الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأبتكار والتجريب في الفنون المعاصرة

تحسين الناشئ

2022 / 3 / 2
الادب والفن


في عصر المادة والآلة والسرعة، اصبح انحلال المعرفة الجمالية (Aesthetic Knowledge) وضمورها قاب قوسين او أدنى من سلامة المنظور التقييمي للأنسان العادي، مما يقود الى فوضى التفسير، ومنه الى التشكيك بالجدوى او عدم القناعة بالنتائج.. الى غير ذلك، مما يربك السعي العام لتحويل الخصائص البنيوية (Structural Characteristics) الى وحدة منظورة غير مستنزفة حسيا. ان الطروحات الجمالية التي لا تتقبلها الذائقة العامة أو ذائقة المشاهد العادي بيسر تكون قد خصصت هويتها لفئة دون غيرها. اما اللبنة الحقيقية التي يقوم عليها المنجز الفني الحداثوي فهي الشكل (Form)، الشكل الذي يعتق نفسه من اطاره المنسوج ضمن قيود واقعية معززة بالنمطية ليأتزر مئزرا جديدا اكثر اِبهارا واكثر فاعلية ليحلق بعيدا عن فوضى الرتابة والجمود. ان تمثيل المدرك من الأشارات الحرة غير المقتبسة (Quotation)وتناولها في الخطاب الجمالي الحداثوي دون تقييد آلية التناول يؤدي الى فيض المعنى والى الأرتقاء بمفعول القيمة المتحققة عمليا. فالمسألة تتطلب قيام منظور ذاتي عميق القيمة تتم توليته لدراسة المضمون والبحث عن مخارج ذكية للأرتقاء بآلية التنفيذ بمراحلها المتمايزة دون عشوائية متوالية في التنظير.

يقينا ان الأفكار الحرة لا تنمو من تلقاء نفسها ولا تُبسط وجودها آليا على خامة العمل ولا تتمكن من الأرتقاء بمعانيها اِلا بمعونة المنهج الأختباري الذي يُطلق عليه (التجريب Experimentation). اِلا ان التجريب في الفنون الأبداعية لابد ان يخضع الى رؤية واضحة يسبقها اِشباع معرفي عميق مع ضرورة امتلاك مستوى متقدم من المهارة ومقدرة عالية من الجرأة والتحليل. كما انه يخضع بطبيعة الحال الى سياقات عملية فكرية مقررة سلفا في ذهن الفنان يكون سندها الأول، الأصالة (Originality) أي تجيير النتائج لصالح هوية الفنان وهيمنة بصمته الذاتية، ومن ثم الأنعطاف الى معاينة النتائج ودراستها ومناقشتها. ان هذا النهج في الطروحات المعاصرة له ضرورته لاشك لانه سوف ينقطع الى ديناميكية التحرر من منظومة الأساليب العتيقة التي لم تعد تجاري التنامي المعرفي للأنسان (الفنان) الحاضر في سلوكياته الحرفية وتوجهاته الآيديولوجية ورؤاه الفكرية الجمالية، كما ان هذا الأمر يستلزم الحث الدائم على بلورة المنهج المطروح ليتناغم مع الكيفية الذاتية للفنان بأُطرها العليا وتحديد آليات ذلك المنهج ليتوافق منجزه العملي مع بحثه الجمالي بالشكل المرتجى.

الفن بالنسبة للفنان هو عملية اكتشاف (Discovery) وتحري، اكتشاف قيم جمالية جديدة في اشكالها وابعادها وعلاقاتها. ويقينا ان القيم الجمالية (في بعض مظاهرها وجوانبها) لا تهرم ولا تضمر (Atrophy effect) ، اِلا انها تخضع بفعل الزمن الى التغير والتطور والتجدد، انها ظواهر ثابتة سواء من منظور الحاجة اليها أو من خلال الدوافع المحرضة لوجودها، ربما يحرضها الزمن على التغيير، التبسيط، التعقيد.. قد تتمدد، أو تنكفيء على ذاتها، لكن خصائصها العامة تبقى ثابتة وبحيوية متجددة. ان تشابك الرؤى في تلاقي الأضداد يعيق تبني الصورة الذهنية التي تسبق لحظة الأنجاز الفني مما يؤدي الى فتورها وانكماشها وربما انتهائها الى شكل من اشكال الترميز (coding)، وهذا يحيل سلطة النص (المضمون) للأرتقاء الى الواجهة بديلا عن العناصر المقروءة بصريا، أي بديلا عن الشكل. وبدون تحريض تلك الأطر الهامة الصاعدة المضافة الى جملة العلاقات المتشابكة التي تولد الصدمة الأيجابية (اللذة البصرية) المبتغاة في المظاهر المشكلة جماليا، تفقد الصورة فعاليتها وتنحو الى الجمود.

ثم كيف تصل الى واجهة الصورة إشارات لم يكن لها مكان في خطاب الدهشة الذي اِستولى على مناطق البصر وهو يعلو سطوح الصفحات الملونة وجدران الصالات. فأيهما ياترى اكثر جدوى في مسألة الإرتقاء بالذائقة وتطعيمها بما هو اكثر عنفوانا وحيوية، الخيال الواعي دون عشوائية الطرح، اَم المدرك والمحسوس من المرئيات؟ هنا سوف يحيلنا الحوار البصري الى بلورة الخصائص والى اختبار قيمة النتاج تأريخيا وفكريا، ثم تكتمل نتائج العملية، بكل يقين، بإزاحة الأفتراضات من مساحة الرؤية الى القدر الذي لا يحد من ديمومة المعنى والتفاعل معه. ان مسائل هامة مثل: الأصالة (Originality)، المرونة (Flexibility) ، الحيوية (Novelty) ، المهارة (Skill) هذه المزايا جميعها هي نتاج تراكم معرفي عميق مستند الى تراكم خبرة (ممارسة عملية واعية)، انها اِنعكاس لوعي ذاتي لضرورة الفعل الجمالي.

وفي ظل غياب التقنية المرادفة للنص يتبعثر الشعور بأهمية البناء الداخلي (Structure) الذي يتوجب ان يحل نفسه كنوع من أنواع السيادة في هيكلية العمل الفني المعاصر، وتتفاعل خصائص ذلك البناء تفاعلا إيجابيا متبادلا يتيح لها ان ترتقي بالنتائج الى مراحل عليا. ومن هنا يأتي السعي المتواصل الى تحديث او تجديدRenewing) ) او عصرنة الرمز الدال دون تشويهه او اِرباكه، ومن غير استهلاك القيمة الدلالية الكامنة فيه. وهذا يعني الألتزام بحرية تشكيل صور المفردات دون انقاظ النص وتفكيكه، ومن غير اِرباك لعناصر العمل الأبداعي. فحين تنجلي المظاهر المدهشة المتحققة في العمل المنجز، ستبدو سلطتها اقل تشابكا واقل تعقيدا، وتبرز فاعليتها تحت وقع التناغم مع مايحيطها من عناصر. وربما تتحقق هنا صدمة الأبهار واللذة البصرية (Visual pleasure) المرتجاة، مانحة مساحة واسعة للتفاعل حسيا ووجدانيا، وهو مايسعى اليه الفن جوهريا، أي ضرورة الدعوة الى ايقاظ الحواس وصقل فاعلية الملازمة البصرية وتقبل المُثل الجمالية بوعي تام دون معزل عن الدوافع السيكلوجية المحرضة.

وفي حال توافق الجانبين النظري والعملي تبعا لمنهجية محددة بعيدة عن الأجتهادات او التأثيرات الخارجية، سيؤديان الى شكل ما من أشكال الأبداع، فعبر ذلك التوافق تتم بلورة الخطاب بصورة من صور التناغم المعرفي المقرر سلفا وتبعا لآلية محددة في ذهنية الفنان تمثل خلاصة أبحاثه الجمالية، حينذاك يتبلور الخطاب الى لغة صورية اِشارية معبرة متمثلة بالمنجز الفني. وربما تمكن بعض الفنانين المعاصرين بعد بحث وتجريب مستفيضين، من الأمساك ببعض تلك الوسائل التي راحت تعينهم وتقودهم الى تحويل خزينهم المعرفي وخبراتهم العملية وانطباعاتهم المرئية الى تشكيلات مضيئة يمكن قراءتها وتحليل رموزها، محققين بذلك نوعا من التوازن المرن بين مستوى طروحاتهم ومستوى الأستجابة لدى المتذوق. ان التجارب المعاصرة العديدة التي قادت الى ابتكار أشكال ومفردات وقيم تشكيلية جديدة نجد لها أمثلة واضحة عند فناني الحداثة من أمثال: هانس آرب، دوبوفيه، كيفر، اوتو دكس، بيير سولاجز، ماذرويل، باسيليتز... الخ، هذا في مجال الرسم، اما في مجال النحت فنجدها عند: ليبشتز، الكسندر كالدر، باربارا هيبورث، هنري مور، توماس شوتي، ايمندورف، وغيرهم.

ولغرض تطوير لغة الرمز البَصَرية في الفن الحداثوي، اي لغة الشكل (Form) وتنامي قدرتها على القبول وعلى تطويع الذائقة، فانها تستدعي من الفنان حث واستدعاء وولوج كل ما يرتقي بالآلية الأبداعية من فاعلية وجدوى، ذلك ان تحقيق آلية سليمة متقدمة تمنح القدرة على تفكيك تفاصيل العمل وتجريد هيأته الخارجية لكشف مايضمره من عناصر ودلالات بكل ابعادها وبعث قيمها الجمالية الكامنة في بواطنها، أي الكشف عن ذلك البعد المتخفي والمستتر في الرموز المعلنة والمغيبة معا، الظاهرة والباطنة على حد سواء إضافة الى توحيد مفردات المنجز لتتمكن بذلك من تحقيق صلتها السليمة بالحداثة.

ويقينا، العمل الفني يزداد نضجا ونماء في حال بني على مرتكزات متينة من العناصر والمعالجات التقنية الغير اِستثنائية. لهذا تنصب التجارب العملية المتواصلة في الفن المعاصر بمجملها حول البناء العام (Structure) القائم على التوافقات بين ماهو مبتكر ومتفرد من الصور من جهة وبين العلاقات المتلاقحة بين العناصر العامة التي تمثل التكوين العام من جهة اخرى، وهنا يكون للون والشكل والملمس (Texture) وخامات العمل اعتبارات خاصة. والفنان المعاصر بطبيعة الحال لابد ان يُخضع منهجه عن وعي تام لقواعد اللغة والممارسة الحداثوية في الفن، فمن غير ذلك سيفقد توازنه لاشك وتُقطع صلته مع الروابط التي تعينه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن