الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روسيا والغرب والعقد التاريخية

سامي البدري
روائي وكاتب

(Sami Al-badri)

2022 / 3 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


دكتور سامي البدري

من أجل الوقوف على حقيقة أي نزاع دولي علينا النظر من أين بدأ وما هي خلفيته التاريخية، قبل النظر في أسبابه السياسية الأنية أو الظاهرة.
وحقيقة النزاع الغربي الروسي تعود إلى أيام الحرب العالمية الثانية وقيام المعسكر الاشتراكي، بقيادة روسيا، كقوة عظمى وقطب دولي مساوي للولايات المتحدة في رسم مصير العالم، وهو الوضع الجديد الذي همش دور بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين وأزاحهما من خارطة التوازن الدولي والسياسة العالمية.
عقدة أوربا وأمريكا في هذا الجانب تتأتى من الجانب الأيديولوجي للقطب الشرقي، ذلك الجانب الذي يقوم على الرؤية الاقتصادية الاشتراكية (بخلفيتها الشيوعية الماركسية) التي جاهرت بعدائها للرؤية الرأسمالية التي تتبناها معظم دول أوربا الصناعية والغنية والولايات المتحدة الأمريكية؛ تلك الرؤية التي لاقت قبولاً واسعاً بين دول العالم الثالث، التي تحتكم أراضيها على الثروات الطبيعية بالذات وتبنت الشعار السياسي الرنان (الذي أفرزته جعبة التنظيرات الأيديولوجية السياسية للفكر الشيوعي): أمريكا عدوة الشعوب. هذا إضافة إلى غزو الأيديولوجية الشيوعية لأغلب دول أوربا الغربية، بصيغة أحزاب شيوعية وتتبنى الرؤية الاشتراكية في الجانب الاقتصادي، على وجه الخصوص، وكانت ذروة نشاطاتها خلال عقود السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وحتى انهيار المعسكر الاشتراكي، في مطلع عقد التسعينيات.
بانهيار المنظومة الاشتراكية واستقلال دولها الأوربية عن السيطرة الروسية، في عهد الرئيس غورباتشوف، تنفست أمريكا الصعداء وقدرت أنها قد قبرت، ليس فقط الأيديولوجية الشيوعية وحسب، بل ودولة روسيا الاتحادية كذلك، كقطب دولي ينازعها على سيادة العالم. وهذا ما تأكد لها، بوصول بوريس يلتسن إلى سدة حكم دولة روسيا الاتحادية ونهجه في تحويل الاقتصاد الروسي إلى الصيغة الرأسمالية، إضافة إلى نبذه للخلفية الأيديولوجية الشيوعية لوجه الدولة الروسية الجديدة، وخاصة على الصعيد السياسي الدولي والصعيد الإعلامي.
غورباتشوف ويلتسن قدما الخدمة التي لم تحلم بها الولايات المتحدة يوماً، وهي التنازل عن الدور الروسي، كقطب دولي موازٍ ومساوي ومنافس للولايات المتحدة في رسم الخارطة السياسية والاستراتيجية لدول العالم، وهذا ما أتاح للولايات المتحدة التفرد بفرض خارطة مصالحها على كافة دول العالم، طوال العقود الثلاثة الماضية، وبكامل عنجهية وصلف ثقافة راعي البقر الأمريكي، التي تتلبس وجدان رجال السياسة الأمريكان؛ بل وما مكنها من فرض رؤاها على دول أوربا العتيدة ذاتها وتحويل أغلب سياسيها إلى توابع مطيعة لسياساتها.
ولكن، ومع وصول فلاديمير بوتين إلى سدة حكم روسيا اختلف الأمر. ففلاديمير بوتين، ذو الثقافة الشيوعية المخابراتية والايمان القومي العتيد بحقوق دولته التاريخية، لم يرق له وضع ودور بلاده السياسي المتراجع، على الصعيد الدولي، وأخذ العمل، وبجد، على إعادة روسيا إلى موقعها السابق وبإيمان ربما يفوق قدرات روسيا الحقيقية، ووفق رؤيته التي تلخصها مقولته (ولماذا يبقى العالم إذا لم تكن فيه روسيا كدولة عظمى)؟
إذان، (وفجأة) وجد الغرب نفسه أمام رجل يؤمن بموقع أمته ويريد استعادة مكانتها، ولو بالقوة النووية، وهذا يعني، في أول ما يعنيه، بالنسبة للعقد التاريخية الأوربية والأمريكية، عودة سطوة الند الأيديولوجي الذي يكرهوه أشد الكراهية كفكر، بالدرجة الأولى، والذي سيمثل دور اللاعب السياسي، الذي لا يمكن تجاهله، في رسم السياسة الدولية ومناطق النفوذ في الخارطة الاستراتيجية الدولية ومصادر الثروات الطبيعية فيها بالدرجة الثانية، وخاصة أن الرؤية الغربية لبوتين تصنفه على إنه شيوعي ورجل مخابرات تعتق في مرق العقيدة الأمنية الشيوعية التي ليس من السهل كبحها أو السيطرة عليها.
طبعاً كل سياسات وتدخلات بوتين الدولية، خلال العقدين الأخيرين، تؤكد أنه يعمل بجد ودأب نملة على تحقيق هدفه في إعادة روسيا إلى سابق مجدها كقطب دولي وند للولايات المتحدة الأمريكية؛ من تدخله في سوريا إلى ضمه لشبه جزيرة القرم إلى روسيا وإلى سعيه لتثبيت قدمه في قارة أفريقيا، ونهاية بمغازلته للدول العربية الخليجية (التي تخلت الولايات المتحدة عن حمايتها في مواجهة إيران) وتقديمه لعروض التسليح لها وبكرم فائق.
كل هذا لم تأخذه الدول الغربية على محمل الجد، بل وأمعنت في تجاهل خطورته (من دولة نووية ومنتجة للأسلحة ومصدرة لها) وقابلته بالمزيد من التحرش وتجاهل قراءة أهدافه وما يسعى إليه، باعتبار أنها قد دفنت روسيا في رماد المنظومة الاشتراكية السابقة، وأن بوتين الذي يسعى لتقديم نفسه كقصير جديد، هو ليس أكثر من صبي غر وبخلفية شيوعية لا تمكنه من قراءة وقائع الأرض وقوة أمريكا الحقيقية، متناسية أن بوتين له رأس فيه عقل وعيون تريه تخبط أمريكا السياسي أولاً، في حفظ مصالحها الاستراتيجية بالذات، في منطقة الخليج العربي مستودع النفط الأكبر في العالم، والعسكري ثانياً، عبر هزيمة قوات احتلاليها، لأفغانستان والعراق، بطريقة تثير سخرية حتى الأطفال.
اذن الخلفية الأيديولوجية/التاريخية التي تحكم العقل الغربي تجاه روسيا وبوتين مازالت هي منظور الرؤية، وهي محكومة بحقد أعمى ممزوج بنظرة الدونية المستحكمة، وعليه فإن أي خطوة للقيصر الجديد يجب أن تقابل بالتجاهل ومد القدم الاستفزازية، حتى لو كانت تلك القدم هي القدم التي رفعها الفأر، عندما رأي الحداد يدق حدوة للحصان، كما في التدخل الأمريكي في سوريا، الذي يتحاشى الاقتراب أو الاحتكاك بالوجود الروسي هناك.
وفي حسابات الولايات المتحدة، بقيت أوكرانيا هي الرهان على كبح انتفاض الدب الروسي من سباته، أولاً لأن أوكرانيا بعيدة عن المصالح الحيوية الأمريكية، وثانياً لرهان أمريكا على موقعها الأوربي الذي سيحسب بوتين ألف حساب لعمقه من دول كألمانيا وفرنسا وبريطانيا، من دون النظر في رؤية بوتين، والتي أوجزها تصريحه (الناتو إذ يسعى لضم أوكرانيا إنما يهدد مستقبلنا كأمة) وإنه على استعداد لحرق كامل الكرة الأرضية التي لا يكون فيها وجود للأمة الروسية ولموقعها، الذي كانت عليه، كقطب مساوي لأمريكا، في رسم مصير الكوكب ومقاسمتها لكل صغيرة وكبيرة من شؤونه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التخويف بالمحاكمة القضائية وبالتغريم المالي في ألمانيا - كيف


.. لين أبو شعر و كريم أمام جهاز كشف الكذب




.. إيران: الغاضبون.. يوميات شخصيات تحدت الخوف والقمع


.. الرئيس الروسي يهنئ ترامب على فوزه بالرئاسة.. بوتين: مستعدون




.. مقابلة خاصة لسكاي نيوز عربية مع نائب رئيس مجلس النواب اللبنا