الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة الأحزاب السياسية في تونس

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2022 / 3 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


الدولة التي نشأت في علاقة ملتبسة بالاستعمار هي دولة مبتورة. ولذلك رفضت مفهوم التعدّدية منذ اليوم الأول لولادتها واعتبرته مفهوما خطيرا يهدد مشروعيتها وسيطرتها. وخلقت بذلك ساحة سياسية عليلة ومختلة، يستولي عليها الحزب الحاكم الوحيد، تاركا ركنا ضيقا لأحزاب شكلية منزوعة الشوكة، أما التنظيمات التي تمتلك إرادة حقيقية للمعارضة، فلقد جنحت السلطة لتدميرها وإجبارها على الاختباء تحت الأرض، بحيث تجد بعض تلك الأحزاب عمرها أربعين عاما ولا يعرفها المواطنون، حتى أسماءها سمع بها الناس بعد 14 جانفي.

بهذا المعنى فإن رفض التعدّدية الذي هو في الأصل رفض للديمقراطية شكّلَ أكبر مصيبة في التاريخ السياسي لتونس ولغيرها من البلدان العربية بلا استثناء، ليس فقط من جهة كونها سياسة استبدادية عطلت تطور المجتمع لقرابة سبعين عاما، بل لأنها خلّفت معارضة معاقة حتى بعد الثورة وبعد أن فتح باب الحريات السياسية ظلّت فقيرة نظريّا ووطنيّا، كسولة عَمليًا، وعادة ما يقودها سماسرة ومُتآمرون، مُستعدّون للغدر حتّى بأطفالهم.

من المعلوم أن المعارضة مكوّن أساسي من مكونات الديمقراطية. ولكي تكون معارضة حقيقية قادرة على القيام بدورها تحتاج إلى نمو الشروط الرئيسية للفعل السياسي. وأول هذه الشروط، هو نشأة الفرد الحر الذي يحمل فكرة المسؤولية الجماعية والمشاركة الفعالة في الشأن العام بشكل طوعي خارج كل أسوار الإكراه. ومن المستحيل تصوّر وجود هذا الفرد الحرّ المبادر، ومن المستحيل وجود الحزب السياسي الحديث الذي يُعبِّر عن تطلعات مجموعة من الأفراد الأحرار ويجسِّد حريتهم دون وجود مجال واسع من الحرية التي تسمى حرية التعبير وحرية التنظم وحرية المعتقد ... الخ

مع الأسف، حصل العكس تماما في مجتمعاتنا العربية، بحيث نجحت النخب الحاكمة غداة الاستقلال في اختطاف الدولة ومصادرتها وتحويلها إلى إطار لتنظيم المصالح الخاصة، ولأنها كذلك، فلقد ولدت حولها ثقافة معادية للسياسة ولمفهوم المشاركة الشعبية، مما جعل الأفراد إلى يوم الناس هذا يتخلون عن حرياتهم بشكل تلقائي ويفتشون بشكل أو باخر على نوع من التبعية إما للحزب الحاكم أو لإحدى التضامنات ومراكز القوى ومجموعات الضغط التي لا تختلف راياتها في الجوهر عن القبيلة والعائلة والوجاهة.

هذه محنة حقيقية تعيق اليوم عملية بناء الأحزاب الحديثة بوصفها الشكل الأرقى مدنيا لتنظيم الأفراد باعتبارهم أفرادًا أحرارًا ومسؤولين. ذلك أن شرط تطوّر المواطنة القائمة على الفرد الحرّ هو وجود دولة تحترم الحرية. بمعنى أن الفرد لا يستطيع العيش في الفراغ، ولا بد له من إطار ينتمي إليه، وهذا الإطار كان يجب أن يكون الدولة الديمقراطية التي توحد السكان تحت راية الوطنية الجامعة. وفي غياب الدولة الديمقراطية، يجبر الناس على الفرار من جحيم الآستبداد وغياب القانون، ويعودون دون وعي منهم إلى أطر أخرى ضيقة كانت سائدة قبل نشأة الدولة الحديثة. أي إلى القبيلة وروابط القرابة والدم، ويتم استبدال المواطنة بمفاهيم "الأخوة العشارية" أو " الأخوة الدينية".. وهذا ينتج نوعا من الضعف الفادح للوطنية وكذلك ضعف احترام القانون.

هذه المحنة العامة تعترضنا بكل وضوح في موضوع الديمقراطية داخل الأحزاب السياسية. كل الأحزاب السياسية على بكرة أبيها. فانظروا مثلا نوعية العلاقة التي تربط بين القيادة والقاعدة في الأحزاب السياسية التونسية. وضعوا في اعتباركم أن هذه العلاقة تعكس الشكل الأول لتكوّن السلطة السياسية وممارستها على المجتمع حين تصل هذه القيادات إلى سدة الحكم.

أول عقبة تعترض تطور الأحزاب اليوم هي غياب الممارسة الديمقراطية سواء في مستوى اختيار القيادات العليا والإطارات والكوادر. أو في عملية اتخاذ القرار . وهنا لا يجب أن ننسى أن تعرض الأحزاب للقمع في ظل الاستبداد هو ما عزز انعدام احترام قواعد العمل الديمقراطي الداخلي، بل أن بعضها تخلّي نهائيا عن المناقشة المفتوحة والاجتماعات والمؤتمرات الانتخابية. وقد تحولت بعض الأحزاب التي تطلق على نفسها نعت "الحزب الديمقراطي" إلى حزب فاشي معادٍ لمجرد التفكير ولأية مبادرة ذاتية لأعضائه. وبدل التأقلم مع أوضاع البلاد الجديدة التي تمكن من النشاط السياسي العلني، وتحرر أعضاءها ومناضليها حتى يتمكنوا من تعبئة المواطنين وحشد التأييد لمشروع الحزب، مارست عليهم نوعا من الاقصاء المنهجي الهادىء بهدف تهميشهم وإسكاتهم لصالح "السلطة الزعامتية" المستمدّة من القيم الأخوية وعقلية الأخ الأكبر ونحو ذلك من قيم القبيلة العتيقة. فرئيس الحزب يستمد قوته إذن من وجود علاقات شخصية تشبه كثيرا أنماط التنظيم الماضية ولا علاقة لها بأشكال الانتظام الحديثة. بحيث تستمر علاقات الحزب الداخلية متماهية مع استمرار علاقات شبه الاقطاعية مثل الخماسة والسّخارة المُتوازية مع إعانات متفرّقة في شكل أجر مهين، وما شابه ذلك من علاقات غامضة غموض التمايز الطبقي العميق بين صاحب الأرض والمنتجين في الأرياف. وبالنتيجة نرى حزبا ماركسيا مثلا يُمكن تسميته "الحزب- الجماعة"، إذ يشتغل كأسرة أو كضيعة تؤمِّن فيه عملية خضوع القاعدة من خلال تنمية الطاعة، بحيث لا تستغرب أن تجد محامي أو طبيب يتصرف كما يتصرف الأقنان أمام رئيس حزبه. فالسلطة مستمدّة فقط من جاذبية القيادة وما تقوله عن نفسها من كونها صاحبة حسّ وطني كبير، وصاحبة عبقرية استثنائية،،، وهلم جرا .

ينطبق هذا الخلل الفظيع على الأحزاب كما ينطبق على السلطة. ومن خصائص هذا النمط من التنظيم السلطوي (الذي يقتل كل إمكانية لنمو المواطنة والفرد الحر) أنه لا يستمر إلا بوجود شخصية استثنائية جامعة، فكرية أو سياسية، أو زعامة تاريخية. فإذا ضعفت أو غابت، انقسم الحزب إلى زعامات لا حصر لها. ومن هنا يزداد الميل كذلك إلى تحوّل الأحزاب إلى تجمعات شخصية حول هذا الزعيم الصغير أو ذاك. وتنشأ على أساس ذلك التشظي سلطات متعددة من الاستتباع والاستزلام . وما من شك أن هذا المشهد يرافقه الإفلاس والجهل وانعدام تام لتبلور مفهوم عملي حديث للممارسة السياسية داخل هذه الأحزاب. فأنت لا تقرأ كتابا واحدا من إنتاج هذا الحزب أو ذاك، وأحيانا لا تستطيع أن تعثر لها ولو على مقال واحد محترم، ومع ذلك تجد أتباع هذه الأحزاب أكثر الناس انتقادا وأشدهم ترذيلا لكل ما يفعله الآخرون.

أظن أن من أوكد المهام المطروحة على شباب تونس اليوم هي شن حرب تحرير الأفراد من القنانة السائدة داخل الأحزاب السياسية. لأن تفكيك العصبيات التقليدية شرط أصلي لنشوء الفرد الحر والمسؤول، وشرط الاندماج الاجتماعي على أسس وطنية عابرة للقبائل والعروش.

إن ما تسميه الماركسية "تمايز المصالح الطبقية" الذي تطلب مفهوم "الانتفاضة المسلحة" أو "حرب الشعب طويلة الأمد" حين كانت جريدة "البرافدا" التي تطبع في سان بطرسبورغ تصل إلى أوكرانيا أو سيبيريا بطريقة سرية بعد ثلاثة أشهر، يتطلب اليوم في عصر الفايسبوك والتويتر والأيفون، الآعتراف بالتعددية وبحرية التعبير والتنظم بعيدا عن كل أشكال "الوصاية الثورية المقدسة"، لأن الثوريين في تونس في 2019 عندهم مقرات حزبية وعندهم جرائد ومواقع إلكترونية، وعندهم نواب برلمان، وعندهم إمكانية مخاطبة الشعب عبر القنوات التلفزية، وعندهم الحق المضمون دستوريا في إقامة الآجتماعات العامة في أي مكان. هذا علاوة على أن الشعب له مستوى تمدرس، وله وسائط وطرق اتصالية متعددة للمشاركة في بلورة المصالح الاجتماعية الخاصة بكل فئة، وبلورة الوعي الطبقي المرتبط بظروف تلك الفئات على تنوعها.

وبناء عليه، فإن كل هذه المعطيات المختلفة جذريا على معطيات الحياة في بداية القرن العشرين، تفترض أيضا نشوء مفهوم التداول على السلطة بالطرق السلمية بين جماعات المصالح المختلفة عن طريق الاقتراع العام. وهذا ما يعطي لكل قوة سياسية وزنها الحقيقي في المجتمع ويحدّد طبيعة المشاركة في السلطة بناء على القواعد الدستورية المعلومة. فبما أن السلطة لم تعد هبة ربانية ولا شأنًا خاصًا حكرًا على أبناء طبقة أو قبيلة أو أسرة أو أقلية معينة، بل تحوّلت إلى شأن عام يُشارك فيه كل فرد، وبما أن الثوريين انخرطوا في نظام الآنتخابات عن قناعة تامة، لم يعد من الممكن التفكير في إنتاج السلطة الشرعية إلا عن طريق تحقيق المشاركة الشعبية في تكوين هذه السلطة بمعايير صناديق الاقتراع.

من الثابت أيضا في هذا العصر أن مفهوم التعدّدية هو جوهر المواطنة بالمقارنة مع مفهوم الرعية القديم... وعلى أساس التعدد والتنوع في المجتمع بُنيت فكرة الجمهورية، التي هي في نهاية التحليل الدولة التي تقوم على سيادة الشعب وإرادته الحرة ضمن ذلك التنوع الطبيعي في الأفكار والميولات والمصالح. ومن المفارقات الغريبة أن الأحزاب التي تسمي نفسها "ديمقراطية" في تونس، والتي قامت أساسا ضد ثقافة الإقصاء والآستبداد ليس لها أي علاقة بثقافة الحرية ومعاييرها التي ذكرتها. بل أنها بقيت سجينة الثقافة السياسية الاستبدادية المنسجمة تماما مع التربية التي تلقاها المواطن يوميًا في أجهزة الإعلام على امتداد ستين عاما، تلك التربية القائمة على نزع الشعور بالمسؤولية الوطنية، والتخويف من التفكير ومعاقبة كل من يحاول أن يحوِّل السياسة إلى قضية أخلاقية تتصل بالمصلحة العامة، وتعزيز عبادة القيادة وتبجيلها والتسليم لها بالرأي والقرار، والاعتماد على إلهامها وعبقريتها دون نقاش ولا إبداع ولا خيال مهما كان مجال التفكير، ومهما كانت ممارسات القيادة ومستواها وطبيعتها. فإذا كانت في طور "المعارضة" تستخدم ضد أفرادها أساليب التشويه والتخوين والتهميش والتحريض لإذلالهم و إجبارهم على الطاعة والولاء. وإذا كانت القيادة في الحكم، فإنها بنفس الذهنية تربط السياسة بأمن النظام وأمن الدولة وأمن المجتمع و "أمن الوطن"، أي بالتعامل مع أجهزة المخابرات والمباحث والميليشيات المرتبطة بالحكم.

من باب المستحيل أن تقود مثل هذه الثقافة البائسة إلى تكوين علاقة طبيعية بين الأحزاب السياسة وبين المجتمع. ومن المستحيل أن تنتج هذه الثقافة أحزابا محترمة وحقيقية. ولهذا السبب بالذات، وفي هذا السياق بالضبط يتنزل عجز أحزاب الجبهة (على سبيل المثال) على التفاهم بما يسمح بتحويل الجبهة الشعبية إلى هيئة سياسية ذات برنامج موحد وذات هياكل متماسكة وذات موسسات دائمة. فالذهنية القبلية المتخلفة ما قبل الوطن والدولة هي التي تقود مكونات الجبهة وتمنع قيام أي مفهوم للتآلف والتحالف والتعاون لتحقيق أهداف ومصالح وبرامج مشتركة في حجم الوطن واتساعه. وعلى عكس الأهداف التي قامت من أجلها الجبهة تحول التنافس على التضحية وحب الوطن إلى حرب باردة يخوضها الجميع ضد الجميع، بحيث يتصوّر كل حزب فيها -رغم ضعفه الفادح ووزنه المضحك- أنه الوحيد الذي لديه الحق في الحياة وأنه دون سواه الوطني. ولا يقبل بأن يكون أقلّ من "الحزب الأكبر" و "حزب الطبقة العاملة" و"حزب الشعب" وحزب الإنسانية" ... وهذا هو في الحقيقة منطق الحزب الواحد، بينما تقوم الفكرة التعدّدية على مشروعية وجود تعبيرات سياسية مختلفة، وتستوجب عقولا سليمة عندها ما يكفي من الأوكسجين لكي تتعاون مع غيرها على أساس فكرة توسيع جبهة الأصدقاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر