الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوتين في أوكرانيا: التراجُع يعني تدهور هيبة روسيا والاستمرار يعني تدهور اقتصاد روسيا.. فما الحل؟.

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

(Abdul-hamid Fajr Salloum)

2022 / 3 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


رُبّما لم يكن الرئيس بوتين شخصيا، وكافة مُساعديهِ، يتوقعون أن تصل العقوبات الغربية في أسوأ الأحوال إلى رُبع ما وصلت إليه.. وأن يصل رد الفعل الدولي إلى هذا المستوى الغاضب الذي تجلّى من خلال مواقف المندوبين الأمميين في الأمم المتحدة في نيويورك وفي جنيف..
*
حتى إلى ما قبل تنفيذ الهجوم على أوكرانيا بأربعٍ وعشرين ساعةٍ، يوم الخميس 24 شباط/فبراير 2022 ، كان الرئيس فلاديمير بوتين وكافة المسؤولين الروس يؤكِّدون أنهم لن يشنُّوا هكذا هجوم، ويَسخرون مِمّا وصفوهُ، الهيستيريا الغربية والأمريكية التي كانت تُروِّج لذلك..
بل أنّ الصين ذاتها اعتبرت تصريحات الولايات المتحدة عن استعداد روسيا لغزو أوكرانيا، تصريحات مُزيّفة لا علاقة لها بأرض الواقع..
ولكن الرئيس بوتين بمهاجمتهِ أوكرانيا صبيحة 24/2/2022 أكّد للعالم، أن "الهيستيريا" الغربية كانت في مكانها، ورُبّما الصين التي سبق ووصفتْ الهيستيريا الغربية بالمُزيّفة، قد تكون صُدِمت من قرار بوتين..
*
وتزامُنا مع هذه "الهيستيريا" كان قادة الغرب أنفسهم، وأولهم الرئيس الأمريكي والرئيس الفرنسي، ورئيس وزراء بريطانيا ورئيس وزراء ألمانيا، يؤكدون أنهم لن يتدخلوا عسكريا في أوكرانيا، ولن يُرسلوا قوات للقتال..وهنا تجلّى المُكر الغربي، وكأنهم كانوا يقولون للرئيس بوتين، القرار قرارك، ولن نُدافع عن أوكرانيا.. ولسنا معنيين سوى ببعض العقوبات الاقتصادية..
وما إن وقعت الواقعة حتّى جنَّ جنون الغرب، وتغيّرت النبرةُ مائة وثمانون درجة..ومن كانوا يتحدثون بِلُغة الحمائم باتوا يتحدثون بِلُغة الصقور.. وبدأت العقوبات القاسية جدا على كافة المستويات، الاقتصادية والمالية والبنكية والإعلامية والدبلوماسية وشركات الطيران الروسية، وحتى الفن والتمثيل وصناعة السينما والرياضة، إلى أن طالت الرئيس بوتين شخصيا ووزير خارجيته..
وبدأ الحشدُ العالمي عبر الأمم المتحدة.. وعبر الضغوط حتى الخاصّة على بعض الدول لتحزو جميعها حزو دول الناتو.. وتُطبِّق العقوبات الأمريكية والأوروبية.. وظهر الغرب عموما وكأنه يدا واحدة، دولا ومُجتمعات، وحكومات وقيادات، كما لم يحصل في أيِّ زمنٍ.. وانضمّ إليه أوستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، وكافة الدول ذات الأنظمة الديمقراطية البرلمانية الشبيهةِ بالأنظمة الغربية، فهذه كلها من ذات النسيج المتشابك مع بعضهِ..
*
نجحت قيادات الغرب، في تحشيدِ مجتمعاتها وإخافتها من السلوك الروسي، وتمَدُّدهٍ لاحقا ليُشكِّل تهديدا للجميع.. وأخذت هذه المجتمعات تنظر للهجوم الروسي ليس أنهُ مُجرّد اجتياحٍ لأراضي دولةٍ أخرى، وإنما اعتبروهُ قبل أي شيء، تهديدا للنظام الغربي بأكملهِ القائم على الديمقراطيات البرلمانية والليبرالية وقيم الحرية وحقوق الإنسان وتداول السلطة عن طريق صناديق الاقتراع وحرية التعبير ومؤسسات المجتمع المدني الحرة.. وهذا النظام هو من أرسى أسس الأمن والسلام والاستقرار والرفاهية والازدهار في الغرب..
باتت مجتمعات الغرب، قبل نُخبِها، ترى أن المسَّ بهذا النظام، هو اعتداء على كل الغرب وزعزعة لكل أركان الغرب وكرامة الغرب..
ومن هُنا فإن بوتين ربما وضعَ نفسهُ في مواجهة كافة شعوب الغرب قبل أن يواجه حكومات وقيادات الغرب، أو ناتو الغرب..
*
ولذا فحتى الدول الأوروبية المعروفة بحياديتها طيلة زمن الصراعات والتوترات بين الغرب والشرق، انخرطت اليوم في هذا الصراع، بشكلٍ أو بآخرٍ، كما النمسا وفنلندة والسويد وسويسرا، وهذه(سويسرا) انضمّت للاتحاد الأوروبي في تطبيق كافة عقوباته واستبعاد موسكو من نظام "سويفت" المالي العالمي، أو "جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك" للتراسل وضمان المدفوعات السريعة العابرة للحدود.. وهي الآلية المُعتمدة لتمويل التجارة العالمية.. وبالإنكليزية:
Society for Worldwide International Financial Telecommunication(SWIFT
وهذه العقوبة لوحدها التي فرضها الاتحاد الأوروبي على المصارف الروسية، تشكل ضربة قاسية للاقتصاد الروسي، فضلا عن تجميد أرصدة البنك المركزي الروسي..
عقوبات قاسية على كافة الأصعدة، مع دعم عسكري وحربي ومالي لأوكرانيا، بما فيه الطائرات الحربية والأسلحة الثقيلة، ونشرُ قوات التدخُّل السريع في شرق أوروبا، وتشملُ 100 طائرة مقاتلة، و 120 سفينة، ومجموعات قتالية وحاملات طائرات.. بل وتشجيع المتطوعين للذهاب والقتال في أوكرانيا.. فروسيا في رأي الناتو باتت اليوم في (المصيدة) إن صحّ التعبير..
إذا لم يكتفي الناتو والاتحاد الأوروبي فقط بفرضِ العقوبات الاقتصادية التي توعّدوا بها قبل الهجوم، بل وسّعوها كثيرا لِتشمل كل الميادين، وهذا الدعم العسكري الكبير لأوكرانيا، هو مُشاركةٌ في الحرب..
*
الاستيلاء على كل أراضي أوكرانيا، ممكنٌ بالنسبة لدولة كما روسيا وفي ظل الخلل الكبير في توازن القوى.. المشكلة ليست هنا، وإنما فيما سيأتي لاحقا، من مقاومةٍ مُسلّحة يدعمها الناتو بكل أصناف الأسلحة، والتي ستُكبِّد روسيا خسائرا كل يوم، وتستنزف اقتصادها وجيشها ومُقدّراتها، وتُشغلها في أوكرانيا لسنينٍ، لأن الحرب ستطول، وتنعكسُ سلبا على مستوى معيشة شعبها وعلى نمو البلد وتطويره ومُخططات تنميته.. الخ.. وإضعافها لأقصى درجة، حتى يسهل أخيرا تحقيق الهدف في تفتيتها، وهذا ما اتّهم بوتين شخصيا الغرب بالسعي إليه..
لاسيما أن مساحة أوكرانيا تفوق 600 ألف كيلو متر مربع، وعدد سكانها 40 مليون نسمة، ولذلك ليس من السهل إطلاقا السيطرة على هذه المساحة الشاسعة، والدفاع عنها في آنٍ معا.. وكما يقول المثل الشعبي: (ليس هنيئا لِمَن حَبِلَت وولّدتْ ولكن هنيئا لِمَن سَلِمَ لها المولود)..
وواضحٌ أن هناك استعدادٌ أطلسي وأوكرانيٌ، للمقاومة الطويلة، ورفض الاعتراف لروسيا بالأمر الواقع.. وهذا سيستنزف روسيا وستتكرّر صورة أفغانستان..
وقد وصلت خسائر البورصة الروسية في أول يوم للهجوم على أوكرانيا 150 مليار دولار، بحسبِ وكالات الأنباء، وهوَت الأسهم الروسية، والروبل الروسي، وخسر أثرياء روسيا 39 مليار دولار في يوم واحدٍ ..
*
مُفاجأةَ الغرب في هذا الرد زاد من غضبِ بوتين، فلجأَ حالا لاستنفار السلاح النووي، ووضعهِ في حالةِ الجاهزية.. وإن ما اشتعلت حربٌ نووية، فهذه لن تطول وإنما بغضون وقتٍ قياسيٍ سيتمُّ تدمير الكون.. وأولهُ روسيا.. فهل هذا سيكون في مصلحة أحد؟.
*
روسيا، تبدو في موقف حرِج ومعزول دوليا، فخطوتها هذه لاقت شجبا عالميا واسعا، وحتى الصين لم تستخدم حق النقض" الفيتو" في مجلس الأمن ضد مشروع القرار الذي كان ينطوي على إدانة للهجوم الروسي، يوم 25/2/2022 وإنما امتنعت عن التصويت.. والامتناع بهذه الحالة يعني، لا علاقة لنا بهذه الحرب ولسنا طرفا فيها.. ولو استخدمت الصين الفيتو، بدل الامتناع، لوضعت نفسها في مواجهة كافة شعوب الغرب، وحرّضت دُوَلهِ أكثر على التدخل في شؤونها الداخلية، لاسيما ما يتعلق منها بحقوق الإنسان ووضعِ الأقلية المسلمة "الإيغور" ، حتى لو كانت من طرفٍ آخرٍ، تدعو الناتو إلى أخذِ مخاوف روسيا بعين الاعتبار، وعدم جواز أن يكون أمن أي دولة على حساب دولة أخرى.. وهذا مفهومٌ مطّاطٌ جدا، وكل دولة يمكن أن تدّعي أن الأخرى تُشكِّلُ تهديدا لأمنها..
وحتى إسرائيل المعتدية التي تحتلُّ جزءا من أراضي سورية في الجولان، تعتبر سورية تهديدا لأمنها القومي بسبب النفوذ الإيراني فوق أراضيها..
بل بنظرِ الكثيرين، أن كافة المُبرِّرات التي ساقتها موسكو للهجوم على أوكرانيا، هي مُبرِّرات مطّاطية، ويمكنُ لأي دولة أن تتذرع بأيٍّ منها لأجل تصفية حساباتها مع دولة أخرى.. ولا تتماشى مع القانون الدولي ولا مع ميثاق الأمم المتحدة الذي هو جزءا من القانون الدولي..وهكذا يفوتُ العالمُ كله ببعضهِ بعضا..
وتركيا انحازت للناتو، واعتبرت توسيع الناتو يخدم السِلم العالمي، وتبيع لأوكرانيا المُسيّرات التركية، وهي غاضبة لليوم من ضمِّ جزيرة القرم التي تحتوي على نسبة من المسلمين التتار المتحدِّرين أساسا من جذور تركية..
وحتى إسرائيل، التي تَغنّى بوتين نفسهُ بِصداقتها مرات عديدة، وحرصهِ على حماية أمنها، أعلنت وقوفها لجانب الولايات المتحدة..
بل أنّ إيران وعلى لسان الإمام الخامئني، كان موقفها هادئا، فلم تنحاز إلى روسيا (الصديقة) وجاء في تغريدة للإمام الخامئني:
(نحن نعارضُ الحرب والدمار في كل مكان في العالم.. هذا موقفنا الثابت.. وإيران تؤيِّدُ وقف الحرب في أوكرانيا ..نريد أن تنتهي الحرب هناك..).. وإنْ كان الإمام الخامئني من جهةٍ أخرى، قد حمّل الولايات المتحدة مسؤولية كل ما يجري..
وهنا تجدر الإشارة إلى أن طهران لا يُمكنُ أن تكون مُرتاحةً لموقف روسيا في مجلس الأمن الدولي في 28 شباط 2022، وتصويتها لصالحِ قرارٍ يُمدِّدُ حظر تصدير السلاح للحوثيين ويصفهم بالجماعة " الإرهابية" لأوّل مرّة..
*
ولم تعترف دولة بالعالم حتى اليوم رسميا باستقلال إقليمي "دونيتسك ولوهانسك"، وحتى أقرب الأصدقاء والحلفاء لروسيا لم يفعلوا ذلك، كما بيلا روسيا وإيران وكوريا الشمالية وكوبا ..
قرأتُ في الإعلام أن سورية اعترفتْ، ولكن لم أقرأ عن أي بيانٍ رسميٍ صادرٍ بهذا الخصوص، أو قرارٍ حكوميٍ أو مرسومٍ، وهذا شرطٌ للاعتراف حتى يكونَ قانونيا، وإنما تصريحات مؤيِّدة بقوّة للخطوة الروسية في الهجوم على أوكرانيا، وهذه مسألة مختلفة، وتدخلُ في إطار المُناكفات السياسية، وهذا واردٌ في العلاقات الدولية، وسبق أن ناكَفنا أوروبا بشطبها عن الخارطة..
وإعلان استقلال أي إقليم أو كيان جغرافي أو سياسي، لا يُصبِح قانونيا وذي شخصية اعتبارية دولية إن رفضت الأمم المتحدة الاعتراف به.. وهذه تُطبِّق قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وفرضُ الأمر الواقع لا تعترف به..
وها هي القرم، التي كانت تتبع أوكرانيا، وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، اللتان كانتا تتبعان جورجيا، لم تعترف الأمم المتحدة باستقلالهم، ولا أحدا في المجتمع الدولي قد اعترف بذلك، باستثناء دولة هنا أو هناك وبدوافع سياسية لِعلاقاتها مع روسيا.. والاعتراف السياسي مسألة مُختلفة..
وسورية تُدرك أن لها أرضاً مُحتلّة في الجنوب وهي الجولان، ولا أعتقد قد تُقدِم على خطوة كهذه بشكلٍ رسميٍ، لأن هذا يُعطي الذريعة للآخرين للاعتراف لإسرائيل بضمِّ الجولان .. ويعطي الذريعة لمنطقة الحُكم الذاتي الكُردية في شمال سورية وشرقها، بإعلان الاستقلال، ويُعطي الذريعة لأمريكا والغرب بالاعتراف بها كدولة مُستقلّة..
فضلا عن أن ذلك يُثيرُ حفيظة الغرب أكثر ضد سورية(وهي لا تحتاج لذلك) ويعتبرونها شريكة في الحرب، ويَغرِسُ في ذاكرة الشعب الأوكراني انطباعا ت سلبية دائمة إزاء سورية..
*
الغربُ يرى أن موقف بوتين ناجمٌ عن تعصُّب قومي شديد، ويُحاكي التعصُّب القومي في ألمانيا الذي أدّى لقيام الحرب العالمية الثانية..
فألمانيا كانت تشعرُ بالظُلم نتيجة هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وفرضِ أعدائها شروطهم عليها.. ولذلك سعت لتصحيح ذلك وإزالة هذا الظُلم، فكان ما كان في أوروبا وفي ألمانيا..
واليوم ترى روسيا أنها تعرضت للظلم في تفكيك الاتحاد السوفييتي، ومنظومة حلف وارسو، بينما بقي حلف شمال الأطلسي(الناتو)وقوي وتعزّزَ، وتسعى لإزالة هذا الظُلم.. ولذلك سمعنا الوزير لافروف يُطالبُ في كلمته عبر الفيديو أمام مؤتمر نزع السلاح في جنيف، في الأول من آذار 2022 بإزالة كافة القواعد النووية الأمريكية من أوروبا، وعدم السماح لأمريكا بإقامة أي قواعد عسكرية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق..
وهذا يضعُ روسيا حتى في مواجهة دول وشعوب هذه الجمهوريات التي تعتبرُ أن من حقها كدولٍ مُستقلّةٍ ذات سيادة، أن تُقيم علاقاتها الدولية حسب ما تقتضيه مصالحها وليس مصالح روسيا..
فإلى أين سيقودُ ذلك، روسيا وأوروبا؟.
*
الموقف الروسي ليس سهلا.. فالتراجُع يعني تدهور هيبة روسيا، والاستمرار يعني تدهور اقتصاد روسيا، ومواجهةُ مقاومةٍ طويلةٍ، وتحَمُّل تبعات كل هذه العقوبات بما تعنيه من حصار وعُزلة لروسيا، ومن مخاطِر على كافة الأصعدة، تزداد مع تقدُّم الوقت.. وتنعكس على كافة مفاصل الحياة..
فهل سيتدارك بوتين الأمر ويتوصل إلى حلٍّ وسطِ، مع الجانب الأوكراني، أم سيبقى ثابتا على موقفهِ: إما كل شيء أو لا شيء؟..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة