيث تعنى (المتلو). وفى مكان آخر نقرأ أن الله ، العلى القدير، قد أمر محمد أن يقول( قل الله شهيد بينى وبينكم، وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به) كما هو مذكور فى الآية 19 من سورة الأنعام ، وكذلك فى الآية الأولى من سورة القدر، حيث يمثل الله وهو يقول فى الإشارة إلى القرآن( إنا أنزلناه فى ليلة القدر). وهناك الكثير والكثير من مثل هذه الإستشهادات(13).
وعلى ذلك فإن تفسير المحمديين لأصل الإسلام ، والذى يرتكز على القرآن بشكل أساسى، هو أن الله نفسه هو المصدر الوحيد للإسلام ، وأنه ليس به أى مصدر بشرى، وأنه حتى ولا جزء منه قد إشتق، بشكل مباشرأو غير مباشر، من عقائد ورؤى سابقة عليه، وذلك رغم أنه قد جاء ليؤكد ماجاء فى التوراة والإنجيل ويدعى أنه يتفق مع تعاليمهم الأساسية الغير محرفة ، كما هو مذكور فى الآية 26 ومابعدها من سورة الحديد( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا فى ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون).
إن القراء الأوربيين نادراً مايحتاجون إلى دليل على أن مثل هذا الرأى فى أصل الإسلام بشكل عام ، أو أصل القرآن بشكل خاص، هو رأى ضعيف، فهؤلاء الذين لايستطيعون قراءة القرآن فى لغته العربية الأصلية ، يستطيعون دراسة تعاليمه من خلال الترجمات المتعددة المتاحة بلغات أوربية عديدة ، والتى تعتبرأشهرها تلك التى قام بها ، سال ، ورودويل ، وبالمر، فبالنسبة لأى عقل واع ، فإن التأكيد الذى نستعرضه هنا يدحض نفسه ، فضلاً عن أن أخلاقيات القرآن ، ورؤيته للطبيعة الإلهية ، ومفاراقاته التاريخية ، وتأثيراتها العديدة ، تجعل من المستحيل لنا أن نتصور أنه من تصنيف محمد نفسه. فعندما نرتب السور بالشكل التاريخى لتصنيفها ، ونقارنها بأحداث حياة محمد ، نرى أن هناك كثير من الحقيقة فى القول بأن الفقرات لم يوحى بها ، كما يزعم المسلمون ، ولكن صنفت بين الحين والآخر، وكما تطلبت الظروف ، لتصادق على كل إنطلاقة جديدة فى حياة محمد(14). إن القرآن فى الواقع هو مرآة صادقة لحياة وشخصية مؤلفه، إنه يتنفس رائحة الصحراء ، إنه يمكننا من سماع صرخات أتباع النبى وهم يندفعون إلى المعركة، إنه يكشف عمل عقل محمد نفسه ، ويظهر التراجع التدريجى لشخصيته ، وهو يمر من مرحلة المؤمن الرؤى المخلص ، إلى مرحلة المادى الواعى المنغمس فى الشهوات، كل هذا واضح لأى قارئ غير متحيز للقرآن.
وفى نفس الوقت ، فإن السؤال سوف يطرح نفسه ، من أين إقتبس محمد الأفكار، والحكايات ، والتصورات ، التى دمجها فى العقيدة التى أسسها ؟ وأى منها كان إختراعه الخاص ، وأى منها كان مشتقاً من نظم دينية أقدم ؟ وإلى أى مدى إمتلك وسائل تعلم تعاليم الديانات الأخرى؟ فإذا كان قد إٌقتبس من نظم دينية أخرى ، فأى أجزاء معينة من القرآن ، وأى طقوس دينية ، وأى تصورات وأى روايات ، وأى أوامر دينية ، يمكن تتبع مصدرها؟ وكم منها يعود إلى شخصية محمد نفسه وظروف عصره؟ إن تلك التساؤلات هى بعض من المشاكل التى سنحاول علاجها فى هذا الكتاب ، بقدر مانستطيع من وضوح ودقة. ومن أى وجهة نظر قد نعالج تلك التساؤلات ، فهى هامة فى كل الأحوال . ذلك أن مثل هذا البحث ، وإذا ماتم بأمانة ، سوف يمكن أى مسلم من تقدير عقيدته الموروثة تقديراً صحيحاً ، كما إن طالب علم الأديان المقارن ، سوف يتعلم من مثل هذا التحليل ، كيف ظهر أحد الأديان العرقية فى العصور التاريخية الحديثة، إذا مادرس الموضوع بتأنى ، وكذلك فقد يجد المبشر المسيحى أنه من الضرورى متابعة تلك الدراسة ، كى يتعرف من خلالها على طريقة جديدة لجعل أصحاب الإستفسارات الإسلامية يدركون مدى ضعف موقفهم ، ولكن ، دعونا نضع كل هذه الإعتبارات جانباً ، ونبدأ فى الإستفسار عما كانت مصادر القرآن الأصلية فعلاً.



الهوامش
1-كتب الأحاديث المعترف بها لدى السنة هى 1- موطأ مالك إبن أنس-2- جامع صحيح البخارى-3- صحيح مسلم -4- سنن أبو داوود سليمان -5- جامع الترمذى/سنن الترمذى -6- كتاب السنن لمحمد بن يزيد بن ماجة القزوينى، بينما لايعترف الشيعة من جهة أخرى بأى أحاديث سوى المذكورة فى -1- الكافى لأبى جعفرمحمد، المتوفى حوالى 329هـ/ -2- من لايحضره الفقيه للشيخ الصدوق المتوفى حوالى 381هـ/-التهذيب للشيخ أبوجعفر محمد ، المتوفى حوالى 466هـ/-4- الإستبصار لنفس المؤلف -5- ونهج البلاغة للشريف الرضى ، المتوفى حوالى 406هـ ، وسوف يجد الطالب فى مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب السير موير ، حياة محمد، بحثاً مثيراً للإعجاب للمصادر المتوفرة عن المعلومات التى تخص حياة محمد ، وكذلك رواية عن الطريقة التى يفترض بها القرآن شكله الحالى ، مع مناقشة عن قيمة ومصداقية الأحاديث. ولذلك فليس من الضرورى أن نتعامل مع هذه المسألة بشكل تام هنا ، كما كان يجب أن نفعل إذا لم تكن هذه الكتابات موجودة. ومع ذلك فربما أضيف ملاحظة، أن ماقيل فى هذا الفصل ، قد أخذ مباشرة من المصادر الأصلية.
2-أنظر ص 119 ومابعدها
3-تنطق هذه الكلمة بشكل عام ولكن خاطىء ، خاليف ، والصواب خليفة ، وهى تطلق على خلفاء محمد وتعنى نائب رسول الله.
4-أنظر مشكاة المصابيح ص 185 ومابعدها - من البخارى
5-رتبت سور القرآن فى شكل تأريخى بقدر الإمكان فى ترجمة رودويل للقرآن، رغم أن بعض السور المبكرة ، وبالتأكيد ، قد أدخل فيها بعض آيات متأخرة ، بعد أن كانت قد كتبت بوقت طويل ، أنظر التطور التاريخى للقرآن - كانون سيل.
6-أنظر مشكاة المصابيح ص 185-186
7- فراغ فى الهامش
8-أنظر الإعتراضات المسجلة فى إعتذار الكندى ، ترجمة سير موير ، ص72-78
9-بعض أمثلة من مثل تلك القراءات المختلفة تقع فى سورة الأنعام
10-تسمى ليلة القدر أى ليلة القوة
11- فراغ فى الهامش
12-فراغ فى الهامش
13-أنظر سور ، النساء ، والإسراء ، والأحقاف ، والنجم ، وغيرها
14- أنظر ص275 ومابعدها




2-مؤثرات المعتقدات العربية القديمة
لكى يمكننا أن ندرك التطور التدريجى للإسلام فى عقل محمد ، ولكى نكتشف المصادر التى إشتقه منها ، فمن الضرورى ، فى المقام الأول ، أن نتعرف على الآراء والطقوس الدينية الخاصة بالعرب ، الذين ولد وتربى بينهم. لم يكن كل سكان الجزيرة العربية من جنس واحد، وبشكل عام ، فإن الكتاب العرب يقسمونهم إلى عرب عاربة وعرب مستعربة، جاءوا من بلاد أخرى. يقدم لنا الحميريون ، وبعض القبائل الأخرى، آثاراً للنسب مع الإثيوبيين ، كما أن الروايات التى تقدمها لنا الألواح السومرية عن الغزوات المبكرة لأجزاء من الجزيرة العربية ، بواسطة الملوك السومريين والبابليين ، بالإضافة إلى حقيقة أن الملوك المصريين الأوائل ، قد فرضوا سلطانهم لفترة من الزمن على شبه جزيرة سيناء ، وربما على مناطق أخرى فى الشمال والغرب ، لاتدع مجالاً للشك ، بأنه كان يوجد، حتى فى هذه العصور القديمة ، عناصر حامية وأجنبية أخرى ، ضمن سكان الجزيرة العربية.
ففى أيام الممالك الكاشية العظيمة فى بابل ، مثلاً ، لايرجح أن يكون سكان الجزيرة العربية قد تأثروا ، إلى درجة ما ، بحضارتهم وتجارتهم وأفكارهم فقط ، ولكن لابد أن يكونوا قد تأثروا بعقائدهم أيضاً. إن النقوش العربية الأولى تثبت ذلك ، حيث إحتوت على نفس أسماء الآلهة ، مثل سن ، إله القمر، وعشتار ، عشتروت ، آلهة الخصب والنماء، التى كان يعبدها السومريون ، بشكل أساسى ، وبعدهم ساميو بابل وآشور وسوريا وبعض أجزاء الجزيرة العربية. ومع ذلك ، وبرغم وجود عنصر حامى فى السكان ، فبلاشك ، فقد كان معظم السكان سامي الأصل منذ العصور القديمة ، وكذلك سامي اللغة والشخصية والعقيدة.
لقد إحتفظ إبن هشام والطبرى ومؤرخون عرب آخرون بالتقاليد القديمة لبعض القبائل العربية ، خاصة هؤلاء الذين سكنوا المناطق الشمالية والغربية للجزيرة. إن هذه التقاليد تتفق مع روايات التوراة ، وتقدم كل سبب وجيه يجعلنا نؤمن أن معظم هذه القبائل يمكن أن يرجع أصلها إلى جوكتان ، أو قحطان العربى ، أو إلى إسماعيل(1) ، أو إلى أبناء إبراهيم من قطورة ، هاجر . وحتى هؤلاء الذين لم يكن لهم الحق فى إدعاء النسب إلى هذه الذرية ، فقد فعلوا ذلك فى زمن محمد ، حيث إدعت قبيلة قريش ، قبيلة محمد نفسه ، نسبها الى إبراهيم من خلال إسماعيل ، ورغم أنه قد يبدو من المستحيل إثبات ذلك ، فإن حقيقة أن ذلك كان إعتقاد القبيلة ، كان من الطبيعى أن يجلب قدراً من التعاطف العام مع قضية محمد، عندما أدعى أنه قد فوض من الله لدعوة شعبه الى عقيدة إبراهيم ، والذين كانوا يتباهون به كجد لهم.
ويبدو أن هناك سبب وجيه للإعتقاد بأن العقيدة الأصلية لأبناء سام ، كانت عبادة الإله الواحد(2). فرغم أن تعدد الآلهه قد وجد مدخلاً إلى الجزيرة العربية فى عصور مبكرة جداً ، من خلال المؤثرات الخارجية التى أشرنا إليها سابقاً ، فمع ذلك ، فإن الإيمان بالإله الواحد لم يضعف تماماً من عقل الشعب العربى. إن معظم المعاهدات الملزمة بين القبائل العربية المختلفة، كانت تؤكد بقسم يتلى سماعاً بإسم الله ، اللهم ، كما أن تعبير عدو الله، كان يعتبر أشد النعوت إزدراءً. إنه من الممكن أن نرى فى سفر أيوب ، الفصل 31 الإصحاح 26-28 ، الدليل على أنه حتى فى هذه الفترة المبكرة ، فإن عبادة النجوم ، وجدت لها مكاناً فى البلاد.
ويخبرنا هيرودوت فى الكتاب الثالث صـ 8 أن العرب كانوا يعبدون فى زمانه إلهين ، ذكر وأنثى، وأنه قد قاربهما بديونيسيوس وقورنيا، وأن إسميهما العربيين كانا أوروتال وأورانيا - اللات ، ومن المحتمل أن إسم الأخير كان هو إسم الإله اللاتو البابلى، ومن المؤكد أنه نفس اللات المذكور فى القرآن(3) والذى أعتبر مؤنت كلمة الله ، كما إعتبرت كلمة الله نفسها مختصر كلمة الإله، وهى الكلمة المستخدمة فى كل اللغات السامية بأشكال مختلفة قليلاً للتعبيرعن الله. إن الشكل الذى قدمه لنا هيرودوت هو الشكل الغير مختصر لمؤنث كلمة الله (4) وعلى هذا فمن الممكن أن العرب الذين تحدث عنهم هيردوتس قد ألحقوا إلههم الواحد برفيق أنثى(5)، على نفس طريقة سامي بابل، والذين تعلموا من السومريين فكرة أن كل إله لابد أن يكون له نظير أنثى(6) ، تماماً كما نجد بين الهندوس. لكن ومن جهة أخرى، فإننا لانجد المبرر للإعتقاد بأن هذه كانت الحال بين جميع العرب ، وبالتأكيد فلم تكن كذلك فى زمن محمد ، لإنه لا القرآن ، ولاماتبقى من شعر عربى قديم ، قد عبر فيه العرب عن مثل تلك العقيدة. لقد إعتبر الله سامياً وحده ، غير ممكن الوصول إليه ، وكانت الآلهة الأصغر الخاصة بالقبائل المختلفة ، تعبد كوسيط له. كانت تلك كثيرة ، وكان أهمها وود ، وياق ، وهبل ، واللات ، العزى ، ومناة. كانت الثلاث الأخيرة آلهة مؤنثة، وقد وبخ القرآن العرب لإعتبارهم إياها بنات الله(7). لم يكن عرب ذلك الزمان، وكما يمكن أن نحكم من أشعارهم ، شديدى التدين، وكانت معظم عباداتهم لتلك الآلهة الصغرى، رغم أنهم كانوا يعتقدون أنهم يخاطبون الله نفسه من خلالها.أما الله الواحد ، فقد كان غالباً مايسمى ، بالله تعالى ، أو الله العلى القدير، وهو لقب للإله ، قديم جداً بلاشك(8).
إنه من غير الممكن معارضة أن إدراك وحدة الإله قد أدخلت على العرب ، لأول مرة، بواسطة محمد. ولكن ولإن كلمة الله تحتوى على أداة التعريف ، فإن هذا دليل على أن هؤلاء الذين إستخدموها ، كانوا مدركين ، ولدرجة ما ، للوحدة الإلهية . إذن فمحمد لم يخترع الكلمة، ولكن ، وكما ذكرنا ، قد وجدها مستخدمة بالفعل بين رفاقه العرب فى الوقت الذى إدعى فيه أنه نبى ورسول من الله . وليس من الصعب البحث عن الدليل على هذا ، فقد كان عبدالله ، والد محمد نفسه ، والذى مات قبل ولادة إبنه ، يسمى عبدالله ، أى خادم الله. وكذلك كانت الكعبة(9) ، معبد مكة ، ولزمن طويل قبل زمن محمد تسمى بيت الله. وتؤكد التقاليد العربية ، أن هذا المزار لعبادة الله ، قد بنى فى هذا الموقع بواسطة إبراهيم وإبنه إسماعيل. ورغم أننا لانستطيع إعتبار هذه الرواية رواية تاريخية بأى شكل ، فإن هذا التقليد يخدم على الأقل فى إظهار قدم العبادة التى كانت توفرها ، حيث فقد أصلها فى الخرافة. إن الكعبة ، بيت الله ، وفى أرجح الأحوال، هى المكان الذى أشار إليه ديودور الصقلى حوالى سنة 60 ق.م (10)والذى يحتوى مزار أو معبد ، وكان مقدساً بشكل خاص من قبل كل العرب. وفى الأشعار المعروفة بالمعلقات ، والتى وصلت إلينا ، من عصر ماقبل الإسلام ، كانت كلمة الله دائمة التكرار. كما أن إبن إسحاق(11) أول كاتب لسيرة محمد ، والتى وصلت إلينا بعض بقايا عمله ، على لسان إبن هشام ، قد ذكر أن قبائل كنانة وقريش، وعندما كانوا يمارسون طقس الإحلال ، كانوا يخاطبون الله بمثل هذه الكلمات(12) لبيك اللهم لبيك ، لبيك لاشريك لك ، إلا شريك تملكه وماملكك).
ويذكر إبن إسحاق أنهم بهذا الخطاب كانوا يعلنون إيمانهم بوحدانية الله، لكنه لم يشرح ماذا كانوا يعنون بعبارة إلا شريك تملكه وماملكك ، ولكن يمكن التخمين بأن الإشارة كانت إلى إله أصغر، يتبع أحد القبائل التى ذكرها. ولكن وفى كل الأحوال، فإن اللغة المستخدمة تظهر بوضوح أن الكائن المشار إليه لم يكن بأى شكل من الأشكال فى مركز مساوياً لمركز الله. وعلى هذا فإن عقيدة العرب القدماء يمكن مقارنتها بعبادة القديسين فى الكنائس اليونانية والرومانية، مثلما كان الحال فى زمن محمد، وفى زماننا، وهى العبادات التى، وبرغم القرآن، منتشرة الآن فى الإسلام. لكن العبادة فى مثل هذه الحالات، سواء للقديسيين أو للآلهة الأصغر، لايفترض أنها تمثل إنكاراً لوحدانية وسمو الله، حيث أن الأخيرين يعبدون فقط كوسطاء بين الله والإنسان. إن مايقوله لنا الشهرستانى عن الأفكار والممارسات الدينية فى الجزيرة العربية قبل الإسلام ، يؤكد ذلك(13).
ويقسم الشهرستانى سكان الجزيرة العربية إلى طوائف أو معتقدات كثيرة ، مختلفة تماماً فى آرائها الدينية. وقد ذكر أن بعضهم كان ينكر وجود خالق ، أو أنبياء ، أو يوم حساب ، مؤكدين على أن الطبيعة نفسها كانت هى المانح للحياة ، وأن الزمن كان هو المحطم الكونى. لكن البعض الآخر كان يعتقد فى خالق ، ولكنه كان ينكر أن يكون الإله قد أفصح عن وجوده عن طريق إرسال أنبياء مفوضين بإعلان مشيئته. كما كان هناك بعض آخر يعبدون الأوثان ، وكان لكل قبيلة منها وثن. وعلى سبيل المثال ، فقد كانت قبيلة كلب تعبد وود وسواع ، كما كانت مدحج تعبد ياجوث ، وكذلك بعض اليمنيين. وكانت قبيلة ذو الكلاع فى حمير تعبد نسر ، وكانت قبيلة حمدان تعبد ياووق ، وكانت ثقيف فى الطائف تعبد اللات ، كما كانت العزى هى الآلهة الكبرى لبنى كنانة وقريش. وقد عبدت قبائل الأوس والخزرج مناة ، كما إعتبرت هُبل كبير آلهتها. كان تمثال هُبل معلقاً فى أوضح الأماكن على سطح الكعبة. كذلك كان هناك أساف ونائلة. وقد خضعت بعض القبائل لمؤثرات المستعمرات اليهودية القريبة منهم ،و قبلت كل أو جزء من تعاليم أهلها. كما إعتنق البعض المسيحية ، بينما كان جيرانهم غير راغبين فى تلك العقيدة. وكان البعض الاخر متأثراً بعقائد الصابئة، وإعتادوا على ممارسة التنجيم ، وأخذ الفأل من حركات الأجسام السماوية المقدسة ، كمرشد لهم فى كل الأمور الهامة. وقد عبد البعض الملائكة ، والبعض الاخر عبد الجن والأرواح الشريرة. وقد أشتهر أبوبكر نفسه ، والذى أصبح الخليفة الأول للرسول بعد ذلك ، بكفائته فى فن تفسير الأحلام.
وتُظهر قصة(14) رواها كثير من كتاب العرب ، و تحتوى على بعض أفضل التعليقات على القرآن ، كيف كان العرب فى زمن محمد ، وحتى هؤلاء الذين كانوا أشد معارضة له فى مكة ، والذين أرغموا معظم مريديه الأولين على الهرب إلى الحبشة ، مستعدين للإنضمام إليه فى عبادة الله تعالى ، وذلك عندما بدا مستعداً لبعض الوقت لسحب معارضته لتعظيم آلهتهم الصغرى . ويذكر، أنه قد ذهب ذات يوم للصلاة فى الكعبة، المزار القومى الكبير فى مكة، والتى كانت أسرته مسئولة عنه فى زمن ما ، وهناك بدأ فى إعادة تلاوة سورة النجم وعندما تلى الآيات التاسعة عشرة والعشرين( أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة) أضاف إليها بعض الكلمات(تلك الغرانيق العلى، إن شفاعتهن لترتجى)، وكان عند سماعها ، أن صلى معه كل العرب الحاضرين ، وإنتشرت الإشاعة فى كل مكان ، بحيث إعتنق كل العرب الإسلام.
إن هذه القصة مصدقة وحقيقية إلى درجة كبيرة، ولكن وفى أى الأحوال، فمجرد وجودها يظهر أن معارضى محمد لم يجدوا صعوبة فى قبول تعاليمه فيما يخص وجود وسمو الإله ، وأنهم كانوا يعبدون الآلهة الصغرى كوسطاء له. وإنه من الإنصاف أن نقول أن محمد سرعان ماسحب هذه الكلمات التى تدل على وجود وتأثير تلك الآلهة الصغرى، قائلاً أن الشيطان هو الذى وضعها على لسانه(15).
ويقرر إبن إسحاق وإبن هشام والكتاب العرب عموماً أن العرب، وخاصة هؤلاء الذين تباهوا بنسبهم إلى إسماعيل، كانوا فى البداية من عباد الله وحده، وأنهم، ورغم أنهم بعد زمن ما، قد ضلوا إلى عبادة الأوثان والشرك بالله، والذى قد ينطبق على مثل الأفكار والممارسات الدينية التى وصفناها هنا، فإنهم مع ذلك ظلوا يتذكرون دائماً أن الله العلى القدير، كان دائماً فوق كل الآلهة الصغرى.
وعندما نأتى لتقييم المؤثرات المسيحية واليهودية فى عقل محمد ، سوف نرى أن هذه العقائد قد قوت ، بلاشك ، من إعتقاده بالوحدانية، لكن ذلك لم يكن إيماناً جديداً بين العرب فى زمنه ، لإنه ، وكما رأينا ، فقد أقروا به دائماً ، على الأقل نظرياً، ورغم أن الآلهة الصغرى التى عبدوها كانت كثيرة للغاية ، حيث ذُكر أنه كان هناك مالايقل عن ستمائة وثلاثين وثن حول الكعبة ، والتى كانت بمثابة معبد قومى للعرب ، فمع ذلك ، فإن هذه الآلهة القبلية المحلية ، كانت تختفى فى الظل تماماً ، بين الحشود العظيمة من عباد الله تعالى .
ومع ذلك ، فيجب ملاحظة ، أن المؤرخين العرب الأوائل يؤكدون، سواء بشكل صحيح أو بشكل خاطئ، أن إرتباط الآلهة الصغرى بالإله الواحد ، كان ذا أصل حديث نسبياً فى هذه الأجزاء من الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام. ويخبرنا الحديث السادس عشر، والمستند إلى مرجعية محمد نفسه (16) ، أن الأوثان قد أُحضرت من سوريا ، كما يعطينا الأسماء الرئيسية التى قامت بإحضارها. وقد حدث هذا قبل نحو خمسة عشر جيلاً فقط من زمن محمد. ولابد أن حالة تقديس الأحجار المقدسة هى إستثناء، فقد كانت شائعة فى فلسطين فى الفترة الأبوية، وكانت بلاشك ذا قدم سحيق فى الجزيرة العربية. ويحاول إبن إسحاق(17) تفسير ذلك بإفتراض أن المكيين قد إعتادوا أن يحملوا معهم فى رحلاتهم قطع من الحجارة من الكعبة ، وتقديسها لإنها أتت من الحرم ، أو المسجد الحرام. ويذكر هيرودتس(18) إستخدام سبعة أحجار من قبل العرب عندما كانوا يقسمون بأغلظ الإيمان. إن التشريف الذى يصل إلى حد التقديس تقريباً ، والذى مازال الحجاج المسلمون يؤدونه للنيزك الشهير، الحجر الأسود، والذى بنى فى جدار الكعبة، هو أحد العادات الإسلامية الكثيرة، التى إشتقت من عادات هؤلاء العرب، الذين عاشوا بزمن طويل قبل زمن محمد. فالقبلة التى يطبعها عليه الحاج المحمدى التقى هى إستمرار للممارسة القديمة، والتى كانت شكلاً من أشكال العبادة فى الجزيرة العربية، وفى أماكن كثيرة أخرى. وقد رويت حكايات كثيرة عن هذا الحجر فى ماقبل زمن محمد ، وهى حكايات مازال يُعتقد فيها بقوة. وتروى أحد الأحاديث أنها قد نزلت من الجنة ، وأنها كانت أصلاً ذا لون أبيض صاف ، لكنها قد أصبحت سوداء من خلال خطايا البشر، وتبعاً لحكاية أخرى، من خلال الإتصال بشفاة أحد الحجاج غير المطهرين. ولإنه من المعروف الآن أنه ذو أصل نيزكى، فإن جزء من القصة ، قد تم تفسيره بالفعل.
إنه ليس فقط فيما يخص الإعتقاد فى الله تعالى وفى تقديس الحجر الأسود والكعبة، ولكن فى أمور كثيرة أخرى أخذ الإسلام من العرب الأقدمين. وإنه ليس من المبالغة أن نقول أن معظم الشعائر والإحتفالات الدينية التى تنتشر الآن فى العالم المحمدى تماثل تلك التى كانت تُمارس فى الجزيرة العربية منذ أزمنة سحيقة(19)، وعلى سبيل المثال ، يخبرنا هيرودوتس(20) أنه فى زمنه، قد إعتاد العرب على حلاقة لحاهم وتقصير شعورهم حول معبدهم ، ومازال المحمديون يفعلون ذلك فى بعض البلاد حتى اليوم(21). وإذا ماكان هناك أى فرق، بين الأمس واليوم، والذى لانستطيع التأكد منه حيث اننا لانعرف إذا ماكان الرحالة الإغريقى قد رأى فعلاً أحد العرب حاسراً الرأس ، فهو يكمن فى حقيقة أن الحلاقة قد إستمرت من الجبهة إلى خلف العنق ، مع السماح بنمو قليل من الشعر على جانبى الرأس . ويبدى أبو الفدا(22) إهتماماً إلى عدد المماراسات الدينية القديمة التى إستمرت فى النظام الإسلامى الجديد(23) ، وكما يقول، كان العرب فى الجاهلية، قد إعتادوا على فعل أشياء، تبناها القانون الدينى للإسلام(24)، فقد إعتادوا أن لايتزوجوا من أمهاتهم أو بناتهم ، وكان الزواج من أختين من أشد الأمور إستنكاراً بينهم ، وقد إعتادوا أن يشهروا بالرجل الذى تزوج من زوجة أبيه ، ومناداته بضيزان ، وبالإضافة إلى ذلك ، فقد إعتادوا على أداء الحج إلى الكعبة وزيارة الأماكن المقدسة(25) ، وإرتداء ملابس الإحرام (26) قطعة الملابس الواحدة التى يرتديها الحاج حتى اليوم عندما يطوف حول الكعبة والطواف والهرولة بين الصفا والمروة، والوقوف فى محطات المناسك ، ورمى الجمرات فى وادى منا ، وكان من عادتهم نسأ شهر(27)، وكذلك يذكر أن الختان كان يمارس من قبل العرب الوثنيين(28) ، كما مازال هو الحال بين كل المسلمين ، رغم أنه غير مفروض فى القرآن. وهذه الرواية الأخيرة يؤكدها مؤلف إنجيل برنابا غير القانونى(29) حيث يقول ( كل سورى وعربى وكل كهنة الأوثان مختونين). وإنه من المعروف أن نفس التقليد كان شائعاً بين المصريين القدماء أيضاً. ويستخدم إبن إسحاق(30) نفس اللغة مثل أبو الفدا ، ولكنه يضيف أن العادات التى يذكرها، والتى تشمل الإحلال ، قد تم إتباعها منذ زمن إبراهيم. ولاشك أن ذلك حقيقى فيما يخص الختان ، ولكن من الصعب إثبات أى علاقة بين إبراهيم وبين الطقوس الأخرى المشار إليها ، وذلك رغم إعتقاد محمد ، أن إبراهيم قد زار مكة ، وتعبد لله ، فى المكان الذى تقف عليه الكعبة الآن.
إنه من الواضح، من كل ماسبق ذكره، أن المصدر الأول للإسلام يوجد فى المعتقدات والمماراسات الدينية للعرب زمن محمد (31)، ومن هذا المصدر الوثنى أيضاً، أخذ الإسلام تقليد تعدد الزوجات، والرق، والذى ، وبسبب تبنيه الشخصى له ، سوف يظل محمد مداناً فى كل الأزمان.
ملحق :
حتى الوقت الحالى ، مازال يقال فى الشرق أحياناً، أن محمداً لم يتبنى كثيراً من العادات والشعائر العربية الدينية للوثنيين العرب وضمنها فى الإسلام فقط، ولكنه متهماً أيضاً بالسرقة الأدبية من خلال إقتباس أجزاء من بعض أشعار إمرؤ القيس ، الشاعر العربى القديم ، ومن المؤكد أن هذه السرقات ربما مازلت توجد فى القرآن. ولقد سمعت حتى قصة بأنه ذات يوم وعندما كانت فاطمة إبنة محمد تتلو الآية الأولى من سورة القمر( إقتربت الساعة وإنشق القمر) كانت إبنة الشاعر حاضرة وقالت لها ،هذا بيت من أحد قصائد أبى ، وقد سرقه أبوك ، وإدعى أنه أوحى له به من الله). لكن هذه القصة قد تكون كاذبة لإن إمرؤ القيس مات حوالى سنة 540م من الحقبة المسيحية ، بينما لم يكن محمد قد ولد حتى عام الفيل سنة 570م.
ومع ذلك ففى طبعة حجرية للمعلقات حصلت عليها فى فارس، وجدت فى نهاية المجلد بعض قصائد منسوبة إلى أمرىء القيس ، رغم عدم ذكرها فى أى طبعات أخرى مما رأيت من أشعاره. وفى هذه القصائد المشكوك فى نسبتها وجدت الأبيات المذكورة أدناه (32) ، رغم إحتوائها على بعض الأخطاء الواضحة، والتى أعتقد أنه من الأفضل ذكرها بدون تصحيح. إن الأبيات المعلم بخط فوقها مذكورة أيضا فى القرآن فى السورالآتية( سورة القمر الآية 1- إقتربت الساعة وإنشق القمر، والآية 29 ، فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر، والآية 31، إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتضر، والآية 46 بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ، وفى سورة الضحى الآيات 1-2، والضحى والليل إذا سجى، وفى سورة الأنبياء الآية 96 حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، وفى سورة الصفات الآية 61 ، لمثل هذا فليعمل العاملون ) وبإستثناء أنه فى بعض الكلمات يوجد إختلافات بسيطة ، فإن المعنى واحد. فمن الواضح إذن وجود علاقة ما بين هذه السطور والآيات المشابهة فى القرآن. ولكن يوجد سبب قوى للشك فى إذا ماكان إمرؤ القيس هو مؤلف هذه السطور، فقد تكون مقتبسة من القرآن، بدلاً من أن تكون قد أدخلت عليه من مؤلف عاش بعد زمن محمد ، ومع ذلك ، فمن الصعب أن نفترض ، إنه بعد تأسيس الإسلام كان يمكن لأى إنسان أن يتجرأ بمحاكاة القرآن وأخذ آيات منه وتطبيقها على الموضوع الذى تشير إليه هذه الأشعار، ولكن ومن جهة أخرى، فقد كان من المعتاد جداً حتى فى العصور الحديثة نسبياً ، الإستشهاد بآيات من القرآن، وإدخالها فى تصنيفات حديثة ذات صبغة فلسفية أو دينية. إنه من الصعب التصور أن يغامر محمد بسرقتها من مؤلف مشهور مثل إمرىء القيس( رغم أنه ، وكما سوف نرى، قد فعل ذلك من مصادر أجنبية أقل شهرة) ولذا فيمكننا أن نفترض جزئياً أن هذه القصائد لم تكن معروفة على نطاق واسع بين المعلقات المشهورة ، إن المعروف عن المعلقات بشكل عام هو انه حيثما صاغ أى شاعر قصيدة بليغة فإنها كانت تًعلق فى سقف الكعبة، وأن كل الأشعار فى هذه المجموعة المشهورة كانت تحمل إسم المعلقة ، على نفس العادة. إن المرجعيات الموثوقة تنفى مع ذلك أن هذا كان أصل التسمية(33) ، ولكن تلك مسألة غير هامة. وعلى الرغم من القصة الشرقية التى ذكرتها عن سرقة محمد للمعلقات ، فإن ميزان الإحتمال يميل بالتأكيد نحو إفتراض أنه بريئاً(34) من تهمة التجرؤ على تلك السرقة الأدبية الذى إتهم بها(35).


الهوامش
1-ليس من الضرورى مناقشة مفارقات موضوع الهوية هذا.
2-ليس هذا هو المكان المناسب لمحاولة إثبات حقيقة إيمان أبناء سام بالتوحيد، والتى نعتقد أنها صحيحة رغم ماكتب ضدها من جانب آخر.
3- سورة النجم رقم 53 - الآية 19 - أفرأيتم اللات والعزى
4- فى الآشورية إيلو هو الله وإلاتو هى الإلهة ، وألاتو هى تقريبا الإلهة أيضا فى الأكدية-البابلية
5-قد يكون من المفيد الإستشهاد بنص هيرودت كاملاً حيث أننا سنرجع إليه مرة أخرى( والعرب يعبدون إلهين فقط هما ديونسيوس وأورانيا، ويقولون أن أسلوبهم فى حلاقة شعرهم بشكل دائرى وحلاقة الشعر فى منطقة الصدغين، هو محاكاة لديونيسيوس وهو فى لغتهم أوروتال ، أما أورانيا فهى اللات). تاريخ هيرودت الكتاب الثالث، ترجمة عبدالإله الملاح مراجعة دكتورأحمد السقاف، ودكتور حمد بن صراى ، المجمع الثقافى، أبوظبى 2001.
6- العديد من العلماء ، ومنهم الدكتور ساسى فى محاضراته عن أديان مصر وبابل، يؤكدون أن تلك فكرة سامية أصلية.
7- سورة النحل الآية 59( يتوارى من القوم من سوء مابشر به أيمسكه على هون أم يدسه فى التراب ، ألاساء مايحكمون) سورة النجم الآية 19(أفرأيتم اللات والعزى) الآية 21(ألكم الذكر وله الأنثى) الآية 28 والمقصود 27( إن الذين لايؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى).
8- وردت كلمة تاالله فى نص هيرودوت ، والتى يمكن أن تكون تحريفاً غير مقصود لكلمة الله تعالى، التى وردت أيضاً فى سفر التكوين
9- كان هناك أيضا إبن عم لمحمد يدعى عبيدالله - ترجمنا كلمة nephew of Muhamed الواردة فى الهامش بإبن عم لمحمد ، حيث لم يكن لمحمد إخوة أو أخوات ، كما تشير الكلمة الإنجليزية nephew
10- فراغ فى الهامش
11- وعلى سبيل المثال ، نجد فى ديوان النابغة الذبيانى ، القصيدة الأولى - الثانية، الأبيات 23-24 ،
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير عوازب
محلتهم ذات الإله ودينهم قويماً فما يرجون غير العواقب.
وفى القصيدة الثالثة الأبيات 9/10
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
بأنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهم كوكب
والقصيدة الثامنة الأبيات 5/6
ونحن لديه نسأل الله خلده يرد لنا ملكاً وللأرض عامراَ
ونحن نزجى الخلد إن فارق قدحنا ونرهب قدح الموت إن جاء قامراً
وجاء أيضاً فى ديوان لبيد بن ربيعة
لعمرك ماتدرى الضوارب بالحصى ولازاجرات الطير مالله صانع
12- مقتبس من إبن هشام - الطبعة المصرية - الجزء الأول ص 27-38
13- أنظر الشهرستانى ، الملل والنحل ، وقد نقل عنه أبو الفدا ، أنظر كذلك هنريخ فليشر ، تاريخ العرب قبل الإسلام - تحقيق تاريخ أبى الفدا ، ولودولف كريل ، ديانة عرب ماقبل الإسلام.
14-رويت القصة فى المواهب اللدنية للقسطلانى بأشكال عدة، كذلك رواها إبن إسحاق ، وقبلها إبن هشام، والطبرى ، ويحيى ، وجلال الدين السيوطى ، والبيضاوى ، بناء على تفسيره للآية 52 من سورة الحج (وماأرسلنا من قبلك من رسول ولانبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله مايلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) ، بينما ينفى الغزالى والبيهقى وآخرون أن يكون النبى قد وافق على عبادة الأصنام ولو للحظة فى سورة النجم ، ومع ذلك فإن لم تكن القصة حقيقية ، فما كان يمكن أن يقبل بها العلماء المشار إليهم أعلاه.
15- سورة النجم - الآيات 21-22-23(ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ضيزى إن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ماأنزل بها الله من سلطان إن يتبعون إلا الظن وماتهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى).
16-سيرة الرسول ص 27 ومابعدها
17-نفس المرجع
18-هيرودت، الكتاب الثالث، المذكور سابقاً ، ص 27
19-وفيما يخص إتباع رمضان كشهر للتحنث أنظر ص 269 ومابعدها
20-إستشهد به سابقاً ص 32
21-يترك بعض العرب شعورهم طويلة كما إعتادوا فى زمن محمد، ويبدو أنه ليس هناك قاعدة دينية فى هذا الموضوع، وإنما يعتمد على ممارسات المسلمين تبعاً لمناطقهم المختلفة.
22-تاريخ العرب قبل الإسلام، تحقيق تاريخ أبى الفدا ، هنريش فليشر ص 180
23-يسمى عصر ماقبل دعوة محمد بعصر الجاهلية
24-أنظر أيضاً إعتذار الكندى ، ترجمة السير وليم موير ص 92-93
25- وكما هو معروف ، فإن الحج إلى مكة فرضاً على كل رجل مسلم قادر.
26-ويقول آخرون أن العرب الوثنيين كانوا يطوفون عراة حول الكعبة لكن محمد أدخل لهم الإحرام
27-وقد ألغى النسئ فى عصور الإسلام ، أى تحريك الشهور القمرية كى توائم الظروف.
28- كما هو الحال فى قوانين حموابى
29- فراغ فى الهامش
30- سيرة الرسول ، الجزء الأول ص 27
31-إستعار محمد أيضاً بعض الخرافات الشائعة بين العرب الوثنيين مثل حكايات عاد وتمود وسواها الواردة فى سورة الأعراف الآيات 63-77 (وإلى عاد أخاهم هوداً قال ياقوم أعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون) مروراً بالآية 73 ( وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال ياقوم إعبدوا الله مالكم من إاله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل فى أرض الله ولاتمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) حتى الآية 77( فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح إئتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين) - يلاحظ أننا نضطر أحيانا لتصحيح أرقام الآيات التى أحياناً ماتكون خطأ فى النص الأصلى - المترجم- وفيما يتعلق بمثل هذه الحكايات يقول الكندى لمعارضه ، فإن ذكرت قصة عاد وثمود والناقة وأصحاب الفيل ومثل هذه الحكايات الواردة فى سور مثل الفيل( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، ألم يجعل كيدهم فى تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول) والآية التاسعة من سورة إبراهيم ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لايعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم فى أفواههم وقالوا إن كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفى شك مما تدعونا إليه مريب) سنقول لك هذه قصص وخرافات عجائز العرب اللائى إعتدن ترديدها ليل نهار، ويعتقد شبرنجر كما هو مذكور فى مقدمة رودويل ، أن محمد عرف حكايات عاد وثمود من الحنيفية (أنظر الفصل السادس من الكتاب) وأن هؤلاء هم الصابئة الذين كانوا يملكون صحف إبراهيم المقدسة المذكورة فى سورة الأعلى الآيات 18-19(إن هذا لفى الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى)، والتى يمكن أن تكون الكتب المنتحلة قد وجدت طريقاً إليها. ولكن من الصعب إثبات ذلك ، كما أن ذلك سيثير سؤال إذا ماكان كتاب عهد إبراهيم المكتشف قبل سنوات قليلة ، والذى سنتكلم عنه فى الفصل الرابع ، يدخل ضمن تلك الصحف المقدسة؟
32- فراغ فى الهامش ، لم يذكر تيسدال أبيات إمرؤ القيس المذكورة فى الطبعة الحجرية التى أشار إليها ، لكن المقصود أصبح معروفاً اليوم وهو أخذ القرآن من قصيدة إمرؤ القيس الغزلية ، دنت الساعة وإنشق القمر، وبعض أشعار أخرى على النحو التالى( يقول إمرؤ القيس ، دنت الساعة وإنشق القمر ، يقول القرآن فى الآية رقم 1 من سورة القمر ، إقتربت الساعة وإنشق القمر ، يقول إمرؤ القيس ، مر يوم العيد فى زينته فرمانى فتعاطى وعقر، ويقول القرآن فى ألآية 29 من سورة القمر ، فنادوا صاحبهم فتعاطى وعقر، يقول إمرؤ القيس بسهام من لحاظ فاتك فتركنى كهشيم المحتضر ، ويقول القرآن فى الآية 31 من سورة القمر ، إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتضر، ويقول إمرؤ القيس ، إذا غاب عنى ساعة كانت الساعة أدهى وأمر، ويقول القرآن فى الآية 46 من سورة القمر ، الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ، يقول إمرؤ القيس بالضحى والليل من طرته فرقه ذا النور كم شى زاهر ، ويقول القرآن فى الآية الأولى والثانية من سورة الضحى ، والضحى والليل إذا سجى ، يقول إمرؤ القيس ، أقبل العشاق من خلفه كأنهم من كل حدب ينسلون، ويقول القرآن فى الآية 96 من سورة الأنبياء ، حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، يقول إمرؤ القيس ، وجاء يوم العيد فى زينته ، لمثل ذا فليعمل العاملون، ويقول القرآن فى الآية 61 من سورة الصافات ، لمثل هذا فليعمل العاملون).
33-فيما يخص المعلقات فقد يكون من المفيد الإستشهاد بالآتى من أبوجعفر أحمد إبن إسماعيل النحاس المتوفى سنة 338هـ حيث يقول فى كتابه شرح المعلقات السبع( وإختلفوا فى جمع هذه القصائد السبع فقيل أن العرب كان أكثرهم يجتمع بعكاظ ويتناشدون فإذا إستحسن الملك قصيدة - يحتمل النعمان بن المنذر- قال علقوها وإثبتوها فى خزانتى وأما من قال أنها علقت فى الكعبة فلايعرفه أحد من الرواة وأصح ماقيل فى هذا أن حمادا الراوية لما رأى زهد الناس فى حفظ الشعر جمع هذه السبع وحضهم عليها وقال لهم هذه الشهورات فسميت القصائد المشهورات لهذا) ويقول السيوطى نفس الشئ رغم أنه يشير إلى أن قصة تعليق الأشعار فى الكعبة هى قصة ممكنة(السيوطى - المزهر فى علوم اللغة وأنواعها - الجزء الثانى - ص 240).
34-هذا هو رأى السير تشارلز جيمس ليال ، والذى من الصعب أن نجد أكثر منه تأهيلاً للتحدث فى موضوع الشعر العربى القديم، ففى الخطاب الذى تفضل بإرساله إلى بخصوص مؤلف تلك السطور المنسوبة إلى إمرئ القيس ، قد عبر عن قناعاته فى أنها ليست له ، وقد أعطى أسباب لذلك تتمحور بشكل خاص حول الأسلوب والوزن. ولقد ضمنت بعض من ملاحظاته فى هذا الملحق ، كما أرسلت إليه أيضاً بالملاحظة السابقة. إن نقاشه قد جعلنى أعدل من وجهة نظرى حول رأيى الذى عبرت عنه فى كتابى، يانبى الإسلام.
35-مع ذلك فقد أخبرنى دكتور زويمر من البحرين أنه قد وجد كلمات دنت الساعة وإنشق القمر ، المذكورة فى الآية الأولى من سورة القمر(أقتربت الساعة وإنشق القمر) فى الجزء الأخير من الشعر الأخير لإمرئ القيس فى طبعة لديه ، وأضاف أن أحد الشيوخ الذين يدرسون فى الأزهر قد أخبره أن هذا الإقتباس الواضح يربك المثقفين المسلمين.




3-مؤثرات الصابئة واليهود
عندما ظهر محمد كنبى ، ورغم أن العرب كان لديهم كثير من الأفكار والممارسات الدينية الثابتة، فلم يكن لديهم كتاب يحتوى على وحى مقدس ، يمكن لمحمد أن يلجأ إليه فى إدعائه أنه مفوض من الله لإعادتهم مرة أخرى لعقيدة أجدادهم الأكثر نقاءً. ومع ذلك فقد سكن الجزيرة العربية بعض الجماعات التى إمتلكت مايمكن إعتباره كتباً موحى بها، ولذلك فقد كان من الطبيعى أن يشعر محمد وأتباعه بالإهتمام والإحترام لأفكار وشعائر هذه الجماعات الدينية المختلفة. إن تعبير أهل الكتاب المذكور فى القرآن ، والمحدد خاصة لليهود ، وللمسيحيين أيضاً، هو دليل على ذلك. إن الجماعات الأربع التى كانت تمتلك كتباً دينية فى الجزيرة العربية فى ذلك الوقت هى ، اليهود والمسيحيين والزرادشتيين والصابئة. إن كل هذه الجماعات مجتمعة مذكورة فى الآية رقم 17 من سورة الحج ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد). وسوف نرى أن كل من هذه الجماعات كان لها تأثير كبير على الإسلام الوليد، ولكن تأثير الصابئة كان هو الأقل. ولذلك فسوف نبدأ بالحديث عن المعروف عن هذه الطوائف ، والمذكورة مرة أخرى فى الآية 62 من سورة البقرة( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولاهم يحزنون).
إن معرفتنا بالصابئة معرقة قليلة ، لكنها كافية لغرضنا هنا. وقد عرفها أبو عيسى المغربى ، وهو أحد الكتاب العرب الأوائل، والذى نقل عنه أبو الفدا تعريفه للصابئة بقوله(السريان هم أقدم الأمم ، وقد تكلم آدم وأبنائه بلغتهم ، إن الصابئة هى جماعتهم الدينية، وقد قالوا بأنهم قد تلقوا عقيدتهم من سيث وإدريس (أخنوخ)، ولديهم كتاب يعزونه إلى سيث، يطلقون عليه إسم (صحف سيث). وقد سُجل فى الكتاب تصورات أخلاقية جيدة مثل الأمر بقول الحقيقة، والشجاعة، ونصرة الغريب، وهكذا، وقد ذكرت الممارسات الشريرة أيضا، مع الحض على الإمتناع عنها. وللصابئة شعائر دينية معينة، ومنها سبعة أوقات ثابتة للصلاة، خمسة منها توازى الصلوات الخاصة بالمسلمين ، والسادسة صلاة الضحى ، والسابعة صلاة يأتى وقتها عند نهاية الساعة السادسة من الليل. وصلاتهم ، مثل صلاة المسلمين ، تتطلب تركيزاً شديداً لايمكن للمتعبد خلاله أن يسرح بذهنه إلى أى شئ آخر. وهم يصلون على الميت بدون ركوع أو سجود ، ويصومون ثلاثين يوماً ، وإذا ماكان الشهر القمرى قصيراً ، فإنهم يصومون لمدة تسعة وعشرين يوما فقطً. ومع نهاية صيامهم يقيمون إحتفالات الفطر، والتى تعنى التوقف عن الصوم عند نهاية الشهر القمرى ، بطريقة تجعل إحتفال الفطر يحدث مع دخول الشمس إلى برج الحمل ، وقد إعتادوا أن يصوموا من الربع الأخير من الليل حتى غروب قرص الشمس، كما كانوا يحتفلون فى وقت نزول الكواكب السيارة الخمس إلى أنسب أماكن رؤيتهم ، زحل ، المشترى ، المريخ ، الزهرة ، وعطارد ، كما إعتادوا على تقديس كعبة مكة)(1).
ومن هذه الرواية يمكن أن نرى بوضوح أن المسلمين قد أخذوا من هذه العقيدة الغامضة كثيراً من ممارساتهم الدينية، والتى إعتقدوا أن محمداً قد علمهم إياها بوحى من الله ، من خلال الملاك جبريل. وعلى سبيل المثال ، فإن صيام المسلمين فى رمضان يستغرق شهراً(2)، من شروق الشمس حتى مغربها ، رغم أن اللحظة الفعلية التى يبدأ وينتهى بها اليوم ، مأخوذة من اليهود(3) ، كما سوف نرى. وفى فارس وبعض البلاد الأخرى، كان يُضرب مدفع عند الفجر وعند الغروب ليعلن عن بداية ونهاية صيام كل يوم أثناء الشهر المقدس. ومازال المحمديون يحتفلون بعيد الفطر عند نهاية الشهر. وكما نعرف، فلديهم خمس أوقات محددة للصلاة كل يوم، موازية لصلوات الصابئة ، كما أن الركوع والسجود إلزامى فى عبادة محمد، ولكن ليس أثنا صلاة الجنازة، كما هو الحال فى صلوات الصابئة . وقد ذكرنا كيف أن المسلمين مازالوا يقدسون الكعبة تقديساً كبيراً، كما كان الصابئة يفعلون. وبالطبع فإنه من الممكن أن كل هذه الممارسات كانت معروفة لقبيلة قريش ، تماماً كما كانت معروفة للصابئة . إن إفتراض أن كثيراً من هذه العادات الدينية قد أخذها محمد عن الصابئة ، وأن عقيدتهم بشكل عام ، ربما نظراً لقدمها السحيق ، كان لها تأثير كبير على الإسلام عند تأسيسه ، تؤكدها حقيقة أنه عندما أعلن بنو جذيمة فى الطائف ومكة لخالد بن الوليد عن تحولهم إلى المحمدية ، فقد صرخوا قائلين(لقد صبأنا).
لقد أفترض أن الصابئة كانوا فئة شبه مسيحية ، وقد عرفهم آخرون بالمندائيين ، الذين تقدم عقيدتهم خليط غريب من الغنوصية والوثنية البابلية، ولكنها مع ذلك قد أخذت بعض العناصر من المجوسية واليهودية والمسيحية ، رغم أنها وبشكل عام ، كانت ضد المسيحية كنظام. ويستقى المندائيون إسمهم من مندى، وهو الأهم فى نظرية الفيض ، أوالأيون ، التى يؤمنون بها ، والذى ذكر فى كتابهم المقدس كنزا ربا ، أى الكنز العظيم ، أنه أظهر نفسه فى سلسلة من التجسدات ، كانت الثلاثة الأولى منها فى شخص قابيل وسيث وأخنوخ ، والأخيرة كانت فى شخص يوحنا المعمدان ، وقد منح الأخير المعمودية ليسوع المسيح ، والذى رجع فى النهاية إلى مملكة النور، بعد صلبه ظاهرياً. إن هذه الفكرة الأخيرة تتردد فى القرآن فى الآيات 157-158 من سورة النساء - نرجوا ملاحظة أننا نضطر أحياناً لتصحيح أرقام الآيات الواردة فى النص الأصلى مثل هذه الحالة المذكورة فى النص الأصلى بالآية رقم 159 ، بينما المعنى المقصود ينطبق على الآيتين 157-158 - االمترجم( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وماقتلوه وماصلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين إختلفوا فيه لفى شك منه مالهم به من علم إلا إتباع الظن وماقتلوه يقيناً ، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً)، وسوف يلزم الإشارة إليها مرة أخرى فيما بعد(4).إن معرفتنا المحدودة بالصابئة، والشك فيما إذا كان المندائيين يمكن أن ينسبوا إليهم، قد جعلت من المستحيل أن نقرر، إذا ماكان تأثيرهم على الإسلام ، كبيراً أو محدوداً(5).
ونأتى الآن إلى اليهود، والذين أخذ منهم محمد الكثير، بحيث يمكن وصف عقيدته بأنها مجرد شكل هرطقى من اليهودية المتأخرة، ففى زمن محمد لم يكن اليهود كثيرى العدد فقط، ولكن كانوا أقوياء فى أجزاء عديدة من الجزيرة العربية أيضاً. ومما لاشك فيه أن كثيراً منهم قد إستقر فى هذه البلاد عبر عصور مختلفة، أثناء فرارهم من غزاتهم الكثيرين ، كنبوخذ نصر، وخلفاء الإسكندر الأكبر، وبومبيوس ، وتيتوس ، وهادريان ، وآخرين ممن إكتسحوا ودمروا فلسطين. ولقد كانوا كثيريين فى مجاورات المدينة ، بشكل خاص، والتى كانوا قد إمتلكوها بالسيف ، فى زمن ما. وفى زمن محمد كانت القبائل اليهودية الثلاث الكبرى ، بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو قنينقاع ، التى إستقرت فى مجاورات المدينة ، على قدر كبير من القوة ، لدرجة أن محمداً ، وبوقت قصير بعد وصوله هناك حوالى سنة 622م ، عقد معهم تحالفاً هجومياً دفاعياً، كما كان هناك مستوطنات يهودية أخرى فى مجاورات خيبر ووادى القرى، وعلى سواحل خليج العقبة. ولاشك أن حقيقة إمتلاك اليهود لكتب مقدسة، وأنهم كانوا من نسل إبراهيم ، الذى كانت قريش وقبائل أخرى يعتبرونه جدهم الأكبر، قد أعطى للإسرائيليين ثقلاً ونفوذاً، ومن ثم فقد كان من الطبيعى أن تتعرض الأساطير العربية المحلية لعملية إنصهار مع تاريخ وتقاليد اليهود، (6) وبعملية تعديل بسيطة ، أصبح تاريخ فاسطين ، هو تاريخ الحجاز. وهكذا تم تقديس أرباض الكعبة بصفتها مشهد محنة هاجر، كما قُدس بئر زمزم بصفته مصدر خلاصها ، وهكذا أصبح الحجيج يهرعون بين الصفا والمروة إحياءً لذكرى هرولتها بحثاً عن الماء ، كما أصبح إبراهيم وإسماعيل، هما اللذان بنيا الكعبة، ووضعا بها الحجر الأسود، وأسسا الحج إلى عرفة ، لكل جزيرة العرب. وكتقليد لإبراهيم ، كان رمى جمرات الحجيج ، وكأنها ترمى على الشيطان ، كما كانت الأضحيات التى تقدم فى منى، وكأنها إحياءً لذكرى التضحية البديلة، التى قدمها إبراهيم ، أى الحمل ، وهكذا، وبرغم أن الشعائر المحلية، كانت قليلة، على فرض أنها وجدت أصلاً ، فقد تغيرت بتبنى الأساطير الإسرائيلية، وأصبحت تُرى بشكل مختلف تماماً ، حيث إرتبطت فى المخيلة العربية بشئ من قداسة إبراهيم ، خليل الله(7). لقد كان تأسيساً على هذه الأرضية العامة ، أن إستعد محمد ، وأعلن على شعبه نظام روحى جديد ، كان يمكن لكل الجزيرة العربية التجاوب معه، لكنه إحتفظ بتقاليد الكعبة كما هى، والتى ورغم تجردها من كل التوجهات الوثنية ، فمازلت تغطى ، بكفن غريب عديم المعنى ، يلف توحيد الإسلام الحى .
وقد جلب الإنتساب إلى الأجناس الإبراهيمية ، عقيدة خلود الروح والبعث من الموت أيضاً ، ولكن ذلك إرتبط بكثير من الأفكار الخيالية لتطور الفكر العربى نفسه ، مثل تصور إنتقام الروح القتيلة كطائر يزقزق من أجل القصاص من القاتل، أو ترك جمل للموت جوعاً على قبر سيده ، بحيث يمكن أن يكون مستعداً لحمله مرة أخرى عند بعثه من الموت. كان هناك كثير من اللغة الإنجيلية فى إستخدام شائع أيضاً . إن الإيمان والتوبة والجنة والجحيم ، والشيطان وملائكته، والملائكة السماويين ، وجبريل المبعوث الإلهى، هى نماذج مأخوذة من المصادر اليهودية . وبالمثل كانت قصص سقوط الإنسان من الجنة، والفيضان، وتدمير مدن السهل ، قصصاً معروفة، بحيث يمكن أن يقال أنه كان هناك مادة غزيرة من الأفكار الروحية الخام ، جاهزة تحت تصرف محمد. ويخبرنا الكتاب العرب الأوائل ، أنه عند ظهور محمد ، كان اليهود فى إنتظار قدوم المسيح، وأنهم قد إعتادوا تهديد أعدائهم بالإنتقام الذى سيوقعه بهم النبى المنتظر. وبالتأكيد فقد كان لذلك تأثيره فى دفع بعض العرب، وخاصة بنو الخزرج أهل المدينة، كما يخبرنا إبن إسحاق ، لقبول محمد ، كذلك النبى المنتظر.
أعلن محمد أنه كان مفوضاً إلهياً ، ليس لتأسيس عقيدة جديدة ، ولكن لدعوة الناس لعقيدة إبراهيم ، ولهذا فقد كان من الطبيعى بالنسبة إليه، أن يحاول كسب اليهود إلى جانبه. وقد حاول فعل ذلك فى المدينة، ولبعض الوقت، بدا وكأنه يملك فرصة معقولة من النجاح. إن إحدى الخطوات التى إتخذها فى ذلك الوقت تظهر هذا الهدف بوضوح، حيث إتخذ من أورشليم قبلة لعقيدته، بمعنى أنه قد أمر أتباعه بتقليد الممارسة اليهودية فى تولية وجوههم بإتجاه أورشليم عند الصلاة. وفى مرحلة لاحقة ، عندما إختلف مع اليهود ووجد أنه من الأفضل مراضاة العرب،(8) فقد إختار مكة كقبلة، والتى إستمرت قبلة المسلمين حتى اليوم. وبمجرد وصوله إلى المدينة، وعندما لاحظ إنهماك اليهود فى أداء طقس يوم الغفران، فقد فرض نفس الطقس على أتباعه ، متبنياً حتى نفس الإسم (عاشوراء)، والذى كان يعرف به بين اليهود( ذكرى نجاة موسى من فرعون). (9) وبلاشك فإن الأضحيات التى كانت تقدم فى تلك المناسبة، كان يقصد منها أن تحل محل الأضحيات التى إعتاد العرب الوثنيون تقديمها فى وادى منى أثناء الحج إلى مكة، ولم يكن حتى أبريل سنة 624 ، وبعد خلافه مع اليهود ، أن أسس محمد إحتفال عيد الأضحى ، والذى يفترض أنه كان يهدف إلى إحياء ذكرى تضحية إبراهيم بإبنه إسماعيل(إسحاق عند اليهود ، إسماعيل عند العرب). وحتى هنا يمكننا رؤية تأثير اليهودية على الإسلام. ومازال المسلمون يؤدون هذه الشعيرة حتى اليوم. وقد أطلق محمد الممارسة اليهودية فى تقديم أضحيتين فى يوم العيد(10) ، واحدة عن قومه والأخرى عن نفسه ، رغم أنه قد عكس الترتيب اليهودى ، والذى بموجبه ، كان الحاخام الأكبر يقدم فى يوم الغفران ، أولاً لنفسه(11) ، ثم لكل الشعب بعد ذلك. ففى هذه المسائل نرى المؤثرات اليهودية تعمل سواء من خلال تبنى محمد لشعائرها عندما أراد كسب اليهود، أو فى تغييرها عندما لم يعد هناك أمل فى ذلك. وفى الحالة الثانية فقد كان يعود إلى عادات العرب الوثنيين، بشكل عام .
وبالنسبة لنظرية محمد عن المرجعية الإلهية للقرآن ، فإن هذه الظاهرة تستعصى على التفسير تماماً. إن معظم الآيات القرآنية، التى تم التأكيد فيها على أن القرآن يتبع عالم أنبياء إسرائيل(12) ، وأن هذا يشكل دليلاً قاطعا علىً أنه من عند الله ، تعود ، وتبعاً للأحاديث الموثوقة فى هذا الخصوص ، للفترة الواقعة قبل الهجرة بوقت قصير وبعدها مباشرة . ففى هذا الوقت أدخل محمد إلى السور التى جاء بها ، كثيراً من الأساطير اليهودية، كما ستظهر دراسة السور المكية والمدنية المبكرة التالية ، ومع ذلك فسرعان ماوجد أن اليهود لم يكونوا مستعدين للإيمان به ، رغم أنه قد يكون قد ناسب أهدافهم لفترة ما ، التظاهر بتأثرهم به وإعترافهم بإدعائه. وقد كان محتماً أن ينشأ الخلاف ، إن عاجلاً أم آجلاً ، حيث لم يكن من الممكن لأى يهودى حقيقى أن يؤمن بأن المسيح ، أو أى نبى كبير آخر، كان يمكن ظهوره من بين أبناء إسماعيل. ونحن نعلم كيف حدث الصراع ، وكيف ، وقد وجد محمد محاولة الإقناع غير مجدية ، أن إنقض فى النهاية على اليهود بمنطق السيف الذى لايقاوم ، سواء قام بذبحهم أو طردهم من المدينة. ولكن قبل ذلك الوقت، فقد كان قد أخذ عنهم الكثير، وحتى إذا لم نتفق مع بعض الكتاب ، بأن عقيدة التوحيد بالله ، قد أخذها الإسلام من التعاليم اليهودية ، فلا يمكن أن يكون هناك شك فى أن إيمان محمد بتلك العقيدة الإسلامية، قد تأثر كثيراً بالذى تعلمه من الإسرائيليين. ويمكننا أن نتقدم لنرى أن كثيراً من القرآن مشتق مباشرة من الكتب اليهودية، من التلمود وبعض الكتابات المتأخرة الأخرى( كالمدراش مثلاً ) ، أكثر من نص العهد القديم نفسه ، فرغم أن اليهود العرب كانوا، بالتأكيد، يملكون نسخهم الخاصة منه، فلم يكونوا متميزين بالعلم ، ولذلك فقد أعطوا القيادة ، عملياً، لتقاليدهم الكهنوتية، أكثرمما أعطوها لكلمة الله. وعلى هذا فإنه ليس من المستغرب أن نجد قليلاً من المعرفة الحقيقية الخاصة بالعهد القديم فى القرآن، رغم أنه، وكما سوف نرى، يحتوى على كم كبير من الأساطير اليهودية. أنه من المستحيل أن نستشهد بكل الفقرات التى تثبت ذلك ، ولكنا سنحاول الآن ذكر بعض منها(13).

1-أسطورة قابيل وهابيل
لم يذكر القرآن إسمى هذين الإبنين لآدم ، رغم أن المفسرين أسموهما قابيل وهابيل. ولكنا نجد فى الآيات 27-32 من سورة المائدة ، هذا الكلام عنهما) وإتل عليهم نبأ بنى آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، قال لأقتلنك ، قال إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إلى يدك لتقتلنى ماأنا بباسط يدى إليك لأقتلنك ، إنى أخاف الله رب العالمين. إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك ، فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين ، فطوعت له نفسه قتل أخيه ، فقتله ، فأصبح من الخاسرين ، فبعث الله غراباً يبحث فى الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه ، قال ياويلى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فآوى سوءة أخى فأصبح من النادمين ، من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرئيل أن من قتل نفساً بغير نفس أو فساد فى الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً(.
إن أحد المحادثات الجدلية بين قابيل وهابيل بهذا الخصوص ، مذكورة فى الأساطير اليهودية، وتحديداً فى كل من ترجومة جوناثان الآرامية(14)، وكذلك فى ترجومة أورشليم ، حيث يقول قابيل ، لايوجد عقاب للخطيئة ، كما لايوجد أى مكافأة للعمل الحسن ، ويجيبه هابيل مؤكداً ، أن الخير يكافئه الله ، كما يعاقب الشر. فيغضب قابيل للإجابة ويلتقط حجراً ويضرب به أخيه فيقتله. إن التشابه بين هذه القصة وبين تلك المذكورة فى بداية الإقتباس السابق من القرآن ليس ملفتاً للنظر، ولكن الملفت للنظر هو مصدر الباقى من الرواية القرآنية عن حادث القتل، وهو الأسطورة المروية فى الفصل 21 من سفر الحاخام بركى اليعازر، والتى يمكن ترجمتها كالآتى :
كان آدم جالساً يبكى منتحباً مع رفيقته على جثة هابيل ، وهما لايعرفان ماذا يفعلان ، حيث لم يكونا على دراية بالدفن بعد. ثم ظهر غراب مات أحد رفقائه، فأخذه وحفر له حفرة ودفنه بها أمامهما ، فقال آدم سوف أفعل كما فعل الغراب، ونهض على الفور وأخذ جثة هابيل وحفر حفرة فى الأرض ودفنه بها.
عندما نقارن هذه الأسطورة اليهودية بالرواية المذكورة فى القرآن، سنرى أن الفارق الوحيد هو أنه فى هذه الرواية كان آدم هو الذى تعلم من الغراب كيفية دفن الجثة ، بينما فى رواية القرآن فإن قابيل هو الذى تعلم كيفية الدفن، ومن الواضح أيضاً أن الفقرة المذكورة فى القرآن ليست ترجمة حرفية من كتاب من الكتب اليهودية، ولكن الأرجح أنها إعادة إنتاج حر للقصة كما رويت لمحمد بواسطة بعض أصدقائه اليهود(15) والتى تذكر المصادر العربية المبكرة كثيراً من أسمائهم ، وقد يفسر هذا ذلك الخطأ الذى حدث فى القرآن بنسب عملية الدفن إلى قابيل وليس إلى آدم ، وهى ظاهرة سوف نلاحظها فى كثيرمن هذه المقتطفات القرآنية. إنه من الصعب أن تكون مثل هذه الفروقات من عمل محمد نفسه ، ولكن من الممكن أن يكون اليهود الذين رووها له قد تعلموها شفاهة هم أنفسهم، وأنهم هم، وليس النبى العربى ، الذين أخطأوا هذا الخطأ ، ولكن المؤكد أننا نستطيع هنا، وفى أمثلة كثيرة أخرى، إرجاع الرواية التى يقدمها محمد إلى مصادر يهودية كتابية أكثر قدماً،(وليس إلى وحى إلهى).
إن المسجل فى الآية الثانية والثلاثين من سورة المائدة (من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل أن من قتل نفساً بغير نفس أو فساد فى الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاُ ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) لايبدو ذا علاقة مباشرة بالجزء السابق من الآيات، ومن الواضح أن هناك رابطاً مفقوداً بين الفقرتين، ولكن عندما نرجع إلى الفصل الرابع من المشنا سنهدرين ، سنجد كل الموضوع مذكوراً كاملاً ، بحيث تصبح العلاقة القائمة بين الآية الثانية والثلاثين وقصة قتل هابيل واضحة، لإن المفسر اليهودى فى تعليقه على الكلمات التى تخبرنا التوراة بأن الله قد تكلم بها إلى قابيل قائلاً (16) (ماذا فعلت ، صوت دم أخيك يصرخ إلى من الأرض) قد أوضح أن إستخدام كلمة دم فى العبرية تأتى فى صيغة الجمع عندما تشير إلى دم أريق بالعنف ، حيث يقول وفيما يخص قابيل الذى قتل أخيه فقد وجدنا أن ماقيل عنه هو إن صوت دماء أخيك تصرخ ، وليس دم أخيك يصرخ ، مما يعنى دمائه ودماء ذريته. وبناء على ذلك فقد خلق آدم وحيداً ، ليعلمك إن من أهلك روحاً من بنى إسرائيل ، فإن الكتاب يحسبه وقد أهلك العلم كله ، وكل من أحيا روحاً من إسرائيل فكأنه قد أحيا العالم كله. ونحن لسنا معنيين هنا بصحة تلك الرواية الخيالية أو لا من النص المقدس، ولكن من المهم أن نلاحظ ان الآية الثانية والثلاثين من سورة المائدة هى تقريباً ترجمة حرفية لهذا الجزء من المشنا ، كما أن الجزء السابق من المشنا قد حذف فى القرآن (ماذا فعلت صوت دم أخيك يصرخ إلى من الأرض- إالخ) ربما لإن محمد أو مخبره ، لم يفهماه تماماً، ولكن عند إضافته فإن العلاقة بين الآية الثانية والثلاثين والآيات السابقة تبدو واضحة(17).
2-أسطورة خلاص إبراهيم من نار نمرود
لم توجد هذه القصة تفصيلاً فى أى آيات متتابعة من القرآن، ولكنها رويت بشكل متناثر فى عدد من السور المختلفة(18) ولذلك فقد وجد المحمديون أنه من المفيد جمع هذه الآيات ، وتشكيلها فى نص كلى متتابع بإضافة فقرات تربط بينها ، بالشكل الذى نراه فى كتب مثل كتاب عرائس المجالس (للثعلبى النيسابورى) أو قصص الأنبياء(لأبى الفدا إبن كثير). إن مثل هذه الفقرات الرابطة قد أستمدت من أحاديث محمد. وعندما نقارن القصة الشائعة والمقبولة من قبل المسلمين بالقصة المذكورة فى المدراش، سوف يتضح أن الأخير هو مصدر حديث محمد. ولكى يدرك القارئ ذلك فسوف نترجم القصة كما رواها كتاب محمد أولاً، وبعد ذلك نعود إلى القصة الأقصر والأقل بساطة التى رواها الكتاب اليهود، وبالنسبة للآيات القرآنية التى دخلت فى الرواية العربية ، سوف نضعها هنا بين قوسين، وسوف نبدأ بمقتطف من أبى الفدا .
إعتاد آزر، أبو إبراهيم ، على صنع أصنام وإعطائها لإبراهيم كى يبيعها(19) ، لكن إبراهيم تسائل ، من سيشترى ما سوف يضره ولن ينفعه ، وبعد ذلك عندما أمره الله تعالى أن يدعو قومه إلى التوحيد ، قام بدعوة أبيه ، لكن أبيه رفض الدعوة. ودعى إبراهيم قومه ، ووصل أمر دعوته إلى نمرود إبن كوش ، ملك البلاد ، فقبض نمرود على إبراهيم ، خليل الله، وألقى به فى نار عظيمة، لكن النار أصبحت برداً وسلاماً على إبراهيم ، وخرج منها سالماً بعد أيام ، وعندئذ آمن به بعض رجال من قومه. هذه هى أقصر رواية عربية نملكها عن حادث إبراهيم ونمرود، وسوف نتقدم لترجمة أهم جزء من الرواية والمذكور فى عرائس المجالس ، حيث نقرأ أن إبراهيم قد نشأ فى كهف بدون أى معرفة عن الإله الحق، وذات ليلة خرج وأبصر بهاء النجوم، فبلغ تأثره بهذا البهاء أن قرر الإعتراف بها كآلهته. وتمضى الرواية بعد ذلك ، رابطة أكبر عدد ممكن من آيات القرآن، التى تتناول هذا الموضوع ، على النحو التالى :
( فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربى فلما آفل قال لاأحب الآفلين فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربى فلما آفل قال لئن لم يهدنى ربى لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر، لإنه رأى ضوئها أعظم ، فلما أفلت قال ياقوم أنى برئ مما تشركون أنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض حنيفاً (20) وماأنا من المشركين (21) سورة الأنعام) قالوا وكان أبوه يصنع الأصنام ، فلما ضم إبراهيم إلى نفسه، جعل يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليبيعها ، فيذهب بها إبراهيم ، عليه السلام ، فينادى من يشترى مايضر ولاينفع فلا يشترى أحد منه، فإذا بارت عليه ، ذهب بها إلى نهر، وضرب رؤوسها وقال إشربى كسدت ، إستهزاءً بقومه، وبما هم عليه من الضلالة والجهالة، حتى فشا عيبه إياها وإستهزاؤه بها فى قومه، وأهل قريته، فحاجونه فى دينه فقال لهم (أتحاجونى فى ألله وقد هدان ، إلى آخرالآيات حتى قوله عز وجل ، وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (22) سورة الأنعام ) حتى حصبهم وغلبهم بالحكمة، ثم إن إبراهيم عليه السلام دعا أباه آزر إلى دينه فقال ياأبت لما تعبد مالايسمع ولايضر ولايغنى عنك شيئاً إلى آخره(23) فأبى أبوه الإجابة إلى مادعاه إليه، ثم إن إبراهيم عليه السلام جاهر قومه البراءة مما كانوا يعبدون وأظهر دينه فقال أرايتم ماكنتم تعبدون أنتم وآباكم الأقدمون فإنهم عدو لى إلا رب العالمين (24) قالوا فمن تعبد أنت قال رب العالمين، قالوا أتعنى نمرود، قال الله الذى خلقنى وهدانى فهو، إلى آخر القصة ، وفشا ذلك فى الناس حتى بلغ الطاغية نمرود، فدعاه فسأله ياإبراهيم أرأيت إلهك الذى أرسلك وتدعو الناس إلى عبادته يذكر من قدرته التى تعظمه بها على غيره، قال إبراهيم عليه السلام ربى الذى يحيى ويميت، قال نمرود وأنا أحيى وأميت، قال إبراهيم كيف تحيى وتميت، قال آخذ رجلين قد إستوجبا القتل فى حكمى فأقتل احدهما فأكون أمته ثم أعفو عن الآخر فأكون قد أحييته، فقال له إبراهيم عند ذلك، وإن الله يأتى بالشمس من المشرق إإتى بها من المغرب، فبهت عند ذلك نمرود ولم يرجع إليه شيئاً(25).
وتمضى القصة لتخبرنا أنه كان من عادة القبيلة التى ينتمى إليها إبراهيم أن تقيم إحتفالاً سنوياً كبيراً، كان يجب على جميع الناس خلاله أن يذهبوا إلى خارج المدينة (ربما يحتوى هذا على إشارة غامضة لعيد المظلة أو عيد العرش اليهودى ، حيث يتميز القرآن بأخطائه التاريخية الكثيرة ، وخاصة حكايات محمد عن الآباء والأنبياء) وقبل مغادرة المدينة، تخبرنا القصة، أن المواطنين قد جهزوا بعض الطعام ووضعوه بين يدى الآلهة وقالوا( إذا كان حين رجوعنا فرجعنا وقد باركت الآلهة فى طعامنا أكلنا، فلما قام إبراهيم إلى الأصنام وإلى مابين أيديهم من الطعام (26) قال لهم على طريق الإستهزاء ، ألاتأكلون ، فلما لم تجيبه، قال مالكم لاتنطقون فراغ عليهم ضرباً باليمين(27) وجعل يكسرهم بفأس فى يده حتى لم يبق إلا الصنم الأكبر، فعلق الفأس فى عنقه ثم خرج، فذلك قوله عز وجل(فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون- الأنبياء - فلما جاء القوم من عيدهم إلى بيت آلاهتهم ورأوها بتلك الحالة قالوا، من فعل هذا بآلهتنا إنه من الظالمين(28)، قالوا سمعنا نبى يذكرهم يقال له إبراهيم هو الذى نظنه صنع هذا، فبلغ ذلك نمرود الجبار وأشراف قومه فقالوا، فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عليه أنه هو الذى فعل ذلك، وكرهوا أن يأخذوه بغير بينة، فلما أحضروه قالوا له، أنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم، قال إبراهيم بل فعله كبيرهم هذا غضب من أن تعبدوا معه هذه الأصنام الصغار وهو أكبر منهم فكسرهن فإسألوهم إن كانوا ينطقون). قال النبى صلى الله عليه وسلم لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات كلها فى الله تعالى قوله إنى سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله للملك الذى عرض لسارة هى أختى.
فلما قال لهم إبراهيم ذلك رجعوا إلى أنفسهم فقالوا، أنكم ظلمتم هذا الرجل فى سؤالكم إياه وهذه آلهتكم التى فعل بها مافعل حاضرة فإسألوها، وذلك قول إبراهيم عليه السلام (فإسألوهم إن كانوا ينطقون- سورةالأنبياء- فقال قوم مانراها إلا كما قال(29) إنكم أنتم الظالمون بعبادتكم الأوثان الصغار مع هذا الكبير، ثم نكسوا على رؤوسهم متحيرين فى أمرهم، وعلموا أنها لاتنطق ولاتبطش فقالوا، لقد علمت ماهؤلا ينطقون، فلما إتجهت الحجة عليهم لإبراهيم عليه السلام قال لهم، أفتعبدون من دون الله مالاينفعكم شيئاً ولايضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون، فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب قالوا(30) إحرقوه وإنصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين) قال عبدالله بن عمر أن الذى أشار عليهم بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار رجل من الأكراد، قال شعيب الجبائى إسمه دينون فشق الله تعالى به الأرض فإبتعلته إلى يوم القيامة(31) فلما أجمع نمرود وقومه على إحراق إبراهيم عليه السلام حبسوه فى بيت وبنوا له بنياناً كالحظيرة وذلك قوله عز وجل (قالوا إبنوا له بنياناً فإلقوه فى الجحيم - سورة العنكبوت ) ثم جمعوا له من أصناف الحطب وأصناف الخشب(32) ، ويمضى الكاتب الذى نقتبس منه ليروى كيف ألقى إبراهيم فى النار، وكيف خرج منها سالماً معافاً، ويختم روايته بقوله أنه قد سجل فى الأحاديث أن إبراهيم قد حُفظ من النار بقوله حسبى الله ونعم الوكيل (33) وأنه خير الحافظين (34) وقد قال عز وجل يانار كونى برداً وسلاماً على إبراهيم(35).
ونمضى الآن لمقارنة هذه القصة بالقصة التى وردت فى مدراش ربا اليهود(36). كان تارح صانع أصنام ، وذات يوم خرج إلى مكان ما وأجلس إبراهيم ليتولى البيع مكانه ، ثم حضر أحد الأشخاص الراغبين فى الشراء، فسأله إبراهيم كم عمرك؟ فأجاب الرجل نحو خمسين أو ستين عام ، فقال له إبراهيم، ويل لهذا الرجل البالغ من العمر ستين عام ويرغب فى عبادة شئ عمره عدة أيام فقط ، فخجل الرجل من نفسه وخرج مبتعداً. ثم جاءت إمرأة تحمل فى يدها طبق من دقيق القمح وقالت له ، ضع هذا أمامهم ، فنهض إبراهيم وإلتقط عصا وحطم بها جميع الأصنام ، ثم وضعها فى يد أكبرهم حجماً، وعندما حضر والده سأله من الذى فعل بهم هذا ، فأجابه إبراهيم ، لقد جاءت إمرأة ومعها طبق من دقيق القمح وقالت لى ضعه أمامهم ، فوضعته أمامهم ، ولكن أضخمهم هذا قال ، سوف أأكل أولاً ، ثم قال الآخر هذا ، سوف أأكل أولاً ، فغضب هذا الضخم وإلتقط عصا وحطمهم جميعاً ، فقال له الأب ، لماذا تخبرنى بهذه الخزعبلات ، وهل يفهم هؤلاء؟ فقال له إبراهيم، ألا تسمع أذناك ماتقوله شفتاك؟ فقبض عليه تارح وسلمه إلى نمرود ، فقال له نمرود ، دعنا نعبد النار ، فأجابه إبراهيم دعنا نعبد المياه ، التى تطفئ النيران ، فأجابه نمرود ، دعنا نعبد المياه ، فقال له إبراهيم ، فإذا كان كذلك ، فدعنا نعبد السحاب الذى ينزل المياه ، فأجابه نمرود ، دعنا نعبد السحاب ، فقال له إبراهيم، ، فإذا كان كذلك دعنا نعبد الرياح التى تبدد السحاب ، فأجابه نمرود ، دعنا نعبد الرياح ، فقال له إبراهيم ، دعنا نعبد الإنسان ، الذى يقاوم الرياح ، فأجابه نمرود إذا كنت تجادلنى ، فلن أعبد شئ سوى النار ، وسوف ألقيك فى سعيرها ، ودع إلهك الذى تعبده يأتى ويخلصك منها . وألقى إبراهيم فى النار ، وخلصه الله منها.
وهكذا يبدو من الواضح تماماً أن الخرافة المحمدية مشتقة مباشرة من تلك اليهودية، رغم توسيعها بتفاصيل إضافية من مخيلة محمد الشعرية القوية، ولكنا هنا أيضاً نجد أن محمداً لم يعيد إنتاج رواية قرأها، ولكن رواية سمعها شفاهة من اليهود. إن تأثير الرواية على عقله يبدو واضحاً ، ليس فقط من التوسع فيها ، ولكن من العدد الكبير من المناسبات التى يشير فيه إليها فى أجزاء مختلفة من القرآن. ويبدو واضحاً أن القصة فى خطوطها العامة كانت معروفة جيداً فى زمنه ، من حقيقة أنه لم يفكر أنه من الضرورى روايتها كاملة. وتظهر كلماته فى القرآن أنه كان يعتقد أنها كانت معروفة تماماً ومقبولة تماماً من قبل جميع أتباعه. وربما كانت القصة شائعة فى الجزيرة العربية قبل زمنه ، مثل كثير من قصص إبراهيم الأخرى. إن هدفنا من الإستشهاد بالقصة كما ذكرت فى المدراش ، ليس لإن نثبت أن محمد قد نقلها منه ، ولكن لكى نظهر أن القصة فى تفاصيلها الرئيسية كانت شائعة بين اليهود فى زمن مبكر قبل زمن محمد ، وأن شكلها ذلك ، أو شكل مشابه آخر لها ، لابد أنه كان المصدر الذى أخذ منه العرب معرفتهم بهذه الخرافة. ومن المحتمل أيضاً أن محمد قد إستشار أصدقائه اليهود فى صحة القصة، وأنهم قد أخبروا أنها موجودة فى كتبهم ، مما أكد إعتقاده فى صحتها.
ومع ذلك فإننا نلاحظ أن إسم أبو إبراهيم فى القرآن هو آذر، وليس تارح ، كما هو فى سفر التكوين. لكن اليهود الشرقيين أحيانا يسمونه زاراح ، والتى ربما يكون الشكل العربى ، آذر ، قد حُرف منها ، أو مرة أخرى ، ربما يكون محمد قد تعلم الإسم فى سوريا ، حيث من الممكن أن يكون يوسيبيوس(المؤرخ الكنسى يوسيبيوس القيصرى حوالى 265-340م) قد إشتق شكل الإسم الذى يستخدمه محمد. وغالباً ما يكتب المحمديون الفرس المحدثون الإسم وينطقونه كما هو فى العربية ، ومع ذلك فالنطق الفارسى الأساسى هو أدهر ، تقريباً نفس الشكل الذى إستخدمه يوسيبيوس. وتعنى هذه الكلمة فى الفارسية النار، وكانت إسم الملاك المفترض رئاسته على هذا العنصر، أحد الملائكة الطيبة للإله أهورا مازدا. والواقع أنه ربما كان هناك نوع من المحاولة لتبجيل إبراهيم بين المجوس بربط أبيه بملاك النار الطيب (إزاد). ومع ذلك ، فربما نسطتيع إرجاع أصل أسطورة إلقاء إبراهيم فى النار إلى مزيج بسيط قام به بعض المفسرين اليهود ، كما سوف نشير فى حينه.
ولكن ، وقبل أن نقوم بذلك ، فربما يكون من المفيد أن نشير إلى طبيعة الجدل الذى يستخدمه المسلمون بشكل عام ، فى رفض الإقرار بأن تتبع مصدر هذه الأسطورة( البشرى) أو غيرها من الأساطير المشابهة فى القرآن يجردها عملياً من إدعائها بأنها وحى إلهى ، فهم يجادلون أن مثل هذه الحقائق، كتلك التى أوردناها ، تمثل دليلاً واضحاً على حقيقة عقيدتهم ، حيث يقولون بأن محمد لم يأخذ هذه القصة من اليهود ، ولكنه على العكس قد تلقاها بواسطة الوحى من خلال الملاك جبريل ، فحيث أن اليهود، وهم ذرية إبراهيم ، قد قبلوا بهذه القصة بمرجعية تراثهم ، فلابد من الإعتراف بأن شهادتهم تمثل تأكيداً قوياً لما ذكره القرآن بشأنها أيضاً(37). ورداً على ذلك ، يكفى أن نقول أن الجهلاء فقط من اليهود هم الذين يعطون أى مصداقية لمثل هذه الخرافات، حيث أنها لاتستند على أى شئ حقيقى من التراث اليهودى، فالروايات الصحيحة عن إبراهيم وجدت فقط فى التوراة ، وليس من الضرورى أن نقول أن هذه القصة الطفولية ليست موجودة هناك. وعلى العكس من ذلك، يبدو واضحاً من سفر التكوين، أن نمرود قد عاش بأجيال طويلة قبل زمن إبراهيم، حقيقة أن نمرود لم يذكر بالإسم فى القرآن ، ولكن إسمه يتردد ، كما رأينا ، فى قصة إلقاء إبراهيم فى النار، سواء فى الأحاديث المحمدية ، أو فى تفسيراتها القرآنية ، وكذلك فى القصة اليهودية المدراشية. إن جسامة المفارقة التاريخية هنا ، تساوى تقرير شخص جاهل بأن الإسكندر الأكبر قد ألقى بالسلطان العثمانى فى النار، دون أن يعرف مدى طول الفترة الزمنية الى تفصل الإسكندر عن عثمان ، ودون أن يدرك أن عثمان لم يعرف هذه المغامرة أبداً.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن كل قصة إبراهيم، وخلاصه من النار ،قد تأسست من مزيج جاهل قام به أحد المفسرين اليهود القدامى . ولكى نشرح ذلك علينا الإشارة إلى ترجمة جوناثان بن عزايل. لقد وجد هذا الكاتب أور الكلدان مذكورة على أنها المكان(38) الذى سكنه إبراهيم فى البداية عندما دعاه الله لمغادرة الوطن والرحيل إلى أرض كنعان. وأور هى المدينة التى تعرف فى الوقت الحاضر بإسم المقير. إن كلمة أور أو أورو كانت تعنى مدينة فى اللغة البابلية القديمة، وهى تتكرر مرة أخرى فى إسم أور شاليم ، بمعنى مدينة إله السلام ، ولكن جوناثان لم يكن يعرف اللغة البابلية القديمة ، ولذلك فقد تصور أن كلمة أور لابد أنها كانت تعنى نفس معنى كلمة أور فى العبرية ، بمعنى الضوء، أو النار فى الآرامية ، ومن ثم فقد ترجم الآية 7من الفصل 15 من سفر التكوين على النحو التالى (أنا الرب ، الذى أخرجك من نار الكلدان)، بدلاً من الترجمة الصحيحة( أنا الرب الذى أخرجك من مدينة الكلدان) ، كما علق أيضاً على الآية 28 من فصل سفر التكوين رقم11 بقوله(عندما ألقى نمرود بإبراهيم فى النار، بسبب رفضه لعبادة أوثانه ، فلم يصرح الله للنار بإيذائه) وهكذا نرى أن كل القصة نشأت من تفسير خاطئ لمجرد كلمة واحدة ، كلمة أور، وأن القصة ليس لها أساس فى الواقع. وليس من المحتمل أن يكون جوناثان هو أول من أخطأ هذا الخطأ ، بل يحتمل أنه قد نقله عن آخرين ، ولكن ، وفى كل الأحوال ، فإن النتيجة واحدة.
إنه ليس من المستغرب، أن يخطئ جوناثان بن عزايل مثل هذا الخطأ ، ولكن الغريب حقاً، أن يقبل رجل يدعى الوحى الإلهى مثل هذه الخرافة على أنها حقيقة، وأن يدخل أجزاء منها فى أماكن مختلفة فى كتاب قرأه للناس على أنه وحى من الله بواسطة الملاك جبريل ، وأن يعلم أتباعه الإيمان بها ، وأن يعتبرالإتفاق بين القرآن وبين الكتب المقدسة اليهودية ، والذى إفترض خطأً أنها تحتوى على هذه الخرافة ، فى هذا الموضوع ، وفى مواضيع مشابهة ، دليلاً على أنه نبى مفوض من الله.
3- أسطورة زيارة ملكة سبأ لسليمان
فيما يخص أصل هذه القصة ، وكما رويت فى القرآن ، فليس هناك أدنى شك فى أنها قد أخذت ، وبتغيير بسيط للغاية ، من الترجوم الثانى عن إستر، والمطبوع فى الكتاب المقدس العظيم ، ميكروث شيدولوث . ولابد أن محمد قد إعتقد أنها تشكل جزءً من الكتاب المقدس اليهودى ، وقد راقت سخافاتها ذوقه وذوق العرب بحيث أدخلها ، فى سورة النمل فى القرآن ، حيث رويت بالشكل الآتى :
(وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون، حتى إذا أتوا على وادى النمل قالت نملة ياأيها النمل إدخلوا مساكنكم لايحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون، فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعنى أن أشعر نعمتك التى انعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين، وتفقد الطير وقال مالى لاأرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتينى بسلطان مبين(39)، فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبأ(40) بنبأ يقين، إنى وجدت إمرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لايهتدون، ألا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء فى السماوات والأرض ويعلم ماتخفون وماتعلنون، الله لا إاله إلا هو رب العرش العظيم، قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، إذهب بكتابى هذا فإلق إليهم ثم تول عنهم فإنظر ماذا يرجعون، قالت ياأيها الملأ إنى ألقى إلى كتاب كريم ، أنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا على وأتونى مسلمين، قالت ياأيها الملأ أفتونى فى أمرى ماكنت قاطعة أمر حتى تشهدون، قالوا نحن أولو قوة وأولوة بأس شديد، والأمر إليك فإنظرى ماذا تأمرين ، قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون، وإنى مرسلة إليهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون).
فلما جاء سليمان قال (أتمدونن بمال فما أتانى الله خير مما أتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، إرجع إليهم فلنأنتينهم بجنود لاقبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، قال ياأيها الملأ أيكم يأتينى بعرشها قبل أن يأتونى مسلمين، قال عفريت من الجن(41) ، أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك(42) وإنى عليه لقوى أمين، قال الذى عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفاً فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربى ليبلونى أاشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم،قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لايهتدون، فلما جاءت قيل أهذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين، وصدها وماكانت تعبد من دون الله أنها كانت من قوم كافرين، قيل لها إدخلى الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال أنه صرح ممرد من قوارير قالت ربى إنى ظلمت نفسى(43) وأسلمت مع سليمان رب العالمين).
إن هذه القصة تحذف بعض التفاصيل المذكورة فى ترجوم إستر المذكور، وتختلف عنها فى بعض النقاط. حيث تقرر فى الترجوم أن العرش المملوك لسليمان(44) كان محاطاً بأربع وعشرين نسراً فوق العرش ، تلقى بظلالها فوق رأس الملك عندما يجلس هناك ، وتطير به الى أى مكان يريده، ومن ثم فإننا نرى الترجوم وهى تمثل النسور كأنها من تحمل العرش ، بيما يقرر القرآن أن عفريت من الجن هو االذى قام بهذه الخدمة مرة واحدة فقط ، ومرة عندما كان العرش خالياً. ولكن وفيما يخص ملكة سبأ والخطاب الذى أرسله لها الملك بواسطة الطير، يوجد تشابه مثير بين الكتابين ، بإستثناء أن الترجوم يسمى الهدهد المذكور فى القرآن بديك الصحراء، والذى هو نفس الشئ تقريباً، وسوف نقدم هنا ترجمة لفقرة من الترجوم المذكور ، من أجل المقارنة بالرواية العربية.
ومرة أخرى، عندما كان قلب الملك سليمان جزلاً وهو يحتسى الخمر، أمر بإحضار ضوارى الحقول وطيور الهواء وزواحف الأرض والجن والأرواح وأشباح الليل لترقص أمامه، كى تظهر عظمته لكل الملوك الراكعين أمامه ، فإستدعاهم حجاب الملك بالإسم فإجتمعوا جميعاً ، بإستثناء المساجين والأسرى ، ومن يحرسهم. وفى تلك الساعة كان ديك الصحراء يمتع نفسه بين الطيور، ولم يعثر عليه. وأمر الملك بإحضاره بالقوة ، ورغب فى قتله. وعاد ديك الصحراء إلى حضرة الملك سليمان ، وقال له إستمع إلى سيدى ياملك الأرض، قرب أذنك وإسمع كلماتى ، ألم أستشر قلبى منذ ثلاثة أشهر وعزمت على أن لاأأكل ولاأشرب المياه قبل أن أرى كل العالم وأطير فوقه؟ وقلت أى منطقة أو مملكة لم تطع سيدى بعد؟ وياللهول فقد رأيت مدينة محصنة ، إسمها قيطور ، تقع فى أرض شرقية. ترابها معبأ بالذهب، والفضة كالروث فى الشوارع ، وقد زرعت الأشجار هناك منذ البداية ، ومن جنة عدن يشربون الماء. وتسكن هناك حشود من الناس على رؤوسها أكاليل الغار. وفيها نباتات من جنة عدن القريبة منهم. يعرفون كيف يرمون بالقوس ، لكنهم لايذبحون به. وتحكمهم جميعاً إمرأة ، إسمها ملكة سبأ، فإذا مايسرك ياسيدى الملك، فسوف أستعد(45) وأطير إلى قلعة قيطور ، إلى مدينة سبأ ، وسوف أقيد ملوكهم بالسلاسل ، ونبلائهم بحلقات الحديد، وأحضرهم أمامك ياسيدى الملك.
سر هذا الكلام الملك، وتم إستدعاء الحجاب ،وكتبوا خطاباً وثبتوه بجناح ديك الصحراء.، فطار وإرتفع فى السماء وضغط على جناحيه ، وأصبح قوياً ، وحلق بين الطيور، فطاروا خلفه ، ووصلوا إلى قلعة قيطور ، إلى مدينة سبأ. وحدث أنه فى وقت الصباح أن ذهبت ملكة سبأ إلى شاطئ البحر للعبادة ، وحجبت الطيور الشمس ، فوضعت الملكة يدها على ثيابها ومزقتها ودهشت وأرتبكت . وبينما هى على هذا النحو ، هبط إليها ديك الصحراء ، فرأته ورأت خطاباً مثبتاً فى جناحه ، ففتحت الخطاب وقرأته ، وكان به مايلى - منى ، أنا الملك سليمان ، السلام عليكم ، وعلى نبلائكم ، نظراً لإن الله قد جعلنى ملكاً على جميع ضوارى الحقول ، وطيور الهواء ، والجن والأرواح وأشباح الليل، وكل ملوك االشرق والغرب، والجنوب والشمال ، تعالى لتسألى عن صحتى ، وتنالى سلامى الآن ، فإذا كنت مستعدة للحضور ، فسوف أجعلك أعظم من كل الملوك ، الذين ينحنون أمامى ، أما إذا لم تكونى مستعدة للحضور، فسوف أرسل عليك الملوك والجيوش والفرسان، وإذا ماسألتى ماهى الملوك والجيوش والفرسان التى يملكها الملك سليمان، فإن ضوارى الحقول ملوك وجيوش وفرسان ، وإذا ماسألتى أى فرسان، فإن طيور الهواء هى فرسانى وجيوشى من الجن والأرواح، وأشباح الليل هى جيوشى التى سوف تشنقك فى فراشك وداخل منزلك، وسوف تذبحك ضوارى الحقول، وسوف تأكل الطيورلحمك. وعندما سمعت ملكة سبأ كلمات الخطاب ، وضعت يدها على ثيابها للمرة الثانية ومزقتها وأرسلت تستدعى الكبراء والنبلاء ، وقالت لهم ، هل تعرفون ماذا أرسل لى الملك سليمان ، فأجابوها قائلين ، نحن لانعرف الملك سليمان ، ولانضع لمملكته أى إعتبار، لكنها لم تقتنع ولاحتى إستمعت إلى كلماتهم، وأرسلت وإستدعت كل سفن البحر وحملتها بالهدايا والجواهر والأحجار الكريمة ، وأرسلت إليه ستة آلاف صبى وصبية ، كلهم ولدوا فى نفس السنة ، وفى نفس الشهر، وفى نفس اليوم ، وفى نفس الساعة ، وكلهم بنفس الشكل وبنفس التكوين، وكلهم فى ثياب أرجوانية، وكتبت خطاباً وأرسلته معهم للملك سليمان، قالت فيه(إنه من قلعة قيطور حتى أرض إسرائيل ، تستغرق الرحلة سبع سنوات ، لكنى ومن خلال صلواتك ودعواتك التى رجوتها منك ، فسوف أصل إليك فى نهاية ثلاث سنوات). وحدث فعلاً أن وصلت ملكة سبأ إلى الملك سليمان فى نهاية ثلاث سنوات ، وعندما سمع الملك سليمان بوصولها ، أرسل إليها بنياه إبن جيهودا ، يستقبلها ، والذى كان مثل الفجر حين يستيقظ وقت الصباح ، ونجم البهاء فينوس ، الذى يشرق ثابتاً بين النجوم، وزهرة السوسن على حافة الماء، وعندما رأت ملكة سبأ بنياه بن جيهودا ترجلت من مركبتها، فقال لها بنياه، لماذا تترجلين من مركبتك، فسألته، ألست الملك سليمان، فأجابها ، لست الملك سليمان ، ولكنى أحد الخدم االذين يقفون أمامه ، فأدارت وجهها للخلف ونطقت بأحد الأمثال لنبلائها وقالت( إذا لم يكن الأسد قد ظهر لكم ، فقد رأيتم ذريته ، فإذا لم تكونوا رأيتم الملك سليمان ، فقد رأيتم جمال أحد الرجال الذين يقفون أمامه).
وأحضر بنياه بن جيهودا ملكة سبأ أمام الملك سليمان، وعندما سمع الملك سليمان بوصولها ، قام وجلس فى منزل زجاجى ، وعندما رأت ملكة سبأ ذلك ، تصورت أن الملك يجلس فى الماء ، فرفعت ثيابها حتى تعبر الماء ، فلاحظ الملك وجود شعر على ساقيها ، فقال لها ، إن جمالك جمال إمرأة ، لكن شعرك شعر رجل ، والشعر جميل للرجال ، لكنه معيباً للنساء، فقالت له ملكة سبأ( سيدى الملك ، سوف أقول لك ثلاثة أمثال ، والتى إذا فسرتها لى ، سوف أعرف أنك رجلاً حكيماً ، وإذا لم تستطع ، فأنت مثل باقى الرجال ) وحل سليمان الألغاز الثلاثة ، فقالت له الملكة ، فليتبارك إلهك ، الذى أحبك ، وأجلسك على عرش مملكتك لتحكم بالعدل بين الناس، وأعطت الملك كثير من هدايا الذهب والفضة ، وأعطاها الملك كل ماترغب.
وفى هذه الرواية اليهودية، نرى ذكر بعض الأحاجى التى رغبت الملكة من سليمان أن يفسرها لها ، ورغم أن هذه المسألة غير مذكورة فى القرآن، فإنها مسجلة بالكامل فى الأحاديث ، ولإن ماذكره القرآن بخصوص خطأ الملكة بالرصيف الزجاجى بنبع عميق من الماء ، لايمثل رواية تامة للحدث كما جاءت فى الترجوم ،فإن بعض الكتاب المحمديين قد قاموا بإكمال التفاصيل، فعلى سبيل المثال ، فإننا نقرأ الآتى فى الصفحة رقم438 من عرائس المجالس(وكشفت عن ساقيها بحيث يمكنها أن تعبر الماء إلى سليمان ، فنظر إليها سليمان، فكانت أجمل النساء من الساق إلى القدم ، بإستثناء أن ساقيها كانت مشعرتين ، وعندما رأى سليمان ذلك ، صاح ليمنعها، قائلاً ، إنما هو قصر مرصوف بالزجاج)
وربما يعود ذكر الرصيف الزجاجى إلى إعادة صياغة مضطربة للبحر المصهور فى معبد أورشليم (سفر الملوك الأول ، الفصل السادس ، الإصحاح الثالث والعشرين) بينما تبدو كل العجائب الأخرى، خيالات يهودية واضحة. وتبدو كل الرواية اليهودية خرافية بشكل واضح ، بحيث أنه لأمر مثير للإستغراب أن يعتبرها محمد رواية حقيقية. ومع ذلك ، وإلى حد ما ، فإن بعض الأحداث المذكورة ، قابلة للتفسير أكثر من الأخرى ، فعلى سبيل المثال، فإن الفكرة المنتشرة فى الشرق حتى اليوم بأن سليمان قد سيطر على كثير من الأرواح الشريرة ، قد إشتقها اليهود من فهم خاطئ للكلمات العبرية(46) ، سيدة وسيدات ، المذكورة فى سفر الجامعة، والتى يبدو أن المفسرين قد أخطأوا معناها ، والذى لايتكرر فى أى مكان آخر فى الكتاب المقدس، بحيث فسروها بأنها تعنى بعض الشياطين. ومن ثم فقد ورد الحديث عن سليمان فى كل من الأسطورة اليهودية وفى القرآن ، بأنه كان يمتلك جيوشاً من أرواح عديدة من الجن. إن قصة التاجر والجنى فى ألف وليلة وليلة هى نموذج آخر على نفس المعتقد ، وإنه من الغريب أن نجد النبى محمد يبارى كاتب هذا الكتاب العجيب كراوى حكايات ، رغم أن مصدر القصة القرآنية معروف. ومع ذلك ، وبالتأكيد ، فقد تفوق محمد على منافسه فى السذاجة ، لإن الأخير، لم يعتقد، أنه قد إستقبل حكاياته العجيبة من السماء.
ويقدم لنا التسجيل الوارد فى سفر الملوك الأول، الإصحاح من 1-10، والمكرر فى سفر الأخبار الخامس ، الإصحاح من 1-9، الأساس التاريخى لكل الرواية، والذى لايخبرنا بأى عجائب عن سليمان ، ولاعن الجن والعفاريت والقصور الزجاجية ، ولكن مجرد حكاية بسيطة عن زيارة لسليمان ، قامت بها ملكة سبأ ، التى كانت جزءً مشهوراً من الجزيرة العربية.
(وعندما سمعت ملكة سبأ عن شهرة سليمان، وإيمانه، حضرت لتختبره بأسئلة صعبة. فحضرت إلى أورشليم فى قافلة عظيمة، بجمال تحمل التوابل وكثير من الذهب والأحجار الكريمة، وعندما حضرت أمام سليمان تناجت معه بكل ماكان فى قلبها، وأجاب سليمان على كل تساؤلاتها، ولم يخفى عنها شيئاً. ولما رأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان، والمنزل الذى بناه، ولحوم مائدته، ومواضع خدمه ، وحضور وزرائه ومظهرهم، وسقاته ، وبهائه الشخصى وهو يصعد إلى المعبد، خارت قواها وقالت للملك منبهرة، لقد كان كلاماً صحيحاً ، ذلك الذى سمعته فى بلادى عن أعمالكم وحكمتكم، ومع ذلك ، فأنا لم أًصدق الكلمات حتى حضرت بنفسى ورأيت بعينى، فكان مارأيته من حكمة ونعمة، أكثر من شهرتكم التى سمعت عنها. فليسعد رجالك،و خدمك ، الذين يقفون دائماً أمامك، ويسمعون حكمتك. وليتبارك الله، إلهك، الذى أشرق داخلك، ليضعك على عرش إسرائيل، لإن الله قد أحب إسرائيل دائماً، لذلك فقد جعلك ملكاً لتحكم بالعدل ، وأعطت الملك مائة وعشرين تالنت من الذهب، وكمية ضخمة من التوابل والأحجار الكريمة ، لم يُهدى أحد مثلها أبداً).
ورغم أن كثيراً من الروايات الأخرى المذكورة فى القرآن قد إقتبست من الخرافات اليهودية، فليس هناك ضرورة للإستشهاد بها كلها تفصيلاً. وفى كل حالة يبدو محمد جاهلاً بتاريخ الأنبياء الحقيقى ، كما روى فى الكتب القانونية للعهد القديم ، ويعود ذلك، بلاشك، إلى أن يهود الجزيرة العربية لم يكونوا مثقفين، وكانوا على معرفة أكبر بخرافات التلمود(والمدراش)من معرفتهم بالكتاب المقدس. وقبل أن نمضى لمناقشة مزيد من المواضيع الهامة، لابد أن نعالج قصة هاروت وماروت، الملكان اللذان إرتكبا الخطيئة فى بابل. إن لهذه الأسطورة أهمية كبيرة ، كما يمكن لنا أن نتتبعها فى مصدرها اليهودى مبدئياً ، ثم يمكن لنا أن نتبين بعد ذلك، أنها مختلطة المصدر، وسوف نرويها أولاً كما وردت فى القرآن والأحاديث، ثم نشير إلى الأساطير اليهودية وغير اليهودية التى إشتقت منها.
4- أسطورة هاروت وماروت
ذُكر هذان الملكان فى الآية 102 من سورة البقرة( وماكفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وماأنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت،ومايعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلاتكفر).
وفى شرح هذه الآية نجد القصة التالية فى عروس المجالس، والتى قيلت بناء على مرجعية الأحاديث المحمدية. يقول المفسر أنه عندما رأت الملائكة الأعماال الشريرة للبشر، التى وصلت إلى السماء زمن النبى إدريس ، فقد وبختهم وتبرأت منهم وقالت ، إن هؤلاء الذين جعلتهم وكلاء فى الأرض ، هؤلاء الذين إخترتهم ، قد عصوك. فقال الله العلى القدير ، إذا ماأرسلتكم إلى الأرض ، وغرست فيكم ماغرسته فيهم ، فسوف تفعلون مثلما فعلوا. فقالوا ، معاذ الله ياربنا ، فإننا لايمكن أن نعصيك. فقال الله ، إختاروا إثنين من أفضلكم ، وسوف أرسلهما إلى الأرض ، وبناء على ذلك إختاروا هاروت وماروت ، اللذين كانوا من جيوش السماء ، ومن أكثر الملائكة تقوى. ويقول الكلبى ، إن الله العلى القدير ، قد قال إختاروا ثلاثة منكم ، فإختاروا عاز وهو هاروت ، وعزابى وهو ماروت ، وعزرائيل، وأن الله قد غير من إسمى الملكين الأولين عندما إنغمسا فى الخطيئة ، كما غير إسم إبليس، لإن إسمه كان عزازيل. ثم غرس فيهم الله الغرائز والرغبات التى غرسها فى البشر وأرسلهم جميعاً إلى الأرض ، وأمرهم أن يحكموا بالعدل بين الناس ، ومنعهم من الشرك والقتل والنجاسة وشرب الخمر.
وبالنسبة لعزرائيل، فعندما دخلت الرغبة إلى قلبه، فقد طلب العفو من ربه وترجى أن يأخذه إلى السماء ، فعفى عنه الله وأخذه إلى السماء، حيث تعبد لأربعين عاماً ثم رفع رأسه ولم يتوقف بعد ذلك عن إحنائها خجلاً من الله العلى القدير، أما بالنسبة للملكين الاخرين، فقد ظلا حيثما هما ، وإعتادا أن يحكما بين الناس أثناء النهار، وفى المساء يرددا إسم الله العلى القدير، ويصعدان إلى ىالسماء، ويذكر قتادة أنه لم يمر شهر حتى ضعفا أمام الإغراء ، لإنه فى أحد الأيام ، لجأت إليهم زهرة فى أحد القضايا ، وكانت واحدة من أجمل النساء، ويذكر على أنها كانت من فارس، وكانت ملكة فى بلادها، وعندما رآها الملكان، أسرت قلبيهما ورغبا فيها كلاهما ، لكنها رفضت ، وإنصرفت عنهما، ثم عادت إليهما فى اليوم التالى ، ففعلا كما فعلا من قبل، فقالت لا لن أمنح لكما نفسى، بدون أن تعبدا ماأعبد ، وتصليان لهذا الوثن وتقتلان وتشربان الخمر، فقالا ، لايمكننا فعل هذه الأشياء حيث حرم علينا الله فعلها، فإنصرفت عنهما مرة أخرى، ثم عادت فى اليوم التالى ومعها كأس من الخمر وحاولت إغرئهما ، فرغبا فيها ، فرفضت وإقترحت عليهما قبول ماعرضته عليهما فى اليوم السابق ، فقالا لها ، أن نعبد أحد غير الله فهذا شئ فظيع ، وأن نقتل فهذا شئ فظيع أيضاً ، وإن أسهل المحرمات الثلاث هو شرب الخمر، ومن ثم قبلا بشرب الخمر ، وغشيهما السكر ، وجامعا المرأة، وتصادف أن رآهما أحد الرجال فقاما بذبحه ، ويذكر الكلبى بن أنس أنهما قد عبدا الوثن. ثم حول الله زهرة إلى نجم. ويذكر على والسعدى والكلبى أنها قالت للملكين، أنكما لن تنالانى حتى تعلمانى الطريقة التى بها تصعدان إلى السماء، فأجاباها ، بأننا نصعد إلى السماء بإسم الله العظيم ، فقالت لهما ، لن تنالانى إلا إذا علمتمانى إياه ، فقال أحدهما لرفيقه، علمها إياه، فأجابه ، إنى أخاف الله ، فقال رفيقه، فأين هى إذن رحمة الله العلى القدير، ثم قاما بتعليمها الإسم العظيم، فنطقت به وصعدت إلى السماء، فحولها الله العلى القدير إلى نجم.
إن زهرة هى الإٍسم العربى للكوكب فينوس، وإن عدد المراجع الذى إستشهد بها على الأشكال المختلفة لهذه القصة لهو دليل كاف على أنها قد قبلت بين جمهرة المسلمين على أنها قد نقلت عبر الأجيال عن أحاديث نبيهم . ومع ذلك فهناك إشارات عديدة فى القصة تدل على أصلها اليهودى، وأحد هذه الإشارات هى فكرة أن أى إنسان يعرف الإسم الخاص لله، الإسم الذى لايمكن إعلانه ، الإسم السرى ، كما يسميه اليهود، يمكن له أن يفعل أشياء عظيمة، وعلى سبيل المثال ، فإنه من المعروف جيداً، أن بعض الكتاب اليهود فى العصور القديمة كانوا يفسرون معجزات المسيح بأنه كان يقوم بها بنطق إسم يهوه، Tetragramation . وأيضاً فإن إسم الملاك عزرائيل ليس إسماً عربياً، بل إسماً يهودياً.
إن لدينا دليل إضافى مباشر على الأصل اليهودى للقصة، والمذكور فى المدراش يلكوت الفصل 47 ، فى الكلمات التالية (وسأل التلاميذ الأب يوسف، من هو عزاييل ، فقال لهم ، أنه عندما عبد الناس الذين عاشوا فى زمن الطوفان الأصنام ، غضب الله العظيم غضباً شديداً ، وعلى الفور نهض منهم ملكان ، شمهازاى وعزاييل، وقالوا فى حضرته ، يارب العالم ، ألم نقل فى حضرتك ، عندما خلقت العالم ، ماهو هذا الإنسان ، الذى تهتم به كل هذا الإهتمام ، فقال لهم ، وفيما يخص العالم ، وماذا سيحدث له ، فقالوا له ، نعم يارب العالم ، فسوف نحكمه ، فقال لهم ، أنه واضح ومعروف لى ، أنكم إذا ماسيطرتم فى الأرض ، فإن الرغبات الشريرة سوف تسيطر عليكم، وسوف تكونوا أكثر حمقاً من أبناء الإنسان ، فقالوا له، إعطنا الإذن ، وسوف نسكن مع الخلق ، وسوف ترى كيف سنقدس إسمك ، فقال لهم ، إنزلوا إلى الأرض وإسكنوا معهم، وفوراً رأى شمهازى فتاة جميلة إسمها إستر، فثبت عيناه عليها وقال ، فلتكونى لطيفة معى ، فقالت له، لن أستمع إليك حتى تعلمنى الإسم الخاص لله ، والذى عندما تردده ، يمكنك الصعود إلى السماء ، فعلمها إياه ، فرددته وصعدت هى الأخرى إلى السماء ، وأكرمها الله العظيم وقال ، حيث أنها قد إبتعدت عن الإثم ، فلتسكنوها بين النجوم السبع ، حيث لا يمكن أن ترغبوا فيها أبداً بعد ذلك ، فأسكنوها الثريا. وسرعان ماإختلطا مع بنات الإنسان الجميلات ، ولم يستطيعا كبح رغباتهما ، فإتخذا الزوجات وأنجبا الأبناء ، الولاد والبنات ، وأصبح عزاييل أستاذاً لكثير من أنواع حلى وزينة النساء ، التى جعلت الرجال ، ميالين للتفكير فى الإثم، وعما قيل فى هذه الجملة الأخيرة فسوف نعود مرة أخرى ، ولكن يجب أن نلاحظ أن عزاييل المدراش هو عزرائيل الأساطير المحمدية(47).
إنه من المستحيل على أى إنسان أن يقاوم إدراك أن القصة المحمدية مشتقة من القصة المدراشية ، ومع ذلك فهناك بعض النقاط الهامة فى الشكل المحمدى لهذه الخرافة، والذى يتطلب الإهتمام قبل فحص السؤال ، من أين تعلم اليهود أنفسهم هذه القصة الخرافية ؟ إن أحد هذه النقاط يكمن فى أصل إسمى هاروت وماروت، حيث يقال أن هذين الملكين، هاروت وماروت، كان لهما إسمين أصليين آخرين ، هما آزاد وأزابى ، وأن الإسمين الأخيرين قد تشكلتا من جذور مرتبطة باللغتين العبرية والعربية. ومع ذلك ، فإننا نجد فى المدراش، أن الملاكين اللذان إرتكبا الخطيئة المشار إليها يسميا، شمهازاى وعزاييل، وذلك بينما تقول الأسطورة العربية أن عزرائيل ، وبالرغم من أنه لم ينزل من السماء ، قد صاحب هاروت وماروت كعضو ثالث فى المجموعة ، ثم رجع بعد ذلك إلى السماء دون أن يرتكب خطيئة حقيقية. وهو الآن يعتبر بين المسلمين كملاك الموت ، وهو الدور الذى يلعبه صماييل بين اليهود. وتقول الأسطورة العربية أن إسمى هاروت وماروت لم يعطيا لهذين الملكين إلا بعد أن إرتكبا الخطيئة. إن المعنى المتضمن فى ذلك يصبح واضحاً عندما نكتشف أن الإسمين هما لإلهين أرمينين قديمين ، كان الأرمينيون يعبدونهما قبل تحولهما إلى المسيحية فى القرنين الثالث والرابع الميلاديين ، حيث كانا يسميان بهوروت وموروت، ضمن الآلهة الخاصة بخصب ونماء الأرض(48) كما يبدوان فى الإفيستا كهورفات وأميرتات ، آلهة الوفرة والخلود، التى تلعب دور المساعد الرئيسى لأهورا مازدا خالق كل الأشياء الجميلة ، وقد حرفت هذه الأسماء فى اللغة الفارسية الأحدث إلى كورداد ومورداد، وتبدو ذو أصل آرى بحت لكنها تظهر أيضا فى السنسكريتية بإسمى سرفاتا وأمريتا، وكانت كلها كائنات مقدسة مرتبطة بالخصب والنماء وكان نزولها إلى الأرض بناء على مشورة أهورا مازدا، كما كان الحال فى الأسطورة المحمدية ، لكن تنفيذ هذا النزول لم يرتبط بأى فكرة عن الخطيئة. وبإقتباس أسمائهما من الميثولوجيا الأرمينية والفارسية القديمة - هاروت وماروت - فقد ربطهما محمد ، أو محدثه ، بالملكيين الخاطئين فى الميثولوجيا اليهودية المدراشية ، شمهازاى وعزاييل ، وكما سوف نرى فى الوقت المناسب(49)، فقد أخذ محمد كثيراً من المعلومات من المصادر الفارسية واليهودية ، وقد كان هناك تشابه كافى بين أصل الأسطورتين المستقلتين ، جعله يعتقد أنهما شئ واحد ، ومن هنا جاءت الظاهرة الغريبة لظهور إثنين من الجن الآريين ، هاروت وماروت وكأنهما الفاعل الرئيسى فى مشهد مقبس من المدراش السامى بملائكيه ، شمهازاى وعزاييل.
أما الفتاة التى تدعى إستير فى القصة اليهودية فهى الإلهة عشتار فى بابل القديمة وتعبد فى فلسطين وسوريا تحت إسم عشتروت وكانت إلهة الحب والعاطفة الآثمة وإقترنت لدى اليونانيين والرومان مع أفروديت وفينوس على التوالى، كما أنها إقترنت كذلك مع كوكب فينوس الذى يسميه العرب الزهرة ، فمن السهل تصور أن إختلاف الأسماء بين اليهودية والحكايات العربية ليست مسالة لحظة ، فالشخصيات الأسطورية المشار إاليها هى فى الواقع واحدة ومنطقية.
ومن المعروف جيداً أهمية الدور الذى لعبته عشتار فى الأساطير البابلية والآشورية ومن المهم أن نورد إحدى حكاياتها العديدة عن العلاقات الغرامية لإنها سوف تفسر فى جزء منها أصل قصة خطيئة الملائكة ويظهر لنا كذلك لماذا يقال أن هذه الزهرة أو إستر قد تم تمكينها من الصعود إلى الجنة ولكنها لم تصعد.
تروى لنا الأسطورة البابلية أن عشتار وقعت فى حب بطل يدعى جلجاميش الذى جابهها بالصدود. لبس جلجاميش تاجه ولما أرادت الإلهة عشتار أن تستميله إليها قالت له قبلنى ياجلجاميش وياليتك تكون عريسى ، إعطنى ثمرك عطية ، وليتك كنت زوجى، وأنا إمرأتك، فكنت أركب عربة من لازورد وذهب ، وعجلاتها من ذهب وعريشها من الماس وكنا نقطر البغال العظيمة إليها يوماً فإدخل إلى بيتنا مع عطر السرور، غير أن جلجاميش سخر من عشتار وأنبها ولم يرض أن يتخذها زوجة له وسخر منها بذكر كثير من الأزواج الذين وصولوا معها إلى سوء الخاتمة (50) وتستمر الحكاية بعد ذلك لتقول لنا (فإغتاظت الإلهة عشتار وصعدت إلى السموات ومثلت أمام الإله آنو وهو إله السماء الذى كان يعبده البابليون وكانوا يعتقدون أن عشتار هى إبنته). وهنا نرى صعودها إلى السماء مثل الصعود المذكور فى الأسطورة المحمدية ، كما نرى قيامها بإغراء الملائكة بالخطيئةً ، مثل الإغراء المذكور فى الحكاية البابلية عندما تحاول إغراء جلجاميش.
وفى الأدب السنسكريتى أيضاً نجد تشابها ملحوظاً جداً لهذه القصة التى ترتبط بالقرآن والحديث وهى واقعة سوندا وأبسوندا فى ملحمة مهاباهارتا(51) ومع ذلك فإنه لايمكنننا أن نفترض إن كل هذه الأساطير المختلفة لتلك القصة - هاروت وماروت - بين كل هذه الأمم المختلفة كانت مستمدة من أصل واحد، ولاشك أن اليهود إستعاروا الحكاية ، جزئياً على الأقل، وخاصة إسم عشتار أو إستر وبعض التفاصيل الأخرى من البابليين الذين تعلموها بدورهم من الأكديين الذين سبقوهم ثم نسى مصدرها الوثنى وتبنى المدراش الحكاية ، وعلى وفق هذا المرجع اليهودى وردت فى القرآن والتراث الإسلامى.
وإذا ما إستفسرنا أيضاً كيف إستوعب اليهود الأسطورة فالجواب أنهم فعلوا ذلك من خلال فهم خاطى لمعنى إحدى الكلمات العبرية فى سفر التكوين وهى كلمة طغاة/نيفيليم بالعبرى/ الواردة فى فصل التكوين السادس إصحاح 1-4 ، والتى من المفترض أنها مشتقة من الفعل naphal - fall بمعنى يسقط والتى فسرها جوناثان بن عزيئيل فى ترجومه البابلى على أنها تعنى الملائكة الساقطة ، ومما لاشك فيه أنه كان يتبنى الأصل المعروف للكلمة آنذاك ، وبسبب أصل الكلمة كانت القصة فى جزء منها مخترعة وفى الجزء الاخر، كما رأينا، إستعارها عوام اليهود من الأساطير البابلية، وغالباً بنفس الطريقة المتهافتة التى سبق أن أشرنا إليها فى أصل كلمة أور التى إنبثقت فى قصة خلاص إبراهيم من أتون نار الكلدانيين.
ومن هنا نجد أن جوناثان فى تفسيره لفصل التكوين السادس إصحاح 1-4 يفسر كلمة طغاة قائلاً(أن شمهازاى وعزاييل هبطا من السماء وكانا على الأرض فى تلك الأيام) وقد نشأت هذه الأسطورة بالفعل فى المدراش يالكوت من هذا الخطأ الفادح. ومع ذلك حتى قبل قبول الإشتقاق المفترض لكلمة طغاة/نيفيليم من معنى فعل السقوط فلم يكن من الضرورى شرح أصل الإسم فى مثل هذه الطريقة. ويتصرف ترجوم أونكيلوس بحكمة أكثر من خلال فهم طغاة على أنهم سموا كذلك لإنهم كانوا أشخاصاً يسقطون بعنف على العاجزين ويقمعونهم ، ومن هنا يترجم الترجوم كلمة واحدة تعنى الرجال القساة أو الطغاة(52) ورفض آخرون من المتأخرين إشتقاق الكلمة من naphal السقوط وفضلوا ربطها بالكلمة العربية نبيل التى تعنى أيضاً الماهر فى الرماية ، وبعد هذا كله قد تكون الكلمة مثل العديد من الأسماء فى الفصول المبكرة من سفر التكوين من أصل سومرى ولا علاقة لها بأى جذر فى اللغات السامية ، وبما أن أكثر الجهلة من اليهود كانوا يعشقون الخرافات فقد نمت قصة الملائكة الذين سقطوا فى الخطيئة أكثر وأكثر بصورة غريبة وعجيبة ، ففى البداية جرى الحديث عن ملاكين هبطا فسقطا فى الخطيئة ، وكان هذا من قبيل المبالغة فى الحكاية البابلية عن محاولة عشتار إغراء جلجاميش وحده ، ولكن العدد إزداد فى الحكايات اليهودية لاحقاً وصولاً إلى رواية فى كتاب أخنوخ المنتحل تقول ان عدد الملائكة الذين أنزلوا من السماء بلغ مائتين وأنهم جميعاً طردوا بسبب الخطيئة مع النساء.
إن المقتطف التالى من كتاب أخنوخ المذكور لايقل أهمية عن رواية الأسطورة التى نقلناها بشكلها الكامل، كما أنه يكشف عن إتفاقه مع ماورد فى آخر الأسطورة اليهودية فى المدراش يالكوت، وكذلك فى القرآن فى المقطع التى ستظهر فيه لاحقا(وحصل أنه حين تكاثر البشر ولد فى تلك الأيام بنات غضات وجميلات تظهر لهن الملائكة أبناء السماء إشتهوهن وقال الواحد منهم للآخر تعالوا لنتخذ لأنفسنا زوجات من بنات البشر وننجب منهن أبناء لنا وقال لهم شمهازاى، رئيسهم، أخاف أن تتراجعوا عن القيام بذلك الفعل فأكون وحدى مرتكباً للخطيئة الكبرى فأجابوه جميعاً نقسم يميناً بأن نلتزم جميعاً ولانتراجع عن هذه النية حتى ننجز فعلها فأقسموا جميعاً وحرموا أنفسهم بأن لايتراجعوا عن هذه النية) وبعد ذكر أسماء رؤساء الملائكة المتمردين تسير القصة على النحو التالى( وإتخذوا لأنفسهم زوجات ، إختار كل منهم زوجة لنفسه وأنهم علموهم العقاقير والسحر وعلم النبات وأروهن الأعشاب وعلم عزاييل البشر صناعة السيوف والحراب والتروس والدروع كما تعلمها من الملائكة ودلهم على المعادن وطريقة الإشتغال بها وكيف يصنعون الأساور والحلى والكحل وغسول العين وجميع أنواع الأحجار الكريمة والصبغ(53).
هذه القصة عن أصل الحلى النسائية هى نفسها التى وجدناها فى المدراش يالكوت ، وهى تمكننا من فهم المقطع التالى من القرآن والتعرف على مصدره وهو يتحدث عن هاروت وماروت ويقول محمد إن البشر(يتعلمون منهما مايفرقون به بين المرء وزوجه، ويضيف، وماهم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون مايضرهم ولا ينفعهم) (54) وليس من الضرورى تقديم أى دليل آخر على أن قصة هاروت وماروت أخذت من مصدر يهودى على الأقل فى أغلب تفاصيلها الأساسية على الرغم مما نراه فى أسماء هذه الملائكة من قوة التأثير الأرمنى والفارسى الآرى ، لقد رأينا أيضاً أن اليهود إستمدوا صيغتها من الأساطير البابلية وان قبولهم لذلك كان إلى حد كبير بسبب سوء فهم حول معنى كلمة عبرية فى سفر التكوين، وقد يقال أن بعض المسيحيين يفهمون التكوين السادس 1-4 بنفس المعنى الذى ذهب إليه اليهود ومازالوا يفعلون، وأن تلك الرؤية ربما كانت صحيحة ، ولكن حتى بقبول هذا كله ، فمن الواضح من المصدر المحرف الذى أخذ منه محمد هذه القصة ، كما رويت فى القرآن وفى الأحاديث ، أنها لايمكن أن تكون صحيحة ، فهاروت وماروت ، ليسا شمهازاى وعزاييل.

5- أمثلة أخرى
لن نستطيع أن نذكر بنفس التفاصيل الكاملة ، كل النقاط الأخرى ، التى إستعار فيها القرآن من الأساطير اليهودية. إن فحص ماذكر فى القرآن بشأن يوسف وداود وشاؤول (طالوت)، على سبيل المثال، سوف يظهر كيف أن هذه الروايات تختلف بشكل كبير فى رواية الكتاب المقدس عن هؤلاء الأشخاص، ففى معظم هذه الأمثلة ، إن لم يكن فيها كلها ، فإن السبب فى هذا الإختلاف عن رواية الكتاب لمقدس يكمن فى حقيقة أن محمد قد إتبع الأساطير اليهودية المعروفة فى عصره، بدلاً من التاريخ الحقيقى لهؤلاء الرجال، كما ورد فى النص المقدس. وأحياناً كان يسئ فهم تلك الأساطير، وأحيناً كان يتوسع فيها من خياله أو من مصادر أخرى. لكن الأساطير التى عالجناها بشئ من الإسهاب، سوف تخدم كنماذج لكل الأساطير المشابهة. ونتقدم الآن للتعامل مع أمثلة أخرى يبدو فيها أخذ القرآن من الأساطير اليهودية واضحاً.
-تقول الآية رقم 171 من سورة الأعراف( وإذا نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ماأتيناكم بقوة وإذكروا مافيه لعلكم تتقون). ويفسر جلال الدين ، وغيره من المفسرين المحمديين هذه الآية بإخبارنا أن الله قد رفع جبل سيناء من أساسه وجعله فوق رؤوس بنى إسرائيل فى الصحراء ، مهدداً بجعله يسقط عليهم ويسحقهم، إذا لم يقبلوا بالوصايا المذكورة فى قانون موسى، هذه الوصايا التى رفضوا إطاعتها قبل ذلك بسبب قسوتهم، ولكنهم عند سماع هذا التهديد قبلوا بوصايا موسى- شريعة موسى- ثم نطق الله باقى الكلام المذكور فى الآية المستشهد بها أعلاه ، إن نفس الأسطورة مشار إليها فى الآيات 60-87 من سورة البقرة ، والآية 63 تحديداً( وإذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة وإذكروا مافيه لعلكم تتقون).
إن أصل الأسطورة يوجد فى الرسالة اليهودية التلمودية (عبودا زارا) حيث أخبرنا أنه فى تلك المناسبة، قد مثل الله وهو يقول لبنى إسرائيل، لقد غطيتكم بالجبل كجفن العين، كما ورد أيضاً فى رسالة السبت التلمودية رقم 88، إن هذه الكلمات تعلمنا أن الله، تبارك وتعالى، قد جعل الجبل فوقهم كوعاء، وقال لهم، إذا ماقبلتم بالوصايا أحسنتم، وإلا لجعلت الجبل لكم قبراً.
ربما يكون من الضرورى أن نقول انه لايوجد شئ يشبه تلك الخرافة فى التوراة، وأنها قد نشأت عن خطأ أحد المفسرين اليهود ، الذى أساء فهم كلمات الكتاب المقدس. فلقد أخبرنا فى الفصل 32 من سفر الخروج إصحاح 19 ، أنه عندما نزل موسى من الجبل بلوحين من الحجارة بيديه، فقد رأى الإسرائيلين يعبدون العجل الذهبى الذى صنعوه بأنفسهم، وفى غضبه لهذا المشهد المشين ألقى بالألواح الحجرية من يديه وكسرهما تحت الجبل ، ويخبرنا الفصل التاسع عشر إصحاح 17 أنه بينما كان الله يعطى موسى الشريعة كان الشعب واقفاً أسفل الجبل ، وفى كلا الحالتين فإن العبارة تعنى عند سفح الجبل ، لكن يهود العصور التالية، السذج المحبين للخرافات ، إختاروا أن يسيئوا فهم العبارة، ومن ثم تم إختراع أسطورة وضع الجبل فوق رؤوس الرجال، لتفسر كلمات تحت الجبل. ومع ذلك فإن قصة الإمساك بجبل فوق رؤوس الرجال تتشابه بشكل عجيب مع أسطورة هندوسية ترتبط بالساسترا السنسكريتية ، حيث يقال أن الإله كريشنا، وفى رغبته فى حماية شعب مدينة جوكولا، مسقط رأسه، من عاصفة مطرية شديدة ، فقد سحب من قاعدته الصخرية جبل يسمى بجوفاردانا، والذى كان يمثل أكبر الجبال، وعلى مدى ىسبعة أيام وسبع ليالى ، قام بتعليقه على أطراف أصابعه فوق رؤوسهم كأنه مظلة. إننا لايمكن أن نفترض أن اليهود قد إستعاروا تلك القصة من الهندوس، ولكنه من الواضح أن محمد قد أخذ القصة المشار إليها فى القرآن من مصدر يهودى، بينما كان اليهود قد قبلوا بالقصة أو إخترعوها من التفسير الحرفى(55) والغير طبيعى لعبارة تحت الجبل.
-إن تلك ليست هى الخرافة الوحيدة التى يرويها القرآن، فيما يخص ماحدث أثناء إقامة الإسرائيليين فى صحراء سيناء، وليست أقل غرابة مما أخبرنا به عن العجل الذى صنعوه للعبادة أثناء غياب موسى. فقد أُخبرنا فى سورة طه(56) أنه عندما عاد موسى ووبخهم على هذا، قالوا له (ماأخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها - فى النار- وكذلك ألقى السامرى، فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار) وتقول ملاحظة جلال الدين أن العجل قد صنع من لحم ودم ، ولذا فقد أصبح يمتلك القدرة على الخوار، لإن الحياة قد منحت إليه من خلال حفنة تراب ، من الأثر الذى تركه حافر حصان الملاك جبريل، والتى جمعها السامرى ووضعها فى فم العجل ، تبعا للآية 96 من نفس سورة طه، التى تقول(قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لى نفسى).
إن هذه الأسطورة تستغفل اليهود أيضاً ، كما هو واضح من المقتطف التالى الذى ترجمناه من النص 45 من فصول الحاخام العازرالمدراشية( بيركى أليعازر) والذى يقول(وخرج ذلك العجل يخور، ورآه الإسرائيليون، وقال الحاخام يهودا أن صمايل كان مختباً داخله ، وكان يخور كى يخدع إسرائيل). ولابد أن فكرة أن العجل كان قادراً على الخوار قد أتت من إفتراض أنه برغم صناعته من ذهب ، وتبعاً للفصل الثانى والثلاثين من سفر الخروج ، فقد كان حياً، حيث كان قادراً على الخروج من النار. وهنا نرى مرة أخرى إن إستخدام التعبير المجازى عندما يؤخذ حرفياً يؤدى إلى ظهور أسطورة لتفسيره. لقد أخذ المفسر المحمدى، فى شرح عبارة - عجلاً جسداً - فى القرآن على أنها تشير على أنه كان من دم ولحم ، مجرد خطوة إلى الأمام ، وقد فعل ذلك ليشرح ، كيف كان يمكن للعجل أن يخور. ويبدو أن محمد قد فهم معظم الأسطورة اليهودية بشكل صحيح، لكن كلمة صمايل التى وردت فى الرواية المدراشية أربكته ، وغير مدرك لإن تلك الكلمة هى الإسم اليهودى لملاك الموت ، وربما أيضاً لتشابه النطق مع كلمة سامرى ، فقد وقع فى ذلك الخطأ وتصور أن صمايل تعنى السامرى، لإنه كان يعلم أن اليهود كانوا أعداءً للسامريين، ومن ثم فقد تصور أنهم قد نسبوا صناعة العجل لأحدهم . وبلاشك فقد تأكد له ذلك الإعتقاد من بعض الروايات الغير صحيحة التى سمعها بأن يربعام ، ملك ماأصبح يعرف بعد ذلك بسامريا، قد جعل إسرائيل ترتكب الخطيئة ، بقيادتهم نحو عبادة العجول التى صنعها وأقامها فى دان وبيت إيل (سفر الملوك) ولكن حيث أن مدينة سامريا لم تكن قد بنيت بعد، أو على الأقل سميت بذلك الإسم، إلا بعد مئات من السنين من وفاة موسى، فإن إستخدام ذلك الإسم فى غير زمانه يبدو مضحكاً ، وقد يبدو مذهلاً فى أى كتاب آخر غير القرآن ، الذى تظهر فيه بإستمرار كثيراً من مثل تلك العجائب. فهنا، وكما هو الحال فى كثير من الأمثلة الأخرى ، فإن جهل محمد بالكتاب المقدس، ومعرفته بدلأ من ذلك بالأساطير اليهودية (التلمودية المدراشية) يبدو شديد الوضوح ، وإنه من غير الضرورى أن نشير إلى أن صانع العجل الذهبى فى الكتاب المقدس هو هارون ، وليس صمايل ولا السامرى.
-ومرة أخرى فى الآيات 54-55 من سورة البقرة ، أخبرنا بأن الإسرائيليين قالوا ( ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون، ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون). إن هذه الخرافة مأخوذة أيضاً من اليهود ، حيث أخبرنا فى الفقرة 5 من رسالة السنهدرين ، أنهم قد ماتوا عند سماعهم الصوت الإلهى (فى الرعد) ولكن الله نفسه توسط لهم ، وتم ردهم إلى الحياة. وإذا كان من الضرورى البحث عن أى أساس لمثل هذه الخرافة ، فربما نجدها فى كلمات العبرانيين فى الفصل 20 إصحاح 19 من سفر الخروج و الفصل 5 إصحاح 25 من سفر تثنية الإشتراع ، لاتدع الله يتحدث إلينا خشية أن نموت.
-يعتقد جميع المسلمين، أن القرآن قد كُتب فى لوح محفوظ، بزمن طويل قبل خلق العالم، وإن هذا الإعتقاد يتماشى مع ماهو مذكور فى الآيات 21-22 من سورة البروج ( بل هو قرآن مجيد ، فى لوح محفوظ)، ولكن من الغريب أنهم لايعتقدون أن المزاميز هى من نفس القدم ، رغم ماذكر فى الآية 105 من سورة الأنبياء ( ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحين). والمرجع هنا هى الآيات 11، 19 من الفصل السابع والثلاثين من سفر المزامير، أما الودعاء فيرثون الأرض ، وهو النص الوحيد المقتبس بالإسم من العهد القديم فى القرآن ، وذلك رغم وجود نحو 131 آية فى القرآن تذكر فيها القوانين والمزامير والأناجيل، بإحترام وتوقير، على أنها كتب منزلة من الله لأنبيائه ورسله. وقد يبدو واضحاً لمعظم الناس أنه لايمكن الإقتباس من كتاب أو الإشارة إليه كمرجع قبل أن يوجد فعلاً، وعلى ذلك فإن أسفار الكتاب المقدس لابد أنها كانت موجودة قبل القرآن، وبالطبع فنحن نعرف من التاريخ أن هذا هو الواقع فعلاً، فكيف يمكن إذن أن يقتبس القرآن المخلوق فى اللوح المحفوظ قبل خلق العالم من كتاب وجد بعد خلق العالم؟، ويبدو أن هذا التناقض ليس له أى إعتبار لدى المسلمين، الذين مازالو متعلقين بإيمانهم بأن القرآن خلق فى اللوح المحفوظ قبل خلق العالم. و بناء على ذلك فسوف نتقدم فى بحثنا لإستكشاف ماذا يقول تراثهم فى تفسير تلك الآية، وسوف نجد الإجابة فى مثل تلك الروايات الموجودة فى الصفحة 3-4 من قصص الأنبياء لأبى الفدا، والتى تروى الطريقة التى خلق بها الله كل الأشياء وتقول:
(ومن تحت العرش، أو فى السماء العليا ، خلق الله درة، ومن تلك الدرة خلق اللوح المحفوظ،، وإرتفاعه رحلة سبعمائة سنة، وعرضه رحلة ثلثمائة سنة، مرصعاً بالياقوت الأحمر، ثم بقوة الله تعالى صدر الأمر إلى القلم ، إكتب علمى فى خلقى ومايجرى إلى يوم القيامة، فكتب أولاً فى اللوح المحفوظ، بسم الله الرحمن الرحيم، أنا الله لا إله إلا أنا، من يخضع لقضائى ويصبر على ماأبتليه، ويشكر على نعمى، كتبت إسمه ورفعته مع الصادقين، ومن لم يرض بقضائى ويصبرعلى ماأبتليه، ويشكر على نعمى، فليبحث عن رب غيرى، وليخرج من تحت سمائى (57) وبناء على ذلك سجل القلم علم الله تعالى فى خلق كل شئ أراده إلى يوم القيامة، حتى الدرجة التى تتحرك بها ورقة الشجر أو تنزل أو تصعد، وكتب كل مثل هذه الأشياء، بقدرة الله تعالى).
والواقع أن قصة اللوح المحفوظ مأخوذة من اليهود أيضاً، ففى سفر تثنية الإشتراع الفصل 10 الإصحاحات من 1-5، قد عرفنا أنه عندما قام موسى، وبناء على أوامر الله، بعمل لوحين من الحجر مماثلين لذلك الذى حطمه، فقد كتب الله عليهما الوصايا العشر، وأمر موسى بأن يحفظهما فى تابوت من خشب السنط. إن كلمة اللوح العبرية، والمستخدمة هنا، تتطابق تماماً مع الكلمة العربية لوح ، ففى سفر الملوك الأول، الفصل 8 الإصحاح 9 ، وكذلك فى سفر العبرانيين الفصل 9 الإصحاح 3-4 ، نعلم أن هذين اللوحين قد حفظا فى تابوت العهد، الذى صنعه موسى بناء على أوامر الله. إن هذه هى الرواية التى تتداخل فيها قصة لوح محفوظ مع وصايا الله، والذى ظهر تدريجياً بقدرته بين اليهود، وبعد ذلك بين المحمديين، ومن لغة آيات سورة البروج رقم 21-22 التى ترجمناها أعلاه، يبدو من الواضح أنه قد وجد فى عقل محمد ، ليس لوح واحد فقط، ولكن على الأقل لوحين محفوظين، لإن الكلمة تأتى فى النص العربى كلوح محفوظ وليس اللوح المحفوظ ، كما يبدو فهم المحمديين لها حتى اليوم، وعلى ذلك فلابد أن هذا يعنى إشارة إلى اللوحين الذين أعدهما موسى وحفظهما فى تابوت العهد، ولإن هذين اللوحين قد حفظا فى معبد الخيمة أو المظلة ، التى مثلت حضور الإله بين شعبه، فمن الطبيعى أن نتحدث عنهما بصفتهما محفوظين فى حضرة الإله، ومن هنا يأتى أصل خرافة أن اللوحين كانا محفوظين فى السماء، ولا يصبح من الصعب إستنتاج مصدرها القديم من هذا المعتقد.
ولكن لماذا يؤكد محمد أن القرآن قد كتب على أحد هذين اللوحين ، للإجابة على هذا السؤال لابد لنا من الرجوع لليهود مرة أخرى لنعلم ماذا كانوا يعتقدون فى زمن محمد وقبل ذلك، فيما كتب على هذين اللوحين، اللذين كانا قد تم حفظهما فى تابوت العهد. فبرغم حقيقة أن سفر الإشتراع يقرر صراحة أن الوصايا العشر هى كل ماكتب فقط على هذين اللوحين، فقد إنتشرالإعتقاد بعد ذلك بأن كل كتب العهد القديم، وكذلك كل التلمود ، قد نقشت عليهما، أو على الأقل ، كتبت بجوارهما، وعندما سمع محمد اليهود يؤكدون ذلك فيما يخص كتبهم المقدسة، فقد كان من الطبيعى بالنسبة له أن يؤكد أن وحيه أيضاً كان مكتوباً على أحد هذين اللوحين ، لإنه بغير ذلك، وكما فكر، فقد كان من الصعب أن يدعى درجة من المرجعية الإلهية، تساوى درجة العهد القديم، وإنه من المحتمل، وفى عدم فهم المسلمين لما تشير إليه عبارة لوح محفوظ (اللوح اليهودى)، فقد إخترعوا تدريجياً كل القصة العجيبة عنه، والتى إقتبسناها أعلاه - من أبى الفدا.
ولكى نؤكد ماإعتقد فيه اليهود بشأن محتويات اللوحين، يجب أن نراجع رسالة البركة من التلمود البابلى، الورقة 5 ، العمود 1، فهناك يمكن أن نجد ماقاله الحاخام شمعون بن لاجش( وسوف أعطيك لوحى الحجارة والشريعة والوصايا التى كتبتها، حتى تعلمها لهم - الخروج ، الفصل 24 ، الإصحاح 12 )، فاللوحين هما الوصايا العشر، والتوراة هى التى تتلى، والوصايا هى الموجودة فى المشنا ، والتى كتبتها هى أسفارالأنبياء وأسفار الحكمة، والتى يمكن أن تعلمها لهم هى الجمارا، وهى مراجعة للمشنا، إن هذا يشير إلى كل ماأعطى لموسى فى سيناء.
إن كل يهودى مثقف فى الزمن الحالى يعرف أننا لابد أن نرفض هذا التفسير السخيف للنص المستشهد به هنا، لإنه يعرف أن المشنا قد جمعت حوالى سنة 220م ، والجمارا الأورشليمية حوالى سنة 430م، والجمارا البابلية حوالى سنة 530م ، ولكن ولإن المسلمين لم يكونوا يعرفوا ذلك ، يبدو أنهم قد قبلوا ذلك التاكيد - بشمولية اللوحين - على أنه حقيقة ، وضموه إلى قرآنهم أيضاً. ومن أجل إكمال الدليل على أن أسطورة اللوح المحفوظ الذى كُتب عليه القرآن، مأخوذة من مصدر يهودى، يبقى فقط أن نقرر أنه قد ذُكر فى كتاب أقوال الآباء اليهودى - بوركى أفوت - أن لوحى الشريعة ، قد خُلقت ، مع تسعة أشياء أخرى فى وقت خلق العالم، عند الغروب قبل أن يبدأ السبت الأول.
-إنه من المعروف جيداً أن جبل القاف الخرافى يلعب دوراً كبيراً فى أساطير محمد ، فالسورة القرآنية رقم 50 تسمى بسورة القاف، وتبدأ بنفس الحرف، ومن ثم يفترض أن إسمها يشير إلى الجبل موضوع الأسطورة. وقد قبل المفسر العباسى هذا التفسير، وإستشهد بتراث يعود إلى أبن العباس فى تأكيد ذلك. يقول إبن العباس( القاف هو جبل عظيم يحيط بالأرض، ومنه يأتى إخضرار السماء، وهو الذى يقسم به الله(58) وقد فسر عرائس المجالس(59) ذلك بشكل أكبر فى هذه الكلمات ( لقد خلق الله العلى القدير جبل عظيم من الزمرد، ومنه يأتى إخضرار السماء، ويسمى بجبل القاف، وهو يطوق كل الأرض، وهو ذلك الذى يقسم به الله حيث يقول ، والقاف والقرآن المجيد)(60). وقد روى فى قصص الأنبياء، أن عبدالله بن سلام سأل محمد يوماً، ماهى أعلى قمم الجبال فى الأرض، فأجاب محمد ، جبل القاف. وفى إجابته على الإستفسار التالى، عما يتكون منه هذا الجبل، أجاب محمد من زمرد أخضر،ومنه يأتى إخضرار السماء، وفى إعتقاد المستفسر بأن نبى الله قد تحدث بالحقيقة فى هذا الأمر، سأل، وماهو إرتفاع جبل قاف، فأجاب محمد، أنه رحلة خمسمائة عام، فسأل عبدالله، وماهو محيطه، فأجاب محمد، رحلة ألفى عام، ولسنا فى حاجة للخوض فى كل التفاصيل الأخرى التى وصلت إلينا عن هذه السلسلة الجبلية الخرافية، والتى تمتلىء بها الأساطير الإسلامية.
وإذا ماسألنا عن أصل قصة وجود مثل هذه السلسلة من الجبال، فإنه يمكن أن نجد الإجابة فى إشارة إلى كتاب الحكيكاه اليهودى، الباب الحادى عشر الفصل 1 ، فهناك وفى تفسير الكلمة العبرية النادرة إلى حد ما ، توهو ، المذكورة فى الفصل الأول من سفر التكوين ، إصحاح 2 ، بمعنى الفضاء والفراغ ، قد كُتب ، توهو هو الخط الأخضر الذى يحيط بكل العالم، والذى منه ينبثق الظلام، إن الكلملة العبرية التى نترجمها هنا بالخط تعنى قاف ، وعندما سمعها محمد وأتباعه، وحيث لم يكونوا يعرفون أن قاف تعنى خط ، فقد فكروا، وبدون تردد ، أن الذى يقال أنه كان يحيط بكل العالم، والذى منه ينبثق الظلام ، لابد أنها سلسلة ضخمة من الجبال تسمى قاف. إنه ليس من الضرورى أن نقول أن الجغرافيين قد إستكشفوا كل العالم دون أن يكتشفوا حتى الآن هذه السلسة الجبلية الموصوفة فى أحاديث محمد(61)
سوف نستمر فى الإشارة إلى عدد قليل آخر من الأفكار الكثيرة ذات الأصل اليهودى الواضح والتى وجدت لها مدخلاً إلى القرآن والحديث.
-ذُكرت السماوات السبع فى الآية 44 من سورة الإسراء( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً)(62) كما ذُكرت الأبواب السبع للجحيم فى الآية 44 من سورة الحجر أيضاً( لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) وهذان النصان ، مشتقان من التراث اليهودى ، وقد ذكر النص الأول فى كتاب الحجيجاه، الباب 9 ، الفصل 2 بينما ذُكر النص الثانى فى كتاب الزوهر، فصل 2 ص 150 وإنه من الملفت للنظر أن هذه الأساطير اليهودية نفسها تعود إلى الهندوسية والفارسية ، حيث كان الهندوس يعتقدون أنه تحت سطح الأرض توجد سبع طوابق أصغر، وفوقها سبع طوابق أعلى، ترتكز كلها على أحد رؤوس حية عملاقة تسمى سيشا، لها ألف رأس. وتتطابق السماوات السبع مع مدارات الشمس والقمر وكواكب المريخ وفينوس ومارس وجوبيتر وساتورن، والتى كان يفترض فى زمن محمد أنها تدور حول الأرض. وتبعاً للحديث المحمدى(63) فإن الأرض وطوابقها السبع كانت ترتكز بين قرنى ثور يسمى كاجوثا، كان له 4000 قرن، يبلغ طول كل منها رحلة خمسمائة سنة من كل الجهات، كما كان له كثير من العيون والأنوف والآذان والأفواه والألسنة ، بنفس عدد القرون، وكانت قدمه تقف على سمكة ، كانت تسبح فى أعماق المياه لرحلة أربعين عام، وكذلك رواية أخرى تقول بأن الأرض كانت ترتكز فى المقام الأول على رأس أحد الملائكة وأن قدم ذلك الملاك كانت ترتكز على صخرة ضخمة من الياقوت يرفعها الثور. إن فكرة الربط بين الأرض وبين ثور ربما تكون ذات أصل فارسى آرى(64) وإن الأسطورة التى تمثل الأرض كأنها تتكون من سبع طوابق فربما تعود الى الرغبة فى تشبيهها بالسماء فى هذا الخصوص. ومع ذلك فربما تكون قد نشأت عن سوء فهم للنص الفارسى الآرى المذكور فى الإفستا، بأن الأرض تتكون من سبع أقاليم كبرى يشار إليها الآن بالمناخات السبع، حيث يقال فى اليشت/الإفستا باب 19 فصل 31 ، أن يماكاشيتا أو جشميد، قد حكم الأرض ذات الأقاليم السبع. ومرة أخرى يتطابق هذا مع مع نص الديفيبا، علم الكون الهندوسى، للجغرافية الهندوسية ، رغم أنه من الخطأ التصور أنها كانت تقع تحت بعضها البعض ، فيما عدا أن الأولى من الأقاليم السبع كانت هضبة جبلية عالية، بينما كانت الهضاب الأخر أقل إرتفاعاً.
-ذُكر فى فى الآية 7 من سورة هود ، وفى الإشارة إلى عرش الله ، أنه قبل خلق السماوات والأرض ، كان عرشه على الماء(65) فى الهواء( وهو الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام وكان عرشه على الماء) بنفس الشكل الذى علق به المفسر اليهودى الشهير راشى على ما ورد فى سفر التكوين، الفصول 1-2، بأن عرش المجد إنتصب فى الهواء ، وطفى على الماء.
-يذكر كُتاب محمد أن الملاك مالك ، المذكور فى الآية 77 من سورة الزخرف( ونادوا يامالك ليقضى علينا ربك قال إنكم ماكثون ) وهو رئيس الملائكة التسعة عشر المكلفين بحراسة الجحيم، المذكورين فى سورة المدثر الآيات 26-30( سأصليه سقر وماأدراك ماسقر لاتبقى ولاتذر لواحة البشر عليها تسعة عشر) وبنفس الشكل يشير كُتاب اليهود كثيراً إلى أمير للجحيم، لكن المسلمين قد إقتبسوا إسم مالك من الإسم (مولك) وهو إسم أحد الآلهة المذكورة فى الكتاب المقدس، والتى كان الكنعانيون يعبدونها فى الماضى، ويحرقون لها القرابين البشرية تعظيماً. وقد كانت الكلمة فى العبرية كما هى فى العربية، إسم فاعل ، وتعنى الحاكم.
-ذكر فى الآية 46 من سورة الأعراف ، أنه يوجد حاجز بين السماء وجهنم يسمى بالأعراف( وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) والذى إكتسب إسمه فى الواقع من إسم السورة المذكورة، كما يقال عنه حجاب، ويعيش فيه رجال. أن هذه الفكرة مأخوذة من المدراش ، فى تفسير الفصل 7 من سفر الجامعة إصحاح 14 ، حيث ذُكر أنه عندما سئل الحاخام يونان عن المسافة الواقعة بينهما، أى بين السماء وجهنم، قال حائط،، وعندما سئل الحاخام أخا قال ، مسافة شبر، كما قال الربانيون أنهما قريبين من بعضهما البعض، بحيث يمكن للضوء أن ينفذ من أحدهما إلى الآخر. والواقع إن أصل الفكرة كلها ربما تعود إلى الإفستا الزرادشتية الفارسية ، حيث ذُكرت هذه المساحة الفاصلة بين السماء وجهنم بإسم ميسوانوجاتس، وعلى أنها المكان المخصص لأرواح هؤلاء الذين تساوت أعمالهم الطيبة بأعمالهم السيئة(66). ويسمى نفس المكان فى البهلوية ميسواتاجاس. ويعتقد الزرادشتيون أن المساحة بين السماء والجحيم ، هى نفسها المساحة الفاصلة بين النور والظلمة. إن فكرة وجود مكان مخصص لهؤلاء الذين تساوت أعمالهم الطيبة بأعمالهم السيئة قد إنتقلت إلى عقائد أخرى أيضاً.
- ذُكر فى الآية 18 من سورة الحجر ، وفيما يتعلق بالشيطان، أنه والملائكة الساقطين الآخرين، قد حاولوا إسترقاق السمع ، بالتصنت على أوامر الله المعطاة للملائكة فى السماء( إلأ من إسترق السمع فأتبعه شهاب مبين). إن نفس الفكرة مكررة فى الآية 8 من سورة الصافات( لايسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب) والآية 5 من سورة الملك( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير) ويعود هذا الإعتقاد إلى اليهود أيضاً، كما هو مذكور فى كتاب الحجيجاه ، باب 6، فصل 1، ، حيث قيل أن الشياطين قد تصنتوا من خلف ستار، كى يعرفوا عن أحداث المستقبل. ويصور القرآن ، الشهب وهى تضربهم بواسطة الملائكة، وتشتت شملهم.
-فى الآية 30 من سورة القاف عند الحديث عن يوم القيامة، يمثل الله وهو يقول لجهنم (يوم نقول لجهنم، هل إمتلأت فتقول هل من مزيد) إن هذا فى الواقع هو صدى مانقرأه فى كتاب أوثيوث ، للحاخام عقيباه، عن رئيس جهنم وهو يقول ، إعطنى طعام كل يوم حتى أشبع.
- ذُكر فى الآية 40 من سورة هود ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا إحمل منها من كل زوجين إثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) وأيضاً فى الآية 27 من سورة المؤمنين ، ( فأوحينا إليه أن إصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فإسلك منها من كل زوجين إثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولاتخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون) ولاشك أن هذا يشير إلى النص اليهودى، المذكور فى الفصل 16، الفقرة 2 من كتاب روش هاشاشناه ، والفصل 108 من رسالة السنهدرين، بأن جيل الطوفان قد عوقب بالماء المغلى. إن كل القصة المذكورة فى القرآن، وكذلك الطريقة التى سخر بها غير المؤمنين من نوح، مأخوذة بالكامل من الفصل المذكور فى رسالة السنهدرين، ومن شراح يهود آخرين. وربما بسبب عدم إدراك ذلك، فإن تعليق جلال الدين على سورة هود المذكورة يقول، بأنه كان فرن خباز ذلك الذى فار، وأن ذلك كان إشارة الى نوح، بأن الطوفان كان على وشك الحدوث.
والواقع أننا إذا إحتجنا لمزيد من دليل على التأثير الكبير للتراث اليهودى على الإسلام، فإنه تكفينا الحقيقة الهامة بأن القرآن، ورغم إفتخار المسلمين بأسلوبه وأصالة لغته، كمعجزة ودليل على أصله الإلهى، يحتوى على بعض الكلمات الغير عربية على الإطلاق، ولكنها مأخوذة من العبرية والآرامية، ورغم أنها قد تكون مشتقة من جذور واحدة للغات الثلاثة، فإنها لم تتكون تبعاً لقواعد اللغة العربية، فى نفس الوقت الذى نجدها دائمة التكرار فى العبرية والآرامية، تبعاً لقواعد هاتين اللغتين. إن كلمة الجنة مأخوذة من العبرية المتأخرة، لكنها أتت من الفارسية القديمة، وهى تتبع هذه اللغة، كما تتبع اللغة السنسكريتية، وهى غريبة على العربية، بنفس القدر التى تعتبر فيه هذه الكلمة غريبة على اليونانية. وغالباً ماوجد شراح محمد أنه من المستحيل معرفة المعنى الدقيق لمثل هذه الكلمات، بسبب جهلهم باللغات التى أخذها منها محمد. و لذلك فعندما نعرف معانى هذه الكلمات نجد أنها تناسب السياق المذكورة فيه ، فمثلاً ، فإنه من الخطأ الشائع أن نتصور أن كلمة ملكوت تعنى مسكن الملائكة، لإنها ليست مأخوذة من كلمة ملك لكنها الطريقة العربية لكتابة الملكوت العبرى الذى يعنى مملكة السماء.
إن تأثير أسلوب العبادة اليهودية على العبادات المحمدية، ليس أقل أهمية من المؤثرات الأخرى . ربما يكون من الخطأ أن نفترض أن محمد قد أخذ من اليهود عادة الصلاة بغطاء للرأس، وبفصل الرجال عن النساء فى المسجد، بينما سمح لهم بمشاركة الرجال فى الصلوات العامة، وكذلك عادة خلع الأحذية، حيث من الممكن أن ترجع هذه العادات الى عادات العرب أنفسهم، وعادات الشعوب السامية، منذ العصور القديمة، مع ذلك فمن المحتمل أكثر أن الوضوء للصلاة مأخوذ عن اليهود، كما أن عادة الصلاة بإتجاه قبلة أورشليم، وكما رأينا قد تبناها محمد لفترة قصيرة تقليدأ لليهود، رغم أنه قد إختار مكة فى النهاية كقبلة بديلة. ونعرف أيضاً أن عادة شهر الصيام قد أخذت من الصابئة وليس من اليهود(67) ولكن فرض الصيام وتحديد وقته، كأحد أركان العبادة، مأخوذ من أصل يهودى، ففى الآيات 183-187 من سورة البقرة ، حيث يؤمر بالصيام ، يقول القرآن( وكلوا وإشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصلاة إلى الليل) كما ذكر تماماً فى شروحات المشناة
- يؤمر المسلمون فى كل بلد يتواجدون فيه، بأداء الصلوات الخمس حين يحين وقتها المحدد تبعاً لتقويم ذلك البلد ، وفى نفس المكان الذى يتواجدون فيه ، سواء كان فى المنزل أو فى المسجد أو فى الشارع، ويقوم كثيرون منهم بتنفيذ ذلك فعلاً، وخاصة فى الأماكن العامة. وتبدو هذه الممارسة اليوم مقصورة عليهم ، ولكن إذا أردنا التحرى عن أصلها، فلابد لنا مرة أخرى من الرجوع إلى اليهود. فهؤلاء الذين عاش منهم فى الجزيرة العربية فى زمن محمد كانوا من أتباع، أو من أحفاد اليهود الفريسيين فى الواقع، هؤلاء الذين تم وصفهم فى الإنجيل بتفريغ معنى كلمة الله من خلال عاداتهم المتشددة (68). وفى زمن المسيح، كان هؤلاء الفريسيون يلامون على حبهم للوقوف والصلاة فى المعبد وفى أركان الشوارع(69) من أجل كسب مزيد من الإحترام لتقواهم بين الناس. إن التشابه بين ممارسات الفريسيين فى العصور القديمة وبين ممارسات المسلمين فى الأزمان الحالية، شديد الوضوح، ولإن محمد كان يعرف أنهم من أحفاد إبراهيم ومن أهل الكتاب ، فقد أخذ عنهم بدون تردد ، رغم أنه ظل يخبر أتباعه أن جبريل هو الذى علمه وحتى اليوم مازال أتباعه يقلدونه فى كل شئ.
-وسوف نذكر نقطة أخرى فقط أثرت فيها الممارسات اليهودية بوضوح على الإسلام، ففى الآية 3 من سورة النساء وضع محمد قاعدة تحديد الزيجات الشرعية فى وقت واحد بأربعة فقط، ويقول المفسرون أنه قبل ذلك التحديد كان يحق لأتباع محمد أن يملكوا عدد أكبر من الزيجات الشرعية، مع ذلك،فهذه القاعدة لم تنطبق على محمد نفسه، الذى كان يحق له أن يتمتع بما يشاء من الزوجات الشرعيات، وكما نعرف من الآية 50 من سورة الأحزاب، أن ذلك كان بمثابة إمتياز خاص له( يا أيها النبى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيت أجورهن وماملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتى هاجرن معك وإمرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا مافرضنا عليهم فى أزواجهم وماملكت إيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفوراً رحيماً) . إن نص آية الحظر رقم 3 فى سورة النساء يقول (وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فإنكحوا ماطاب لكم من النساء، مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم الأ تعدلوا، فواحدة أو ماملكت إيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا). وقد تم تفسير ذلك النص، ومنذ ذلك التاريخ، على أنه نهى عن ملكية أكثر من أربع زوجات فى وقت واحد، بحد أقصى، مع التمتع بحق تطليق إحداهن، أو كلهن والزواج مرة أخرى، للحفاظ على نفس العدد المحدد بأربعة بحد أقصى. وعندما نتحرى عن المصدر الذى أخذ منه محمد هذا التشريع ، ولماذا إختار أربعة زوجات كحد أقصى مسموح به فى وقت واحد، سنجد أنه يعود أيضاً لليهود، حيث تقرر أحد التشريعات اليهودية صراحة أن الرب يقول أن الرجل يمكنه أن يتزوج كثيراً من النساء، إذا كان يستطيع إعالتهن، ومع ذلك ، فإنه قد نصح الرجال الحكماء بأن لايتزوجوا أكثر من أربع زوجات(70).
وفى الرد على الجدل المتضمن فى هذا الفصل، وفى الفصول التالية، لايملك المحمديون سوى إجابة واحدة، فبالإضافة على التأكيد بأن القرآن ليس كلام محمد ، ولكن كلام الله نفسه ، فهم يخبروننا أن محمداً كان رجلاً جاهلاً بالقراءة والكتابة، ومن ثم فلم يكن قادراً على دراسة العبرية والآرامية، والكتب الأخرى التى أوضحنا أنه قد أخذ عنها، بشكل مباشر أو غير مباشر،معظم مايظهر الآن فى القرآن. إن رجل غير متعلم، وكما يقولون ، لايمكن له أن يتعامل مع كل هذا القدر الهائل من الآداب ، الموضوع معظمها فى لغات لم يكن يعرفها، والتى لايعرفها حتى اليوم ، إلا عدد قليل من الباحثين.
إن هذا الجدل يرتكز على إفتراضين، أولهما أن محمداً لم يكن يستطيع القراءة ولا الكتابة، والثانى هو أنه فقط بواسطة القراءة، كان يمكنه التعرف على تراث وأساطير اليهود، والمسيحيين، والزرادشتيين، وآخرين ممن وجدوا فى زمانه. لكن هذين الإفتراضين يفتقدا إلى الدليل. إن أحد المحاولات لتأكيد الزعم الأول، هى ماجاء فى الآية رقم 157 من سورة الأعراف( الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى الإنجيل والتوراة) والتى وُصف فيها محمد بالنبى الأمى ، والتى يترجمها المسلمون بالنبى الغير متعلم. وبهذا الخصوص فقد أوضح الحاخام إبراهيم جيجر، أن المعنى المقصود للكلمة فى هذه الآية، هو النبى الوثنى ، أو الغير يهودى. إن هذا التوضيح تؤكده حقيقة ماجاء فى الآية رقم 20 من سورة آل عمران، بأن النبى قد أمر بأن يتحدث إلى الأميين وإلى أهل الكتاب( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى لله ومن إتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد إهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) والتى تدل على أن العرب بشكل عام كان يشار إليهم بالأميين، وبالإضافة إلى ذلك، ففى الآية رقم 27 من سورة العنكبوت( ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره فى الدنيا وأنه فى الآخرة لمن الصالحين) وفى الآية رقم 16 من سورة الجاثية (ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين) قد تم التقرير بوضوح أن المركز النبوى قد وُهب لذرية إسحاق ويعقوب ، وليس لذرية إسماعيل، وبناء على ذلك فقد ميز محمد نفسه بالنبى الوثنى، مختلفاً فى هذا الخصوص عن باقى الأنبياء المنحدرين من ذرية إسحاق. والواقع أنه لايوجد دليل قاطع على أن محمد كان جاهلاً بالقراءة والكتابة، رغم أننا لسنا مضطرين، كما تصور البعض ، لإن نستنتج أن النمط المتميز للقرآن هو دليل على أن محمد قد كتب معظمه بعناية ، ثم درس السور المختلفة ، قبل أن يحفظها عن ظهر قلب، ويتلووها على نساخه، حيث أن ذلك كان يمكن أن يحدث، بدون ملكية القدرة على القراءة والكتابة(71).
ولكن حتى لو سلمنا، وعلى سبيل الجدل ، أن القراءة والكتابة كانت فنون غير معروفة لمحمد ، فإن هذا التسليم لن يؤثر، وبأقل درجة ، فى حقيقة أنه قد أخذ الكثير من المصادر اليهودية وغيرها من المصادر الأخرى ، وحتى إذا ماكان يستطيع قراءة العربية، فمن غير المحتمل انه كان دارساً للآرامية والعبرية، وللغات أخرى. إن المقارنات التى رسمناها هنا بين بعض الفقرات فى القرآن ، وتلك المشابهة لها فى كتابات يهودية مختلفة هى قريبة لدرجة تكفى لإظهار المصدر النهائى لكثير مما ورد فى القرآن. ولكن لايوجد حتى فى حالة واحدة ترجمة مباشرة لآيات القرآن من أى من هذه المصادر. إن الأخطاء الكثيرة التى تحدث فى القرآن تظهر لنا أن محمد كان ينقل عن مصادر شفوية ، وربما عن رجال لا يملكون القدر الكافى من المعرفة الكتابية أنفسهم. إن هذا يلغى إفتراض المسلمين الثانى. فمما لاشك فيه، ولكثير من الأسباب الواضحة، فقد كان من المستحيل على محمد الإطلاع على عدد كبير من الكتب الآرامية والزرادشتية والإغريقية، لكنه لم يكن مستحيلاً عليه أبداً ، أن يتعلم من الأصدقاء اليهود والفرس والمسيحيين(72) القصص والخرافات والأحاديث المعروفة آنذاك. ولقد إتهمه أعدائه، فى زمانه، بتهمة إستعانته، بمثل هؤلاء الأشخاص فى تصنيف القرآن، وكما نعرف ذلك سواء من القرآن نفسه، أو من إعترافات إبن هشام وغيره من المفسرين. إن بعض من ذكروا على أنهم قد ساعدوا محمد فى تصنيف القرآن هو اليهودى المذكور فى الآية رقم 10 من سورة الأحقاف كشاهد على التوافق بين القرآن والكتب اليهودية المقدسة (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فآمن وإستكبرتكم إن الله لايهدى الظالمين). وقد ذكر المفسران، العباسى، وجلال الدين فى ملاحظاتهما على هذه الفقرة، أن المقصود بالإسرائيلى المذكور فى الآية المذكورة، هو عبدالله بن سلام ، والذى كان، وإذا صدقنا بما جاء فى روضة الإيهاب ، كاهناً يهودياً، قبل أن يتحول إلى الإسلام. وفى الآية رقم 5 من سورة الفرقان (وقالوا أساطير الأولين إكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلاً) نعرف أن أعداء محمد قد قالوا، أن آخرين قد ساعدوه فى تصنيف القرآن، كما قرروا أنه فقط قد سجل أساطير الأولين، والتى كانت تملى عليه بواسطة شركائه، ليلاً نهاراً. ويذكر االعباسى أن الأشخاص المشار إليهم هم عبد مسيحى إسمه جبر، وياسر المعروف بأبى فكيهة، وشخص يونانى إسمه أبو تقبيحة، وفى الآية رقم 103 من سورة النحل ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان حال الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين) قدم محمد إجابة غير دقيقة على تلك التهمة، بأن لغة الرجال المذكورين كانت لغة أعجمية، بينما القرآن قد صنف فى لغة عربية خالصة ، حيث أن هذه الإجابة لم تحاول دحض المعنى الواضح للتهمة، والتى لم يكن المقصود بها أسلوب اللغة المستخدمة، ولكن القصص المذكورة فى القرآن، والتى تعلمها منهم محمد. ويذكر العباسى شخص مسيحى آخر إسمه كنعان/قابيل/ بينما يؤكد جلال الدين على أسماء جبر وياسر. ويذكر آخرون أسماء مثل سلمان الفارسى، تابع محمد المعروف، وصهيب، والراهب عداس. وربما نلاحظ أيضا أن عثمان وورقة ، إبنى عم خديجة، زوجة محمد الأولى، وورقة بصفة خاصة ، كانوا على معرفة بالمسيحية واليهودية لذلك الزمن(73). وأن هؤلاء الرجال قد كان لهم تأثيراً كبيراً على حياة محمد فى سنواته المبكرة كنبى، وربما حتى قبل ذلك. ولقد كان زيد، إبنه بالتبنى، سورياً، تبعاً لإبن هشام، ولهذا فلابد أنه كان قد إعتنق المسيحية قبل أن يعتنق الإسلام. وسوف نرى أن هناك أشخاص آخرون كانوا بين أصدقاء محمد، والذى ربما يكون قد حصل منهم بسهولة على معلومات عن المعتقدات اليهودية والمسيحية والزرادشتية. ومع ذلك ، فإن الفقرات المأخوذة من مثل تلك المصادر قد تم التمويه فى صياغتها بحيث أصبح من الممكن أن لايدرك أصحابها قدر الخداع الذى كان يمارسه محمد ، والذى كان محمد يستفسر منهم عن تلك العقائد، وأنهم قد تصوروا أن تلك الآيات كانت موحى بها إليه فعلاً، لتؤكد حقيقة الأديان المتتابعة، على الأقل حتى ذلك الزمن. وعلى ذلك يكون محمد قد وظف تلك المعلومات التى حصل عليها من هؤلاء الرجال بخداعهم ببراعة ، لكن تلك المعلومات لم تستطع خداع إعدائه، ومن ثم وفى يأسه من إسكاتهم ، فقد إنقض عليهم بالسيف.



الهوامش
1-أبو الفدا- التواريخ القديمة - تاريخ ماقبل الإسلام - ص148
2-أنظر أيضاً ص 269
3-أنظر ص 127- 128
4-أنظر ص 182 ومابعدها
5-يبدو أن الأبيونيين أيضاً كان لديهم تاثير على عقيدة الإسلام، عندما كان يتشكل فى عقل محمد تدريجياً ،والذى يبدو أنه كان فى ذلك الوقت منفتحاً للغاية ، سريع التصديق لكل مايسمع، ويصف أبيفانيوس- السيلاميسى - أفكار أبيونى الأنباط والمؤابين والباسونتين، فيما يخص آدم والمسيح ، تقريباً تماماً بنفس كلمات( الآية 52 من سورة آل عمران - الإستشهاد غير دقيق ، لايوجد فى سورة آل عمران آيات تدل على العبادات والطقوس - المترجم) حيث يقول لنا أنهم كانوا يراعون الختان، ويمنعون التبتل ، ويمنعون التوجه نحو شروق الشمس إلا أنهم كانوا يتخذون من أورشليم قبلة كما فعل محمد لمدة إثنى عشر سنة ، وقد حددوا وضوءً ، كما فعل الصابئة ، شبيها للغاية بوضوء القرآن ، وسمحوا بالقسم ببعض الظواهر الطبيعية ، كالسحب و الكواكب والزيت والرياح ، والتى نجدها فى القرآن أيضاً. إن نقاط التلاقى تلك مع الإسلام، مع أخذ إنتقائية محمد التى نعرفها فى الإعتبار، من الصعب أن تكون مصادفة( رودويل - دراسة نقدية لمعانى القرآن).
6-السير ولم موير ، حياة محمد، الطبعة الثالثة - المقدمة
7-سورة النساء - الآية 124
8-فى نوفمبر سنة 623م ، سورة البقرة الآيات 136-40
9- فيما بعد ، عندما حدد شهر رمضان كشهر للصيام ، لم يمنع صيام عاشوراء فى اليوم العشر من محرم - سفر اللاويين - فصل 32 - إصحاح 27
10- سير وليم موير ، مرجع سابق ، ص 188
11- سفر اللاويين ، والعبرانيين فصل 27
12- سورة العنكبوت الآية 45 وسورة البقرة الآية 130
13-معظم الأمثلة المذكورة هنا مأخوذة من كتاب الحاخام إبراهام غيغر ، ماذا أخذ محمد عن اليهودية.؟
14- سفر التكوين - الفصل الرابع - ص 8
15-أنظر ص 5- 133
16- سفر التكوين - الفصل الرابع - إصحاح 10
17-القصة اليهودية المقتبسة سابقاً من الحاخام بيركى إلعاذر تحتوى على عبارة ميا ، عن يد ، بمعنى فوراً ، هذه العبارة توجد أيضأ فى العربية فى سورة التوبة الآية 29 ( حتى يعطو الجزية عن يد وهم صاغرون) والتى أربكت المفسرين.
18-فى سورة البقرة والأنعام والأنبياء ومريم والشورى والعنكبوت والصفات والزخرف والممتحنة.
19-تاريخ ماقبل الإسلام - فليشر - ليبزج -1831 - ولد أبو الفدا سنة 672 للهجرة
20-سوف يشرح هذا الإصطلاح فى الفصل السادس
21- الفقرات بالخط المائل من سورة الأنعام 76-9
22-سورة الأنعام الآيات 80-83
23-سورة مريم آية 43
24- سورة الشورى آيات 75-7
25-سورة البقرة آية 26
26-بقى فى المنزل بحجة أنه كان مريضاً - سورة الصافات آية 87
27- نفس المرجع 89-91
28- سورة الأنبياء آية 59 وتفسير الجلالين(تفسير جلال الدين المحلى الذى أكمله جلال الدين السيوطى)
29- سورة الأنبياء 60-65
30- نفس المرجع 66-68
31-بلاشك ذكرى من مصير قورح، سفر العدد ، الفصل 16 ، إصحاح 31-34
32-سورة الصافات آية 95
33-سورة الزمر آية 39
34-سورة آل عمران آية 167
35-سورة الأنبياء 69
36-مدراش رابا - الفصل 17 فى شرح التكوين فصل 15 إصحاح 7
37-هذا الجدل مستخدم فى ميزان الموازين فى رفض بعض المقولات المذكورة فى ميزان الحق
38- التكوين فصل 11 إصحاح 28 والفصل 15 إصحاح 7
39- لكى يكون لديه سبب وجيه للغياب
40-الشكل العربى سبأ ، لإن الشين العبرية غالبا ما تنطق سين فى العربية
41- أو كمسلمين
42- فى غمضة عين
43-أو أصبح مسلماً
44-أنظر الملوك الأول فصل 10 إصحاح 18 ومابعده ، وأخبار الأيام التاسع إصحاح 17 ومابعده
45- هذا يعنى ، أننى سوف أفعل
46-أو ربما من قصة جمشيد الفارسية ، والتى يبدو أنها تناسب سليمان بسبب سوء الفهم المشار إليه فى النص ، أنظر ص 249-250
47-أنظر ص 107-115108
- الجزء الأول ص 127Entir Hatouadsner -48
49-الفصل الخامس
50-مترجمة من النص الأصلى، المطبوع والمترجم بشكل غير صحيح فى
Trans soc .bibl. Archaeology, vol 11.pt.L.pp 104 -0 105-
Sundopasundopakhyanam-51
52-إنه من المهم أن نلاحظ أن الترجمة السامرية للتوراة التى نشرها دكتور أدولف برول فى فرانكفورت سنة 1875 تعطى عملياً نفس التفسير. فهى تفسر أبناء الله بأبناء الحكام ، كما يرد فى الأصل العبرى
53- قطع إغريقية من كتاب أخنوخ من الفصل السادس حتى الثامن، الذى نشره دكتور سويت والذى يعطى أيضا نفس الفقرات من سينسيلوس ، وقد ترجمت النص الإثيوبى فى كتابى الفارسى يانبى الإسلام ا حيث لم يكن النص الإغريقى قد أكتشف بعد ، أو على الأقل لم يكن تم نشره.
54-سورة البقرة الآية 96
55- بحيث يمكننا فهم ذلك أفضل ، علينا فقط أن نقدر حجم الخطأ الذى دخل على الكنيسة المسيحية بتعبير مماثل ، هذا جسدى
56- سورة المائدة آية 90 وسورة الأعراف آية 147
57- أنظر أرميا فصل 10 إصحاح 11
58-يعلق تفسير الجلالين على الآيه ، الله وحده يعلم أفضل ماذا يقصد بقاف
59- ص 7-8
60- سورة قاف آية 1
61- قاموس كنجا الإنجليزى الإفيستى
62-وكذلك فى سورة الملك آية 3 وسورة النبأ آية 12
63-أنظر عروس المجالس ص 5-9
64-فى السنسكريتية الكلمة جو ، البقرة أو الثور ، تستخدم للتعبير عن قيادة الأرض فى المهابهاراتا والرامايانا ، نفس الكلمة جاو وجاو سبينتا فى الإفيستا ، البقرة المقدسة تستخدم بمعنى مشابه ، تستخدم أيضا بشكل مماثل فى القوطية والألمانية ، حيث يمكن تتبع نفس العلاقة من الأفكار حول البقرة المقدسة.
65- الجلالين والعباسى
66-قاموس كانجا الإنجليزى الإفيستى
67-أنظر ص 52-53
68- إنجيل متى ، فصل 15 إصحاح 6 ، وإنجيل مرقص فصل 7 إصحاح 13
69-إنجيل متى فصل 6 إصحاح 5
70-أربا توريم ، الصفوف الأربعة ، ليعقوب بن أذر، لهذا المرجع أدين لملاحظة أضيفت فى قرآن رودويل ص 451 – Arba Turim
أنظر أيضا توراة المشنا Yad Hachzakah Hilchoth Ishuth, 14,3
71-ولكنا لسنا مجردين من الأحاديث ، مع ذلك ، ومهما كانت قيمتها ، والتى تؤكد أن محمداً كان يستطيع الكتابة ومن ثم يقرأ، قال البخارى أن المسلمين إقتبسوا التواريخ لدرجة أنه أثناء توقيع معاهدة الحديبية ، أخذ محمد القلم من على وشطب الكلمات التى وصفها به على برسول الله ، وكتب بدلاً منها محمد إبن عبدالله ، ومرة أخرى يخبرنا التاريخ أنه عندما كان يحتضر طلب محمد قلماً وحبراً ليكتب تعليمات يمنع بها أتباعه من التنازع حول خليفته ، ولكن خارت قواه قبل أن يتمكن من ذلك، وترتكز هذه الرواية على مرجعية إبن عباس وقد سجلها البخارى ومسلم وهى رواية شهيرة لإنها محل خلاف بين السنة والشيعة.
72-الواقع أنه فى سورة يونس آية 94 طولب محمد بسؤال أهل الكتاب عن معلومات ليبدد شكوكه
73-أنظر الإقتباس من إبن إسحاق ص 264-65 أسفل


4-مؤثرات المسيحية
عندما ظهر محمد، لم تكن المسيحية قد حققت تأثيراً كبيراً على العرب، فبعد خمسة قرون من التبشير المسيحى ، يمكننا أن نلاحظ أن مجموعات قليلة فقط من المهتدين المسيحيين، قد تناثروا هنا وهناك ، مثل بنو حارث فى نجران، وبنو حنيفة فى اليمامة، وبعض من بنى طى فى تيماء، لا أكثر من ذلك تقريباً. وقد عرفنا أن محمداً فى شبابه قد سمع تبشير الأسقف قيس(1) أسقف نجران، وأنه قد إلتقى بالكثير من الرهبان، ورأى كثيراً من معتنقى المسيحية عندما زار سوريا كتاجر، قبل إدعائه النبوة. لكن مارآه وماسمعه عن الكنيسة قد ترك تأثيراً محدوداً للغاية عليه، ولاداعى لإن نتعجب من ذلك، لإن محمد وخلفائه، وكما يقول إسحاق تيلور(2) متحدثاً عن فترة لاحقة لكنها تنطبق أيضاً على عصر محمد ، قد رأوا كنيسة وثنية، صبيانية، تملؤها الخرافة والتكبر، مما أقنع عقول العرب المتحفزة بانهم مبعوثى الله فعلاً، لتأسيس عقيدة صحيحة ، ومعاقبة الكنيسة المرتدة) . وقد رسم الراهب الإغريقى ، الذى كتب تاريخ شهادة أثناسيوس الفارسى، وتحدث فيه عن المعاناة الواقعة على سكان فلسطين، عندما خضعت لحكم الفرس لفترة قصيرة فى زمن محمد ، صورة مخيفة لشر معتنقى المسيحية هناك(3) ولم يتردد فى أن يقول، أنه لذلك السبب، قد سلمهم الله إلى قسوة مضطهديهم الزرادشتيين. وفى سفر االرؤيا يقدم إنتشار عبادة الأوثان وخطايا أخرى، كتلك التى يصفها ذلك الراهب، كسبب للسماح بإنتصار قوة محمد على الكنيسة الشرقية. ويقول موسهيم عن نفس الفترة(4)( إنه خلال ذلك القرن ، دُفنت العقيدة الحقة، تحت ركام من الخرافات الفارغة ، بحيث لم تعد قادرة على رفع الرأس).
لقد عبد المسيحيون الأوائل ، الله وإبنه فقط ، لكن مسيحيى ذلك القرن، قد عبدوا خشبة الصليب، وصور الأولياء، وعظام مريبة الأصول. وقد وضع المسيحيون الأوائل النعيم والجحيم أمام الإنسان، لكن المتأخرين تحدثوا فقط عن تطهير شرور الروح فى عذاب الجحيم. لقد علم الأوائل أن المسيح ، بموته وبدمه، قد إفتدى خطايا الإنسان ، بينما بدا أن المتأخرين قد علموا أن أبواب السماء سوف تغلق أمام من لا يغدق الهبات على الكنيسة ورجال الدين.كان الأوائل مجتهدين فى الحفاظ على بساطة دينية، وتمسك بالنقاء والسعى وراء التقوى ، بينما وضع المتأخرون لب العقيدة فى الشعائر الخارجية والتدريبات الجسدية. إن صورة المسيحية التى يقدمها القرآن، تظهر لنا التصور الذى كونه محمد عنها من خلال تجربته المحدودة، فعلى الأقل قد تأثرت معرفته بالمسيحية إلى حد كبير بتعاليم الحزب الأرثوذكسى المزعوم ، الذى تسمى بإسم مريم أم الإله ، ومن خلال إساءة إستخدام إصطلاح إسئ فهمه، قد فتح الطريق لعبادة عذراء يهودية بدلاً من الله العلى القدير. إن تأثير التصور الخاطئ هذا، قد أشار إليه إبن إسحاق بوضوح عندما أخبرنا بقصة السفراء الذين أرسلهم مسيحيو نجران إلى محمد فى المدينة سنة 632م، والذين كانوا يتبعون مذهب الإمبراطور، حيث أخبرنا أن هؤلاء السفراء، مثلهم مثل كل المسيحيين(5) كانوا يقولون أن المسيح إله، وإبن الإله، وثالث ثلاثة، الله والمسيح ومريم. وبالطبع فهذه ليست رواية حقيقية عن اللغة التى إستخدمت، ولكنها تمثل بشكل صحيح مافهمه محمد عن العقيدة التى يعتنقها المسيحيون ، والتى تتضح من الآية 73 من سورة المائدة ( لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة، ومامن إله إلا إله واحد، وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب عظيم) ، وكذلك فى الآية 116 من نفس السورة(إذ قال الله ياعيسى بن مريم أأنت قلت للناس إتخذونى وإمى إلهين من دون الله قال سبحانك مايكون لى أن أقول ماليس لى بحق إن كنت قلت فقد علمته تعلم مافى نفسى ولا أعلم مافى نفسك إنك انت علام الغيوب)، مما يجعلنا لانتعجب من رفض محمد للمسيحية التى عُرضت عليه ، أما إذا كان قد تعرف على مظاهر أكثر نقاءً لطقوسها و عقيدتها ، ورأى المزيد من مؤثراتها الإصلاحية والتجديدية، فإننا لانشك أنه وفى إخلاص بحثه المبكر عن الحقيقة، فربما يكون قد إعتنق المسيحية يوماً. إنه من المؤسف حقاً أن جزءً صغيراً فقط من العقيدة المسيحية الحقة، قد كشف لمحمد بواسطة مسيحيى ورهبان سوريا، وحتى ذلك الجزء الصغير قد تم تغييره وتشوييه، فبدلاً من بهاء وبساطة الإنجيل ، كوحى من الله ، يجمع الناس اليه من خلال إبنه، فقد فرضت دوجما التثليث على الناس(6) بواسطة تعصب أتباع الطبيعة الواحدة من المونوفييزيين واليعاقبة، وعبادة مريم ، والتى شكلت نمطاً قوياً من المسيحية ترك أثره على عقل محمد، بحيث إعتقد أنها جزء من عقيدة التثليث المسيحية. ولابد أنه بسبب تلك الهرطقات قد أبتعد عن عقيدة المسيح الحقة، كإبن الله، وأدت إلى إعتباره المسيح إبن مريم فقط، وهو اللقب الوحيد الذى يذكر به فى القرآن. ولذلك فلايجب أن ننسى أن محمداً لم يتعرف أبداً على الإنجيل والمسيحية الحقة، وأن ظهور الإسلام ، يعود فى جزء كبير منه ، إلى تلك الأشكال المزيفة للمسيحية التى سادت العالم فى عصره ، لإن تلك الأشكال قد منعته من البحث عن الحقيقة فى الإنجيل ، وحولته إلى عدو للمسيحية ومؤسساً لدين جديد.
ويبدو أنه لايوجد دليل كاف على وجود نسخة عربية من العهد الجديد فى زمن محمد، فحتى فى الكنيسة الأرثووذكسية، فقد كان الإنجيل قد أهمل لصالح أساطير القديسيين ومعجزاتها، والتى راقت أكثر لذوق العامة. كانت الجزيرة العربية ملجأً لعدد غير قليل من النحل الهرطقية، وإنه لمن الواضح فى القرآن ، وكما سوف نرى، أن كثيراً من القصص الأسطورية المحتواة فى الأناجيل المختلقة والأعمال المشابهة، بالإضافة إلى بعض وجهات النظر الهرطقية حول مواضيع كثيرة ، لابد أنها قد وصلت محمد وقبلها عل أنها حقيقة. ومن الغريب أنه قد إعتقد أن ذلك التراث يمثل جزءً من الإنجيل، كما يبدو أن كثيرين من مهتديه لم يكونوا مسيحيين أقوياء الإيمان أو التعليم، وأنه كان أقرب إلى اليهودية التلمودية من المسيحية. إن فقرات القرآن التى تعالج ماأعتقد محمد أنه المسيحية، تعود إلى فترة كان نظامه الدينى، فى جزء كبير منه، قد نضج وتأسس على معلومات خرافية هزيلة، حيث لانجد أى عقيدة أو ممارسة إسلامية، وبأى درجة، تختلط أو تتلون بعقائد المسيحية الحقة، بينما نجد أن اليهودية قد أعطت لونها لكل النظام الإسلامى الظاهرى الذى أسسه محمد(7).
ومع ذلك، وفى نفس الوقت ، فقد كان محمد يرغب فى كسب المسيحيين واليهود لعقيدته، ورغم أن المسيحيين كانوا أقل عدداً وقوة من اليهود فى الجزيرة العربية ، فإن العقيدة المؤسسة للإمبراطورية البيزنطية العظمى، لابد أنها قد مثلت بعض الأهمية فى نظر محمد، خاصة لإنه بدون كسب العرب البيزنطين، فقد كان من شأن ذلك أن يثير كثيراً من المشاكل السياسية ، والى أى درجة قد أثر هذا الشعور فى محمد، فإنه من المستحيل أن نعرف. وعلى كل حال ، فقد لجأ محمد إلى الإنجيل كدليل على رسالته الإلهية، وحتى فقد ذهب لحدود أعلى، حيث قال أن المسيح قد تنبأ بمجيئه(8) ويصفه بكلمة الله(9) لكنه ينكر ألوهيته وصلبه ، ويظهر جهلاً تاماً بعقيدة الإنجيل الحقة. ومع ذلك ففى العديد من صفحات القرآن يتكلم محمد عن الإنجيل بإحترام ككتاب مقدس، قائلاً أنه قد أُنزل على المسيح من السماء، وأن القرآن نفسه هو متمماً ومؤكداً له، كما ذُكر فى سورة المائدة( وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وأتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم اافاسقون ، وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ، فإحكم بينهم بما أنزل الله - الآيات 46-47-48). ويشير محمد إلى الميلاد العذرى للمسيح ويذكر بعض معجزاته، ولكن حتى هنا تسود النغمة الأسطورية، ويبدو أن القليل االذى تعلمه محمد عن المسيح وحوارييه قد حصل عليه من مصادر لايعتمد عليها. وسوف نرى أن الإتفاق فى التفاصيل بين مايقصه القرآن حول هذه الموضوعات، ومايمكن أن نجده فى الآداب المزيفة والهرطقية واضحاً جداً. ومرة أخرى يبدو هنا ، كم كان محمد يمتلك ذكاءً لرفض الحقيقة وقبول المزيف، تماماً كما كان الحال مع التراث اليهودى، الذى أشرنا إليه فى الفصل السابق. والآن نتقدم لنثبت ذلك من خلال الإشارة إلى بعض الخرافات المتعلقة بموضوعات مسيحية محتواة فى القرآن، مشيرين إلى المصادر التى يبدو أنها قد أخذت منها.

1-أسطورة أهل الكهف

سوف نبدأ بأسطورة أهل الكهف(10) المتضمنة فى الآيات من 8 إلى 25 من سورة الكهف(أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً، إذ آوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً، فضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عدداً، ثم بعثناهم لنعلم أى الحزبين(11) أحصى مما لبثوا أمداً نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططا، هؤلاء قومنا إتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً، وإذا إعتذلتموهم ومايعبدون إلا الله فأووا إلى كهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً، وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين(12) وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم فى فجوة منه ذلك من آيات الله(13) من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له مرشداً، وتحسبهم إيقاظاً وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو أطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً، وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فإبعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أذكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولايشعرن بكم أحداً، إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم فى ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً، وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لاريب فيها(14) إذا يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا إبنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً، سيقولون ثلاثة رابعهم كلب ويقولون خمسة سادسهم كلب رجماً بالغيب، ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربى أعلم بعدتهم(15) مايعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً ، ولاتستفت فيهم منهم أحداً، ولاتقولن لشئ إنى فاعل ذلك غداً ، إلا أن يشاء الله وأذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لأقرب من هذا رشداً ولبثوا فى كهفهم ثلاث مائة سنين وإزدادوا تسعاً(15) قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض)
لكى نفهم تلك الرواية المرتبكة يجب أن نتذكر ، وكما يخبرنا المفسرون(16) إن بعض وثنى مكة العرب قد تحدوا محمداً لوقت طويل، ليخبرهم عن قصة أصحاب الكهف، إذا إستطاع، من أجل إختبار إدعائه بالوحى. وبناء على ذلك، فمن الواضح أن القصة كانت معروفة لهم فى زمن محمد، فى شكل من الأشكال، وربما فى أكثر من شكل. وقد كان هناك خلاف فيما يتعلق بعدد أصحاب الكهف، وكان هناك كثير من الآراء حول الموضوع، وقد وعدهم محمد ، وكما يتضح من الآيتين 22-23 من السورة المذكورة، بإعطائهم الإجابة فى الغد، مما يرجح أنه كان ينوى الإستعلام عن الموضوع من أحد الأشخاص، ومن الواضح أنه قد فشل فى الحصول على معلومات مؤكدة ، ومن ثم فقد ترك مسألة عدد شباب الكهف غير محسومة، ولاحتى إستطاع الإخبار عن مكان وزمان الحدث، ولذا فلم تكن محاولته الخروج من تلك الورطة ناجحة تماماً. ومع ذلك ، فقد غامر بالتأكيد إيجابياً على حقيقة واحدة، وهى أن الوقت الذى قضاه الشباب فى الكهف بلغ ثلاثمائة وتسع سنة. ولسوء الحظ، وكما سوف نرى، فحتى فى هذه الحقيقة، فقد كان مخطئاً، لكنه مع ذلك ، لم يكن لديه شك فى أن الحدث المسجل فى القصة قد وقع فعلاً. ومن كل أسلوب الفقرة يمكننا أن نستنتج أن محمداً، لم يكن لدية وثيقة مكتوبة، ولاراوى موثوق، كان يمكنهما إعطائه التفاصيل الدقيقة عن الموضوع. ورغم أن لدينا أكثر من شكل للأسطورة كتب قبل زمن محمد ، فمن الواضح أن تفاصيل رواية القرآن عنها قد إعتمدت على مصدر شفوى. وليس على وحى إلهى، كما إدعى. ويذكر الكاتب السريانى، يعقوب الساروجى ، المتوفى سنة 521م ، وفى عظة دينية منشورة فى أعمال القديسين، الأسطورة فى شئ من التفصيل، كما أن هناك أشكال سريانية أخرى معروفة للأسطورة. وتقول معظم الروايات أنه قد كان هناك سبعة نيام(17)وهو الإسم الذى تعرف به القصة فى أوربا بشكل عام، ولكن هناك نص سريانى فى المتحف البريطانى(18) يعود إلى القرن السادس الميلادى، يقول أن عددهم كان ثمانية. وأيضاً يذكر بعض المحمديين من مفسرى التراث القرآنى أن عددهم كان سبعة(19) ويذكر البعض الآخر أن العدد كان ثمانية، ذلك بينما إعترف محمد نفسه بعجزه عن تحديد العدد بشكل قاطع فى القرآن. وفى حدود معرفتنا ، فقد كان جريجورى التورى(20) هو اول كاتب أوربى يذكر الأسطورة ،حيث روى أنه فى عهد الإمبراطور ديقيوس(249-251م) قد هرب سبعة من النبلاء المسيحيين الشباب من سكان منطقة إفسوس من إلإضهاد (وقع أول إضطهاد كبير للمسيحيين فى عهد الإمبراطور ديقيوس ) ولجأوا إلى كهف ليس بعيدأ عن المدينة. ومع ذلك، فبعد بعض الوقت، إكتشف أعدائهم مكانهم، وأغلقوا مدخل الكهف عليهم، تاركين إياهم يموتون جوعاً. وعندما إعتلى ثيودوسيوس الثانى العرش، بعد 196 عام من ذلك التاريخ، عثر أحد الرعاة على ذلك الكهف وقام بفتحه. وعندئذ أفاق النيام السبعة من سباتهم الطويل وقاموا، وكما يقول القرآن أيضاً، بإرسال أحدهم إلى المدينة لشراء طعام، ولدهشته الكبيرة، فقد وجد المسيحية وقد إنتصرت فى كل مكان، وفى أحد المحلات أخرج قطعة نقدية من زمن الإمبراطور ديقيوس ليدفع بها ثمن الطعام الذى أراد شرائه، وعندما إتهم بالعثور على كنز مخفى، روى للناس حكايته وحكاية أصحابه، ثم وعندما قادهم إالى الكهف، أثبت شكل أصحابه، الذين كانوا مازالوا شباباً يشعون نوراً سماوياً، حقيقة قصته. وسرعان ماسمع الإمبراطور عن الحادثة، وذهب بنفسه إلى الكهف، حيث روى له النيام المستيقظون ، أن الله قد حفظهم ، كى يثبت له حقيقة خلود الروح . وبعد أن أوصلوا رسالتهم ، أسلموا الروح.
إنه ليس من الضرورى أن نعلق على السخف الشديد للقصة، كما رويت فى القرآن، رغم أن محمداً لايستحق اللوم على قبولها كحقيقة أكثر من جهلاء المسيحيين أنفسهم، والتى إنتشرت بواسطتهم على نطاق واسع، كما قد تكون قد إخترعت أيضاً. فمن المحتمل جداً أن القصة كانت تهدف فى منشأها لتعمل كحكاية رمزية، أو خيالاً دينياً، صيغ بهدف إظهار كيف إنتشر الإيمان المسيحى بتلك السرعة العجيبة، من خلال شجاعة وإيمان كثير من المؤمنين فى مواجهة الموت. وليكن أصل القصة كما يكون، لكن المؤكد أن القصة كانت معروفة ومصدقة، على نطاق واسع قبل زمن محمد، فى كثير من أنحاء الشرق المسيحى، وأيضاً فى مكة زمن محمد. إن خطأ محمد يكمن فى إدعاء تلقيها كوحى إلهى، بينما هى فى الواقع قصة لاتستحق التصديق أصلاً، قصة تشبه حكايات القديس جرجس والتنين، أو سندريلا والحذاء الزجاجى، أو معركة الضفادع والفئران فى إلياذة الإغريق أو مآثر رستم العجيبة بين الفرس(21).

2-أسطورة العذراء مريم

إن قصة مريم، كما رويت فى القرآن وأحاديث النبى، مأخوذة بالكامل تقريباً، من أناجيل مزيفة ، وأعمال من هذا النوع ، ومع ذلك ، فقد أدخل عليها محمد عنصراً آخر من الخطأ ، يكمن فى الخلط بين مريام أخت هارون وموسى ومريم العذراء أم المسيح، ولذا فلابد أن نبحث عن مصدر هذا الخلط ، قبل معالجة القصة نفسها. لقد أُخبرنا فى الآيات 28-29 من سورة مريم ، أن مريم عندما جاءت لأهلها بعد أن ولدت المسيح ، قالوا لها ( يامريم لقد جئت شيئاً فرياً ، ياأخت هارون، ماكان أبوك إمرأ سوء وماكانت أمك بغياً). إنه من هذه الكلمات يبدو وأضحاً أن مريم أم المسيح كانت فى نظر محمد هى نفسها مريام أخت موسى وهارون(22). إن هذا يبدو أكثر وضوحاً فى الآية 12 من سورة التحريم (ومريم إبنة عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) حيث سميت مريم أم المسيح ، بإبنة عمران ، أبو مريام ، وهو الشكل العربى لعمرام ، الذى يسمى فى سفر العدد فى التوراة بأبى هارون وموسى ، إن لقب أخت هارون قد أعطى لمريام فى سفر الخروج ، ولابد أنه من هذه الفقرة قد أخذ محمد هذا التعبير. إن سبب الخطأ الذى يساوى بين أم المسيح، وبين مريام ، أخت موسى وهارون ، وهى إمرأة عاشت قبل مولد المسيح بحوالى 1570 سنة، هى حقيقة أن كلا الإسمين فى العربية ، مارى ومريام ، هما شئ واحد ، ويكتبان مريم ، بنفس الشكل. ولايبدو أن محمد قد كلف نفسه عناء التدقيق فى التاريخ .إن هذا يذكرنا بقصة الشاهنامة، حيث يخبرنا الفردوسى أنه عندما هزم البطل فاريدان ، الضحاك ، أو زهاق كما ينطق بالفارسية، فقد عثر فى قلعته ، على أختى جمشيد، اللتين كانت قد إحتجزتا هناك منذ بداية حكمه ، أى لحوالى ألف عام ، وأنه قد صعق بجمالهما(23) والتى تذكرنا بالمثل المشهور ، وحتى الشاعر العظيم ينام ، وبالطبع، فإن الخطأ فى قصة رومانسية أمر يمكن غفرانه ، بينما لايمكن ذلك فى وحى إلهى. ولقد حاول المفسرون المحمديون نفى تهمة عدم الدقة التاريخية تلك، ولكنهم لم ينجحوا فى ذلك.
وإذا ماكان من الضرورى أن نسوق تفسيرات أخرى لخطأ محمد، فقد أقترح البعض(24) أننا قد نجد مخرجاً لذلك فى التواريخ اليهودية ، التى تؤكد ، وفيما يتعلق بمريام إبنة عمران ، أخت موسى وهارون ، أن ملاك الموت لم يمارس سلطانه عليها ، بل على العكس فقد ماتت بقبلة إلهية ، ومن ثم فإن الدود واالحشرات لم تنفذ الى جسدها، ولكن حتى هنا فإن اليهود لم يغامروا أبداً بالقول أنها قد ظلت على قيد الحياة حتى زمن المسيح، أو بتوحيدها بشخصية العذراء مريم أم المسيح.
دعونا الآن نعالج أسطورة العذراء مريم نفسها ، و نرى ماذا يقول القرآن والحديث عنها ، حيث نقرأ الآتى فى الآيات 35-37 من سورة آل عمران :
( إذ قالت إمرأة عمران رب إنى نذرت لك مافى بطنى محرراً فتقبل منى إنك أنت السميع العليم، فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتها أنثى وألله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان، فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب).
وكتفسير إضافى لهذه الرواية ، يخبرنا البيضاوى ومفسرون وعلماء حديث آخرون ، عن التفاصيل التالية. كانت زوجة عمران إمرأة عاقر متقدمة فى العمر، وفى أحد الأيام عندما رأت أحد الطيور يطعم صغاره، تاقت نفسها للإنجاب ، وتضرعت إلى الله أن يهبها طفلاً، وقالت، آه يا إلهى، إذا ماوهبتنى طفلاً، وسواء كان ذكراً أو أنثى ، سوف أهبه كهدية فى حضورك فى معبد أورشليم، وسمع الله دعائها وإستجاب له، فحملت وأنجبت إبنة سميت مريم، ويخبرنا جلال الدين إن إسم أم مريم كان حنا( وكان إسم أبيها يواقيم ، بينما كان إسم أم مريام يوكابيد بنت لاوى وإسم أبيها عمرام أو عمران- المترجم) . وعندما أحضرت حنا مريم إلى المعبد وسلمتها للكهنة ، قبلوا العطية وعينوا زكريا لرعاية الطفلة، ووضعها زكريا فى غرفة ولم يسمح لأحد بدخولها ، بإستثنائه هو(25) لكن أحد الملائكة كان هو الذى يقوم بتزويدها بطعامها اليومى.
وبالعودة إلى سورة آل عمران ، وبعدما كبرت مريم ، تقول الآيات 42-47( وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله أصطفاك وطهرك وأصطفاك على نساء العالمين، يامريم إقنتى لربك وأسجدى وأركعى مع الراكعين، ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، وماكنت لديهم إذ يلقون أقلامهم(26) أيهم يكفل مريم وماكنت لديهم إذ يختصمون(26) إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه إسمه المسيح عيسى إبن مريم وجيهاً فى الدنيا وفى الآخرة من المقربين، ويكلم الناس فى المهد وكهلاً ومن الصالحين، قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر قال كذلك الله يخلق مايشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون).
وبالإشارة إلى ماقيل فى هذه الآيات عن إلقاء الأقلام، يخبرنا البيضاوى وجلال الدين أن زكريا وستة وعشرون آخرون من الكهنة قد تنافسوا على رعاية مريم، ومن ثم فقد ذهبوا إلى ضفة نهر الأردن وألقوا بأقلامهم فى المياه لكنها غرقت جميعاً بإستثناء قلم زكريا، وبناء على ذلك تم تعيينه راعياً لمريم.
وبالنظر إلى الآيات 16-35 من سورة مريم ، نجد الرواية التالية عن مولد المسيح إبن مريم :
(وإذكر فى الكتاب(27) مريم(28) إذ إنتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فإتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحاً(29) فتمثل لها بشراً سوياً، قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً، قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً، قالت أنى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم أكن بغياً(30) قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً، فحملته(31) فإنتبذت به مكاناً قصياً،فجاءها المخاض إلى جذع النخلة(32) قالت ياليتنى مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً، فناداها(33) من تحتها ألا تحزنى قد جعل ربك تحتك سرياً، وهزى إليك بجزع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً، فكلى وإشربى وقرى عيناً(34) فإما ترين من البشر أحداً فقولى إنى نذرت للرحمن صوماً فلم أكلم اليوم إنسياً، فأتت به قومها (35) تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئاً فرياً، يا أخت هارون ماكان أبوك إمراً سوء وماكانت أمك بغياً (36) فأشارت إليه، قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبياً، قال(37) إنى عبدالله أتانى الكتاب وجعلنى نبياً(38) وجعلنى مباركاً أين ماكنت وأوصانى بالصلاة والزكاة مادمت حياً، وبراً بوالدتى ولم يجعلنى جباراً شقياً، والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً، ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذى فيه يمترون).
هنا يمكننا تتبع مصدر كل تفاصيل الرواية بشأن مريم التى تعود إلى مصادر منتحلة ، كما سيتضح من الفقرات التى سنستشهد بها هنا ، ففى الرواية المنسوبة إلى يعقوب الصغير عن ولادة مريم ، والتى تعرف بالبروتفانجيليوم (39) نقرأ الآتى:
(فرفعت حنة عينيها إلى السماء(40) فرأت عش عصافير فى شجرة غار فتنهدت قائلة آه ياربى ، لست أشبه حتى طيور السماء لإن طيور السماء أيضاً هى ذات ثمار أمامك يارب ، وإذا بملاك الرب يقف بجانبها قائلاً لها ، ياحنة إن الرب إستجاب لطلبك وستحملين وتلدين ويذاع صيت نسلك فى جميع أنحاء العلم ، فقالت حنة، حى هو الرب إلهى ، إذا ولدت ذكراً كان أو أنثى نذرته للرب إلهى وسيخدمه طوال حياته، وتمت أشهرها وولدت فى الشهر التاسع، وأرضعت الطفلة وأسمتها مريم).
وتستمر القصة بعد ذلك لتخبرنا أنه عندما نضجت الطفلة بالقدر الذى يسمح لها بالإستغناء عن أمها ، أخذتها حنة إلى المعبد فى أورشليم ، تبعاً لوعدها، وأن الكاهن قد قبله(41)ا وقبلها وباركها وقال، لقد مجد الرب إلهى إسمك بين كل أجيال الأرض، وبك وحتى نهاية آخر الأيا م، سوف يظهر الرب إلهى فداء ذرية إسرائيل. وأصبحت مريم كحمامة ربيت فى كعبة الإله ، إعتادت على أن تستلم طعامها من يد ملاك. لكن عندما بلغت الثانية عشرة من العمر، عقد الكهنة مجلساً، وقالوا إنظروا، لقد بلغت مريم الثانية عشر من العمر فى معبد الإله، فماذا علينا فاعلين معها ، وإنظروا، لقد وقف أحد ملائكة الرب بجوار زكريا وقاله له ، زكريا إذهب وإستدعى كل الرجال الأرامل، وإطلب من كل منهم إحضار قلم معه ، ومن منهم سيظهر الله له علامة، ستكون مريم زوجته. وذهب المنادى إلى كل ساحل يهودا ، وقرعت طبول الرب، وهرع الجميع، وألقى يوسف فأسه وهرع أيضاً إلى المعبد، وبعدما إجتمعوا دخلوا على الكاهن، وأخذ الكاهن كل أقلامهم ، ودخل إلى المعبد وصلى. وبعد أن أنهى صلاته خرج، وأعاد الأقلام إلى أصحابها، ولم تبدو لهم أى إشارة ، لكن يوسف إستلم القلم الأخير، وإنظروا، فقد خرجت حمامة من القلم، وطارت وحطت على رأس يوسف. فقال له الكاهن ، لقد رسى عليك الإقتراع لإستلام عذراء الرب، فخذها إلى نفسك وإرعاها، فإستقبلها يوسف مرتعداً من الرهبة، ولكن مريم وبعد أن أخذت جرة ذهبت إلى الخارج لتملأها بالمياه ، وإنظروا ، لقد صاح صوتاً قائلاً ، يا أيها المباركة المفضلة من الإله ، مباركة أنت بين النساء، فنظرت حولها يمنة ويساراً، لترى من أين أتى الصوت، فلم ترى أحد ، فشعرت بالخوف وأسرعت إلى منزلها، وبعد أن أنزلت جرة الماء، جلست على المقعد، وأنظروا، فقد وقف بجانبها أحد ملائكة الرب، قائلاً لها، لا تخافى يامريم، فقد وجدت إستحساناُ فى عينى الإله، وسوف تحملين بكلمته، لكن مريم تعجبت من هذا القول وتسائلت، هل سأحمل كما ستحمل النساء ، فأجابها الملاك، لا يامريم، لإن قوة العلى القدير سوف تغمرك ، لذلك، أيضاً ، فإن الكائن المقدس الذى سيولد، سيسمى بإبن الله، وسوف تسميه يسوع.
وتوجد أسطورة نشأة مريم فى المعبد فى أعمال منتحلة كثيرة أخرى، بالإضافة إلى المصدر الذى ذكرناه للتو، فعلى سبيل المثال فى عمل تاريخ العذراء القبطى(42) نقرأ الآتى( لقد ترعرت فى المعبد كحمامة، وكان الطعام يحضر إليها من السماء من قبل ملائكة الله. وقد إعتادت على أداء الفرائض فى المعبد وحولها الملائكة، وقد إعتادو أيضاً أن يحضروا لها الفاكهة من شجرة الحياة، حيث يمكنها أن تأكلها فى إبتهاج ، وفى عمل قبطى آخر يسمى(قصة رحيل يوسف)(43) يوجد فقرة تقول( لقد إعتادت مريم أن تسكن فى المعبد وتعبد هناك فى خشوع ، وقد نضجت حتى أصبحت فى الثانية عشرة من العمر، حيث كانت قد سكنت ثلاث سنوات فى منزل أبويها ، ثم سكنت فى المعبد تسع سنوات أخرى. ثم وعندما شعر الكهنة أن هذه الفتاة قد عاشت بطهارة ، وخشيت الله، فقد تحدثوا إلى بعضهم البعض قائلين، دعونا نبحث عن رجل طيب نزوجها إليه حتى يحين وقت حفل الزفاف ، ومن ثم قاموا بإستدعاء قبيلة يهودا ، وإختاروا منها إثنى عشر رجلاً على أسماء قبائل إسرائيل الإثنى عشر. ووقع الإقتراع على ذلك العجوز الطيب يوسف.
وبالعودة الآن إلى رواية البورتفانجيليوم، نعرف أنه عندما أصبحت الحقيقة واضحة بأن مريم قد حملت، تم إستدعائها مع يوسف للمحاكمة أمام الكهنة، وتمضى القصة لتخبرنا( وقال الكاهن، لماذا فعلت ذلك يامريم(44) ونجست روحك، هل نسيتى الرب إلهك، أنت التى نشأت فى قدس الأقداس، وإستلمت الطعام من يد الملائكة، وسمعتى التراتيل ، لماذا فعلتى هذا؟ فبكت مريم بحرقة وقالت، بحق الرب إلهى، أنا طاهرة أمامه ، ولم يلمسنى رجل.
وبعد ذلك نعرف من نفس الرواية، أن يوسف ومريم ذهبا من الناصرة إلى بيت لحم، وبعدما فشلا فى العثور على مكان فى أحد إستراحات القوافل، ذهبا للإنتظار فى أحد الكهوف، وهناك ولد المسيح. إن كلمات النص الأصلى، والتى نحذفها كالعادة ، إذا لم تكن متعلقة بهدفنا هنا ، يمكن ترجمتها كالآتى :
(ووجد يوسف كهفاً (45) وأخذ مريم إلى هناك، ولكنه عندما نظر إلى السماء(46) وجد قبة السماء ثابتة(47) ورأى طيور الهواء ترتعش، فقال ، لقد نظرت على الأرض، فرأيت الذين كانوا يرفعون الطعام إلى شفاهم قد توقفوا عن رفعه، وهؤلاء الذين كانوا يضعونه فى أفوههم قد توقفوا عن وضعه، وكانت وجوههم جميعاً تنظر إلى أعلى، ورأيت المواشى التى تقاد وقد توقفت عن الحركة، وعندما رفع الراعى عصاه ليضربهم ، توقفت العصا وظلت إلى أعلى، ونظرت إلى المجرى فرأيت أطفالاً، إستعدت أفواههم لشرب الماء ، لكنها لم تشرب، وأصبحت كل الأشياء مذهلة).
إن قصة شجرة النخيل ، المذكورة فى سورة مريم السابق ذكرها، تبدو منقولة بوضوح من المصدر المزيف المعروف بإسم (تاريخ ميلاد مريم وطفولة المخلص)، رغم أنه ، وكما سوف نرى، يمكن إرجاعهما إلى مصدر آخر أكثر قدماً. وفى الكتاب الذى أشرنا إليه لتونا، يرتبط ذلك الحدث بحدث الهرب إلى مصر، حيث تسجل القصة كيف بدأت العائلة المقدسة السفر، وكيف إستمرت الرحلة ليومين فى هدوء ، حيث تقول الرواية :
( ولكن فى اليوم الثالث من السفر(48) حدث أن شعرت مريم بالإرهاق فى الصحراء بسبب حرارة الشمس الشديدة، ولذلك فعندما رأت شجرة قالت ليوسف، دعنا نستريح قليلاً تحت ظلال هذه الشجرة، فأسرع يوسف بها إلى الشجرة وأنزلها من الدابة التى كانت تسافر عليها، وعندما جلست تحت الشجرة ، نظرت أعلاها ورأتها مليئة بالثمار، فقالت ليوسف، أريد قليلاً من هذه الثمار إذا أمكن، فقال لها يوسف، أتعجب من قولك هذا لإن أغصان الشجرة عالية جداً ، لكننى أشعر بعطش شديد، لإن الماء قد نفذ من قربتينا، ولاأعرف أين نملأهما ونطفئ ظمأنا. وعندئذ تحدث الطفل يسوع ، والذى كان يرقد بأساريره المرحة فى صدر أمه مريم، وقال لشجرة النخيل، أيها الشجرة إخفضى أغصانك وإطعمى أمى بثمارك، وفوراً مع هذه الكلمات أخفضت الشجرة رأسها عند قدم مريم، فقطفوا الثمار التى تحملها، وأنتعشوا. وبعد ذلك ، وعندما قطفت كل ثمار الشجرة، ظلت الشجرة منحنية، حيث كانت تنتظر القيام بناء على أوامر يسوع، والتى كانت أخفضت الرأس بناء على أمره. وعندئذ قال لها يسوع، أيها النخلة قومى ، وكونى سعيدة، وكونى رفيقة لأشجارى التى فى جنة أبى، لكن عليك أن تفتحى بجذورك تلك الينابيع المخفية فى التربة، وتجعلى المياه تفيض منها حتى تروى ظمأنا. وفوراً إنتصبت الشجرة واقفة، وبدأت ينابيع من ماء صافى، بارد ، شديد الحلاوة ، تندفع من ثنايا جذورها. وعندما رأوا ذلك إبتهجوا بفرح عظيم، وشعروا بالرضا وشكروا الله، هم وكل دوابهم وخدمهم).
وبدلاً من ربط شجرة النخيل والنبع الذى فاض من تحتها برواية الهرب إلى مصر، فقد ربطها القرآن بشكل قوى ، كما رأينا ، بميلاد المسيح ، مصوراً إياه وقد ولد عند قدم الشجرة، وأنه فى نفس اللحظة، وتبعاً لأحد الروايات، قد أمر الشجرة بإسقاط ثمارها لجعل أمه تأكل منها، وإخبارها عن النبع المتدفق. وفى إتساق روايته فى هذا الخصوص ، مع ذلك الإنجيل المزور- تاريخ ميلاد مريم وطفولة المخلص- يبدو واضحاً أن تفسير رواية القرآن ، يبدو أكثر صحة من ذلك الزيف الذى ينسبها إلى رواية جبريل. ولكن علينا الآن الإستفسار عن المصدر الذى أخذ منه القرآن فكرة مولد المسيح عند قدم شجرة، وأيضاً ماهو أصل أسطورة إنحناء الشجرة لجعل الأم والطفل يأكلان من ثمارها. إنه ليس من الضرورى أن نقول أن كلا الأسطورتين ليس لهما أى أصل فى الأناجيل القانونية ، لإنه لا أصل لهما فعلاً.
إن أصل الحادثتين ، أو الأسطورتين ، يوجد فى كتب قوانين بالى البوذية ، والتى وكما عرفنا من كتاب المهافامسا ، تاريخ سيريلانكا ، المكتوب بين القرنين الخامس والسادس، قد سجلت كتابة فى عهد الملك فاتاجمانى حاكم سيلان حوالى سنة 80 قبل الميلاد(49) رغم أنه من المحتمل جداً أن أجزاء كبيرة من هذه الكتب كانت قد ألفت قبل هذا التاريخ بعدة مئات من السنين. إن الملاحم التى تحتويها هذه الكتب كانت واسعة الإنتشار فى العصور القديمة ، ليس فقط فى الهند وسيلان، ولكن أيضاً فى وسط آسيا والصين والتبت ومناطق أخرى. وقد ورد ظهور المبشريين البوذيين فى كتاب الحياة الخفية للمسيح فى فارس فى حوالى القرن الثانى قبل الميلاد. لقد كانت المؤثرات البوذية على الفكر فى غرب ووسط وشرق آسيا قوية للغاية . وقد ظهرت المانوية والغنوصية وكثير من الأفكار الهرطقية الأخرى من هذا التأثير، وكذلك ظهرت حركة الرهبنة فيما بعد(50). وتظهر كثير من الفقرات فى الأناجيل المنتحلة أن الأفكار ذات الأصل البوذى قد نفذت إلى عقول كتاب هذه الأناجيل، رغم أن هؤلاء الرجال لم يكونوا مدركين بالطبع لأصل المصدر الحقيقى لإلهامهم، ومن ثم فقد كان من السهل على محمد أن يخطئ بنفس الطريقة، ويمكننا أن نشير إلى الفقرات المحددة فى كتب بالى البوذية ، والتى تمثل أقدم شكل معروف للأساطير المتعلقة بالشجرة.
إن أحد هذه الأساطير يوجد فى قصة نيدناكاتا جاتاكام ، حيث أخبرنا أنه عندما حملت مايا ، أم جوتامو بوذا ، وأدركت أنها على وشك الولادة ، طلبت الإذن من زوجها اسودودانو، بالعودة إلى منزل أبيها للولادة ، تبعاً لعادات بلادها. وفى طريق العودة ، دخلت هى ووصيفاتها إلى غابة جميلة ، أخذت فيها الأميرة مايا بالأزهار الكثيفة، التى رأتها على بعض أشجارها. وبكلمات الفقرة التى نشير إليها، فإن ماحدث بعد ذلك يروى هكذا(51)( وعندما جلست تحت شجرة ساج طيبة ، رغبت فى جذب أحد أغصانها، فإنحنى الغصن كأنه عصا تم تليينها ببخار، وأصبح فى مرمى يد الأميرة ، فمدت الأميرة يدها وأمسكت به، وتماماً فى تلك اللحظة التى وقفت فيها ممسكة بالغصن ، جاءها طلق الولادة).
إن الإختلافات بين هذه الرواية ورواية ميلاد المسيح ، كما وردت فى آيات القرآن، التى ذكرناها هنا، هى إختلافات طفيفة للغاية. فقد ذكر محمد شجرة نخيل، التى هى أشهر الأشجار بالنسبة للعرب، بدلاً من نوع أشجار الأزهار المذكورة فى الكتاب البوذى، حيث أن شجرة الساج الهندية ، لاتنمو فى الجزيرة العربية، ومن المؤكد أن القصة قد تغيرت بهذه الطريقة خلال عملية إنتقالها كما هو الحال بالنسبة لكثير من أساطير مماثلة. وتلمح الملحمة الهندية إلى أن الجهد الذى بذلته الأم البوذية من أجل الوصول للأزهار النامية على الغصن المرتفع فوق رأسها ، قد تسبب فى طلق ولادة الطفل بشكل غير متوقع، بينما لايعطى القرآن مثل هذا السبب الجيد على الإطلاق للميلاد الذى حدث أسفل شجرة النخيل. لكن القصة واحدة بشكل واضح ، حيث نلاحظ هنا كما فى القرآن، ان الشجرة قد أمالت أغصانها لتمكن مايا من أن تقطف الأزهار، أو ، وكما ذكر القرآن ، تجعل بلحها الناضج يسقط فوق مريم.
وبالنسبة للرواية الأخرى عن هذه الحادثة، المذكورة فى الإنجيل المزيف، فهى ترتبط بالهرب إلى مصر، عندما كان المسيح مازال رضيعاً. إن هذه الرواية تتوازى مع مانقرأه فى قصة شاريا بيتاكام، حيث أخبرنا أنه فى ميلاد سابق، كان بوذا أميراً يدعى فيسانتارو، ونظراً لمضايقته لشعبه فقد حكم عليه بالنفى من مملكته مع زوجته وطفليه الصغيرين، وبينما كانوا يسيرون بإتجاه الجبال القريبة، حيث كانوا يأملون فى إيجاد ملجأً، شعر الطفلان بالجوع ، كما تقول الرواية البوذية:
( وعندما(52) رأى الطفلان أشجاراً محملة بالفاكهةعلى جانب الجبل، بكوا من أجل تلك الفاكهة، وعندما رأت الأشجار الضخمة الطفلين يبكيان، إنحنت إلى الأرض، وإقتربت منهما). إنه من الواضح أن كلا القرآن ومؤلف الإنجيل المزيف(تاريخ ميلاد مريم) قد إقتبسوا وبدون إدراك من المصادر البوذية هذه الأحداث تحديداً. وإن هذه الحقيقة تنفى بالطبع صدق القصة من الأساس.
إن قصة بارلام ويهوشافاط تؤكد لنا أن الأساطير البوذية كانت شائعة فى غرب آسيا حتى قبل زمن محمد ، وأنها كانت قد قبلت على أنها تواريخ مسيحية. لقد كتبت هذه الأسطورة باللغة اليونانية فى القرن السادس الميلادى، كما يعتقد البعض ، رغم أنها تنسب بشكل عام إلى القديس يوحنا الدمشقى، الذى إشتهر فى بلاط الخليفة المنصور ، فيهوشافاط، الأمير المسيحى المذكور فى الكتاب هو بوذا نفسه، والذى إشتق إسمه من بودى ساتافى، أحد ألقاب بوذا الكثيرة ، ويوجد المصدر الرئيسى للقصة فى الملحمة السنسكريتية، قصة بوذا، المعروفة بإسم لاليتا فيستارا، وقد أصبح يهوشافاط قديساً فى كل من الكنيستين اليونانية والرومانية ، حيث يحتفل به فى الأولى فى 26 أغسطس، فى الثانية فى 27 نوفمبر
3-أسطورة طفولة المسيح
فيما سبق ذكره بشأن العذراء مريم ، عرفنا شيئاً مما يقوله القرآن عن قصة طفولة المسيح، ولكنا يجب أن نتعامل مع الموضوع الآن بشكل تفصيلى منفصل . فى الآيات 45-46 من سورة آل عمران ، أُخبرنا بأنه قبل مولد المسيح قالت عنه الملائكة( يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه إسمه المسيح عيسى بن مريم ، وجيهاً فى الدنيا والآخرة ومن المقربين، ويكلم الناس فى المهد وكهلاً ومن الصالحين). وفى الآيات 27-28-29 من سورة مريم ، كما رأينا سابقاً ، أُخبرنا بالآتى( فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئاً فرياً ، ياأخت هارون ماكان أبوك إمرأ سوء وماكانت أمك بغباً، فأشارت إاليه قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبياً). وفجأة تحدث الطفل يسوع ( قال إنى عبدالله أتانى الكتاب وجعلنى نبياً).
إن أصل هذه الأسطورة ليس بعيداً، فلقد رأينا سابقاً ، أن أحد الأناجيل المزيفة صور المسيح ، عندما كان فى رحلته إلى مصر فى طفولته ، مخاطباً شجرة النخيل ، آمراً إياها بالإنحناء حتى تأكل أمه منها ، ولكن ربما يكون المصدر الذى أخذ منه محمد هذه القصة هو إنجيل الطفولة ، والمعروف أكثر بتسمية إنجيل الطفولة العربى ، حيث نقرأ الآتى فى الفصل الأول منه :
(لقد وجدناها مسجلة فى كتاب يوسف ، الكاهن الأكبر، الذى عاش فى زمن المسيح ، والذى قال عنه الناس ، أنه كان الكاهن الأكبر قيافا ، حيث قال هذا الرجل أن المسيح تكلم عندما كان فى المهد، وقال لأمه مارى، لاريب ، أنا المسيح، إبن الله ، الكلمة التى حملتيها، كما بشرك الملاك جبريل ، كلمة أبى الذى أرسلنى لخلاص العالم).
وبالطبع ، لم يستطع محمد تصوير المسيح قائلاً تلك الكلمات المنسوبة إليه فى ذلك الإنجيل المزيف ، حيث أنها تتعارض مع فكرة بنوة المسيح لله ، المرفوضة فى كل مكان فى القرآن ، لذلك فبينما كان يعتقد أن المسيح قد تكلم فعلاً فى المهد، فقد وضع على فمه، بعض كلمات بدت أكثر مناسبة وتوافق مع الإسلام ، وعدا ذلك ، فقد ظلت القصة كما هى .
إن الأسلوب العربى لهذا الإنجيل المزيف ردئ جداً ، بحيث يصبح من الصعب التصديق أنه يعود لزمن محمد. ولكن ، وحيث أنه لم يفترض أبداً ، أن تكون اللغة العربية هى اللغة التى كتب بها هذا العمل، فإن هذه مسألة غير ذات أهمية. ومن دراسة الكتاب ، لايبدو محلاً للشك أنه قد تُرجم إلى العربية من اللغة القبطية، التى صنف بها ذلك الإنجيل أساساً. وهذا يفسر لنا الطريقة التى ربما يكون قد تعرف محمد من خلالها على هذه القصة، حيث أنه من المعروف جيداً ، أن حاكم مصر المسيحى الرومانى قيرس، قد أرسل له هدية من فتاتين قبطيتين ، أصبحت إحداهما ، ماريا القبطية، إحدى أحب جواريه. وهذه الفتاة ، ورغم أنها لم تكن على معرفة جيدة بالإنجيل، لابد أنها كانت تعرف مثل هذه القصة الشائعة المذكورة فى إنجيل الطفولة فى ذلك الزمن. ومن المرجح أن يكون محمد قد عرف هذه القصة منها، وتصور أنها إحدى القصص الواردة فى الأناجيل المسيحية القانونية المقدسة المعترف بها لدى المسيحيين ، ومن ثم فقد ضمنها فى القرآن. وبالطبع فمن الممكن أنه كان يملك مصادر أخرى غير ماريا ، كان يتعرف من خلالها على الأساطير القبطية ، ومع ذلك ، وبصرف النظر عمن يكون مخبره أو مخبريه ، بمثل تلك القصص ، فمن الواضح أن مصدر قصة تلك المعجزة هو المصدر الذى ذكرناه هنا، إنجيل الطفولة.
إن إنجيل الطفولة العربى هو واحد من عدد من الأعمال المزيفة المتأخرة ، أو الغير معروفة التاريخ، والذى لم يعتبر موحى به من قبل أى طائفة مسيحية أبداً . إن هناك أعمال أخرى من نفس الطبقة تركت أثرها على القرآن ، ومنها إنجيل توما الإسرائيلى ، وبروتيفانجيلوم يعقوب - إنجيل يعقوب عن طفولة المسيح - وإنجيل نيقوديموس ، والمسمى أيضاً بالجيستا بيلاتى ، ورواية يوسف الأريماثى ، وكما لاحظنا من قبل ، فيبدو أن محمد كان يمتلك موهبة خاصة فى إكتشاف مصادر المعلومات غير الموثوقة ، حيث يبدو أنه لم يقتبس من مصدر موثوق أبداً. إن مثل هذه الكتب ، ومثيلاتها ، ورغم شعبيتها بين جهلاء المسيحيين فى ذلك الزمن، وحتى بعد ذلك الزمن، من الصعب ان نقول أنها كانت تهدف إلى فرض نفسها على أى إنسان ، لقد كانت ، وبشكل واضح ، مجرد رومانسيات دينية ، تعاملت مع أمور كانت تثير فضولاً طبيعياً ، ولذا فقد رحب بها هؤلاء الذين لم يهتموا بالسؤال عما إذا كان مايقرأون حقيقى أم خيال ، والمؤمنين تماماً بأن هذه القصص كانت تقاليد قديمة ، وأنها كانت تعالج موضوعات أعطت عنها الكتب القانونية معلومات قليلة ، أو حتى لم تعطى أى معلومات. ولاشك أن بعض الناس كانوا يصدقون تلك الأساطير، ولكن لم يذكر رجل مثقف واحد ، إعتقد فى أى كتاب من تلك الكتب التى ذكرناها هنا ، حيث لم تكن تستحق حتى تضمينها فى الأنتيلوجيمينا - الكتابات والأناجيل المسيحية غير القانونية . وربما كان بعضها قد أعيد بنائه على أساس أعمال مبكرة مفقودة ، مع إضافات كثير من العناصر الخرافية إليها . ولكن سواء كان ذلك صحيحاً أم لا ، فإنها أحياناً ماتضمنت أساطير شديدة القدم، حتى لو لم يذكر مرجعها. ولقد رأينا أمثلة يمكن فيها تتبع بعض القصص التى وردت فيها إلى خرافات بوذية قديمة للغاية. إن قصة المسيح يتكلم إلى الناس وهو مازال طفلاً فى المهد هى نموذج من نفس النوع ، فرغم أنه لايمكن تتبع مصدرها إلى كتب قوانين بالى البوذية، فلقد رويت نفس القصة عن بوذا فى قصة لاليتا فيستارا ، فى ملحمة شاريتا بوذا (53) وفى أعمال سنسكريتية أخرى. ففى تلك الأسطورة الرومانسية(54) عرفنا أنه بمجرد ولادة بوذا فقد مشى سبع خطوات على الفور بإتجاه كل ركن من أركان الأفق الأربع ، وعندما كان يمشى، كان ينبثق من الأرض فى كل خطوة تحت قدمه زهرة من زهور اللوتس ، وبينما كان ينظر بثبات فى كل إتجاه ، نطق فمه بهذه الكلمات ، فى كل أنحاء العالم ، أنا رئيس كل العالم. وفى عمل سنسكريتى صينى آخر (55) رويت نفس القصة ببعض الإختلافات فى كلمات بوذا ، إن هذا الميلاد هو شرط لميلاد رحيم - بوذا ، وبعد ماقمت به من ميلاد متجدد ، فقد ولدت من أجل خلاص العالم. إن هذا الإقتباس الأخير يحمل تشابهاً كبيراً مع الكلمات المنسوبة للطفل المسيح فى إقتباسنا من إنجيل الطفولة العربى، والواقع فإن الكلمات الختامية للأخير، هى تقريباً مجرد ترجمة حرفية لكلمات الأول(56).
إن الحقيقة المفترضة أن الرب قد تكلم فى المهد قد ذكرت أيضاً فى الآية رقم 110 ، من سورة المائدة مع مواد أخرى سوف نتدارسها هنا ، ولمزيد من التيسير ، سوف نقتبس الآيات كاملة:
(إذ قال الله ياعيسى بن مريم إذكر نعمتى عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس فى المهد وكهلاً ، وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذنى فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذنى وتبرئ الأكمة والأبرص بإذنى وإذ تخرج الموتى بإذنى وإذ كففت بنى إسرائيل عنك ، إذ جئتهم بالبينات ، فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين).
إن ماقيل هنا عن معجزات ربنا المسيح ، من إبصار الأعمى ، وتطهير الأبرص ، وإحياء الميت ، ربما يكون قد إشتق بشكل غير مباشر من الأناجيل القانونية الأربع ، رغم أن أحداث مماثلة غير مستبعدة من الأناجيل المزيفة، ولكن نقطة الأهمية بالنسبة لهدفنا هنا هو ماقيل عن خلقه للطير من الطمى ، ونفخه بالحياة ، فإن هذه الحادثة مشتقة من إنجيل توما الإسرائيلى المزيف ، فى الفصل الثانى حيث يقول :
( كان الطفل يسوع ، قد بلغ الخامسة من عمره ، عندما كان يلعب عند غدير الماء ، وقد جمع المياه الجارية فى جداول، و بكلمة واحدة أمر بها جعلها نظيفة ، ثم صنع بعض الطمى الرائق وشكل منه إثنى عشر عصفوراً. كان اليوم هو السبت حين صنع هذه الأشياء ، لكن كان هناك كثير من الأطفال يلعبون معه ، ولكن أحد اليهود رأى ماكان يفعله يسوع ، وأنه كان يلعب يوم السبت ، فذهب مباشرة إلى أبيه يوسف، وقال له ، إلحق ، إن طفلك عند الغدير ، وقد أخذ طمياً وصنع منه إثنى عشر عصفورة ، ودنس السبت. فأسرع يوسف إلى الغدير ورأى مايفعله إبنه ، فصاح به ، لماذا تفعل هذه الأشياء غير الشرعية فى يوم السبت، ولكن يسوع وقد صفق بيديه ، صاح فى العصافير ، وقال لهم ، إذهبوا ، فطارت العصافير تغرد ، فذُهل اليهود عندما رأوا ذلك ، وإنصرفوا وأخبروا رؤسائهم عما رأوه من فعل يسوع).
إنه من الجدير بالملاحظة أن كل تلك الخرافة تحدث مرتين فى إنجيل الطفولة العربية ، فى الفصل رقم 36 ، ومرة أخرى فى شكل آخر فى الفصل رقم 14. إن سبب هذا هو أن الجزء الأخير من الكتاب مأخوذ من إنجيل توما الإسرائيلى. وهنا نلحظ مرة أخرى ، أنه بينما تبدو الأسطورة هى نفسها المشار إليها فى القرآن ، فإن الفارق يكفى لإثبات أن محمد كان يعيد إنتاج شكل أصغر منها من الذاكرة ، ولم يكن ينظر فى أى وثيقة مكتوبة ، وقد ذكر فقط عصفور واحد بدلاً من إثنى عشر عصفوراً ، وتحدث عن الحياة التى منحت للعصفور من خلال أنفاس يسوع ، وليس بأمره ، أوبكلمته فى إنجيل توما . إن الإشارة المختصرة إلى القصة فى القرآن تُظهر أن القصة كانت منتشرة ومصدقة فى زمن محمد. ومرة أخرى يثبت هذا قدر المعرفة الضئيلة بالعهد الجديد فى المدينة فى ذلك الزمن، ليس فقط لإنه لم يذكر فى النسخ القانونية من العهد الجديد أى معجزات قام بها مخلصنا فى طفولته ، ولكن أيضاً لإن يوحنا الثانى قد ذكر أن شيئاً من الأناجيل لم يكتب إلا بعد معمودية يسوع عندما كان فى الثلاثين من العمر.
4-أسطورة المائدة
رويت هذه المعجزة المفترضة للمسيح فى الآيات 112-115 من سورة المائدة ، والتى أخذت إسمها منها(57) ، وتقول(58) (إذ قال الحواريون ياعيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ، قال إتقوا الله إن كنتم مؤمنين، قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين(59) ، قال عيسى بن مريم ، اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية(60) منك وإرزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه عذاباً لاأعذبه لأحد من العالمين).
إذا لم يكن هناك أسطورة إثيوبية حول هذا الموضوع نقلها معهم المسلمون المهاجرون إلى هناك ، فلابد أن تكون أسطورة المائدة قد نشأت عن سوء تفاهم لبعض الفقرات فى العهد الجديد. وفى حال إذا ماوجدت مثل هذه الأسطورة فى أى مصدر آخر ، والذى لم نصل إليه بعد ، فإن مصدرها سوف يكون نفس سوء الفهم. إن فقرات العهد الجديد التى أعطت بلاشك المجال لظهور تلك الأسطورة ، هى الآيات الواردة فى إنجيل لوقا ، والتى يقول فيها ربنا المسيح لحوارييه (أنكم قد تأكلون وتشربون على مائدتى فى مملكتى) ولاشك أن محمد كان يعرف أن المسيحيين كانوا يحتفلون بالعشاء الأخير ، تبعاً لأناجيل متى ، ومرقس ، ولوقا، ويوحنا، والرسالة إلى أهل كورنثوس ، ولكن من المؤكد أن الذى قاد إلى الإعتقاد بأن المائدة قد نزلت من السماء ، كان تلك الفقرة التى وردت فى أعمال الرسل ، والتى نقرأ فيها رواية رؤية بطرس :
(وصعد بطرس إلى السطح ليصلى حوالى الساعة السادسة ، فشعر بالجوع ، ورغب فى الأكل ، وبينما كانوا يعدون له الطعام، دخل فى غيبوبة ، ورأى السماء تفتح وينزل منها وعاء كأنه الملاءة الكبيرة ، تحمله أركان الأرض الأربع ، وبه كل حيوانات الأرض التى تمشى على أربع وكل الزواحف وطيور السماء ، وقد خرج منه صوت يقول ، إنهض يابطرس وكل ، لكن بطرس قال ، لا ياربى ، فلم أأكل طعام دنساً أبداً ، فجاء إليه الصوت للمرة الثانية قائلاً ، إن ماطهره الله ، لاتدنسه أنت ، وتكرر الصوت للمرة الثالثة ، ثم رفع الوعاء مباشرة إلى السماء).
إن الكلمات الختامية للفقرة التى إقتبسناها من سورة المائدة هى دليل إضافى على أن محمد كان يفكر فى العشاء الأخير، حيث تبدو كصدى ضعيف لتحذير القديس بولس فى الرسالة إلى أهل كورنثوس ضد التناول غير الموقر لذلك الطقس المقدس . إن كل الفقرة هى دليل إضافى على معرفة محمد القليلة للغاية بالعهد الجديد، فلا يمكن لأى إنسان يكون قد قرأ العهد الجديد ، أو حتى سمعه يتلى أن يخلط بين رؤية بطرس وبين منشأ العشاء الأخير ، أو تحويل تلك الرؤية إلى إنزال مائدة من الطعام من السماء فى حياة ربنا المسيح. إن الفقرة هى تعبير هام جدا عن الطريقة التى تنمو بها الأساطير.
5- أسطورة عدم فهم محمد لعقيدة التثليث
لقد أشرنا بإختصار فى بداية هذا الفصل إلى هذا الموضوع ، ولكن يجب أن نراجعه هنا مرة أخرى ، لتكتمل معالجتنا لتأثير الأفكار والممارسات المسيحية على الإسلام. إن التصور الذى كونه محمد عن عقيدة التثليث المسيحية، يشبه التصور الذى كونه عن منشأ طقس العشاء الأخير، كما إتضح من الفقرات القليلة السابقة ، وكما سيتضح من الفقرات التالية:
سورة المائدة ، الآية رقم 116(وإذ قال الله ياعيسى إبن مريم أأنت قلت للناس إتخذونى وأمى إالهين من دون الله). سورة النساء الآية رقم 171(ياأهل الكتاب لاتغلوا فى دينكم ولاتقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى إبن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولاتقولوا ثلاثة إنتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له مافى السماوات ومافى الأرض وكفى بالله وكيلاً). سورة المائدة الآية 73( لقد كفر الذين قالوا أ، الله ثالث ثلاثة ومامن إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب عظيم).
لقد شرح المفسرون من أمثال جلال الدين ويحيى هذه الآيات على أنها الإجابة على القول الذى سمع محمد بعض المسيحيين يرددونه بأن هناك ثلاثة آلهة ، أى الله الأب ، ومريم ويسوع. إنه من الواضح تماماً من هذه النصوص أن محمد قد إعتقد فعلاً أن العقيدة المسيحية كانت تعلم الإعتقاد بهذه الشخوص المقدسة الثلاثة المنفصلة ، يسوع ومريم إثنين منهم .
إن إقتباسنا الثالث يشير إلى أنه ربما مما رآه محمد من العبادة المسيحية ، قد إعتقد أن ترتيب نظام العبادة كان ، يسوع ، مريم ثم الله ، أو مريم ، يسوع ، ثم الله. وبالطبع لن يتعجب أى شخص عاقل للغضب الذى سيرفض به محمد هذا الكفر بإسم الله. وهنا لابد أن نأسف جميعاً أن العبادة الوثنية التى أسبغت على مريم قد قادت محمد لإن يعتقد ان الناس الذيم دعوها بإسم ملكة السماء ، وأم الإله ، قد عزوا إليها صفات إلهية فعلاً ، ومن ثم فقد إعتقد بشكل صحيح أن الله قد أنزل من على عرشه لصالحها، ولو كان قد تعلم أن عقيدة توحيد الله هى أساس الإيمان المسيحى، فربما كان قد أصبح مصلحاً مسيحياً ، لكنه لم يسمع أبداً التفسير الصحيح لعقيدة التثليث فى الإله الواحد ، وإلا لكان قد عرف أن اللاهوتيين المسيحيين قد تكلموا عن الأب ليس كثالث الثلاثة ، ولكن كأساس الإلوهية(61).
وبالطبع فإن التمجيد الغير صحيح للعذراء مريم ، والذى جعل محمد يضل عن عقيدة الكتاب المقدس الحقيقية ، هو ضد العقيدة المسيحية ، ومع ذلك فإن مثل هذه الأفكار والممارسات المزيفة ، قد شجعتها تعاليم الكثير من الأناجيل المزيفة ، بشكل خاص ، خاصة تلك الأناجيل التى تمثل المراجع النهائية لمعرفة محمد عن المسيحية ، ونحن نذكر ذلك هنا كى نمنع إمكانية أن يحاول أى قارئ محمدى ، أن يجد مخرجاً لمشاكله من خلال محاولة إثبات أن كتب مثل ، ميلاد العذراء مريم ،و بروتوفانجيليوم يعقوب ، إنجيل يعقوب عن طفولة المسيح ، وإنجيل الطفولة العربى ، هى آثار أكثر تعبيراً عن العقيدة المسيحية المبكرة ، كما علمها المسيح ، من الأناجيل القانونية أو العهد الجديد.
6-أسطورة إنكار صلب المسيح
إنه من المعروف جيداً أن كل المحمديين قد أنكروا منذ البداية أن المسيح قد مات على الصليب ، حيث يؤيدهم القرآن فى ذلك، والذى صور فى الآية 157 من سورة النساء اليهود وهم يقولون (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وماقتلوه وماصلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين إختلفوا فيه لفى شك منه مالهم به من علم إلا إتباع الظن (ورد محمد عليهم قائلاً) وماقتلوه يقيناً ، بل رفعه الله إليه ، وكان الله عزيزاً حكيماً).
والواقع أنه لايمكن تتبع سبب إنكار محمد لموت المسيح على الصليب حتى فى مرجعية الأناجيل المزيفة المحببة إليه. ولسنا فى حاجة لذكر أنه قد ناقض كل من أنبياء العهد القديم ورسل العهد الجديد على السواء، رغم أن ذلك قد حدث بلاشك بسبب مجرد الجهل. فلقد بدا له أنه قد يبدو مهيناً لكرامة المسيح أن يصلب ويموت بواسطة أعدائه ، كان محمد شديد الإقتناع بذلك ، خاصة عندما وجد أعدائه اليهود أنفسهم فرحين بقتلهم للمسيح، ومن ثم فقد تبنى بسرور التأكيد على بعض الهرطقات، والتى كان لايشاركها الرأى فى مسائل أخرى. ولقد أنكر الكثير من تلك الهرطقات معاناة وموت المسيح على الصليب قبل زمن محمد بوقت طويل، ويخبرنا القديس إريناوس ، وبالإشارة إلى تعاليم المهرطق الغنوصى باسيليدس ، والذى إشتهر حوالى سنة 120 م ، أنه وفيما يخص يسوع ، فقد أخبر أتباعه االموهومين، أنه لم يتألم (62) وأن شخص يدعى سيمون من القيروان ، كان قد أجبر على أن يحمل الصليب بدلاً منه، وأن ذلك الرجل قد صُلب بالجهل والخطأ، حيث كان قد تم تغيير شكله ، حتى يعتقد أنه كان يسوع نفسه. إن هذه اللغة تتفق إلى حد كبير مع لغة القرآن بخصوص هذه المسألة ، ومع ذلك فلابد أن محمد كان سيرفض المبدأ الذى تأسست عليه هذه الرؤية تبعاً لإريناوس، لإن باسيليدس قد إعتقد أن يسوع كان مطابقاً للعقل المنبثق(63) من الإله الغير معروف ، وأنه لا يستطيع التألم ، لأنه لم يكن لديه جسد بشرى حقيقى ، مما يعارض القرآن تماماً ، والذى يؤكد على أن يسوع ، وبرغم أنه نبياً ورسول، ، قد كان مجرد إنسان، يملك جسداً بشرياً، ولد من أم بشرية، ومقدراً عليه الموت فى أى وقت كأى إنسان. إذن فنحن نرى هنا أن محمد يعارض المبدأ الذى إستنتج منه باسيليدس إستنتاجه ، ومع ذلك يقبل ذلك الإستنتاج ويسجله فى القرآن، بمعنى أنه يقبل ظاهر الرواية بينا يرفض باطنها ، إن ذلك هو مجرد عملية غير منطقية بالمرة ، والتى لايمكن نسبتها إلى أى شئ ، سوى إلى الجهل الطبيعى.
ومع ذلك فإن هذه الرؤية الخاصة بموت المسيح فى الظاهر فقط ، وليس فى الواقع ، لم تقتصر على باسيليدس وحده ، فقد ذكر فوثيوس البيزنطى (820-891م) فى موسوعته المكتبة ، أن حقيقة أن المسيح لم يصلب ، ولكن صُلب شخص آخر بدلاً منه ، قد ذكرت فى كتاب مزيف أطلق عليه عنوان ، رحلات الحواريين(64) وقد ذكر مانى ، النبى المشهور المزيف ، والذى كان ذا تأثير كبير فى زمانه فى فارس ، وبطريقة مشابهة ، أن أمير الظلام(65) قد ثُبت آنذاك على الصليب ، وأن نفس الشخص قد حمل إكليل الأشواك. ولهذا لايمكن أن نقول أن محمداً قد أنكر موت المسيح على الصليب إعتماداً على مصادر مصدقة.
مع ذلك فالتناقض الأكبر يكمن فى أن حقيقة موت المسيح قد ذكرت فى أماكن عدة فى القرآن ، فعلى سبيل المثال ذكر فى سورة آل عمران ، الآية رقم 55( إذ قال الله يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين إتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة ، ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون). وكذلك فى سورة مريم ، الآية رقم 33( والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً).
و يحاول بعض المفسرين المسلمين تفسير هذا التناقض بالقول بأن المقصود هو الموت بعد العودة إلى الأرض مرة أخرى ، فيقولون بأنه عندما أراد اليهود صلب المسيح، قبضوا عليه وسجنوه هو وحوارييه عشية عيد الفصح بنية إعدامه فى الصباح التالى ، ولكن الله أرسل له رسالة بالليل ، لابد أن تعانى الموت من خلالى، ولكن مباشرة بعد ذلك ، سوف تُرفع إلى ، وتُحرر من قوة الكافرين، وبناء على ذلك فقد مات يسوع، وظل ميتاً لثلاث ساعات ، وقد ذكر البعض فترة أطول ، وفى النهاية ظهر جبريل، وحمله خلال النافذة إلى السماء، دون أن يلاحظ أحد شيئاً. وأخذ بالخطأ جاسوس يهودى كافر بدلآ منه ، وصُلب فى مكانه. ولكن الرواية الأكثر شيوعاً(66) بل الشائعة للغاية بين المسلين حتى اليوم ، هى الرواية التى ذُكرت فى الأحاديث الموجودة فى كتب مثل قصص الأنبياء(67) وتاج العروس(68) فهذه الكتب تُخبرنا أنه عندما حاصر اليهود البيت الذى كان به يسوع وحوارييه، أخذ جبريل المسيح بعيداً من خلال السطح أو النافذة ، وصعد به حياً إلى السماء الرابعة ، وفى هذه الأثناء كان شويغ ، ملك اليهود، أو صديق له يدعى فالتيانوس ، يدخل البيت لإعدام المسيح ، لكن إعتقد بالخطأ أنه يسوع فأعدم مكا نه، ولكن ومع ذلك ، فيسوع يجب أن يموت ،وسوف يعود إلى الأرض ليفعل ذلك، وهذا هو المتضمن فى سورة آل عمران الآية 55(إذ قال الله ياعيسى إنى متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين إتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) وكذلك فى سورة مريم ، الآية رقم 33( والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) وكذلك فى سورة النساء ، الآيات 157-159( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وماقتلوه وماصلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين إختلفوا فيه لفى شك منه مالهم به من علم إلا إتباع الظن وماقتلوه يقيناً ، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً ، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً) وذلك إذا ماكانت الآية الأخيرة تشير إلى موت المسيح كما يعتقد الكثيرون، ذلك أنه عندما يأتى المسيح الدجال(69) ويضلل الناس(70) ويخرجهم عن إيمانهم ، سيكون الإمام المهدى وعدد من المسلمين فى أورشليم القدس، عندئذ سوف يأتى يسوع ويشن الحرب على الدجال ويقتله ، وسوف يدعو أتباعه لإعتناق عقيدة محمد ، وسوف يعتنق هو نفسه عقيدة محمد ، وسوف يمنح الأمان لكل من يعتنق الإسلام ، ويقتل كل من يرفضه. وسوف يخضع كل العالم من الشرق إلى الغرب ويجعل من سكانه محمديين، وسوف يشرح حقيقة العقيدة المحمدية لدرجة أنه لن يببقى فى كل العالم كافر واحد ، وسوف يصبح العالم مباركاً كامل التحضر. وسوف يفرض العدل ، لدرجة أن الذئب والأيل سوف يشربا من نفس النبع ، وسوف يغضب على فاعلى الشر، وبعد أن يقضى أربعين عاماً على هذا النحو فى تطهير العالم ، فسوف يذوق هو نفسه مرارة الموت ، وسوف يغادر العالم، وعندئذ سوف يدفنه المسلمون بجوار قبر المصطفى محمد.
إن ماقيل عن عودة المسيح ، وتأسيس مملكته على كل الأرض مطابقاً ومأخوذاً بوضوح من الكتاب المقدس ، خاصة من الآيات المذكورة فى سفر الأعمال وسفر الرؤى وسفر أشعيا، ولكن مع الأسف فإن الكذب يشملها من كل جانب ، حيث تؤكد على أن المسيح سوف ينشر الإسلام بالسيف، كما إن الإشارة إلى الإطاحة بالمسيح الدجال، ترتكز بوضوح على الرسالة الثانية إلى أهل تسالونيكى من سفر الأعمال ، وفقرات مماثلة ، ولكن لابد أن نستفسر من أى مصدر أخذ محمد فكرة أن المسيح وبعد مجيئه الثانى ، سوف يموت ، إذا ماكان ذلك حقاً هو المعنى المقصود من آيات القرآن ، التى إقتبسناها هنا ، وإذا ماكان يمكن تصديق الأحاديث ، التى يسجلها البيهقى وآخرون ، على أنها قد نزلت من شفتى محمد بهذا الخصوص ، حيث أن كل مسيحى يعرف أن مثل ذلك الخيال ، يتناقض تماماً مع ماجاء فى الآيات 17-18 ، الواردة فى سفر الرؤيا الأول من الكتاب المقدس.
ومرة أخرى تساعدنا بعض الأعمال المزيفة فى هذا الخصوص ، ففى كتاب عربى ربما من أصل قبطى ، يسمى (موت أبينا المقدس، الرجل العجوز يوسف النجار) نعرف أن أخنوخ وإيليا ، اللذان صعدا إلى السماء بدون أن يموتا، يجب أن يعودا إلى العالم فى نهاية الزمان، فى يوم المحنة والخوف والعسر والإضطهاد ، وأنهما يجب أن يموتا بعد عودتهما (71) وفى عمل قبطى مشابه بشكل ما ، يسمى ، تاريخ سقوط مريم نائمة ، نقرأ تقريباً نفس الكلمات ، ولكن بالنسبة لهؤلاء الآخرين، أخنوخ وإيليا، فإنه من الضرورى لهما أيضاً أن يتذوقا طعم الموت فى النهاية(72)، ولابد أن محمد قد سمع مثل تلك العبارات ، حيث أنه قد قال مرتين فى القرآن ، فى الآية 185 من سورة آل عمران ، كل نفس زائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، و فى الآية 57 من سورة العنكبوت ، كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون ، مؤكداً كما فعل فى الآية 55 من آل عمران على موت المسيح بعد عودته ، إذ قال الله ياعيسى إنى متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين إتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ، حيث فكر تلقائياً أن المسيح أيضاً مثل أخنوخ وإيليا ، لابد أن يموتا بعد مجيئهما الثانى ، ومن ثم فإن مقبرة المسيح الفارغة تنتظره الان جاهزة فى المدينة بين قبرى محمد وأبى بكر.
تخبرنا أحاديث محمد أيضاً ، أن المسيح سوف يتخذ زوجة بعد عودته (73) إن ذلك يعود إلى سوء فهم لبعض الآيات الواردة فى سفر الرؤيا ، حيث نقرأ ، دعنا نفرح ونبتهج ، ودعونا نمجده ، حيث أن زواج الحمل قد حان ، وقد جهزت زوجته نفسها ، وقد أوحى لها بأنها يجب أن تزين نفسها فى كتان جميل ، لامع ورقيق ، لإن الكتان الجميل يمثل أعمال القديسيين الصالحة ، ولقد قال لى، مبارك هؤلاء المدعوين إلى عشاء زواج الحمل. وبالطبع فإن المعنى المجازى هنا مفسر تماماً فى مكان آخر من سفر الرؤيا وفى رسالة بولس إلى أهل إفسوس ، على أنه يشير إلى الحب الكبير والإتحاد التام فى الأمور الروحية التى ستوجد فى ذلك الوقت بين المخلص وبين كنيسته المطهرة المفتداة . إن القول بأن المسيح سوف يعيش أربعين عاماً على الأرض بعد عودته(74) لابد أنها نشأت أيضاً نتيجة لسوء فهم لما ورد فى سفر الأعمال ، من أنه سيبقى فى الأرض أربعين يوماً مع حوارييه بعد قيامته وقبل صعوده إلى السماء.
7-أسطورة نبوءة المسيح المزعومة بمجئ محمد
يوجد عدد كبير من الآيات فى الإنجيل يحاول المفسرون المحمديون جعلها نبؤات بقدوم محمد ، ولكنا سنتعامل هنا مع عدد قليل منها فقط ، لإننا نجد فى مكان واحد فقط فى القرآن تأكيد واضح على أن المسيح قد قال لحوارييه أن يتوقعوا ظهور محمد ، ولابد أنه كان يشير بوضوح ، إلى بعض الآيات التى وردت فى إنجيل يوحنا ، ففى الآية السادسة من سورة الصف يقول محمد ( وإذا قال عيسى بن مريم يبنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدى من التوراة ومبشراً برسول يأتى من بعدى إسمه أحمد)
إن الإشارة هنا هى عن مجئ الفرقليط (75) المواسى، الذى ورد ذكره فى إنجيل يوحنا ، ولقد أشرنا قبل ذلك إلى أن محمداً قد ضلل بواسطة جاهل أو مرتد أو أحد المتعصبين من أتباعه ، والذى خلط الكلمة فى تلك الآيات من إنجيل يوحنا بكلمة أخرى من اللغة اليونانية ، والتى يمكن ترجمتها ، وبدون ضغط كبير على الخيال ، إلى الكلمة العربية أحمد ، أى الممتدح جداً ، فقط ولسوء حظ محمد ، فإن الكلمة المستخدمة ليست هى إسمه ، وأن الإصطلاح الذى إستخدمه المسيح ، يمكن ترجمته ، وبأقصى مجهود، فقط إلى أحمد ، إن معرفة بسيطة حتى باللغة اليونانية ، ربما تكون شيئاً خطيراً ، وبالتأكيد فإن ذلك لم يتضح أكثر مما إتضح فى القرآن، فكل من يقرأ الآية فى إنجيل يوحنا بحرص سوف يدرك أنها لاتحتوى على أى نبوءة لأى نبى قادم ، كما أنه لايمكن تطبيقها على أى كائن بشرى، وبالإضافة إلى ذلك فكل مسيحى يعرف ، كيف أن ذلك الوعد بمجئ الفرقليط قد تحقق فعلاً ، كما ورد فى سفر الأعمال ، ومن جهة أخرى ، فإنه من الخطأ تماماً ، أن نتصور أن محمداً قد إدعى أنه الروح القدس، الذى خلطه المسلمون بجبريل.
وقبل ترك هذا الموضوع ، فمن المناسب أن نذكر القارئ أن محمداً لم يكن أول من يلجأ إلى تلك الآيات كنبوءة على مجيئه ، فمن المعروف جيداً أن مانى (76) المشهور فى الأسطورة الفارسية كرسام بارع ، قد إدعى أيضاً أنه الشخص الذى أشار إليه المسيح ، فقط مانى إدعى بوضوح أنه الفرقليط ، ربما بهدف كسب المسيحيين قليلى المعرفة إلى جانبه ، إن هذا واضحا لإنه قد رفض يسوع التاريخى ، وإخترع آخر بدلاً منه ، آخر لن يعانى ولن يموت ، المسيح الذى لايشعر. ونقطة ثالثة تشابه فيها مع محمد كانت هى إدعائه بأنه آخر وأعظم الأنبياء ، مبعوث النور، الذى يشبه الإله. ومع ذلك فقد كان أقل حظأ من محمد ، حيث أنه قد أعدم بواسطة بهرام الأول(77) ملك فارس حوالى سنة 276-277 م. وأخيراً فقد أنتج أيضاً كتاباً يسمى أرتانج (78) كتبه كتاب شرقيون قال عنهم أنهم أرسلوا إليه من السماء ، ومعهم الوحى الأخير للإنسان. إن إنكاره لمعاناة المسيح نبع من قبوله للفكرة الغنوصية عن الشر الأساسى لكل المواد ، وقد جعله هذا ينكر أن يسوع الحقيقى ، كان ذا جسد بشرى، وفى هذا الخصوص فقد تبع باسيليديس بمنطق أكثر مما فعل محمد ، كما رأينا.

8-أسطورة خلق آدم وعبادة الملائكة له
نقرأ فى الآية 52 من سورة آل عمران( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلق آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)(79) كما تخبرنا الأحاديث أنه فيما يخص خلق آدم من تراب ، أنه عندما أراد الله تعالى خلقه ، فقد أرسل كبار الملائكة واحداً فى أثر الآخر، لتأخذ حفنة من تراب الأرض وترفعها إليه، وحيث أن الأرض كانت تعلم أن كثيراً من ذرية آدم سوف يكون محكوماً عليها بالجحيم ، فقد توسلت إلى هؤلاء المبعوثين بأن لايأخذوا أى جزء منها ، ومن ثم فقد رجعوا جميعاً خاويى الوفاض ، بإستثناء الأخير ، عزرائيل، حيث أخذ عزرائيل حفنة من تراب الأرض برغم توسلها ، يقول البعض أنها من نفس الموقع الذى بنيت عليه الكعبة بعد ذلك ، والبعض يقول أنه أخذها من كل سطح الأرض، وقد أحضرها لله قائلاً(8) ، آه يا إلهى ، أنت تعرف إننى قد أحضرتها ، وفى هذا الخصوص يقول أبو الفدا ، بناء على مرجعية الكامل لإبن الأثير، أن نبى الله قال ، إن الله العلى القدير قد خلق آدم من حفنة من تراب أخذها من كل سطح الأرض ، وأنه لذلك قد دعى آدم لإنه قد خُلق من أديم الأرض.
إن هذا الحديث مثير للإهتمام لإنه يقدم لنا مثال آخر عن كيف أن الإسلام مدين بالكثير للأفكار الهرطقية. إن كل الأسطورة مأخوذة من مرقيون الهرطوقى ، كما عرفنا من إستشهاد من أحد الكتابات المتأخرة ، والمتضمنة فى عمل إزنك الأرمينى المعنون ب(دحض الهرطقات) ففى الحديث عن هرطقات القرن الثانى ، يستشهد إزنك(81) بالعبارة التالية على أنها تحتوى بعض من وجهات نظر مرقيون الغريبة (وعندما رأى إله الشريعة ، شريعة موسى ، أن هذا العالم كان جميلاً ، فقد صمم أن يخلق منه الإنسان، وبعد أن نزل إلى الأرض ، قال لمادتها إعطينى من طميك ، وسوف أعطيه من روحى الحياة ، وعندما أعطته الأرض من مادتها ، خلق آدم ونفخ فيه الحياة ، ولذلك فقد سمى آدم ، لإنه قد خلق من الطمى.
ولكى نفهم هذا الإستشهاد يجب أن نتذكر أن مرقيون كان شديد الإعتقاد فى العقيدة الفارسية الثنائية القديمة بأن هناك سببين أولين للوجود ، الأول خير مطلق ، والثانى شر مطلق ، والديمرجوس ، أو خالق عالمنا الأدنى هذا ، والمذكور هنا بإسم إله الشريعة ، لإنه أعطى شريعة موسى لليهود، وهو إله عادل ، لكنه ليس خيراً تماماً ، ولاشريراً تماماً ، لذلك فهو فى صراع دائم مع مبدأ الشر، وهو بهذه الحال يعتبر كملاك كبيرأكثر منه إلهاً، ويبدو كذلك فى الأسطورة المحمدية تبعاً لرؤية مرقيون، فالديمرجوس يسكن أساساً فى السماء الثانية ، ولم يكن فى البداية مدركاً لوجود مبدأ الخير السامى، أو الإله الأعلى ، والذى يسميه مرقيون ، الإله الغير معروف ، وعندما عرف بوجوده ، أصبح عدائياً تجاهه ، وبدأ يحاول منع الناس من معرفته ، خشية أن يحولوا عبادتهم إليه ، ولذلك فقد أرسل الإله الأعلى يسوع المسيح إلى العالم ليحطم قوة إله الشريعة ، وأيضاً قوة مبدأ الشر أو إله الشر، وليقود الناس لمعرفة الإله الحق. وقد هاجم هذان الكائنان يسوع لكنهما لم يستطيعا إلحاق الأذى به، لإنه كان يملك جسداً ظاهرياً فقط ، وليس جسداً حقيقياً ، حتى يمكن أن يكون مرئياً للناس ، وهنا مرة أخرى نجد عقيدة الدوسيتزم ، أى عقيدة ظاهرية جسد المسيح ، والتى رغم أنها مناقضة لتعاليم محمد العامة ، إلا أنها تتفق معه فى إنكار صلب المسيح.
إن كثيراً مما قاله مرقيون بشأن الديمرجوس يتفق مع أسطورة محمد عن عزازيل الذى أصبح ساكناً للسماء الثانية فى بعض الأحاديث، ولجميع السماوات فى بعض الأحاديث الأخرى، قبل طرده وتسميته بإبيلس وبالشيطان ، ولكن كل من قول مرقيون وقول محمد بهذا الخصوص مأخوذ بوضوح من الأساطير الزرادشتية ، والتى سوف نعالجها فى الفصل التالى(82).
إنه من الجدير بالملاحظة أنه بالنسبة للديمرجوس ، فإن ألقاب سيد العوالم ، خالق المخلوقات ، وأمير العالم ، قد أطلقت عليه من قبل مرقيون وأتباعه. إن اللقبين الأولين من هذه الألقاب يتبعان لوصف الإله ، ويستخدمان للتعبير عنه من قبل اليهود والمسلمين، أما الثالث فهو مأخوذ من إنجيل يوحنا ، حيث يطلق على الشيطان، وبسب خطأ سئ الحظ ، يفهم المحمديون هذه الآية على أنها نبؤة بشأن محمد ، وبناء على ذلك فهم يصفون بها نبيهم.
وفيما يخص خلق آدم ، فقد كرر القرآن تأكيده على أن الله قد أمر الملائكة بعبادته ، وبين نصوص أخرى فى هذا الخصوص ، نستشهد بالآيات التالية ، حيث تحتوى على نفس التأكيد وبنفس الكلمات تقريباً.
الآية رقم 34 من سورة البقرة ( وإذ قلنا للملائكة إسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى وإستكبر وكان من الكافرين)
ألاية 61 من سورة الإسراء ( وإذ قلنا للملائكة إسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً)
الآية رقم 50 من سورة الكهف ( وإذا قلنا للملائكة إسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ، ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً)
والآية رقم 116 من سورة طه ( وإذ قلنا للملائكة إسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس أبى ).
إن هذه الفكرة من الصعب أن تكون مأخوذة من التلمود، رغم أننا قد عرفنا منه ، أن الملائكة قد أظهرت إحترام مبالغ فيه لآدم ، لكنا أخبرنا بوضوح ، أنهم قد أخطأوا. إنها بلاشك مأخوذة من سوء فهم لما جاء فى رسالة بولس إلى العبرانيين( وأيضاً متى أدخل البكر إلى العالم ، يقول ولتسجد له كل ملائكة الله) وقد أخذ محمد للغاية بهذه الآية، وحيث أنه قد أساء الفهم كالعادة، وتصور أن الإبن الأول يعنى آدم وليس المسيح(83) ولذلك فقد كرر مثيل لها فى القرآن، وربما قد حدث هذا على سبيل الجدل ضد عبادة المسيح ، لإنه فى أحد الآيات التى أشرنا إليها سابقاً ( الآية 52 من سورة آل عمران) يخبرنا محمد انه عند الله يستوى آدم والمسيح ، بالتأكيد لإنهما لم يولدا من أب بشرى ، كما يفسر ذلك عباسى وجلالين، مع ذلك فهذه الكذبة ماكانت لتعتبر مقدسة بناء على هذه الرواية( لإن المسيح نفسه ماكان يستحق العبادة حسب رواية القرآن).

9-أسطورة حتمية ذهاب كل الناس إلى جهنم
يعبر عن هذه الفكرة الغريبة فى الآيات 68-71 من سورة مريم (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً ، ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتياً ، ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً ، وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً).
لقد سببت هذه الآيات كثير من التعاسة لأتقياء المسلمين ، رغم أنهم قد أملوا أن نار الجحيم لن تؤذيهم، وقد إجتهد المفسرون بشجاعة لنفى المعنى الظاهرى للكلمات ، والتى وافقوا عليها مع ذلك ، بقولهم أن المعنى المقصود منها هو مجرد أن كل الناس ، حتى المؤمنين الصالحين، سوف يقتربون من الجحيم ، وأنهم سيمرون(84) فوق الجسر(الصراط المستقيم) يوم القيامة، وإذا ماكان هذا التفسير مقبولاً فإنه يجب معالجته فى الفصل الخامس الخاص بالمؤثرات الزرادشتية على أصل الإسلام ، لكن الأكثر إحتمالاً، ومن لغة الآيات التى إستشهدنا بها هنا أن محمد يعبر عن معتقده فى المطهر . فإذا ماكان الأمر كذلك ، فلابد ان محمد قد تعلم ذلك من المسيحيين المعاصرين لزمنه، وقد بذلت محاولات لإستنتاج تلك العقيدة من انجيل مرقس ، ومن سفر الأعمال الرسالة الثالثة الى أهل كورنثيوس، وبالطبع فإنه من الممكن أن محمد قد سمع تلك الآيات تتلى ، وأنه قد أساء فهمها بهذا المعنى ، ولكن الأكثر إحتمالاً أكثر أنه قد إستعار الخطأ جاهزاً إذ يخبرنا كتاب عهد إبراهيم أن عمل كل إنسان يتم إختباره بالنار، فإذا ماأحرقت النار عمل أى إنسان، فإنه يحمل إلى مكان العذاب بواسطة الملاك المشرف على الجحيم. ومع ذلك ولإن معنى هذه الآيات المنعزلة فى القرآن غير واضح ، فلاداعى لإن نستفسر أكثر عن أصل عقيدة المطهر.
10-أسطورة الميزان
يذكر الميزان ، الذى يزن الأعمال الحسنة والأعمال السيئة، يوم القيامة، فى العديد من الأماكن فى القرآن ، والتى من أهمها :
الآيات 8-9 من سورة الأعراف ( والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون).
الآية 47 من سورة الأنبياء ( وتضع الموازين القسط ليوم القيامة فلاتظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين).
الآية 17 من سورة الشورى ( الله الذى أنزل الكتاب بالحق والميزان ، ومايدريك لعل الساعة قريب).
الآيات 6-7-08-9 من سورة القارعة (فأما من ثقلت موازينه فهو فى عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية).
يشرح المفسرون هذه الآيات ، وبناء على مرجعية الأحاديث ، بإخبارنا أنه فى يوم القيامة سوف ينصب الله ميزاناً بين السماء والأرض، ذو لسان وميزانين، وأن ذلك الميزان سوف يخصص لوزن أعمال الناس الصالحة وأعمالهم السيئة، أو وزن السجلات التى سجلت فيها أعمالهم، وسوف يرى المؤمنون الصادقون أن الميزان الذى وضعت فيه أعمالهم الصالحة سوف يعلو على الميزان الذى وضعت فيه أعمالهم السيئة، ، بينما الميزان الذى يحتوى على الأعمال الصالحة لغير المؤمنين سوف يكون أخف من الميزان الذى تحتوى عليه سيئاتهم ، ولن تترك أى حسنة من حسنات المؤمنين كما لن تضاف أى خطيئة إلى خطاياهم، وهؤلاء الذين سوف تعلو أعمالهم الصالحة على أعمالهم السيئة ، سوف يدخلون الجنة ، لكن هؤلاء الذين سوف تعلو أعمالهم السيئة على أعمالهم الصالحة فسوف يدخلون جهنم.
لقد أشرنا من قبل أن فكرة وزن أعمال الإنسان جاءت فى التلمود، وفى سفر دانيال تحديداً، ولكن فى هذه الحالة فالميزان المذكور هو ميزان مجازى، وعملية وزن بلشاصار التى جاءت فيه ، لم تحدث يوم القيامة ، ولا حتى بعد موته ، ولكن بينما كان مازال حياً، ولذا فلابد من البحث فى مكان آخر عن أصل تصور محمد عن الميزان، والموجود فى الكتاب المنتحل عهد إبرهيم (85) والذى يبدو أنه قد كتب أصلاً فى مصر ، حيث كان معروفاً لدى أوريجن (أشهر فلاسفة الإسكندرية المسيحيين الإغريق فى ذلك الوقت) وربما قد جرى تصنيفه بين القرنين الثانى والثالث الميلادين ، بواسطة مهتد يهودى الى المسيحية. وهو يوجد فى نسختين إغريقيتين ، وأيضاً فى نسخة عربية. إن التشابه بين بعض آياته وبعض آيات القرآن وبعض أحاديث محمد هى كبيرة لدرجة لايمكن إعتبارها مجرد مصادفة(86). إن هذا يلاحظ بشكل خاص فيما أخبرنا به عهد إبراهيم عن الميزان ، حيث ذكر أنه عندما أنه عندما حضر ملاك الموت بأمر الله ليأخذ روح إبراهيم ، ترجاه أبو الأنبياء ، أن يسمح له برؤية عجائب السماء والأرض قبل الموت، وأنه قد سمح له بذلك ، فصعد إلى السماء بقيادة الملاك ، ورأى كل ماأراد رؤيته ، وعندما وصل إلى السماء الثانية ، رأى الميزان هناك ، وأحد الملائكة يزن أعمال الناس عليه ، كما تخبرنا الفقرة التالية:
(وفى منتصف البوابتين(87) نصب عرشاً ، جلس عليه رجل مهيب ، نصبت أمامه منضدة تشبه الكريستال مغطاة بخيوط الذهب والكتان الجميل ، وعليها وضع كتاب، سمكه ستة أذرع وعرضه ستة أذرع، وعلى جانبيها يميناً ويساراً ، وقف ملاكان(88) يحملان ورق وحبر وقلم، وأمامها جلس ملاك خفيف اللحية، يحمل ميزاناً فى يديه، وعلى اليسار جلس ملاك ذو وجه نارى ، مخيف عديم الرحمة ، يحمل فى يديه بوقاً ، بداخله بنار محرقة ، تستخدم فى إختبار المخطئين ، بينما يقوم الرجل المهيب الجالس على العرش بمحاكمة الأرواح ، فى الوقت الذى يقوم فيه الملكان الواقفان على اليمين وعلى اليسار بالتسجيل، الواقف على اليمين يسجل الأعمال الصالحة ، والجالس على اليسار يسجل الأعمال السيئة، والجالس أمام المنضدة الذى يحمل الميزان، يزن الأرواح، بينما الملاك النارى الذى يحمل النار، يختبرها ، وسأل إبراهام ميكائيل ، قائد الملائكة ، ماهذه الأشياء التى نراها ، فأجابه ميكائيل، ماتراه ياإبراهام المقدس ، هو الثواب والعقاب).
وتمضى القصة لتخبرنا أن إبراهيم قد رأى أن كل روح تعادلت فيها أعمال الخير والشر لا تعتبر بين الناجين ولا بين الخاسرين، لكنها تقع فى مرتبة وسطى ، والتى تتفق تماماً مع معتقد محمد الذى جاء فى الآية 46 من سورة الأعراف ( وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ولم يدخلوها وهم يطمعون).
إنه من المستحيل أن نشك أن محمد قد أخذ قصة الميزان من كتاب عهد إبراهيم ، سواء بطريق مباشر أوغير مباشر، أو من نفس الفكرة التى سادت شفوياً فى زمنه، والمأخوذة من مصر والتى يرجح أنه قد نقلها عن جاريته القبطية ماريا، إن تصور مثل ذلك الميزان الذى يزن أعمال الناس ، الخيرة والشريرة، هو تصور قديم للغاية فى مصر القديمة ، حيث نجده فى مشهد يوم الحساب فى كتاب الموتى، والذى وجدت نسخ كثيرة منه فى المقابر المصرية القديمة ، والذى يقول عنه دكتور بودج (89) إنه من المؤكد تماماً أن كتاب الموتى، بأشكاله المختلفة نسبياً، هو قديم قدم الحضارة المصرية ، وأن مصادره تعود إلى العصور قبل التاريخية ، التى من المستحيل تحديد تاريخها ، لكنا نجد أرضية صلبة لتاريخ الكتاب فى فترة الدولة القديمة، وإذا ماقبلنا أحد التواريخ التى كانت شائعة فى مصر فى حدود سنة 2500 ق.م ، فسوف نكون محقين فى الإعتقاد بأن بعض أجزائه قديمة قدم عصر الأسرة الفرعونية الأولى. وعن تأليف الكتاب يقول بودج(90) أنه يرتبط بالإله تحوت منذ زمن سحيق، إله الحكمة المقدسة ، والذى نطق بكلمات الخلق التى نفذها بتاح وخنوم ، وكاتب الآلهة فى نفس الوقت. لقد كان الهدف من دفن نسخة من ذلك الكتاب مع المومياء هو أن يحصل المتوفى على التعليمات التى يتعلم منها كيف يتجنب الأخطار المختلفة التى قد يقابلها فى العالم الآخر. ونتعرف من الكتاب على قدر كبير من الأفكار الدينية للمصريين القدماء.
إن النقش الذى يصور محاكمة الروح ، والتى ربما تحدث مباشرة بعد الوفاة ، كما هو الحال فى كتاب عهد إبراهيم ، يتنوع فى أشكال مختلفة ، لكنها تحتفظ جميعاً بالخطوط العامة الرئيسية. ويظهر لنا الشكل الغالب من هذه الأشكال إلهين هما حورس وأنوبيس(91) وهما منهمكين فى عملية وزن قلب متوفى على أحد درجتى الميزان ، مقابل صورة ماعت ، آلهة الحقيقة و العدالة، على الدرجة الأخرى ، بينما يسجل إله آخر هو تحوت أوتحوتى عند المصريين ، حساب المتوفى على لفيفة ، وقد كُتب فوق الميزان (حيوات أوزوريس مبرأة) ويستوى الميزان فى وسط قاعة المحكمة المقدسة ، ويقول تحوتى ، الإله العظيم لمدينة هيسيريت، وسيد مدينة هيرموبوليس ، وسيد كلمات تحوت ، وبالنسبة لقلبه دع قلبه يدخل فى مكانه فى أوزوريس المبرأ ، إن خلع إسم أوزوريس على المتوفى ، بالإضافة إلى إسمه الأصلى (والذى ترك مكان فارغ له ليكتب فيه فيما بعد) يدل على أنه قد تمت تبرئته فى المحاكمة ، وقد أصبح متحداً بالإله أوزوريس ، إله المصريين الأعظم ، ومن ثم فقد أصبح آمنا من القوى الشريرة.
وأمام شكل الكاتب المقدس، يقفف تحوت فى شكل حيوان مرعب، يفترض أنه كان يلتهم الأشرار، وقد كتُب فوق رأسه، غازى الأعداء بإبتلاعهم، سيدة هاديس، كلب هاديس الصائد ، وبجوار ذلك الحيوان ينتصب مذبح ملىء بالقرابين، يتموضع فى المدخل فى الحرم الداخلى، وداخل الحرم يجلس أوزوريس نفسه على عرش، الكائن الخير، يمسك صولجاناً بيد ، وفى اليد الأخرى كرباج ، يجلس كقاضى، مستعداً للتعامل مع روح المتوفى تبعاً لما كتبه تحوت فى اللفيفة المتعلقة بوزن نتيجة وزن القلب فى الميزان. ومقابل أوزوريس يوجد نقش يحتوى على بعض ألقابه ، والتى يمكن قرائتها هكذا، أوزوريس ، الكائن الخير، الإله ، سيد الحياة، الإله العظيم، سيد الخلود ، سيد الجنة والجحيم ، فى هاديس ، الإله العظيم، سيد مدينة أبت ، وملك الخلود الماضى ، تحت عرشه كُتبت كلمات ، الحياة والصحة ، عدة مرات .
إنه من الواضح من مقارنة هذه الصورة بما قرأناه فى كتاب عهد إبراهيم وفى القرآن ، أن الميزان المذكور فى القرآن والأحاديث مأخوذة أصلاً من الأساطير المصرية القديمة ، من خلال الأفكار المسيحية القبطية(92) المذكورة فى كتاب عهد إبراهيم، والتى تناقلت شفوياً من جيل إلى جيل فى مصر ، موطن ميلادهم.
11- أسطورة فرح وحزن آدم فى السماء
فى الآية الأولى من سورة الإسراء نقرأ رواية مختصرة عن رحلة محمد الأسطورية إلى السماء ، والتى تحتل مساحة كبيرة من أحاديثه ، وتقول الآية (سبحان الذى أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام(93) إلى المسجد الأقصى(94) الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع العليم).
وفيما يخص معراج محمد ، كما يسمى ، فسوف نعالجه بالتفصيل فى الفصل التالى(95) ولكنا نشير إليه هنا فقط لكى نقدم الحديث المعنى بجزء من تجربة محمد فى تلك الرحلة الشهيرة ، و المذكورفى كتاب مشكاة المصابيح للخطيب التبريزى، حيث أخبرنا عن مشهد رآه عند دخوله إلى الجزء السفلى من السماء السابعة:
( وعندما فُتح لنا السماء السفلى(96) كان هناك رجل جالس ، وعلى يمينه أشكال سوداء، وعلى يساره أشكال سوداء ، وعندما ينظر إلى يمينه يضحك، وعندما ينظر إلى يساره يبكى، فسألت جبريل، من هذا ، فقال هذا آدم، وهذه الأشكال السوداء على يمينه وعلى يساره هى أرواح أبنائه، والذين على اليمين سوف يدخلون الجنة ، والذين على اليسار سوف يدخلون جهنم ، ولذلك فهو عندما ينظر إلى اليمين يضحك ، وعندما ينظر إلى اليسار يبكى).
إن هذا الحديث يمكن تتبعه أيضاً فى كتاب عهد إبراهيم ، كما يثبت المقتطف التالى :
وأدار ميكائيل(97) العربة الحربية وحمل إبراهيم بإتجاه الشرق، عند البوابة الأولى من السماء، حيث رأى إبراهام طريقين، أحدهما قصير وضيق ، والآخر عريض وواسع ، وهناك رأى بوابتين، واحدة عريضة تقابل الطريق العريض، وواحدة ضيقة تقابل الطريق الضيق، و يقول إبراهيم ، وخارج البوابتين رأيت رجلاً جالساً على عرش مغطى بالذهب ، ذو مظهر مهيب كأنه الرب ، ورأيت كثيراً من الأرواح تقودها الملائكة خلال البوابة العريضة ، كما رأيت قليل من الأرواح الأخرى تحملها الملائكة خلال البوابة الضيقة، وعندما رأى الرجل المهيب الذى كان يجلس على العرش الذهبى القليل منهم داخلاً خلال البوابة الضيقة، بينما الكثير منهم داخلاً خلال البوابة الواسعة ، فعلى الفور أمسك بشعر رأسه ولحيته وألقى بنفسه على الأرض باكياً نادباً، وعندما رأى كثير من الأرواح داخلة من البوابة الضيقة نهض من الأرض فى سعادة غامرة وجلس على العرش فرحاً مبتهجاً ، فى بهاء عظيم. وسأل إبراهيم رئيس الملائكة ميكائيل، سيدى كبير الملائكة، من هذا الرجل المهيب المزين بمثل هذا البهاء، والذى يبكى ويندب وفى وقت ويفرح ويبتهج فى وقت آخر، فقال الملاك ، هذا آدم، أول إنسان مخلوق، صاحب المجد الذى يرى كل العالم لإن الجميع جاء منه ، وهو عندما رأى كثيراً من الأرواح داخلة من البوابة الضيقة ، نهض وجلس على عرشه فرحاً مبتهجاً فى سعادة غامرة ، لإن هذه البوابة الضيقة هى بوابة العدل التى تقود إلى الحياة، وهؤلاء الذين دخلوا خلالها سوف يذهبون إلى الجنة ، ولذلك فقد فرح آدم لإنه رأى الأرواح تنقذ ، ثم وعندما رأى كثيراً من الأرواح داخلة من البوابة العريضة، أمسك بشعر رأسه وألقى بنفسه على الأرض باكياً نادباً بحسرة لإن البوابة العريضة بوابة المذنبين التى تقود إالى الهلاك والعقاب الأبدى.
12- أسطورة الإقتباس من العهد الجديد:
وأخيراً يمكن أن نسأل ، هل أخذ محمد أى شئ من العهد الجديد نفسه ، حيث أنه قد أخذ القدر الأعظم من تعاليمه من مصادر مسيحية منتحلة؟
وفى الإجابة على هذا السؤال ، فنحن مضطرين للإقرار بأنه قد أخذ قليلاً للغاية من العهد الجديد فى الواقع، و ربما نقول أنه قد تعلم منه بطريق غير مباشر، أن يسوع قد ولد بدون أب بشرى، وأنه كان فى مهمة إلهية ، وقد صنع معجزات ، وكان لديه عدد من الحواريين ، وصعد إلى السماء ، كما أنكر إلوهيته وموت الفدا وبالتبعية قيامته. كما علم كثير من التعاليم المناقضة للمبادئ الأساسية للإنجيل، وذلك فى رغبته لإن يحل مكان المسيح، وإقناع الناس للقبول بإدعائه بأنه آخر وأعظم الأنبياء، وقد رأينا أنه فى القرآن والأحاديث نجد مراجع مشوهة لآيات من العهد الجديد ، مثل ماقيل عن نزول المائدة ، والنبؤة المفترضة بمجئ محمد، ولكن يوجد فقط آية واحدة فى القرآن والتى يمكن أن يقال أنها تحتوى على إقتباس مباشر من الإنجيل، وهى الآية 40 من سورة الأعراف ( إن الذين كذبوا بآياتنا وإستكبروا عنها لايفتح لهم أبواب السماء ولايدخلون الجنة حتى يلج الجمل فى سم الخياط وكذلك نجزى المجرمين). إن هذه الآية هى تقريباً إقتباس مباشر لما جاء فى إنجيل لوقا (لإن دخول جمل من ثقب إبرة ، أيسر من دخول غنى إلى ملكوت الله) وقد جاءت آيات مشابهة فى إنجيل متى وإنجيل مرقس أيضاً.
وبالإضافة إلى ذلك يوجد فى الأحاديث مثال واضح للغاية للإستشهاد من أعمال الرسل، وهو إستشهاد مفضل لكثير من المسلمين المستنيرين، والذين ليس لديهم أدنى فكرة عن أنه مأخوذ من الإنجيل، فقد قيل أن أبو هريرة (98) قد نسب إلى محمد القول بأن الله العلى القدير قد قال ( أعددت لعبادى الصالحين ما لا رأت عين ولاسمعت أذن، ولاخطر على قلب بشر) والذى يمكن الإدراك فوراً أنه إقتباس من الرسائل إلى أهل كورنثيوس(مالم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ، ماأعده الله للذين يحبون) مما يجعل من تأكيد أبى هريرة ، المكنى بالكذاب ، أنه قد سمع محمد ينطق هذه العبارة أمراً مشكوكاً فيه. ومع ذلك فالآيات 22-23 من سورة القيامة ( وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة) والتى تشير إلى الرؤية السعيدة (99) أى رؤية الصالحين للإله مباشرة، والمذكورة فى إنجيل يوحنا والرسالة إلى أهل كورنثثيوس ، قد تمنح إدعائه بعض المصداقية.
ومن الفحص المتأنى لكل ماعالجناه فى هذا الفصل ، يمكننا أن نستخلص أن تأثير التعاليم المسيحية الأصلية والحقيقية على القرآن وعلى الإسلام بشكل عام هى فى الواقع قليلة للغاية، بينما ومن جهة أخرى، نجد أن العقائد المنتحلة والهرطوقية قد لعبت دوراً كبيراً كأحد المصادر الأصلية للعقيدة المحمدية(100).
الهوامش
1-سير وليم موير حياة محمد الطبعة الثالثة ص 84
2- المسيحية القديمة - المجلد الأول- ص 266
3-فراغ فى الهامش
4- القرن السابع - الجزء الثانى - الفصل الثالث - جون لورنز موسهيم - طبعة ريد الأولى
5- مستشهد بها فى كتاب دكتور كويل ، محمد والمحمدية ص 136
6-سير وليم موير - حياة محمد - الطبعة الثالثة ص 20-21 ، حيث يتكلم هنا عن زيارة محمد لسوريا
7- حياة محمد ص 143-144
8- الآية 6 من سورة الصف (وإذ قال عيسى بن مريم يابنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقاً لما بينى يدى من التوراة ومبشراً برسول يأتى من بعدى إسمه أحمد - أحمد هو نفس إسم محمد - وقد أخطأ محمد أو مخبره ، الذى سمع عن تلك النبوءة من سفر محمد ، سواء جهلاً أو عمداً ، حيث لم يرد له ذكراً فى العهد الجديد فعلاً.
9- الآية 40 من سورة آل عمران(إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه إسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً فى الدنيا والآخرة ومن المقربين) والآية 171 من سورة النساء ( ياأهل الكتاب لاتغلوا فى دينكم ولاتقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولاتقولوا ثلاثة إنتهوا خيراً لكم)
10-المقاطعة التى وجد بها الكهف
11- المؤمنون والكفار
12- بحيث لايلمسهم
13- المقصود به الكهف
14- يوم القيامة
15- محمد
16- آخرون يقولون اليهود ولكن هذا غير محتمل
17-إبن العبرى - تاريخ مختصر الدول - ص 142 - والسمعانى ، الكتاب المقدس الشرقى، ص 335
18- المخطوطات السريانية ص 1090
19-أنظر الجلالين وعباسى
20- مجد الشهداء الفصل 95
21- فراغ فى الهامش
22-فى صحيح مسلم - كتاب الأدب- أخبرنا أن مسيحى نجران سألوا المغيرة عن هذا الخطأ الفادح ، والذى سأل محمد عن ذلك لكنه لم يحصل منه على إجابة شافية
23-ولكن الفردوسى يتبع الأفيستا هنا فى إخبارنا أن فريدون تزوج من هاتين الفتاتين أرنواز وشهرناز ، وإن هذا يذكرنا بالمثل المشهور عن هوميروس بأنه حتى الشاعر العظيم ينام ، أى حتى الشاعر العظيم يمكن أن يخطىء.
24-إبراهام غيغر ، ماذا أخذ محمد عن اليهودية ص 172
25-إشارة إلى القانون الذى منع اى شخص بإستثناء الكاهن من دخول قدس الأقداس
26- محمد
27- القرآن - المفسرون
28- محمد
29- الملاك جبريل والذى يسميه المسلمون الروح القدس
30- عفيفة
31-يسوع
32-لاحظ أداة التعريف بشجرة النخيل، أى تحديد نوع الشجرة
33-يشك المفسرون إذا ما كان هذا يسوع أو جبريل
34-بمعنى إفرحى وقرى عيناً بمولد طفلك الذكر كما يقال عادة فى الشرق
35-الطفل
36- عفيفة
37- يسوع
38-الإنجيل
39-إنجيل يعقوب الصغير المعروف بالبروتيفانجليوم، فصول 3-4-5
40-هكذا فى الأحاديث المحمدية ، كما رأينا ، تسمى أم مريم بحنة
41- المرجع السابق 7-8-9-11
42-الأناجيل القبطية المنتحلة، 15 الجزء الثانى ، الآيات 10-12
43- المرجع السابق ، فصل 3-4- ص 132
44- إنجيل يعقوب الصغير فصل 15
45- المرجع السابق ، فصل 18
46-المشهد المذكور هنا غير مذكور فى القرآن ، كما لم تسجله الأحاديث المحمدية بشكل واضح بالإشارة إلى ميلاد المسيح ، إنه بناء على هذا الوصف المذكور هنا كتب ميلتون قصيدته (عند صباح ميلاد المسيح ) لا حرب ، أو صوت معركة سمعها العالم المحيط، لقد تعلق الرمح الكسول والدرع عالياً،وتوقفت عربات القتال لاتلوثها دماء الأعداء،ولم يستدعى البوق الحشد المسلح، لكن كان الليل سلاماً حيث إبتدأ حكم سلام أمير النور على الأرض ، وقد جلست طيور الهدوء تتأمل على موجة مسحورة، ووقفت النجوم المندهشة تحدق فى ثبات ، إلى آخره ) لكن شيئاً من هذا الوصف قد ترك أثره على أسطورة محمد فيما بعد ، فيما يخص مولده ، فقد ذُكر فى روضة الأحباب أن فاطمة إبنة عبدالله قد قالت ، لقد كنت مع آمنة ، أم محمد، عندما جاءها طلق الولادة، وعندما نظرت إلى السماء رأيت النجوم تميل نحو الأرض حتى تصورت أنها ستسقط ، أو وتبعاً لرواية أخرى ، كانت النجوم قريبة للغاية من الأرض حتى تصورت أنها ستقع على رأسى - نقلاً عن دكتور كويل فى كتابه محمد والمحمدية ص 257).
47-أنظر مسرحية بلوتوس ، أمفيترو ، الفصل الأول ، المشهد الأول ، السطور 115-120
48- تاريخ ولادة مريم ، الفصل 20
49- أنظر الطريق الثمانى النبيل ص 69-70
50- المرجع السابق ص 196 ومابعدها
51-Sa mangalasalammulan ganta etc..
52-Yadpassanti pavane darika etc … verses 34-35
(وجدت قصة ولادة بوذا تحت شجرة أيضاً فى تاريخ بوذا الرومانسى ، الذى ترجمه بيل عن السنسكريتية الصينية، ص 43 ، وأيضاً فى الملك فو ياو ، المرجع نفسه ص 347) إن التصور عن نشأة مريم فى المعبد هو بالإضافة إلى إسم أمها آنة - حنة - هو بالطبع مأخوذ من قصة نذر حنة أم صموئيل ، لكنه دليل على الجهل التام فى تصور أن نفس الشئ يمكن أن يحدث لفتاة ، وأكثر من ذلك ،كما تدعى الكتب المنتحلة ، أن مريم قد نشأت فى قدس الأقداس.
53- الكتاب الأول ص 34 طبعة كويل
54- بيل ، الأسطورة الرومانسية ص 44
55-نسخة بيل عن الملك فوشو هنجتسان ص 3-4
56- تذكر فى يشت زامياد الزرادشتى ، رواية مشابهة إلى حد ما ، عن الكلام عند الميلاد ، تتعلق بولادة العملاق سانفيدكا عندما قال وهو مازال صغيراً ، مازلت رضيعاً ، ولم أكبر بعد، فإذا ماكبرت ، سوف أجعل من الأرض عجلة، وسوف أجعل من السماء مركبة، وسوف أنزل الروح الخيرة من السماء العليا المشرقة ، سكن أهورا مازدا ، المشابهة لعرش محمد ، وسوف أجعل الروح الشريرة تصعد من الجحيم التعس ، وسوف يحملان مركبتى، كلاهما ، الروح الخيرة والروح الشريرة ، إلا إذا ذبحنى كيرسسبا ، ذو القلب البشرى . إن ذكر العجلة والمركبة فى هذه الفقرة يشير بوضوح إلى تأثير بوذا فى فارس ، وتذكرنا بماقيل عن كيف أدار بودا عجلة القانون ، بما يتضمن إدعائه بالسيطرة الكونية، ومن ثم فإن فكرة كلام الرضيع عند مولده ، تبدو أيضاً ليست زرادشتية أصيلة ، ولكن بوذية.
57- المائدة تعنى طاولة مليئة بالطعام
58-الكلمة المستخدمة هنا دائما ماتنطبق على حوارى المسيح بشكل حصرى ، وهى كلمة إثيوبية، فهل يظهر ذلك أى علاقة بين الخرافة وبين بعض الأساطير الشائعة فى إثيوبيا حيث لجأ أولى أتباع محمد إلى هناك؟
59- إلى المائدة
60- هذه التعبيرات تظهر أن هناك إشارة إلى تأسيس العشاء الربانى
61-أثناسيوس ضد آريوس ، الجزء الرابع ، الفصل الأول
62-Neque Passum eum et Simonem
63-لهدفنا الحالى ليس من الضرورى أن نشير إلى الفرق بين رواية إرانوس وبين صعود هيبوليتوس المذكور فى كتابه فيلوسوفومينا ، فرغم إختلاف الروايتين فى كثير من الأوجه ، فإنهما يتفقان فى إظهار الحقيقة العامة لوجهات نظر باسيليديس الغنوصية فى هذه المسائل.
64-فراغ فى الهامش
65-المانوية ، وليس من الضرورى هنا أن نرجع إلى ماورد فى إنجيل برنابا من أن يهوذا قد صلب بدلاً من المسيح، لإن هذا العمل كتب بعد زمن طويل من عصر محمد ن إن الأحاديث الإسلامية المختلفة والمتناقضة نوعاً ما ، فيما يتعلق بإذا ماكان المسيح قد مات أم لا، وإذا ماكان قد مات ، فكم من الوقت ظل ميتاً، ومن الذى ُصلب مكانه ، قد عولجت فى كتابى (دين الهلال) الملحق ألف.
66-ويل ، أساطيرالكتاب المقدس الإسلامية، ص296 ومابعدها
67- المرجع السابق ص 274-275
68- المرجع السابق 249-550
69-هذا لقب المسيح الدجال
70-قصص الأنبياء ص 275 ، وتاج العروس ص554
71-فراغ فى الهامش
72-الأناجيل القبطية المنتحلة ص 108-109
73-عروس المجالس ص554
74-قصص الأنبياء ص 275
75- ص 142 هامش 1
76- لجأ المنويون إلى الجزيرة العربية قبل زمن محمد بوقت طويل – بوسوبر – تاريخ المانوية - الجزء الأول – الفصل الرابع
77-معظم معلوماتنا عن مانى نفسه مأخوذة من الفهرست رغم أنه من الصعب القول على أى مصادر إستند المؤلف فى تصنيف هذا العمل ، وقد ولد مانى حوالى سنة 216 م وتعطى كتابات البطاركة كثيراً من المعلومات عن تعاليمه.
78-ربما يعنى الكتاب النفيس ، من الكلمات أرتا وإريستا الفيدية.
79-أنظر هامش 2 ص 55 أعلاه
80-قصص الأنبياء ص 11
81-الكتاب الرابع
82- ص242 ، ومابعدها
83-ربما خلط محمد المولود الأول فى هذه الفقرة ، بإصطلاح المولود الأول المنطبق على آدم بشكل مكرر فى كتاب عهد إبراهيم ، أنظر أدناه ، ص 208
84-ص 251 ومابعدها
85-منشورة فى نصوص ودراسات المجلد الثانى رقم 2
86-أنظر أمثلة فى كتاب ، عقيدة الهلال ، الملحق سى ، ص 242 ومابعدها
87- كتاب عهد إبراهيم ، الطبعة المنقحة آ ، الفصل الثانى عشر ص 91 ، والفصل الثالث عشر والرابع عشر، ص 92-93-113-114 و الطبعة المنقحة ب الفصل السابع.
-88- راجع سورة قاف الآيات – 16-17-20
89-كتاب الموتى ، المجلد الثالث ، ص 47
90- المرجع السابق ص 75
91-أنظر هامش ص 8 أعلاه
92-فى الأساطير الزرادشتية يبدو الميزان أيضاً بطريقة مشابهة للغاية لإستخدامه فى الأساطير المصرية، حيث يبدو راشنو أحد قضاة الموتى الثلاثة(راجع القصة الإغريقية عن نفس الواجب المنوط بمينوس ورادامانثوس وإكوس ، فى الفصل 79 من حوارات افلاطون) حيث يحمل ميزان فيه أعمال البشر الخيرة والسيئة ويتم وزنها بعد موتهم. وباقى القضاة هم مهر وساروشا أو مهر وساروش فى ألأساطير الفارسية بعد ذلك، وفى العصور الوسطى فى أوربا كان يفترض أن ميكائيل هو الذى يحمل ذلك الميزان.
93-الكعبة فى مكة
94-معبد أورشليم
95- ص 218 ومابعدها
96-المرجع السابق ص 521 ومابعدها
97-كتاب عهد إبراهام ، النسخة المنقحة أ ، الفصل الحادى عشر
98-مشكاة المصبابيح ص 487
99-عن فكرة محمد عن هذا ، أنظر كتاب عقيدة الهلال ص 116-118
100-فى كتابه الدراسات المحمدية ، المجلد الثانى ، ص 382 ومابعدها ، قدم البروفيسور جولدزايهر رواية مثيرة للإهتمام عن الطريقة التى إقتبست بها الأحاديث من مصدر مسيحى فى العصور التالية ، ولكن هذا موضوع يقع خارج نطاق إهتمامنا الحالى.




5- مؤثرات الزرادشتية
كان التأثير الذى مارسه الفرس على بعض أجزاء من الجزيرة العربية والمناطق المجاورة ، قبل وأثناء زمن محمد ، عظيماً جداً ، كما عرفنا من الكتاب العرب والإغريق على السواء ، ويخبرنا أبو الفدا على سبيل المثال ، بأنه مبكراً فى القرن السابع الميلادى وخلال الحقبة المسيحية، قام كوسران ، الغازى الفارسى الكبير ، أو كسرى أنو شروان ، كما يسميه العرب ، بغزو مملكة الحيرة الواقعة على ضفتى الفرات، وخلع الملك حيرا وولى مكانه تابع له يسمى المنذر بن ماء السماء، وبعد ذلك بوقت ليس بطويل أرسل أنو شروان جيشاً إلى اليمن بقيادة الجنرال وهرز لطرد الأحباش الذين إستولوا على البلاد وإعادة الأمير اليمنى أبا سيف بن ذى يزن إلى عرش أجداده (1) لكن القوة الفارسية بقيت فى البلاد وتولى قائدها فى النهاية عرش اليمن وأسس ملكية فى ذريته(2). ويخبرنا أبو الفدا(3) أن أمراء بيت المنذر الذين خلفوه فى الحيرة وحكموا العراق العربى أيضاً ، كانوا مجرد ولاة تحت حكم ملوك فارس ، وفيما يخص اليمن فإن أربعة حكام أحباش ، وثمانية أمراء فرس حكموا هناك قبل أن تعترف اليمن بسلطة محمد(4) ولكن حتى قبل زمن محمد فقد كان هناك كثير من التفاعل بين الشمال الغربى وغرب الجزيرة العربية وبين مناطق نفوذ الفرس. وقد عرفنا بأن نوفل والمطلب، إخوى جد محمد العظيم - هاشم بن عبدمناف، كانوا قادة قريش الرئيسيين، الذين وقعوا معاهدة مع الفرس سمح بمقتضاها لتجار مكة بالتجارة مع العراق وفارس حوالى سنة 606 م، وأن وفداً بقيادة أبو سفيان وصل إلى العاصمة الفارسية وإستقبل فى حضرة الملك(5).
عندما أعلن محمد النبوة سنة 612م كان الفرس قد إكتسحوا مناطق سوريا وفلسطين وآسيا الصغرى وملكوها لبعض الوقت ، وفى سنة الهجرة ، أى حوالى 622م ، كان الإمبراطور هرقل قد بدأ حملاته لإسترداد أراضى الإمبراطورية البيزنطة(الرومانية الشرقية) من الفرس ، وفى حدود زمن قصير، وبعد أن إضطر الفرس إلى طلب السلام نتيجة لتلك الحملات ، إضطر باذان حاكم اليمن الفارسى، وبعد أن يأس من طلب النجدة من الوطن الأم ، إلى الخضوع لمحمد ووافق على دفع الجزية سنة 628م. وفى خلال سنوات قليلة من وفاة النبى ، إكتسحت جيوش الإسلام فارس ، وحولت معظم أهلها إلى الإسلام بالسيف.
من الطبيعى ، أنه عندما تتفاعل أمتان عن قرب ، فإن الأمة المتقدمة فى الحضارة تؤثر فى تلك المتأخرة تأثيراً كبيراً ، كل التاريخ يعلمنا ذلك الدرس ، وفى زمن محمد ، كان العرب فى حالة من الجهل الشديد لدرجة أن كتابهم أنفسهم يصفون العصر السابق على الإسلام بعصر الجاهلية ، بينما كان الفرس، ومن جهة أخرى ، كما نعرف من الأفيستا ، والنقوش المسمارية لداريوس وإكسرسيس ، ومن أطلال برسيبوليس، القائمة حتى اليوم ، ومن كتابات الإغريق، وقبل زمن طويل ، على درجة عالية من التحضر ، ولذلك فقد كان من الطبيعى أن التفاعل بين الأمتين، سوف يترك تأثيره على العرب ، وليس العكس. فمن المؤرخين العرب ومن آيات القرآن ومفسريه يبدو واضحاً أن الأساطير الرومانسية وأشعار الفرس قد حظيت فى زمن محمد بدرجة كبيرة من الإنتشار بين العرب. وقد كان بعض من هذه الحكايات معروفاً بين القرشيين بشكل كبير ، لدرجة أن محمداً قد إتهم من قبل أعدائه بنقلها أو تقليدها فى القرآن ، فعلى سبيل المثال ، يقول إبن هشام ، أنه فى أحد الأيام ، عندما دعى محمد لإجتماع دعى فيه الناس إلى الإيمان بالله العلى القدير، وقرأ عليهم القرآن محذراً إياهم من مصير الأمم التى ستظل بعيدة عن الإيمان بالله، وقف النضر بن الحارث ، الذى تبع محمد إلى ذلك الإجتماع ، وأخبر الجمهور عن رستم العظيم ، وعن إسفنديار وملوك فارس ، ثم قال ، يا ألله ، محمد ليس راوى قصص بأفضل منى ، وخطابه ليس سوى أساطير الأولين ، ولقد إكتتبهم تماماً كما إكتتبتهم . وبناء على تلك الحادثة أنزل الله آيات سورة الفرقان(6)( وقالوا أساطير الأولين ، إكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلاً ، قل أنزله الله الذى يعلم السر فى السماوات والأرض، إنه كان غفوراً رحيماً) وكذلك آية سورة القلم والمطففين(7)( إذ تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين)و كذلك آية سورة الجاثية(8) (ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراُ كأنه لم يسمعها فبشره بعذاب أليم)(9). لم يكن جواب محمد عن تهمة النضر مقنعاً تماماً للجمهور، ولا كان كافياً لنا حتى نتوقف عن البحث فيما إذا كانت بعض آيات القرآن هى فعلاً من أساطير الأولين.
وبلاشك فقد كانت قصص رستم وإسفنديار وملوك فارس التى أشار إليها النضر، بين تلك القصص التى صنفها الفردوسى ، أشهر شعراء الملاحم فى تاريخ فارس ، بعد أجيال من ذلك التاريخ ، من مختارات جمعها أحد الفلاحين الفرس ، كما أخبرنا فى ملحمة الشاهنامة الشعرية . ولاشك أن كل تلك الحكايات الشعرية كانت قديمة للغاية فى شكل أو فى آخر، ولذلك فلايمكننا الإعتماد عليها لإنها أحدث من زمن محمد، ومن حسن الحظ أن لدينا معلومات فى الأفستا وفى كتب فارسية وزرادشتية قديمة أخرى، يمكننا أن نعتمد عليها فى بحثنا هذا.
ربما يمكننا أن نخلص بشكل آمن إلى أنه طالما كانت قصص ملوك فارس محببة لدى العرب وأنهم قد سمعوا عن رستم وإسفنديار، فمن غير المحتمل أن يكونوا جهلاء تماماً بقصة جمشيد ، ولا أنه من الممكن أن تكون الأساطير الفارسية عن صعود أرتا فيراف ، وزرادشت قبله ، إلى السماء، ووصفهم للجنة ، وجسر شينفات ، وشجرة الورد هافابا وأسطورة خروج أهرمان من الظلمة الأولية ، وحكايات رائعة أخرى مثل تلك الحكايات، قد ظلت غير معروفة تماماً للعرب. فإذا كانت معروفة فقد كان من الطبيعى أن يستخدمها محمد كما إستفاد من الأساطير اليهودية والمسيحية ، ولذلك فلابد أن نستفسر إذا ماكانت مثل تلك الخرافات قد تركت أى أثر على القرآن والأحاديث الشائعة بين المسلمين ، وسوف نرى أن الحالة لم تكن فقط هكذا، ولكن سنجد أن فى بعض الأمثلة فإن هذه الحكايات الفارسية كانت بوضوح من أصل آرى وليس من أصل سامى، وأنها قد وجدت فى أشكال معدلة بدرجة بسيطة فى الهند ايضاً ، والواقع أن بعضها كان جزءً من العقائد والميراث الثقافى للأمتين الفارسية والهندية ، وعندما إفترق الفرس والهندوس عن بعضهم البعض ، تاركين أوطانهم المشتركة القديمة، فى الأريانيمفيجو بالقرب من حيرات(10)، فقد هاجروا إلى فارس والهند على التوالى ، وحملوا معهم تلك الأفكار، وربما نشأ البعض منها فى فارس فى زمن لاحق ، وإنتشرت منها إلى الهند على مر الزمن. وسوف نرى أنها قد وصلت إلى مسامع محمد بالتأكيد ، وانها لم تكن بدون تأثير على القرآن والأحاديث ، التى يدعى تابعوه المخلصون أنهم سمعوها تروى من شفتيه.

1-أسطورة الرحلة الليلية - الإسراء والمعراج
إن أول مسألة سنعالجها هنا هى الرواية المشهورة عن رحلة محمد الليلية المعروفة بإسم الإسراء( الإسراء والمعراج) ، والتى سبق أن أشرنا إليها فى سورة الإسراء والمعروفة أيضاً بسورة بنو إسرائيل(11) (سبحان الذى أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا أنه هو السميع البصير).
إنه من المعروف جيداً أن مفسرى القرآن لم يتفقوا بأى شكل على معنى هذه الآية ، حيث إعتقد البعض أن محمداً قد حلم فقط بأنه قد قام بتلك الرحلة، بينما فسرها البعض تفسيراً حرفياً، وأضافوا إليها تفاصيل من الأحاديث، كما شرحها البعض بشكل غامض أو مجازياً ، فعلى سبيل المثال ، يخبرنا إبن إسحاق ذاكراً مرجعية حديثه إلى عائشة ، زوجة محمد الأثيرة أنها قالت (مافُقد جسد رسول الله ولكن ألله أسرى بروحه) ويسجل حديث آخر أن محمداً نفسه قال ( نامت عينى وقلبى يقظان)(12) ، وقد قبل المفسر الصوفى المشهور محيى الدين بن عربى ، كل الرواية بمعناها المجازى فقط (13) ومع ذلك وحيث أننا لسنا معنيين بمناقشة مسألة حدوث هذه الرحلة الليلية بالفعل أم لا، فلسنا فى حاجة لمعالجة مزيد من هذه التفسيرات. إنه من المؤكد أن الغالبية العظمى من مفسرى القرآن والحديث الممحمدين يعتقدون أن محمداً قد سافر بالفعل من مكة إلى أورشليم القدس ومن هناك صعد إلى السماء ، ويقدمون للمسلمين روايات طويلة وعميقة عما فعل وعما رأى هناك. وهذا هو الحديث الذى يجب أن نعالجه ، والذى يمكن أن نتتبع أثر ملامحه الرئيسية فى الأساطير المبكرة وخاصة فى المصادر الزرادشتية. إن هذا حقيقى ، سواء إعتقدنا كما تعتقد الغالبية العظمى من المحمديين ، أن محمداً نفسه هو الذى روى رواية إسرائه ومعراجه ، التى سنترجمها هنا ، أو إستنتجنا إن كل الأسطورة هى من نتاج زمن لاحق بعد محمد(14) ودعونا نستشهد برواية إبن إسحاق أولاً ، لإنها أولى الروايات التى وصلتنا ، والتى رواها إبن إسحاق ، صاحب السيرة التى لخصها إبن هشام بعده، حيث قال أن محمداً قد أكد أن جبريل جاءه وأيقظه مرتين للإسراء معه ليلاً ، لكنه كان يسقط نائماً فى كل مرة ، ثم إستطرد:
( ثم جاءنى الثالثة فهمزنى بقدمه ، فجلست فأخذ يعضدنى ، فقمت معه، فخرج إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض بين البغل والحمار، فى فخذيه جناحان يحفز بها رجلين ، يضع يده فى منتهى طرفه ، فحملنى عليه ، ثم خرج معى لايفوتنى ولا أفوته ، وقال أيضاً ، حدثت أن رسول الله قال ، لما دنوت لأركبه شمس، فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحى يابراق مما تصنع؟ فوالله يابراق ماركبك عبد لله قبل محمد أكرم على الله منه ، فأستحيا - البراق - حتى أرفض عرقاً، ثم قر حتى ركبتيه، فمضى رسول الله ومضى جبريل معه حتى إنتهى به إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى فى نفر من الأنبياء ، فألهم رسول الله فصلى بهم ثم أتى بإنائين فى أحدهما خمر وفى الآخر لبن ، فأخذ رسول الله إناء اللبن فشرب منه وترك الخمر فقال له جبريل، هديت الفطرة وهديت أمتك يامحمد وحرمت عليك الخمر، ثم إنصرف رسول الله إلى مكة فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر فقال أكثر الناس هذا والله الأمر البين ، إن العير لتطرد شهر من مكة إلى الشام مدبرة وشهر مقبلة ، أفيذهب ذلك المحمد فى ليلة واحدة(15) ويرجع إلى مكة؟).
وبناء على هذه الرواية ، فقد سافر محمد فقط من مكة إلى أورشليم القدس وعاد فى ليلة واحدة، لكن الأحاديث اللاحقة وسعت الرحلة بشكل كبير ، مدعية أيضاً أنها نقلت عن محمد نفسه ، وتأتى القصة فى ،مشكاة المصابيح، على النحو التالى ، موثقة بنفس طريقة إسناد الأسماء التى نقلت عنها :
(وبينما أنا فى الحطيم مضطجعاً(16) أن أتانى آت ، فشق مابين هذه وهذه - من نحره إلى بطنه- فإستخرج قلبى ثم أتيت بطست من ذهب مملوء إيماناً فغسل قلبى ثم حشى ثم أعيد ، وفى رواية أخرى غسل البطن بماء زمزم ثم ملىء إيماناً وحكمة ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض يقال له البراق يضع خطوه عند أقصى طرفه ، فحملت عليه فإنطلق بى جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فإستفتح قيل من هذا؟ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد، قيل وقد أرسل إليه ، قال نعم قيل مرحباً به فنعم المجىء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال هذا أبوك فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحباً بالأبن الصالح والنبى الصالح ، وتمضى القصة بتكرار ممل لما يشبه نفس الرواية، مخبرة كيف أخذ جبريل محمد من سماء إلى سماء، مستقبلاً نفس السؤال على كل باب، تماماً بنفس الإجابة، ففى السماء الثانية قُدم محمد ليوحنا المعمدان ويسوع ، وفى الثالثة إلى يوسف وفى الرابعة إلى إدريس ، وفى الخامسة إلى هارون وفى السادسة إلى موسى ، الذى بكى ، وعندما سئل لماذا تبكى أجاب بأنه يبكى لمعرفته بأن كثيراً من أتباع محمد سوف يدخلون الجنة بأكثر مما سيدخل أتباعه ، وفى السماء السابعة إلتقى محمد بإبراهام ، وجرت نفس الترحيبات المعتادة ، ويستطرد محمد ، وبعد ذلك حُملت وحدى إلى سدرة المنتهى (17) وياللهول، فقد كان نبقها مثل قلال هجر، وأوراقها مثل آذان الفيلة ، وبها أربعة أنهار ، إثنان باطنان وإثنان ظاهران، سألت عنهم جبريل فقال ، فأما الباطنان فنهران فى الجنة ، وأم الظاهران فالنيل والفرات . وتمضى الفقرة لتذكر كثير من التفاصيل الأخرى للرحلة ، ومن بينها قصة بكاء آدم ، التى سبق لنا ذكرها(18) ولاداعى لذكرها هنا مرة أخرى.
فى الأعمال المشهورة(19) التى يستقى معظم المسلمين المحدثين معرفتهم عن حياة نبيهم منها، تمتلىء قصة المعراج بمزيد من الأعاجيب ، فعندما وصل محمد إلى سدرة المنتهى، حيث لم يجرؤ جبريل على التقدم معه لأبعد من ذلك ، تكلف الملاك إسرافيل بمسئولية محمد ، وقاده خلال منطقته ، حيث إقترب النبى من عرش الله مباشرة، والذى أمره بصوته أن لايخلع نعليه ، حيث أن ملمسهم سوف يشرف حتى بلاط الإله نفسه(20) وبعد قليل من التفاصيل الأخرى، والتى تبدو للعقل العادى سخيفة تجديفية ، نعرف أن محمداً دخل خلف الحجاب (21) وأن الله قال له ، السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا أيها النبى ، ففى هذه الروايات المتأخرة للمعراج نجد الأسطورة غير مقيدة بأى إعتبار للعقل أو للحقيقة.
والآن ، لابد لنا الآن أن نستفسر عن المصدر الذى أخذ منه محمد فكرة هذه الرحلة الليلية، والواقع أنه من المحتمل جداً أن الأسطورة ، كما رواها محمد فى البداية كانت مجرد حلم، كما يبدو أنها لم تحتوى على أى ذكر للصعود إلى السماء، إذا ماإعتبرنا الآيات الواردة فى سورة النجم من تاريخ لاحق( ولقد رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ، عندها جنة المأوى ، إذ يغشى السدرة مايغشى ، مازاغ البصر وماطغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى). ولذا يجب أن نعالج الرواية المذكورة فى الأحاديث ، وهذه تذكر بالتفصيل قصة الصعود للسماء ، أو المعراج، وسوف نرى أن هناك سبب وجيه للإعتقاد بأن الأسطورة فى ذلك الشكل هى أسطورة مخترعة لكى تظهر تميز محمد عن باقى ألأنبياء ، وربما إحتوت على عناصر من أنحاء عديدة ، ولكنها تبدو وقدإعتمدت بشكل أساسى على رواية صعود أرتا فيراف المذكورة فى الكتاب الفارسى المسمى بكتاب(22) أرتا فيراف ، والذى تم تصنيفه فى أيام أردشير بن بابك ، ملك فارس، حوالى أربعمائة سنة قبل هجرة محمد ، وذلك إذا ماصدقنا الروايات الزرادشتية.
يخبرنا ذلك العمل ، كتاب أرتافيراف - أرتافيراف نامة ، أن الكهنة المجوس عندما وجدوا أن العقيدة الزرادشتية فقدت سيطرتها بشكل كبير على عقول الناس فى الإمبراطورية الفارسية، فقد قرروا أن يساندوا حماس الملك أردشير لإسترداد العقيد بأدلة جديدة ، ومن ثم فقد إختاروا كاهن شاب تقى وجهزوه بالعديد من طقوس التطهر الإحتفالية من أجل الصعود إلى السماوات ، كى يرى ماذا هناك ويعود بشهادته إذا ماكان ذلك موافقاً للمذكور فى كتبهم الدينية أم لا ، وتقول القصة المذكورة أنه عندما كان هذا الشاب أرتافيراف فى حالة من الغفوة ، صعدت روحه إالى السماء بقيادة ملاك كبير يسمى ساروش ، ومرت من دور إلى دور من أدوار السماوات ، فى صعود تدريجى حتى وصلت إلى حضرة أهورا مزدا نفسه(23). وبعدما رأى أرتافيراف كل شىء فى السماوات ورأى سعادة سكانه ، أمره أهورا مزدا بالعودة إلى الأرض كرسول له وإخبار الزرادشتيين عما رأى ، وقد ذكرت كل رؤاه بالتفصيل فى الكتاب المذكور الذى يحمل إسمه ، وليس من الضرورى أن نذكرها هنا بإسهاب ، حيث أن بعض إستشهادات قليلة منها فقط ، سوف تظهر لنا بوضوح كيف أنها تمثل النموذج لمعراج محمد.
يقول أرتافيراف فى كتابه( وخطوت الخطوة الأولى نحو دور النجوم فى هيمات، ورأيت أرواح المقدسين، والتى ينبعث منها نور مثل نور النجوم المشرقة، وكان هناك عرش، ومقعد ، مشرق مرتفع بهى ، ثم إستفسرت من المقدس ساروش، ومن الملاك أدهار، ماهذا المكان؟ ومن هؤلاء الأشخلص؟.
ولكى نشرح تلك الفقرة يجب ان نذكر أن دور النجوم أو طابق النجوم هو القاعة الأولى من الجنة الزرادشتية وأن أدهار هو الملاك الذى يرأس النار، وساروش هو ملاك الطاعة وأحد المقدسين الخالدين، وكبير الملائكة فى العقيدة الزرادشتية(أميشاسباندس). وقد قاد أرتافيراف خلال السماوات المختلفة ، تماماً كما فعل جبريل مع محمد.
وتمضى القصة لتروى كيف وصل أرتافيراف لطابق القمر، أو الطابق الثانى ، ثم إلى طابق الشمس، الذى يعتبر الطابق الثالث فى البناء السماوى الزرادشتى ، وبنفس الطريقة تم أخذه من سماء إلى سماء حتى دخل إلى حضرة أهورا مازدا، وخضع للمقابلة التى تم تلخيصها فى الكلمات التالية:
( وأخيراً نهض من عرش مطعم بالذهب، كبير الملائكة بهمان، وأخذ بيدى، وأحضرنى إلى همات وهوكوت وهورسات(24) بين أهورا مزدا وكبار الملائكة وباقى المقدسين ، وخلاصة زرادشت ، العقل المحض، وباقى المؤمنين ورؤساء العقيدة، والذىن لم أرى أبهى منهم أبداً، ثم قال بهمان ، هذا أهورا مزدا، فقدمت التحية أمامه، فقال لى التحية لك ياأرتافيراف ، مرحباً بك ، لقد أتيت من ذلك العالم الزائل لهذا المكان المطهر المشرق، وأمر المقدس ساروش والملاك أدهار إحملوا أرتافيراف وأرونه العرش وجائزة المقدسين وأيضاً عقاب الأشرار، فأخذ المقدس ساروش والملاك أدهار يدى وحملونى من مكان لمكان، فرأيت كبار الملائكة هؤلاء ، ورأيت الملائكة الآخرين). وبعد ذلك نعرف بشكل مسهب كيف زار أرتافيراف الجنة والجحيم ، وماذا رأى فى كل منها ، حيث تقول القصة بعد زيارته للجحيم :
(وفى النهاية أخذ المقدس ساروش(25) و الملاك أدهار بيدى وأخرجانى من ذلك المكان المظلم البشع المرعب، وحملانى إلى ذلك المكان المشرق، حيث إجتماع أهورا مزدا والملائكة، فقدمت التحية أمام أهورا مزدا، الذى كان طيباً وتقبلها قائلاً ، آه أيها العبد المؤمن المقدس أتافيراف ، مبعوث عباد أهورمزدا ، إذهب إلى العالم المادى وتكلم مع كائناته ، عما رأيت وعرفت هنا ذلك أننى أنا أهورامزدا هنا أعرف بكل من يتكلم بالعدل والحقيقة ، أسمع وأعرف ، تكلم إلى الأبناء الحكماء. وعندما تكلم أهورا مزدا بهذه الطريقة ، ظللت مشدوهاً ، حيث رأيت نوراً ولم أرى جسداً، وعرفت أن هذا هو أهورا مزدا). وبالطبع فليس من الضرورى أن نشير إلى مدى التشابه الكبير بين كل هذا وبين أسطورة المعراج المحمدية.
وفى كتاب زرادشت نامة ، الذى صنف فى حوالى القرن الثالث عشر من الحقبة المسيحية ، ذكرت أسطورة تقول أن زرادشت نفسه ، بعدة قرون قبل أرتافيراف ، قد صعد إلى السماء ، ثم حصل على تصريح بعد ذلك لزيارة الجحيم أيضاً ، وقد عرفنا منها أنه قد رأى أهريمان ، الذى يشبه إبليس القرآن تماماً.
إن مثل هذه الأساطير لاتقتصر على الجزء الفارسى من العالم الآرى ، ففى السنسكريتية أيضاً ، يوجد مثل تلك القصص ، والتى يمكن أن نذكر منها قصة إندرا لوكاجمنام ، أو الرحلة إلى عالم إندرا ، إله المناخ ، ففى هذه القصة نعرف أن أن البطل أرجونا قد قام برحلة خلال السماوات ، حيث رأى قصر إندرا السماوى المسمى فيفانتى ، والذى يقف فى الحديقة المسماة ناندانام . وتخبرنا الكتب الهندوسية أنه كان هناك ينابيع عزبة دائمة التدفق ونباتات خضراء تنمو فى ذلك المكان الجميل ، وفى منتصفه كانت تنتصب شجرة تسمى بكشاجاتى ، تحمل فاكهة تسمى أمريتا ، التى تشبه الخلود عند شعراء الإغريق ، من يأكل منها لايموت أبداً ، كما كان هناك أزهار جميلة متعددة النوع تزين هذه الشجرة ، وكانت أمنية كل من يستريح فى ظلها تتحقق.
وعند الزرادشتيين أيضاً رواية عن وجود شجرة عجيبة تسمى هافاب فى الأفيستا والهومايا فى البهلوية ، والمعنى فى كل حالة يعنى المروية من ماء طيب ، وتوصف فى الفينديداد بالكلمات التالية(26) يتدفق الماء مطهراً من بحر بوتيكا إالى بحر فوركاشا ، إلى شجرة هافاب، حيث تنمو كل النباتات وكل الأنواع، هافال وبكشاجاتى تتشابهان تماماً مع التوبا، أو شجرة الخير فى جنة محمد، والتى تغنى معرفتها التامة عن وصفها هنا.
ومع ذلك يجب أن نلاحظ أن أساطير مماثلة للغاية وجدت أيضاً فى أعمال مسيحية منتحلة ، خاصة فى رؤية بولس ، وكتاب عهد إبراهيم، والذى سنضطر للإشارة إليه أكثر من مرة. وفى رؤية بولس نعرف أن بولس قد صعد إلى السماوات ورأى الأنهار الأربعة للجنة كما رأى إبرهام أيضاً عجائب الجنة فى كتابه االأسطورى. وقد رجع كل منهما إلى الأرض ليروى مارأىن تماماً كما فعل أررتافيراف ومحمد، وبخصوص إبراهيم يقال أن الملاك ميكائيل(27) نزل وصعد بإبرهيم على عجلة ملائكية، وأنه قد رفعه وحيداً إلى أثير السماء وأحضره مع ستين ملاكاً إلى السحاب، وأن إبراهام قد سافر فوق كل الأرض المسكونة على مركبة. إن هذه المركبة الملائكية تفترض وسيلة أخرى ، لإنه فى أسطورة محمد فقد ركب حيوان إسمه البراق، حيث أن الركوب هو فكرة أقرب إلى العقلية العربية من القيادة، وربما تكون كلمة براق مشتقة من الكلمة العبرية برق ، أى البرق ، والتى تعنى برج او البرج فى العربية، رغم أن إشتقاقها من البهلوية هو أمر ممكن أيضاً.
وقبل المضى لمعالجة نقاط أخرى ، يجب أن نذكر أن كتاب أخنوخ(28) يحتوى على رواية طويلة عن عجائب الأرض ، والجحيم والسماء ، التى رآها أخنوخ فى رؤاه. إن هذا العمل المنتحل له تأثير لاشك فيه على الأساطير المحتواى فى رؤيا بولس وعهد إبراهيم و على خرافة محمد أيضاً ، لكنا لايمكن أن نفترض أنها قد أثرت على أسطورة أرتافيراف أيضاً ، وعلى كل حال فهذا موضوع يخرج عن نطاق بحثنا.
والآن وفيما يخص شجرة الحياة فى جنة عدن ، يملك اليهود كثير من القصص العجيبة(29) والتى يمكن أن تكون منقولة من القصص الأكدية المتعلقة بالشجرة المقدسة إريتو، المذكورة فى كثير من النقوش المبكرة التى إكتشفها دكتور هيلبرت فى نيبور، والتى لانجد أنفسنا مضطرين للتعامل معها بإسهاب الآن. فقط علينا ملاحظة عظم التناقض بين كل تلك الأساطير وبين الرواية البسيطة الحقيقية لسفر التكوين. وقد أثرت الأساطير اليهودية فى الرواية المحمدية عن الجنة السماوية لإن المسلمين يعتقدون أن جنة عدن تقع فى السماء، ومن ثم فقد حولوا إلى الجنة السماوية كثيراً مما رواه اليهود عن الجنة الأرضية. وفى هذا الخصوص ربما يكونوا قد ضللوا بسبب الكتب المسيحية المنتحلة، لإن وصف الأنهار الأربعة الموصوف فى رؤيا بولس ينبع بوضوح من نفس هذا الوهم الغريب. إنه ليس من الضرورى أن نقول ، أن هذه الكتب المنتحلة لم تقبل أبداً من قبل أى فرع من الكنيسة المسيحية على أنها ذات أى وزن أو مصداقية، رغم أن بعضها كان له فى وقت ما درجة كبيرة من الشعبية بين العامة. وقد عرف بعضها لزمن طويل ، والبعض قد أعيد إكتشافه حديثاً فقط بعد أن فقد لقرون، أما بالنسبة للتساؤل عما إذا كان المحمديون قد نقلوا روايتهم عن الشجرة ، توبا ، من الخرافات الزرادشتية أو من الخرافات اليهودية ، أو من كلاهما ، حيث أنهما من أصل واحد ، لم يترك بعض التأثير على قصة المعراج ، فلسنا فى حاجة للتساؤل ، فالأنهار الأربعة التى رآها محمد هى تلك المذكورة فى رؤيا بولس ، وهذه الأخيرة مطابقة لأنهار جنة عدن، بسبب الخطأ الذى لاحظناه سابقاً (أى الإعتقاد بأن جنة عدن فى السماء). و لكن ربما يمكن السؤال إذا ماكانت رواية الكتاب المقدس عن صعود إينوش وأليشا ، والرب ، واللحاق فى السماء الثالثة(30) بشخص إعتقد الكثيرون أنه القديس بولس ، لم تكن هى المصدر الأصلى لكل الخرافات التى قابلناها هنا(31). إنه من الصعب ومن غير الضرورى أن نفترض هذا بالنسبة إلى القصص الهندية والفارسية التى أشرنا إليها، ، رغم أنه قد يكون حقيقياً بالنسبة لبعض القصص الأخرى ، وفى كل الأحوال، فإننا نجد أن الأسطورة الإسلامية عن صعود محمد إلى السماء ،(32) قد إخترعت على غرار تلك المذكورة فى كتاب أرتافيراف، بهدف جعل محمد يبدو مشابهاً ، و متميزاً فى نفس الوقت عن المسيح ، وباقى الأنبياء الذين سبقوه.

2- أسطورة جنة محمد والحور العين
سوف نستشهد بالآيات التالية(33) كأمثلة على الأوصاف التى قدمها القرآن للجنة ، والتى ذكرت فى الآية 46 ومابعدها من سورة الرحمن( ولمن خاف مقام ربه جنتان ، فبأى آلاء ربكما تكذبان، ذواتا أقنان، فبأى آلاء ربكما تكذبان ، فيها عينان تجريان ، فبأى آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان، فبأى آلاء ربك تكذبان، متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان، فبأى آلاء ربك تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس مثلهم ولاجان فبأى آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأى آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأى آلاء ربكما تكذبان ومن دونهما جنتان فبأى آلاء ربكما تكذبان مدهامتان فبأى آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان فبأى آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان فبأى آلاء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان فبأى آلاء ربكما حور مقصورات فى الخيام فبأى آلاء ربكما تكذبان لم يطمسهم إنس قبلهم ولاجان فبأى آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر فبأى آلاء ربكما تكذبان تبارك إسم ربك ذى الجلال والإكرام)
وكذلك فى الآية 11 من سورة الواقعة( أولئك المقربون فى جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون ياكلون وأباريق وكأس من معين لايصدعون عنها ولاينزفون(34) وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون لايسمعون فيها لغوا ولاتأثيما إلا قيلاً سلاماً سلاماً وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين فى سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لامقطوعة ولاممنوعة وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً لأصحاب اليمين)(35).
إن هذه الأوصاف مقتبسة من الأفكار الفارسية والهندوسية عن الجنة ، رغم أن معظم التفاصيل والتصورات السيئة فيها ، تنبع من طبيعة محمد الشهوانية.
إن فكرة الحور مشتقة من الأساطير الفارسية القديمة عن البيراكاس ، والتى يسميها الإيرانيون المحدثون ، باريس، وهى كائنات يصفها الزراديشتيون كأرواح أنثوية تعيش فى الهواء وترتبط بالنجوم والضوء بشكل قريب للغاية. وهى فى غاية الجمال لدرجة أنها تأسر قلوب الرجال ، إن كلمة الحور التى تذكر بها فتيات الجنة تلك فى القرآن ، يفترض بشكل عام أنها من أصل عربى ، وتعنى سوداء العين ، وإن هذا ممكن جداً ، لكن الأكثر إحتمالاً أنها كلمة فارسية مشتقة من كلمة فير المذكورة فى الأفيستا، وكلمة حور البهلوية ، وخور فى الفارسية الحديثة، والتى تشير فى الأصل إلى الرشاقة والإشراق وشروق الشمش ، والشمس نفسها فى النهاية . وعندما إقتبس العرب تصور هذه الحوريات الرشيقة المشرقة من الفرس ، فربما يكونوا قد إقتبسوا أيضاً الكلمة التى تصفهم بأفضل شكل ، أى كلمة حور ، لقد كان من الطبيعى للعرب أن يجدوا معنى فى لغتهم لأى كلمة ، تماما كما حدث بشكل مشابه فى اللاتينية وأصبحت كلمة نبات الهليون اللاتينية أسبارجوس ، تعنى سبارو جريس فى الإنجليزية الحديثة ، وكما أصبحت كلمة مرتد أو منشق ، رينيجيد ، تعنى رينجيت فى الإنجليزية الحديثة ، وكما أصبح نبات عباد الشمس جيراسول ، يعنى جورساليم أرتيشوك فى الإنجليزية الحديثة ، أو فى الإغريقية ، فبعدما إتخذت الكلمة العربية وادى الشكل الهيلينيستى ، فقد أصبح يفترض أنها جاءت من الأصل اللاتينى لوكوس ، الذى يعنى الغابة ، بشكل قاطع لايحتاج لمراجعة. إن كلمة الفردوس نفسها(36) وهى إحدى الكلمات التى تعنى الجنة فى القرآن ، هى كلمة فارسية ، وكذلك كثير من الكلمات الفارسية ذكرت فى الآيات التى ترجمناها هنا. ومع ذلك فليس من المهم أبداً التأكيد على إشتقاق كلمة حور، حيث أن الكائنات التى تصفها تلك الكلمة هم من أصل آرى بشكل واضح ، تماماً مثل الغلمان. ويعتقد الهندوس فى وجود الإثنين ، مطلقين على الحور فى السنسكريتية إسم أبسرساس وعلى الغلمان كاندرافاس، ولقد كان يفترض انهما يسكنان السماء بشكل أساسى ، رغم أنهما كانا يزوران الأرض أحياناً.
يروى المؤرخون المسلمون قصصاً كثيرة تظهر إلى أى مدى كان تصور ترحيب الحور فى الجنة بمحاربى محمد الشباب المتحمسين يحفزهم لإن يندفعوا بشجاعة نحو الموت فى المعركة ، إن هذا الإعتقاد مشابه جداً للفكرة الآرية القديمة عن مكافأة هؤلاء الذين يموتون فى أرض المعركة بكل جروحهم على الجبهة ، حيث يقول مانو فى كتابه الدارماساترا - قوانين مانو:
إن ملوك الأرض(37) الذين تنازعوا فى المعارك ، برغبة متبادلة فى قتل بعضهم البعض ، غير مشيحيين بوجوههم ، قد ذهبوا إلى السماء بسبب شجاعتهم ، وكذلك نجد فى كتاب نالوبا خيانام ، أو قصة نالا، أن الإله إندرا يقول للبطل نالا ، أما حراس الأرض الملوك والمحاربون(39) الذين تخلوا عن كل أمل فى الحياة ، الذاهبون إلى الهلاك بالسلاح فى الوقت المناسب ، دون أن يشيحوا بوجوههم ، لهم هذا العالم الذى لايفنى ، جنة إندرا ، ولم تقتصر هذه الأفكار على الهند ، لإن أسلافنا الشماليين إعتادوا أيام الوثنية الإعتقاد بأن الفالكيريز السماويين ، أو مجموعة مختارة من القتلى ، سيزورون ميدان الحرب ويحملون ، إلى جنة أودين ، إلى فالهالا ، قاعة القتلى ، أرواح المحاربين الشجعان ، الذين سقطوا فى المعركة.
أما الجن فقد كانت نوع من الأرواح الشريرة التى تملك قوة فائقة وكانت مصدراً للخوف فى كثير من أنحاء العالم الإسلامى ، ولقد رأينا أنه قد قيل أنهم كانوا خاضعين لسليمان(40) وكثيراً مايذكرون فى القرآن حيث أخبرنا(41) أنهم كانوا مخلوقين من النار مثل الملائكة والشياطين(42). إن الكلمة نفسها تبدو أنها فارسية لإن مفرد الجنى هى كلمة الأفيستا جانى روح أنثى شريرة (43).
أما ذرات الكائنات ففى إستقصائنا عن السؤال الخاص بأصل الأسطورة المحمدية الخاصة بالميزان ، قد رأينا أنه قد ورد فى الأحاديث أن محمداً قد رأى فى معراجه آدم يبكى فى السماء عندما كان ينظر على الشخوص السود الواقفين على يساره(44) ولكن يفرح عندما ينظر على هؤلاء الواقفين على يمينه. كان هؤلاء الشخوص أرواح ذريته قبل أن تولد ، ويطلق عليها تسمية ذرات الكائنات أو الذرات القائمة ، وهى تختلف عن الكائنات المذكورة فى كتاب عهد إبراهيم ، الذى إقتبست منه الملامح الرئيسية لذلك الجزء من القصة، والواقع أنه فى ذلك الكتاب يرى إبراهيم أرواح ذريته التى ماتت ، بينما فى الحديث المحمدى ، يرى أرواح هؤلاء لذين لم يولدوا بعد ، فى شكل الذرات القائمة أو ذرات الكائنات، إن الإسم الذى تعرف به هذه الكائنات فى الأعمال الدينية المحمدية هى بلاشك أسماء عربية خالصة ، لكن الفكرة تبدو وكأنها إشتقت من الزرادشتية ، والتى كانت هذه الكائنات تسمى فيها فرافاشيس(45) فى الأفيستا وفيروهاس فى البهلوية ، وقد تصور البعض أن الفرس ربما يكونوا قد أخذوا هذه الفكرة من المصريين القدماء، وهو تصور غير محتمل ، وسواء كان ذلك صحيحاً أم لا ، فإن المسلمين مدينيين للزرادشتيين ، بفكرة الإعتقاد فى الوجود السابق للأرواح على الحياة.
وفيما يخص ملاك الموت، يتكلم المسلمون كثيراً عنه كما يفعل اليهود، رغم أن اليهود يقولون أن إسمه شمائيل ، بينما يسميه المسلمون عزرائيل ، لكن هذا الإسم الأخير ليس إسماً عربياً ، ولكن إسماً عبرياً، والذى يظهر مرة أخرى مدى التأثير الذى مارسه اليهود على الإسلام الوليد، وحيث أن إٍسم هذا الملاك غير مذكور فى الإنجيل فمن الواضح أن مايقوله اليهود والمسلمون عنه مقتبس من مصدر آخر ، مصدر فارسى فى الإحتمال الأكبر ، حيث تخبرنا الإفيستا عن ملاك يسمى أستوفيدوتوس أو فيداتوس ، المقسم أو المفرق ، والذى يتمثل واجبه فى فصل الروح عن الجسد، فإذا ماسقط إنسان فى النار أو الماء ، وأحرق حتى الموت أو غرق ، يعتقد الزرادشتيون أنه موته لم يحدث نتيجة للنار أو الماء ، لإن هذه العناصر يفترض أنها طيبة وغير مؤذية للإنسان، لكنه حدث بفعل ملاك الموت فيداتوس(46).
3-أسطورة صعود عزازيل من الجحيم
كان عزازيل ، وتبعاً للتقليد الإسلامى ، هو الإسم الأصلى للشيطان أو إبليس ، والإسم عبرى ويظهر فى النص الأصلى لسفر اللاويين ، ولكن قصة أصله ليست يهودية على الإطلاق ، ولكن تقريباً أو حتى بالتأكيد زرادشتية ، كما تثبت المقارنة بين الأساطير الإسلامية والزرادشتية:
نقرأ فى قصص الأنبياء (خلق الله العلى القدير عزازيل، وعبد عزازيل الله العلى القدير لألف سنة فى سيجين(47) ثم جاء إلى الأرض ، وفى كل دور(48) من أدواره عبد الله لألف سنة حتى جاء إلى السطح، أعلى دور من أدوار الأرض، والذى يسكن فيه البشر. وهناك أعطاه الله زوجين من الأجنحة مصنوعة من الزمرد ، والتى طار بها إلى السماء الأولى، وهناك عبد لألف سنة ، ثم مكن له من الوصول إلى السماء الثانية ، وهكذا ، عابداً لألف سنة أخرى فى كل مرحلة من صعوده ، متلقياً إسماً خاصاً من الملائكة السكان لكل سماء ، وفى السماء الخامسة ، سمى وللمرة الأولى ، وتبعاً لذلك الشكل من الأسطورة، عزازيل، ثم صعد إلى السماء السادسة والسابعة ثم تعبد لكل الوجود حتى لم يترك رقعة تساوى حتى راحة يد الإنسان إلا وسجد أمامها وتعبد). نعرف بعد ذلك أنه بسب خطيئة رفض السجود لآدم فقد ألقى به خارج الجنة(49). ويخبرنا كتاب عرائس المجالس(50) أنه عندئذ أصبح يسمى إبليس وظل ثلاثة آلاف عام على بوابة الجنة على أمل التمكن من إلحاق الأذى بآدم وحواء، حيث كان قلبه مليئاً بالحسد وسوء النية تجاهما.
والآن دعنا نرى الرواية التى يقدمها الزرادشتيون عما يبدو بشكل واضح أنه نفس الموضوع ، ففى كتاب بونداهيشنى ، وهو عمل بهلوى يعنى إسمه الخلق ، يأتى الحديث عن أهرمان الذى سبق الإشارة إلى أنه إسم يعنى الروح الشريرة فى البهلوية ، والمشتق من الكلمة الآرية (أورومانيوس - أى العقل المدمر) الذى يعرف به فى الأفيستا.
نقرأ فى الفصل الأول والثانى من البونداهيشنى( كان أهرمان قابعاً فى إقليم الظلام جاهلاً (51) لكنه بعد المعرفة إكتسب الرغبة فى إلحاق الأذى بالآخرين ، وكان أهورا مزدا فى حكمته وعلمه يعرف بوجود أهرمان ، ذلك أن أهرمان قد أثار نفسه ومزجها بالرغبة فى الحسد حتى النهاية. كان أهورا مزدا وأهرمان على مدى ثلاثة آلاف عام أرواحاً ، بدون تغيير أو حركة، ولم تكن روح أهرمان المؤذية التى وجدت بعد المعرفة مدركة لوجود أهورا مزدا. وفى النهاية خرج أهرمان من هوة الجحيم ، وجاء إلى المكان المشرق ، ومنذ رأى إشراقة أهورا مزدا ، وبسبب رغبته فى الأذى وطبيعته الحسودة ، فقد أصبح مشغولاً بالتدمير.
وبالطبع فسوف نجد بالضرورة بعض الإختلاف فى الشكل بين الأسطورة كما ظهرت عند الثنائيين الزرادشتيين ، وبالشكل الذى إتخذته بين المسلمين الموحدين، ومن ثم ففى الأولى فإن فاعل الشر ليس من مخلوقات أهورا مازدا، كما أنه لايعرف عن وجوده فى البداية ، بينما هو بالطبع عند المسلمين من مخلوقات الله ، ففى الأسطورة المحمدية نجده يصعد تدريجياً إلى أعلى فأعلى بتقواه ، بينما نجد فى الرواية الزرادشتية أن التقوى ليس لها علاقة بالموضوع. ولكن فى كلا الحالتين فإنه يجهز نفسه للعمل على تدمير مخلوقات الله من خلال الحسد وسوء النية. إن الإثنى عشر ألف سنة التى خلالها ، وتبعاً للرواية الزرادشتية ، إستمر الصراع بين الخير والشر مقسمة بين أربع فترات يبلغ كل منها ثلاثة آلاف سنة، إن الإشارة إلى ذلك قد نجدها فى الثلاثة آلاف سنة التى قبع خلالها عزازيل(إبليس) كما رأينا ، على أبواب الجنة، فى إنتظار أن يحطم آدم.
وقبل مغادرة هذا الموضوع ربما يكون من المهم أن نشير إلى علاقة الطاووس بالروح الشريرة فى كلا الأسطورة الممحمدية والأسطورة الزرادشتية. ففى قصص الأنبياء عرفنا أنه عندما كان إبليس متربصا أمام بوابة الجنة، منتظراً فرصة ليدخل ويغرى آدم وحواء بالخطيئة ، كان الطاووس جالساً على السور ، فى أعلى أحد الأبراج، وعندما رأى إبليس مستغرقاً فى ترديد أسمى أسماء الله العلى القدير، وفى حالة من الذهول لهذه التقوى الشديدة ، سأل الطاووس من هذا العابد المتحمس يكون ، فرد إبليس أنا واحد من ملائكة الله المبارك المجيد ، وعندما سأله لماذا تجلس هناك ، أجاب ، أنا أنظر إلى الجنة ، وأأمل أن أدخلها، كان الطاووس يعمل كحارس على بوابة الجنة ، ولذلك فقد أجابه ، ليس لدى أوامر للسماح لأحد بالدخول طالما آدم بالداخل ، لكن إبليس رشاه ليسمح له بالدخول مقابل الوعد بتعليمه صلاة يحميه ترديدها من كبر السن، ومن التمرد على الله، ومن الطرد من الجنة مدى الحياة. وعلى هذا طار الطاووس من البرج وأخبر الأفعى عما سمع. وقد أدى هذا إلى سقوط حواء وآدم بعدها، و لذلك فعندما طرد الله العلى القدير آدم وحواء والغاوى والحية من الجنة إلى الأرض فقد طرد معهم الطاووس أيضاً(52).
إنه ممن الجدير بالذكر هنا أن الزرادشتيين أيضاً يعتقدون فى العلاقة بين أهرمان والطاووس ، حيث يخبرنا الكاتب الأرمينى إيزنج ، الذى إقتبسنا منه فى مناسبة سابقة ، أن زرادشتى عصره يقولون أن أهرمان(53) قال(أنه ليس لإننى لا أستطيع أن أخلق أى شئ جيد ، ، لكنى لن أفعل لإنى لاأريد ، ولكى يثبت ماقال ، فقد خلق الطاووس). لذلك فإذا ماكان الطاووس فى الأسطورة الزرادشتية من خلق أهرمان، فلايجب ان ندهش لمساعدته لإبليس فى الأسطورة المحمدية، ولطرده من الجنة معه.
4-أسطورة نور محمد
بالرغم من عدم ذكرها فى القرآن ، فإن أسطورة نور محمد ، الذى يشع من جبهته، والسابق على وجوده، يحتل مكاناً هاماً للغاية فى الأحاديث، حيث تمتلىئ صفحات كثيرة بمثل تلك الأحاديث فى كتب مثل روضة الأحباب ، حيث نقرأ أنه عندما خلق الله آدم فقد وضع ذلك النور فوف جبهته وقال له( ياآدم ، إن هذا النور الذى وضعته فوق جبهتك هو نور أنبل وأفضل أبنائى ، وهو نور رئيس الأنبياء الذى سيبعث) ثم تمضى القصة لتقول أن النور إنتقل من آدم إلى سيث ، ومن سيث إلى نبلاء ذريته فى كل جيل ، حتى وصل فى الوقت المناسب إلى عبدالله إبن المطلب ، ومنه إلى آمنة عندما حملت بمحمد(54). إنه من المرجح أن المحمديين قد قصدوا بتلك الرواية عن نور محمد إلى تعظيم سيدهم بشكل مماثل لما قيل عن المسيح فى إنجيل يوحنا ، وأنه كان هناك خلط فى عقولهم بين الفقرات الأولى من تلك الأقوال وبين سفر التكوين، وفى نفس الوقت، فسوف نرى من الفقرات التى سوف نستشهد بها هنا ، أن التفاصيل ، رغم مبالغتها وإختراعها العجيب ، مقتبسة فى خطوطها العريضة من الأسطورة الزرادشتية.
فى الكتاب البهلوى مينوخراد ، الذى صنف فى التاريخ المبكر للملوك الساسانيين الفرس ، نقرأ أن أهورا مزدا قد خلق هذا العالم وكل مخلوقاته، وكبار الملائكة ، والسبب السماوى، من نوره الخاص، بإطراء زارفا أكرانا ، أو الزمن اللامحدود. ولكن فى عمل أكثر قدماً من هذا ، كانت خرافة النور موجودة فى فارس، حيث ذُكر فى الأفيستا ، مرتبطاً بيما كاشيتا العظيم ، أو يما البهى ، والذى من ملكية ذلك النور إشتق إسمه ، والذى أصبح جمشيد فى الفارسية الحديثة(55). وهو يتطابق مع السنسكريت ياما ، والذى يعتبر أول البشر فى الرجفيدا، الذى أغرته أختاه التوأمان يامى بالخطيئة عبثاً، والذى أصبح بعد الموت يحكم ظلال الموتى، بينما ياما فى التاريخ الفارسى ، ومن جهة أخرى ، هو مؤسس الحضارة الفارسية، كما إن إسم أبيه هو نفس إسم فيفانفات فى الأسطورة الهندية ، والذى هو الشمس ، وأب ياما. وعلى حاجب ياما يشع الكافيم إالفارينو أو الإشراق الملكى، نور من المجد الإلهى، والذى فقده من خلال الخطيئة. وعن هذا تعطى الأفيستا(56) الوصف التالى:
(لقد إتحد النور الملكى القوى لزمن طويل بجمشيد ، سيد الجمع الطيب ، بينما كان يحكم درجات الأرض السبع، الشياطين والرجال ، والمشعوذين ، باريس و الأرواح الشريرة و العرافين والسحرة الأشرار ، ثم عندما تصور فى عقله تلك الكلمة المزيفة التى لاتساوى شيئاً ، غادره النور المرأى فى شكل طائر، إنه جمشيد ، سيد الجمع الطيب، وعندما لم يعد يرى ذلك النور مرة أخرى، أصبح آسفاً ، وبعد أن إستبد به القلق ، شًغل بشن العدوان على الأرض. إن المرة الأولى التى رحل فيها النور من جمشيد ، جمشيد إبن فيفانفات ، مثل طائر مرفرف(57) أخذ ميثرا ذلك النور، وعندما غادر النور جمشيد، جمشيد إبن فيفانفات للمرة الثانية، وطار مثل طائر مرفرف ، أخذ فريدون ، إبن قبيلة أثيانى ، القبيلة الشجاعة ، ذلك النور ، لإنه كان الرجل الأكثر إنتصاراً ، بين الرجال الأكثر إنتصاراً، وعندما غادر النور جمشيد للمرة الثالثة ، جمشيد إبن فيفانفات ، مثل طائر مرفرف ، أخذ كيريسا سبا القوى ذلك النور ، لإنه كان الأقوى بين الرجال الأقوياء).
وكما نرى هنا ، تماماً كما هو الحال فى الأسطورة المحمدية، أن النور يمر من جيل إلى جيل، وإلى الرجل الأهم فى كل جيل، ولقد كان طبيعيا لإبن الشمس أن يمتلك هذا النور فى المقام الأول ، وكان نقله يحدد تسليم السلطة. ولايبدو ان هناك تبرير خاص فى نزول الأسطورة من آدم إلى محمد ، إلا لتعظيم النبى بنفس الطريقة التى عظمت فيها الأسطورة القديمة هؤلاء الأبطال الفرس القدماء العديدين.
وبالإضافة إلى ذلك فإننا نلاحظ أن جمشيد قد حكم الشياطين والرجال والسحرة وباريس والأرواح الشريرة والعرافين والسحرة الأشرار ، تماماً كما تكلمت الأساطير اليهودية والمحمدية فى الفصول الأولى هنا عن أفعال سليمان(58)حيث يبدو بلاشك أن اليهود قد إقتبسوا تلك الأسطورة من الزرادشتيين ومرروها للمسلمين ، كما ذكرنا فى الفصل الثالث. وكذلك فإن مايقوله الحديث الإسلامى عن تقسيم نور محمد عندما خلق فى البداية، إلى أجزاء عديدة خلقت منها أشياء أخرى، يشابه تماماً القصة المتعلقة بزرادشت فى الكتاب الفارسى القديم المسمى دساتير أسمانى، حيث من الممكن جداً أن تكون إشتقت منه ، خاصة أن نفس الفكرة وجدت أيضاً فى كتابات زرادشتية أقدم ، كمثل المينوخيراد الذى إستشهدنا به سابقاً.
5-أسطورة جسر الموتى
يسمى هذا الجسر فى الحديث المحمدى الصراط ، أى الطريق، وهناك كثير من التفاصيل عن هذا الجسر العجيب ، والذى يقال أنه أدق من شعرة وأحد من سيف. وهو يمتد مستقيماً فوق هوة الجحيم ، والطريق الوحيد للمرور من الأرض إلى السماء فى يوم الحساب. وسوف يؤمر الجميع بعبوره ، وسوف يفعل المسلمون الأتقياء ذلك بدون صعوبة ، ترشدهم الملائكة ، لكن الكفار، لن يستطيعوا عبوره وسوف يسقطون فى هوة الجحيم.
ورغم أن كلمة صراط مستخدمة فى القرآن بالمعنى المجازى للطريق ، مثل عبارة الصراط المستقيم التى ترد فى سورة الفاتحة وفى سور أخرى ، فمع ذلك فالكلمة ليست عربية على الإطلاق. إن إشتقاقها يظهر أصل أسطورة الجسر الذى يحمل نفس الإسم. فالكلمة لاتأتى من جذر عربى أو حتى جذر سامى ، ولكن تأتى من الكلمة تشينفات بحروف عربية ، حيث أن اللغة العربية ليس بها حرف يمثل الصوت تشى ، كالذى يأتى فى بداية كلمة كنيسة ، لذلك فقد تم إستبدال ذلك الحرف بحرف الصاد فأصبحت كأنها صينفات، وكلمة تشينفات فى الفارسية تعنى الجامع أو المجمع أو المحاسب (الذى يجمع أو يحسب حسنات وسيئات البشر) كما فى السنسكريتية ، ومن ثم فقد إشتقت الكلمة العربية معناها من تقليص المعنى الأصلى للكلمة ، كما ورد فى الإفستا تشينفات بروتيس ، أى التشينفات المستقيم (59) والذى أصبح الصراط المستقيم فى العربية، الجسر الذى يقدر الأفعال الخيرة والأفعال الشريرة ، والذى يمتد من جبل البروز إلى شاكات دايتى ، عابراً فوق هوة الجحيم، فكل روح وبمجرد إتمام بعض المراسم الجنازية تصل إلى هذا الجسر حيث يجب عليها عبوره كى تدخل الجنة. وبعد ، عبور الجسر يحاكم الميت بواسطة ميثرا وراشنو وساروشا ، تبعا لحساب أعماله ، الخيرة والشريرة(60) وفقط إذا تجاوزت أعماله الخيرة أعماله الشريرة ، يمكن فتح بوابة الجنة وإستقباله، ولكن إذا تجاوزت أعماله الشريرة أعماله الخيرة فإنه يلقى إلى الجحيم ، وإذا تعادلتا فعلى روح المتوفى أن تنتظر(61) المحاكمة الأخيرة التى تسمى (فوليتى) والتى سوف تحدث فى نهاية النزال بين أهورا مزدا وأهرمان.
ولكى نظهر ليس فقط أصل كلمة صراط فى العقيدة المحمدية بهذا الخصوص، فإنه يكفى أن نترجم العبارة القصيرة التالية من كتاب بهلوى يسمى دينكارت :
( أهرب من كثير من الخطايا(62) وأحافظ على سيرتى طاهرة بالحفاظ على قوى الحياة الست طاهرة، الفعل والكلام والتفكير والذكاء والعقل والفهم ، برغبتكم فى ذلك ، أنت يا أيها المسبب القدير لعمل الخير، أمارس عبادتكم فى العدل فى التفكير الجيد والقول والفعل ، حتى يمكننى أن أظل على الطريق المشرق، وحتى لاأصل إلى عقاب الجحيم القاسى ، ولكن أعبر تشينفات وأحصل على ذلك المسكن الملئء بالعطر والسرور والإشراق). وأيضاً نجد إشارات عديدة فى الإفيستا لنفس المعتقد، من بينها ماقيل فى تلك العبارة عن الخيرين من الرجال والنساء(63)( والذين سوف أقودهم من خلال الدعاء إليك ، وبكل بركتك أرشدهم إلى جسر تشينفات).
ويوجد مزيد من الدليل على الأصل الآرى لهذا المعتقد فى حقيقة أن الأسطورة السكندنافية القديمة قد ذكرت بيفروست، والذى يسمى بجسر الآلهة، والذى من خلاله قد عبروا من مسكنهم فى السماء ، أسجارد ، إلى الأرض ، إنه قوس قزح ، إن هذا يشرح فوراً الأساس الطبيعى الذى أسست عليه أسطورة الجسر ، وتوضح مدى قدمه ، حيث أحضر السكندنافيون الفكرة معهم إلى أوربا، ولذلك فلابد أن الأسطورة كانت معروفة لهم وللفرس فى عصور شديدة القدم. وفى اليونان أصبح قوس قزح رسول الآلهة (إريس) فى الإلياذة ، لكن فكرة الجسر الذى يربط السماء بالأرض ، يبدو أنها قد فقدت (عبر الزمن).
6-أمثلة أخرى
لاشك أن كثيراً من الأفكار الفارسية الأخرى قد أثرت فى الإسلام ، ولكن ماذكرناه هنا يكفى لهدفنا ، ومع ذلك فمازال هناك نقطتين هامتين إلى حد ما ، لابد من الإشارة إليهما ، الأولى هى إعتقاد المسلمين بأن كل نبى يعطى إشارة قبل موته عن النبى الذى سيخلفه ، ولاتجد هذه الفكرة دليل فى الكتاب المقدس ، حيث نجد نبؤات عن مجىء المسيح ، ولكن لاشىء عن تلك النظرية بمجىء محمد ، والتى ربما تكون مقتبسة من عمل زرادشتى يسمى دساتير أسمانى ، وهو عمل سحيق فى القدم (وربما نظراً لصعوبة فهم النص الأصلى ، يعتقد كثير من الفرس المحدثين أنه قد صنف بلغة السماء)(64) ومع ذلك فالنص تصاحبة ترجمة وسيطة بلهجة الدارى الفارسية القديمة ، والتى يقال أنها أكتشفت فى فارس فى أوائل القرن الماضى ، ونقلها الملا فيروز من بومباى. وهى تتكون من خمسة عشر رسالة ، يفترض أنها قد ظهرت لخمسة عشر نبياً متتالياً ، يسمى الأول منهم مهاباد ويسمى الأخير ساسان، والذى ربما جاءت مملكة الساسانيين من ذريته. ويقال أن ترجمة الدارى ترجع إلى زمن خسرو برويز حوالى سنة 590-595 م ، ولذلك فإن الأصل لابد أن يكون قديماً فعلاً(65). وبالقرب من ختام كل رسالة ، بإستثناء الأخيرة، يوجد مايزعم أنها نبوءة عن مجىء النبى التالى ، إن الهدف من ذلك واضح للغاية ، فرغم أن كثيراً من الفرس رفضوا الكتاب ، يبدو أن الفكرة قد راقت المسلمين كثيراً لدرجة أنها وجدت لها مدخلاً فى حياتهم العادية.
أما النقطة الثانية فمن الجدير بالملاحظة أن الآية الثانية من كل هذه الرسائل تبدأ هكذا( بإسم الله المعطى الغفور الرحيم العادل) ومن الواضح أن هذه الكلمات قريبة للغاية من الكلمات التى تشكل بداية كل سورة من القرآن ، بإستثناء الرسالة التاسعة( بإسم الله الرحمن الرحيم) والتى من الممكن أن يكون القرآن قد إقتبسها من الكتاب الزرادشتى وليس العكس ، حيث توجد عبارة مشابهة فى كتاب البونداهيشنى (بإسم أهورا مزدا الخالق) والتى يمكن أن تكون من أصل يهودى أيضاً . وتذكر التواريخ أن أحد الحنيفية ، والذى سوف نتعامل معه فى الفصل التالى ، وهو الشاعر أمية بن أبى الصلت - من الطائف ، قد علم قريش هذه الصيغة(66) والتى تعلمها من إختلاطه باليهود والمسيحيين أثناء رحلاته كتاجر فى سوريا وأماكن أخرى. فإذا كان محمد قد سمعها بهذه الطريقة وإقتبسها، فلابد أنه قد غير منها قليلاً ، كما فعل مع كل ماإقتبسه. لكن الأكثر ترجيحاً أنها من أصل زرادشتى وليس من أصل يهودى، وأن أمية قد تعلمها من الفرس الذين كان يقابلهم فى رحلاته التجارية.
لقد رأينا كيف كان التأثير الفارسى كبيراً فى الجزيرة العربية زمن محمد، ولذلك فليس هناك صعوبة كبيرة فى قبول الخلاصة التى يجب إستنتاجها من كل المتصادفات المذكورة فى هذا الفصل ، بأن الأفكار والأساطير الزرادشتية هى إحدى المصادر التى إقتبس منها الإسلام كثيراً مما ورد فى بعض أجزاء القرآن والحديث. إن الحديث نفسه يثبت إمكانية ذلك ، حيث يخبرنا كتاب روضة الأحباب ، أنه كان من عادة محمد أن يتكلم بكلمات قليلة بلغة الناس التى تأتى إليه من(67) الأمم المختلفة ، وحيث أنه فى مناسبة أو مناسبتبن قد تكلم بالفارسية لمثل هؤلاء الزوار ، فقد وجدت بهذه الطريقة قليل من الكلمات الفارسية مدخلاً إلى اللغة العربية. وبالطبع هناك كثير من الأسطورية فى هذا القول ، لكنه هاماً مع ذلك لإنه يدل بجلاء على أن محمداً كان لديه على الأقل معرفة بسيطة بالفارسية ، وربما ببعض اللغات الأخرى. ومرة أخرى، فمن بين المهتدين الفرس، تخبرنا سيرة الرسول لإبن إسحاق وإبن هشام ، أن أحدهم كان يسمى سلمان. والذى لابد أنه كان رجلاً على قدر من التعليم والمقدرة ، حيث أخذ محمد بنصيحته الناتجة عن خبرته العسكرية ، بالدفاع عن المدينة ببناء الخندق المشهور(68) حولها عندما حاصرتها قريش فى فبراير627م ، وهى طريقة من التحصينات لم يكن العرب قد إستخدموها من قبل. وبواسطة نصيحة سلمان ، يقال أيضاً أن محمد قد إستخدم المنجانيق فى حصار الطائف حوالى سنة 630م، ويقول البعض وبرغم أن سلمان قد عرف دائماً بإسم الفارسى ، فقد كان أصلاً مسيحياً ، أخذ أسيراً من العراق(69) وربما يكون هذا صحيحاً ، رغم أن اللقب الذى إشتهر به لايؤيد ذلك، فإذا كان غير صحيح ، فمن المحتمل جداً أن يكون هو الشخص الذى يقال أن أعداء محمد قد إتهموا النبى بإستخدامه كمساعد فى تصنيف بعض أجزاء القرآن ، كما جاء فى الآية 130 من سورة النحل(ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى(70) وهذا لسان عربى مبين).
وعلى أى حال ، فإذا لم يكن سلمان مواطناً فارسياً ، فإن لغة الآية تكفى عندئذ لإثبات أنه كان هناك فارسى ما فى صحبة محمد، والذى يعتقد أنه قد علمه بعض أجزاء معينة مما كان يدخله فى القرآن آنذاك. وهكذا نرى أن الخرافات الفارسية كانت معروفة جيداً فى الجزيرة العربية (71) بحيث كان يمكن التعرف عليها بواسطة بعض العرب على الأقل ، عندما كان يتم إدراجها فى الوحى الإلهى المفترض. لم يستطع محمد إعطاء رداً مرضياً على تلك التهمة لإنه لم يفترض أحد أن ذلك الأجنبى كان يعلمه لتحسين لغته العربية، لقد كانت التهمة تتعلق بمحتوى القرآن وليس بلغته ، وبالإضافة إلى ذلك فكما أثبتنا أن محمد قد إقتبس أساطير من العرب الوثنيين ومن اليهود ، فليس هناك منطق فى عدم إستعداده لإقتباس أساطير أخرى من المصادر الزرادشتية. والواقع أن الأمثلة التى أوردناها فى هذا الفصل تثبت بشكل قاطع أنه قد فعل ذلك ، وأن هذه الأساطير الفارسية ، والتى ظهر أن كثيراً منها كانت شائعة لدى الفرس ، و لدى أفرع أخرى من العائلة الآرية ، تشكل مصدراً آخراً من المصادر الأصلية للإسلام.

الهوامش
1-أبو الفدا ، الفصل الثانى
2- سيرة الرسول ص 24-25
3- المذكور أعلاه
4-فراغ فى الهامش
5- سير وليم موير ، حياة محمد ، ص 31-32
6-سورة الفرقان الآيات 6-7
7- سورة القلم الآية 15
8-سورة الجاثية الآيات 6-7
9-فراغ فى الهامش
10- الأفيستا - الفينديدال ، سفر التعاويذ من الشرور الفصل 1-2
11-ص206-207
12-سيرة الرسول ص 139
13- للمهتمين بمثل تلك الموضوعات ، نضم روايته المذكورة فى تعليقه على الآية المقتبسة أعلاه
14-وضد هذه النظرية الأخيرة، فلابد مع ذلك من إعتبار حقيقة أنه فى سورة النجم آيات 13-14 قد أكد محمد بوضوح أن قد رأى سدرة المنتهى، والتى تنتصب فى أعلى السماوات ، ولابد أن هذه الآيات تشير إلى المعراج ، كما جاء فى الآيات، ولقد رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة مايغشى، مازاغ بصر وماخفى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى.
15- سيرة الرسول ص 138-139
16-المشكاة ص 518-520
17-لوتس الحدود، أو سدرة المنتهى ، والذى يدعى كذلك لإنه حتى جبريل لايستطيع تجاوزه
18-ص 206 ومابعدها
19-مثل قصص الأنبياء و تاج العروس و روضة الأحباب
20-قصص الأنبياء ص337-338
21-ربما إختراع ليجعله قابلاً للمقارنة مع سيدنا، راجع العبرانيين، الفصل السادس، إصحاحات 19-20
22-أرتافيراف نامة - كتاب أرتافيراف
23-أهورا ماذدا هو الشكل اللاحق لأهورا مازيدو الأفيستى ، الإله الخير للزرادشتية
24-ثلاث قاعات للجنة تسمى فى الإيستا هوماتا ، الفكر الخير ، وهوكتا الكلمة الطيبة وهارستا الفعل الخير، وهم يتطابقون مع طبقات الكواكب ، طبقة القمر وطبقة الشمس على التوالى.
25- الفصل السابع
26-كتاب الفينداد لأفيستى - الفصل الخامس
27-كتاب عهد إبراهيم ، الجزء الأول ، الفصل العاشر
28-Liber Henouch book-1851- الفصل الرابع عشر والخامس عشر ومابعدهما
29-فى ترجوم - ترجمة - جوناثان، على سبيل المثال، أخبرنا أن شجرة الحياة على بعد سفر 500 عام إرتفاعاً ، ويطابق المسلمون هذه الشجرة بشجرة معرفة الخير والشر، والتى يعتقدون أنها كانت شجرة القمح والتى أخبرنها آنها مدت نفسها أمام آدم لإغرائه ليأكل منها، وأن آدم نهض لأقصى إرتفاعه رحلة 500 سنة لتجنبها ، لكن الشجرة نمت وتماشت مع مستوى إرتفاع فمه - قصص الأنبياء ص 17.
30- رسالة كورنثيوس الثانية، الفصل الثانى عشر ، إصحاحات 2-4
31-ربما يضيف أى محمدى أننا إذا مارفضنا رواية صعود محمد ، فكيف يمكن أن نقبل تلك الخاصة بإينوش وإليا والمسيح، إن الإجابة ليست بعيدة، إن الدليل التاريخى على صعود المسيح ليس محلاً للشك ، وأننا نقبل الروايات الأخرى بناء على مرجعيته ، وبالإضافة إلى ذلك فإن الجدل بأنه لايوجد عملات أصلية بسسب تداول بعض العملات المزيفة ليس منطقياً، فلن توجد عملات مزيفة إذا لم توجد عملات أصلية ، والتى صيغ النموذج المزيف بناء عليها، ومن ثم فإن وجود كثير من أساطير الصعود لابد أن يقودننا إلى أنها قد أسست على قصة أو أكثر من قصة أصلية حدثت فعلاً، وأيضا وكما يمكن أن نعرف العملة الأصلية من المزيفة من خاتمها ، أيضاً فإن المقارنة بين روايات الكتاب المقدس، الواردة فى التكوين والملوك والأعمال، والروايات الأخرى التى تعاملنا معها هنا ، تكفى لتظهر الفرق الفرق الهائل القائم بينهما. فعلى سبيل المثال، يخبرنا القديس بولس عن شخص ما(المسيح) رفع إلى السماء الثالثة ، سواء بالجسد أو بالروح، وسمع كلمات ليس مصرح لأحد بنطقها ، لكن إنجيل القديس بولس المنتحل يقرر أن بولس هو هذا الشخص المقصود ويضع على فمه رواية طويلة عما رأى وسمع هناك، إن الفرق هو نفس الفرق الذى يوجد بين شهادة مؤرخ مصدق و بين الحكايات العجيبة التى تحتوى عليها قصص ألف ليلة وليلة.
32- دكتور كويل ، محمد والمحمدية ، ص 246 ومابعدها
33-يمكن أن نجد آيات مشايهة فى السور 2 ، 4 ، 13 ، 36 ، 37 ، 47 ، 83 .
34-تبدو الخمر هى المقصودة من السياق، حيث تذكر أنهار الخمر فى السورة 47 آية 16
35-المزيد من الصور عن الجنة ومتاعها مذكورة فى الأحاديث ، أنظر صحيح البخارى ومشكاة المصباح عن هذا الموضوع
36- أنظر إعتذار الكندى ، ترجمة سير وليم موير ، ص 79-80 والهوامش
37-Ahaveshmitho nyo nyam etc..
38-Dharmajna prithivipalas etc ..
39- تاريخ أرمينيا القديم ، إزنك ، ص 94-95
40-ص 81 ومابعدها
41- سورة 6 آية 100-128، سورة 15 آية 27 ، سورة 26 آية 212 ، سورة 41 آية 24-29
42-سورة 15 آية آية 27 ، سورة 55 آية 14
43- اليشنا ، الجزء العاشر ، أبيات 4 ، 2 ، 53 إذا كانت الكلمة عربية ومن الجذر جنى فماكانت لتكتب جن ولكن جنين مثل قليل ، ولاهى مشتقة من الجنة ، لإنه فى تلك الحالة كانت ستكتب جانى ، كما أن الجن ليس لهم علاقة بالجنة وغير مسموح لهم بدخولها.
44-ص 207-208
45-الفرافاشيز هى نماذج كائنات روحية وملائكة حارسة ، تحمى مخلوقات أهورا مازدا، كل من هذه الكائنات ، سواء ولد ام لم يولد، لديه فارافاشيز، وحتى أهورا مزدا نفسه لديه المشباند والإيزادز . إن جد المياه، العبقرى الذى يشرف على الخصوبة والنماء ، أحضر الفارافاشيز إلى أجساهدن فى اليشتا ، أنظر الفصل الثامن، البيت 34
46- الكتاب الإفيستى فينداد ، الفصل الخامس ، أبيات 25-35
47-الدنجيون هو إسم الطابق السابع أو الأسفل من الجحيم وللكتاب المحفوظ هناك، والذى يكتب فيه الشياطين الأفعال الشريرة للمرتدين والكفار ، سورة 83 آيات 7-10
48-وكما قيل سابقا ، فإن الأرض مثل الجحيم والسماء تتكون من سبعة طوابق
49-قصص الأنبياء ص 12 أنظر أعلاه ص 195
50-عرايس المجالس ص 43
51-بمعنى أن أهرمان لا يعرف المستقبل ولكن الماضى فقط ، إن معرفته بالماضى تشبه المعرفة الإغريقية بريموثيوس بعكس إيبوموثيوس ، وقد قضى عليه أهورا مزدا فى النهاية بسبب معرفته بالمستقبل
52-قصص الأنبياء ص 16-17
53-دحض الهرطقات الكتاب الثانى
54-يذكر حديث آخر الحقائق التالية الهامة حيث تظهر أهمية هذا النور. قال محمد لقد قسم الله العلى القدير هذا النور، قبل خلق العالم لإن أول شئ خلقه كان نورى ، قصص الأنبياء ص 2 ، أنظر أيضاً صى 282 ، وقسمه إلى أربعة أقسام، وخلق العرش ، أو السماء العليا ، من أحد تلك الأقسام، ومن قسم آخر خلق القلم، ومن قسم آخر خلق الجنة، ومن قسم آخر خلق المؤمنين، ومرة أخرى قسم هذه الأقسام الأربعة إلى أربعة أجزاء أخرى، ومن الأول أفضلهم وأشرفهم خلقنى، أنا الرسول، ومن الثانى خلق العقل ووضعه فى رؤوس المؤمنين ، ومن الثالث خلق التواضع ووضعه فى عيون المؤمنين، ومن الجزء الرابع خلق الرغبة ووضعها فى قلوب المؤمنين ، قصص الأنبياء ص 2.
55-فى الأسطورة الفارسية فيفانفات هو الخامس فى الذرية من مايا مارتيان ، الإنسان الأول - اليشتا فصل 9 بيت 14.
56- اليشت 19 أبيات 31-38
57-حرفيا بمعنى فى شكل كذا
58-ص81، 84 و ص 90 والهامش
59-ولاحقا مع ذلك وجد الإدغام فى الكتب الزرادشتية
60-أنظر الهامش ص 205 أعلاه
61-فى مكان يسمى ميسفانو جاتوس ، فينديداد 19 بيت 36 ، يشت 1 ، سيروزا الأول -50 - 30 ، سيروزا الثانى 30 ، أنظر أعلاه ص 123-124-202
62- كتاب دينكارت ، االمعتقدات الفارسية القديمة ، الجزء الثانى ، الفصل 81 الفقرات 5-6
63- ياشنا الفصل 46 البيت 10
64-النص الأصلى كما نشر فى بومباى مكتوب بالعربية وحروف فارسية ، وبإعادة ترجمة بعض الفقرات الدارية إلى البهلوية ، ثم كتابة الأخيرة بالأحرف العربية ، أعتقد أننى قد أثبت أن الصعوبة فى فهم النص الأصلى تكمن فى حقيقة أن الناسخ إلى الحروف العربية لم يكن يعرف البهلوية، وأنه قد خلط ذلك التجميع الصعب من الحروف فى ذلك النص الحالى المربك.
65-ذكر مؤلفو مذهب الدابيستان والبرهان وكاتى ومن ثم فلابد أنه فقد منذ أيامهم وقد ذكرنا إعادة إكتشافه.
66- كتاب الأغانى الفصل 16 وقد إستشهد به رودويل فى الجزء الأول من كتابه القرآن.
67-فى سنن إبن ماجا يوجد حديث عن أبى هريرة يقول أن محمد قال له بالفارسية شيكمات دارد ، ولم تمكنه معرفته باللغة أن تضيف الفعل ميكند، والمطلوب لإكمال الجملة.
68-الكلمة الفارسية خنداك والتى تكتب الآن خندق قد أدخلت فى العربية مثل كلمة الصراط.
69-بعض الروايات تقول أنه كان زرادشتياً ، حيث كان فارسى المولد، ثم إعتنق المسيحية وذهب إلى سوريا ومنه جلب منها إلى الجزيرة العربية.
70-الكلمة أعجمى تعنى بشكل عام الفارسى ، رغم أنه يمكن تطبيقها على أجانب آخرين أيضاً.
71-أنظر ص 215-216-217



6-مؤثرات الحنيفية
لم يكن محمد أول من إعتقد فى سخف وتفاهة العقيدة الشعبية لقومه العرب ، ورغب فى إصلاحها ، فقبل سنوات من ظهوره كنبى ، كما نعرف من مؤرخى سيرته الأوائل ، ظهر عدد من الرجال فى المدينة والطائف ومكة ، وربما فى أماكن أخرى(1) رفضوا عبادة الأصنام، والشرك بالله وإجتهدوا بحثاً عن العقيدة الحقيقية. وسواء حدث الدافع الأول لذلك بسبب اليهود، وهو الأمر المحتمل جداً ، أو من جهات أخرى ، فقد صمم الرجال الذين سنتكلم عنهم ، على إسترجاع عبادة الله العلى القدير إلى مكانها الصحيح ، وذلك بمحو ، ليس فقط عقائد الآلهة الأدنى، التى طغت تقريباً على عبادته ، ولكن أيضاً كثيراً من الممارسات اللأخلاقية التى سادت آنذاك، والتى كانت تتعارض مع الضمير والإنسانية ذاتها. وسواء حدث ذلك من خلال إستمرار تقليد عبادة إبراهيم ، الذين إدعوا أنه جدهم الأكبر ، للإله الواحد ، أو من خلال أقوال اليهود بهذا الخصوص ، فقد أكد هؤلاء المصلحون أنهم كانوا يتبعون عقيدة إبراهيم. وربما كان إحتكار اليهود لعقيدة إبراهيم هو الذى منعهم من إعتناقها فى الشكل السائد آنذاك ، والإنضمام إلى الكنيس اليهودى، أو ربما قد منعهم الكبرياء الوطنى والقبلى من إعتناق عقيدة مستوطنين أجانب فى بلادهم . وأنه من الممكن أيضاً أن بعض من هؤلاء المصلحين كانوا قادرين على إدراك أن عقيدة اليهود فى ذلك الوقت لم تكن خالية تماماً من الخرافات ، وأنهم كانوا متهمين برفض المسيح من قبل المسيحيين ، وأن ذلك قد يكون السبب فى الحالة المزرية التى كانوا عليها(بعد هدم الرومان لأورشليم سنة 70م)، مما دفع بهؤلاء المصلحين للإحجام عن القبول باليهودية والتلمود. ولكن وبصرف النظر عن السبب ، فقد ظهر هؤلاء المصلحون أولاً كمتسائلين(باحثين عن الحقيقة) وليس كمهتدين يهود أو مسيحيين. كان أهم أوائل هؤلاء المصلحين هم ، أبو عمير فى المدينة، وأمية بن أبى الصلت فى الطائف ، وورقة ، وعبيدالله ، وعثمان ، وزيد فى مكة، والذين تعاطف معهم آخرين بلاشك(2) ، رغم أنهم لم يبشروا بأفكارهم على نطاق واسع.
وحيث لم يترك لنا هؤلاء المصلحون أى كتابات عن معتقداتهم ، بإستثاء قصيدة واحدة( لزيد بن عمرو) ، سنعالجها فى سياقها المناسب ، فربما يكون من المهم أن نوضح مصدرنا عما سنذكره عنهم. إن مصدرنا الرئيسى والوحيد فى الواقع هو المؤرخ الأول لمحمد (3) والذى وصل إلينا عمله ، إبن هشام. إن أول كاتب معروف لنا بالإسم صنف رواية عن حياة محمد هو الزهرى الذى توفى سنة 124 هـ. وقد إشتقت معلوماته مما تناقلته الأجيال شفويا عن هؤلاء الذين عرفوا محمداً شخصياً ، وخاصة عن عروة ، أحد أقرباء عائشة ، وبلاشك ففى أحوال كثيرة وعلى مر السنين ، فربما تكون الأخطاء والمبالغات قد زحفت على مثل تلك الأحاديث ، ومع ذلك فإذا كان كتاب الزهرى قد ظل على قيد الحياة فلاشك أنه كان من شأنه أن يكون ذا قيمة عظيمة ، ولكن لسوء الحظ ، لم يُحفظ الكتاب ، إلا إذا كان ، كما هو محتمل جداً ، قد إستفاد منه إبن إسحاق ، أحد تلاميذ الزهرى ، والذى توفى سنة 151هـ ، فى تصنيف تاريخه الخاص عن حياة محمد، وبلاشك ، فقد أضاف إبن إسحاق كثيراً من المعلومات التى جمعها من مصادر حديثة أخرى، سواء كانت حقيقية أو مزيفة. ولكن حتى كتاب إبن إسحاق لم يصل إلينا فى صورة كاملة مستقلة ، رغم أن كثيراً منه قد حُفظ فى الإستشهادات الكثيرة التى أخذها منه إبن هشام المتوفى سنة 213هـ ، فى كتابه سيرة الرسول، وهو الكتاب الأقدم بين العديد من الكتب التى تحمل نفس الإسم. إن هذا الكتاب ذو فائدة عظيمة فى الأمور المتعلقة بمحمد وزمانه ، حيث انه ، وبشكل واضح ، الأقل أسطورية وخرافة من الكتب الأخرى فى هذا الموضوع.
إن مايخبرنا به إبن إسحاق وإبن هشام عن هؤلاء المصلحين العرب يستحق التصديق بشكل خاص، حيث لم يكن لهما مصلحة فى مدحهم أو فى المبالغة فى ذكر التشابه بينهم وبين تعاليم محمد، كما لايبدو أنه قد طرأ على تفكيرهما أن كتابتهما يمكن أن تستخدم من قبل خصوم محمد ، لذلك فيبدو أنهما قد أخبرانا بالحقيقة فى الحدود التى عرفاها. وإنه من الممكن تماماً أن التشابه بين تعاليم هؤلاء المصلحين وبين تعاليم محمد كانت أكبر مما مكنتنا المعلومات المتاحة إظهاره ، لكنها أيضاً ليست أقل من ذلك ، لنفس السبب الذى ذكرنا. ولذلك فإننا نستطيع الإعتماد على رواية إبن هشام بإطمئنان ، على أنها تحتوى على الحد الأدنى من تعاليمهم على الأقل، ومقارنتها بالقرآن.
ولكى نمكن قرائنا ليحكموا بأنفسهم ، فسوف نقدم هنا ترجمة لرواية إبن هشام، والتى إحتوت فى جزء كبير منها، على الرواية المبكرة لإبن إسحاق:
( قال إبن إسحاق (4) وإجتمعت قريش يوماً فى عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويديرون به ، وكان ذلك عيداً لهم فى كل سنة يوماً ، فخلص منهم أربعة نفر نجياً ، ثم قال بعضهم لبعض ، تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض قالوا أجل وهم ورقة بن أسد(ورقة بن نوفل)(5) وعبيدالله بن جحش ، إبن أميمة بنت عبدالمطلب ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو (بن نفيل) ، فقال بعضهم لبعض ، تعلموا والله ماقومكم على شئ ، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم ، ماحجر نطيف به لايسمع ولايبصر ولايضر ولاينفع (6) ياقوم إلتمسوا لأنفسكم فإنكم والله ماأنتم على شئ ، فتفرقوا فى البلدان، يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم ، فأما ورقة بن نوفل فإستحكم فى النصرانية وإتبع الكتب من أهلها حتى علم علماً من أهل الكتاب ، أما عبيدالله بن جحش فأقام على ماهو عليه من الإلتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه إمرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان مسلمة ، فلما قدمها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هناك نصرانياً - قال إبن إسحق، حدثنى محمد بن جعفر بن الزبير، إعتاد عبيدالله بن جحش حين تنصر أن يتنازع مع أصحاب رسول الله فى الحبشة ، وكان حين يمر بهم يقول ، فقحنا وصأصأتم ، أى أبصرنا ، وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد ، لإن الكلب الوليد إذا أراد أن يفتح عينيه لينظر صأصأ النظر، وقوله فقح عينيه تعنى فتح عينيه - قال إبن إسحاق ، وخلف رسول الله بعده على إمرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب ، أى تزوج بها بعده - قال إبن إسحاق، وحدثنى محمد بن على بن حسين أن رسول الله بعث فيها إلى النجاشى عمرو بن أمية الضمرى فخطبها عليه النجاشى فزوجه إياها وأصدقها عن الرسول أربعمائة دينار - قال إبن إسحاق ، وأما عثمان بن الحويرث فقد وفد على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده - قال إبن إسحاق ، وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل فى يهودية ولانصرانية وفارق دين قومه فإعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التى تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل المؤودة ، وقال أعبد رب إبراهيم ، وبادى قومه بعيب ماهم عليه - قال إبن إسحاق ، وحدثنى هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء بنت أبى بكر ، قالت لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخاً كبيراً مسنداً ظهره إلى الكعبة وهو يقول، يامعشر قريش ، والذى نفس زيد بن عمرو بيده ماأصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيرى، ثم يقول، اللهم لو أنى أعلم أى الوجوه أحب إليك لعبدتك به ، ولكنى لاأعلمه ، ثم يسجد على راحته (7) قال إبن إسحاق ، وحدثت أن إبن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعمر بن الخطاب وهو إبن عمه قالا لرسول الله ، إستغفر لزيد بن عمرو ، قال نعم ، فإنه يبعث أمة وحده ، و قد قال زيد بن عمرو بن نفيل هذه الأبيات فى فراق دين قومه وماحدث له نتيجة لذلك :
( أربك واحداً أم ألف رب ، أدين إذا إنقسمت الأمور، عزلت اللات والعزى جميعاً ، كذلك يفعل الجلد الصبور ، فلا العزى أدين ولا أبنتيها، ولاصنمى بنى عمرو أزور ، ولاهبلاً أدين وكان رباً ، لنا فى الدهر إذ حلمى يسير، عجبت وفى الليالى معجبات، وفى الأيام يعرفها البصير، بأن الله قد أفنى رجالاً كثيراً كان شأنهم الفجور ، وأبقى آخرين ببر قوم ، فيربل منهم الطفل الصغير ، وبينا المرء تعثر تاب يوماً ، كما يتروح الغصن المطير، ولكن أعبد الرحمن ربى، ليغفر ذنبى الرب الغفور، فتقوى الله ربكم إحفظوها ، متى ماتحفظوها لاتبوروا ، ترى الأبرار دارهم جنان ، وللكفار حامية سعير، وخزى فى الحياة وإن يموتوا يلاقوا ماتضيق به الصدور(8).
ويلاحظ خلال كل هذه الرواية أن إبن هشام كان دقيقاً فى إستخدام نفس كلمات إبن إسحاق ، مما يوفر لنا مرجعاً قديماً يمكن الإعتماد عليه فى البحث فى سيرة هؤلاء المصلحين، وخاصة زيد بن عمرو، الذى تظهر لنا قصته المؤثرة وأبياته الرائعة تأثيره الكبيرعلى حياة وشخصية محمد(9) ، كما سوف نرى.
ومرة أخرى يخبرنا إبن هشام ، إعتماداً على إبن إسحاق، أن الخطاب ، عم زيد، قد عنفه على تركه لعقيدة قومه ، وإضطهده لدرجة أصبح معها غير قادر على العيش فى مكة ، بحيث يبدو أنه قد رحل إلى مكان آخر خارج مكة ، ثم إستقر أخيراً فى غار حراء، وعاش هناك حتى سن متقدم ، وعندما توفى دُفن فى فم ذلك الجبل. ويقال أنه توفى قبل دعوة محمد بخمس سنوات فقط ، حوالى سنة 612م. ويخبرنا إبن إسحاق أنه كان من عادة قريش أيام الجاهلية، ترك المدينة وقضاء شهراً فوق جبل حراء(10) وهو شهر رمضان كما يدل كلامه ، وذلك مرة كل سنة لممارسة التحنث (11) أى التطهر ، ومن الواضح أنه كان نتيجة لهذه العادة أن إختار محمد بعد ذلك هذا الشهر ليكون شهراً للصيام لأتباعه إلى الأبد. وحيث كان يأتى فى الصيف فى زمانه ، فربما كان مأوى حراء تغييراً مرغوباً لأثرياء قريش، الذين كانوا يستطيعون فى هذه المناسبة أن يغادروا لبعض الوقت الشوارع الضيقة الحارة لمدينة شرقية غير صحية ، إلى الهواء النقى للصحراء المفتوحة. وليس لدينا أى سبب لنفترض أن التزهد قد لعب أى دور هام فى حياتهم فى ذلك الوقت. وقد عرفنا بوضوح أن محمد قد إعتاد مراعاة عادة قضاء كل شهر رمضان سنوياً فى غار حراء ، وأنه فعلياً كان يعيش فى نفس الكهف الذى سكنه زيد قبل ذلك، عندما ، وكما يعتقد هو ، أوحى إليه للمرة الأولى بواسطة الملاك جبريل. إنه من الخطأ أن نرى فى هذا أى عزلة خاصة عن العالم من جانب محمد فى هذه المناسبة ، حيث اننا نعلم أن زوجته خديجة كانت معه، وأنه فقط كان يتبع عادات قبيلته(12).
ومن الواضح أنه خلال هذه الزيارة السنوية لغار حراء ، فقد كان لدى محمد العديد من الفرص للتحدث مع زيد، ويبدو إحترام محمد للرجل واضحاً للغاية فى الأحاديث ، وقد رأينا أنه قد أقر بعد ذلك بأن زيداً يستحق الدعوة بالمغفرة بعد موته ، وفى هذا تقدير كبير للرجل ، حيث أن محمد ، وكما يقول البيضاوى فى تعليقه على الآية 113 من سورة التوبة ، أن محمد قد منع من الدعوة لمغفرة أمه آمنة ، التى كان شديد التعلق بها، والتى ماتت فى طفولته المبكرة (وماكان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ماتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم)، وأيضاً يقول الواقدى أن محمد قد ألقى على زيد السلام ، وهو شرف يضفى على المسلمين فقط، وأكد أنه رآه فى الجنة يسحب ذيولاً ، وذكر سبرنجر أن محمد إعترف به كسلفه صراحة، كما أن كل كلمة منسوبة لزيد نجدها فى القرآن بعد ذلك فعلى سبيل المثال ، فقد أمر محمد أن يقول للناس(13) هل أصبحتم مسلمين أم سلمتم لله ، كما جاء فى الآية 20 من سورة آل عمران( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى لله ومن إتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقل إهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)، ويذكر إبن إسحاق(14) أن هذه الكلمات إعتاد زيد أن يقولها للناس قبل محمد ، كما إن المبادئ الرئيسية التى كان يعتنقها زيد قد ذكرت فى القرآن أيضاً ، ومن هذه يمكن أن نذكر،1- منع وأد البنات ، تبعاً للعادة الوحشية للعرب فى الجاهلية -2- الإيمان بوحدانية الله-3 رفض عبادة الأصنام وعبادة اللات والعزى، وباقى أصنام العرب،4- الوعد بالسعادة المستقبلية فى الجنة -5- التحذير من عقاب الأشرار فى جهنم 6- إعلان غضب الله على الكفار 7- وصف الله بألقاب الرحمن والرب والغفور ، كما أن زيداً وكل المصلحين الحنيفيين ، قالوا أنهم يتبعون عقيدة إبراهيم ، وبالإضافة إلى كل ذلك فقد كرر القرآن(15) ولو بطريق غير مباشر(16) الحديث عن إبراهيم بصفته حنيفا، وهو اللقب الذى إختاره زيد لنفسه ولزملائه.
إن الجذر الذى إشتقت منه كلمة حنيف تعنى فى العبرية ، يخفى ويتظاهر ويكذب وينافق، كما تتشابه معانيها فى السريانية ، أما فى العربية فيبدو أنها تشير اولاً إلى العرج أو المشى غير المستوى، ولكنها أصبحت تعبر عن عدم التقوى فى هجر عبادة آلهة الأجداد ، وبهذا المعنى فلا شك أنها قد طبقت أولاً على المصلحين كنوع من التوبيخ ، ولكن ، وكما يخبرنا إبن هشام (17) منذ أن أصبحت الكلمة فى لغة قريش تعنى التوبة والتطهر، فقد أصبحت مرتبطة بالحنيفية وبتقليد التحنث، ومن المحتمل أن الحنيفية قد تبنوا هذا الإسم بسعادة على انه معبر عن رفضهم لعبادة الأصنام ، بكل ماتنطوى عليه من آثام ، ومن الملاحظ أيضاً أن محمد قد غامر بتطبيق الإسم على إبراهيم ، وبدعوة الناس ليصبحوا حنيفيين بالعودة إلى عقيدة إبراهيم ، والذى وحدها بالإسلام الذى دعى إليه. والواقع أنه بإستخدام هذه الكلمة يكون محمد وبأوضح طريقة ممكنة قد أعلن إنضمامه لعقيدة المصلحين الحنيفيين ، وعندما نجده بالإضافة إلى ذلك يتبنى تعاليمهم ويدخلها فى القرآن ، فلايمكننا ان نتردد فى إدراك عقائد الحنيفية كأحد المصادر الرئيسية للإسلام.
وقد كان التأثير الذى مارسه الحنيفيون على الإسلام الوليد طبيعياً جداً بسبب الروابط القبلية أيضاَ ، حيث كان المصلحون المكيون الأربعة الأوائل من أقارب محمد ، ينحدرون من جدهم المشترك لؤى ، وكذلك فقد كان عبيدالله إبن خالة محمد ، والذى تزوج محمد أرملته بعد وفاته ، كما رأينا. وبالنسبة للإثنين الآخرين ، ورقة وعثمان ، فقد كانا أبناء عم زوجته الأولى خديجة ، كما يخبرنا إبن هشام(18).
ملحوظة / أغفل تيسدال فى تقديره لتأثير كبار الأحناف على محمد ، أمية إبن أبى الصلت ، الذى لايقل تأثيراً عن تأثير زيد بن عمرو ، ولقد إستلهم محمد كثيراً من أحاديثة ومن آياته القرآنية من أشعار أمية وليس فقط من أشعار زيد (المترجم).
الهوامش :
1-بالإضافة إلى المراجع المذكورة ، أنظر القصة الهامة عن أبى ذر التى رواها مسلم فى كتاب الفضائل
2-ذكر التاريخ إثنى عشر من أتباع محمد كانوا حنفاء قبل إعتناق الإسلام
3-ومع ذلك يذكر سبرنجر آخرين يعتقد أنهم ذا مصداقية
4-سيرة الرسول، المجلد الأول ، ص 76-77
5-حذفت هنا سلسلة النسب التى ذكرت عن كثير من الأجيال الماضية
6- تشير إالى الحجر الأسود المشهور
7-أو أنه إعتاد أن يطرح نفسه على راحتى يديه
8- فراغ فى الهامش
9- يخبرنا الإمام أبوالفرج الأصفهانى فى كتابه الأغانى ، الجزء الثالث ص 15 ، أن محمد قد إلتقى وتحدث مع زيد إبن عمرو قبل نزول الوحى.
10-سيرة الرسول ، المجلد الأول ، ص 79
11- فراغ فى الهامش
12-أنظر الهامش السابق ، عظيم الأهمية
13-كويل ، محمد والمحمدية ، ص 53
14- عن سبرنجر من حياة محمد ص 42
15- السورة الثانية آية 89، والرابعة آية 124، والسادسة آية 162
16- قد يرى علماء العرب أين تكمن الغير مباشرة ، فربما لايوجد سبب حقيقى للقول بطريق غير مباشر حيث تعنى اللغة مباشرة تقريباً.
17-أنظر أعلاه ص 269 الهامش 2
18- سيرة الرسول ص 63 و 76 و إلى آخره


الخلاصة
إن أحد الإعتراضات التى يمكن أن تخطر على بال القارئ الذى تتبعنا بصبر حتى الآن فى تقصينا عن أصل الإسلا م، هى أن يقول ، أن كل ذلك يشبه مسرحية هاملت بإستثناء إغفال دور أمير الدنمارك، لقد أظهرت لنا أن كل الإسلام مقتبساً من أنظمة سابقة عليه، ولذلك لم تترك شيئاً تقريباً يمكن نسبته إلى محمد نفسه ، أليس من الغريب أن نجد المحمدية بدون أى محمد؟ إن الجواب على هذا الإعتراض ليس بعيداً، إن عقيدة الإسلام اليوم ، وكما كانت فى الماضى، تظهر الدور الهام الذى لعبه محمد فى النظام العقائدى للمسلمين، حيث أنه يحتوى ، وكما عبر جيبون بدقة ، عن حقيقة خالدة وخيال ضرورى ، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، إنه ليس كثيراً أن تقول أنه فى عقول أتباعه يحتل محمد مكاناً هاماً للغاية ، مثل المسيح للمسيحيين ، إن تأثير مثاله للخير والشر يؤثر فى كل العالم المحمدى ،حتى فى أبسط المسائل، فلم يلعب أحد من الرجال دوراً مؤثراً فى التاريخ الدينى والأخلاقى والسياسى للجنس البشرى ، كما فعل مؤسس الإسلام ، فطبيعياً فقد كان من المستحيل ، وقد إحتل المكان الذى إدعاه لنفسه أن لا يترك محمد على العقيدة التى أسسها ذلك التأثير المميز لشخصيته.
إن البنا يجمع مواده من أماكن مختلفة ، لكن أسلوبها وترتيبها يظهران مهارته الشخصية. إن خطة المعمارى تظهر فى البناء الذى شيده كأنها محتواه . وتماماً وبنفس الطريقة ، وبرغم أننا قد رأينا أن محمد قد إقتبس كثيراً من الأفكار، والأساطير والطقوس الدينية من العديد من الجهات المختلفة ، فقد أقام دين الإسلام لنفسه شكلاً مستقلاً ، يختلف فى نواحى معينة عن أى دين آخر. إن جمال النمط الأدبى ، وكثير من أجزاء القرآن ، قد نالا إعجاباً عالمياً، كما أوضحا بلاغة مؤلفه بشكل قاطع. إن النقص فى تنسيقه وترتيبه قد لايعود إليه ، لكن العمل وبشكل عام ، يعكس حدود ذكاء محمد ، والكمية القليلة للغاية من المعرفة والتعليم الحقيقى التى إمتلكهما ، وسذاجته اللامحدودة ، والنقائص الأخلاقية فى شخصيته. وعندما يدرس فى نسق تأريخى لمحتوياته ، يظهر القرآن آثاراً من التغير السياسى التدريجى فى موقف محمد من المسائل الدنيوية. فبعض أجزائه حتى من وجهة نظر مفسرى محمد ، يمكن تفسيرها بالإشارة إلى بعض الأحداث الهامة فى حياته هو نفسه ، والتى تنطبق عليها تلك الآيات بصفة خاصة ، ومن أجل توضيح ذلك يكفى أن نستفسر فقط عن موقف محمد من إستخدام السيف فى نشر الإسلام ، وعن حادثة معينة فى علاقاته الزوجية( حادثة زينب بنت جحش)
من المعروف جيداً أن محمد قبل أن يغادر مكة ويلجأ إلى المدينة حوالى سنة 622م ، لم يكن لديه قوة سياسية ، حيث تبعه فى مكة عدد قليل جداً من الناس(1) ولذلك فقد حاول فى سنتى 615-616م أن يبحث عن الأمان فى الحبشة ، ونتيجة لذلك ففى السور التى صنفت قبل الهجرة - السور المكية- لم يكن هناك ذكر لواجب الحرب أو الجهاد من أجل نشر الدين، او حتى للدفاع عن النفس، ولكن بعد الهجرة ، عندما أصبح عددا كبيراً من أهل المدينة من أنصاره، فقد أعطى الإذن فوراً لأتباعه بالقتال دفاعاً عن أنفسهم ، ويلاحظ إبن هشام(2) أن إذنه قد أعطى للمرة الأولى فى الآيات 39-40 من سورة الحج( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغيرحق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت جوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها إسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز).
ثم وبعد وقت من ذلك ، وعندما بدأت غزوات وسرايا محمد تنال من قوافل قريش، تحول هذا التصريح إلى أمر ، تبعاً لما جاء فى الآيات 216-217 من سورة البقرة( كُتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون ، يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كثير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ) إن هذا يعنى أن المسلمين قد أمروا بالحرب ، حتى أثناء الأشهر الحرم ، وأن لايسمحوا لأعدائهم بمنعهم من دخول المسجد الحرام(الكعبة).
وثالثاً، عندما تغلب المسلمون على بنى قريظة وبعض القبائل اليهودية الأخرى فى السنة السادسة للهجرة أصبح أمر الإشتراك فى الحرب المقدسة أو فى الجهاد أشد صرامة ، كما يتضح فى الآية رقم 33 من سورة المائدة( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم). إنه من الملاحظ أن المفسرين يشرحون بأن هذا التشريع يشير إلى المعاملة التى يجب أن يعامل بها عباد الأوثان، وليس على اليهود والمسيحيين، لكن الواقع إن معاملة المسلمين لأهل الكتاب قد تقررت فقط فى السنة الحادية عشرة للهجرة تماماً قبل وفاة محمد. ثم نصل إلى المرحلة الرابعة فى الآيات 5 من سورة التوبة والتى ربما تكون آخر سور القرآن ، حيث تقول( فإذا إنسلخ الأشهر الحرم فإقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وإحصروهم وإقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الذكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)(3) وفى الآية 29 حيث تقول( قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولايحرمون ماحرم الله ورسوله ولايدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطو الجزية عن يد وهم صاغرون)(4). وعلى ذلك فإن شريعة الله قد أظهرت للناس فى القرآن على مراحل تبعاً لنجاحات محمد العسكرية، ولتعليل ذلك فقد وضعت قاعدة أن بعض الآيات تلغى بآيات أخرى ، كما يقول القرآن فى الآية رقم 106 من سورة البقرة( ماننسخ من آية أو ننسيها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير). ومع ذلك فمنذ ذلك الزمن وحتى اليوم ، لم يستطع مشرعو محمد تحديد الآيات التى تم إلغائها ، والآيات التى حلت محلها.
ربما وبنفس الطريقة يمكن أن نتتبع التغير فى موقف محمد تجاه اليهود والمسيحيين منذ بداية سيرته ، عندما كان يأمل فى أن يكسبهم لجانبه ، حتى الوقت الذى شعر فيه بخيبة توقعاته ، وعندما قرر الإنقلاب عليهم بالسيف. لكنا نتعلم نفس الدرس من كل مثل تلك الحالات ، حيث أخضع محمد وحيه تماماً لحاجاته السياسية الآنية. إن نفس الشئ ينطبق على ما يخص زواجه من زينب بنت جحش ، والتى طلقها إبنه بالتبنى ، زيد من أجل خاطره ( زيد بن محمد أولاً ثم زيد بن حارثة بعد أن حرم محمد التبنى) ، إن الموضوع يبدو كريهاً بالنسبة إلينا بحيث لايمكننا معالجته بالتفصيل ، ولكن الإشارة التى يقولها عنه القرآن فى الآية 37 من سورة الأحزاب ، بالإضافة إلى التفسيرات التى قدمها مفسرو الأحاديث تثبت أن شخصية محمد ومزاجه قد تركت أثرها على القانون الأخلاقى للإسلام وعلى القرآن نفسه( وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك وإتق الله وتخفى فى نفسك مالله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطراً زوجنا كها لكى لايكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً). إن الإذن الممنوح له فى القرآن ، وله وحده(5) بالزواج من أكثر من العدد الشرعى المسموح به للفرد المسلم فى وقت واحد بأربع زيجات ، هو دليل إضافى فى هذا الخصوص ، والذى يفسره حديث سئ لعائشة عن طباع محمد الغريبة ( ماأرى ربك إلا يسارع فى هواك).
ومع أخذ كل ذلك فى الإعتبار ، فمن الواضح أنه برغم أن محمد قد إقتبس الممارسات والمعقدات والأساطير الدينية من مصادر مختلفة متعددة ، فقد جمعهم بطريقة فى كل واحد متماسك ، منتجاً عقيدة الإسلام. إن بعض أجزاء هذا الكل جيدة ، حيث يحتوى ألإسلام على بعض الحقائق العظيمة ، المقتبسة من أنظمة عقيدية أخرى ، والتى تبرر إلى حد ما بقائه فى العالم حتى اليوم ، ولكنه بالتأكيد لم يحتوى على أى تصور عقيدى نبيل جديد ، وأن روحه العام هى إنعكاس شديد للطبيعة الحسية والجنسية لمؤسسه. إن إستخدام تشبيه شرقى ربما ليس ملائم فى الحديث عن مثل تلك االعقيدة المحلية الشرقية تماماً ، والتى يمكن تسميتها بالمحمدية. وعلى ذلك فالإسلام ربما يمكن مقارنته بشكل مناسب بتلك البحيرة القارية - من القار- حيث إشتعلت سودوم ، والتى إستقبلت فى حضنها مياه كثير من الأنهار، وعند إتحادها أخذت شكل أحواض هذه الأنهار ، محولة إياها إلى مجرى بحر عظيم من الموت ، من سواحله ينطلق تمجيد وبائى مدمر لكل حياة يصل إليها تأثيره الشرير. هذا هو الإسلام. نابعاً من مصادر مختلفة عديدة ، ومستقبلاً إليه بعض عناصر من الحقيقة التى إتخذت شكلها من شخصية ومزاج محمد ، ولذلك فالجيد فيه يخدم فقط للتزكية والحفاظ على الشر الذى جعل منه عقيدة مزيفة مخادعة ، لعنة على الإنسان ، وليس بركة، لعنة حولت كثير من أقليم العالم الجميلة إالى صحارى ، والذى وحتى أيامنا الحالية ، خضب كثير من الأراضى بالدماء البريئة، كما ضربت بوباء أخلاقى وفكرى وروحى كل أمة خضعت لنيره الحديدى، وتألمت تحت سيطرته القاسية.

الهوامش
1-العدد الإجمالى لهؤلاء الذين ذهبوا إالى الحبشة فى تلك المناسبة من الهجرة الثانية كان حوالى 101، كان 83منهم من النساء ، سير وليم موير ، حياة محمد ، ص 84
2- سيرة الرسول ، المجلد الأول ، ص 164 ، عن عروة وآخرين
3-هذه هى الزكاة المفروضة على المسلمين ، أحد شروط إعتناق الإسلام
4-الجزية المفروضة على اليهود والمسيحيين
5- سورة الأحزاب ، آية 49
----------------------------
تمت ترجمة الكتاب
جاكرتا 27-2-2022








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا
على سالم ( 2022 / 3 / 4 - 06:35 )
لم استطع ان اقرأ كل المقال نظرا لطوله , لكننى قرأت اجزاء منه , هذه المسأله محسومه تماما , كتاب القرأن كتاب بشرى ساذج بدون جدال , الاشكاليه مع المسلمين انهم مسدودى الدماغ ويقدسوا محمد قداسه عظيمه جدا وهو عندهم اهم من الله ؟ يعنى عقولهم شمال ولايفهموا بسهوله , كلام القرأن عندهم هو قدس الاقداس مع انه مقطع الاوصال وغير مترابط واللغه فيه بدائيه بدويه وصعب ان تخرج بمعنى واحد , لذلك فأن الوقت سيطول جدا الى تحدث معجزه وتتغير الظروف والمعايير


2 - الرد على ىالأستاذ على سالم تعليق رقم 1
عبدالجواد سيد ( 2022 / 3 / 4 - 16:46 )
بالطبع بشرية القرآن أصبحت مسألة محسومة خاصة فى عصر السوشيال ميديا ، فقط كتاب تيسدال يجمع مصادر النقل الحرفى للقرآن فى كتاب واحد مع التوضيح والتوثيق خاصة المؤثرات الهامة أو المصادر الهامة التى نقل عنها محمد والتى كنت شائعة فى زمانه ومكانه خاصة اليهودية والمسيحية والفارسية ، لذلك أكملنا ترجمته ونشرناه حتى يظل مرجعاً لمن يبحث عن تلك المصادر مجتمعة معاً فى كتاب واحد، شكراً أستاذ على على مروركم الكريم، الذى دائماً ما يلقى بمزيد من الضوء على الموضوعات المطروحة ، شكرا شكرا

اخر الافلام

.. حاكم دارفور: سنحرر جميع مدن الإقليم من الدعم السريع


.. بريطانيا.. قصة احتيال غريبة لموظفة في مكتب محاماة سرقت -ممتل




.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين يضرمون النيران بشوارع تل أبيب


.. بإيعاز من رؤساء وملوك دول العالم الإسلامي.. ضرورات دعت لقيام




.. بعبارة -ترمب رائع-.. الملاكم غارسيا ينشر مقطعاً يؤدي فيه لكم